مستند الشّيعة - ج ١٨

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٨

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-204-0
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٤٤٥

وإن أُريد اعتباره في الجملة فأيّ ملازمة بينه وبين اعتباره في مورد خاصّ غير ما ثبت اعتباره فيه؟! وأمّا الظنّ القوي ، فقد يحصل من شهادة فاسقَين ، أو عدل وفاسقَين ، أو عدل واحد ظنّ أقوى من شهادة عدلَين آخرَين.

نعم ، تعتبر شهادة العدلين في مقام الثبوت مطلقاً ، إلاّ ما أخرجه الدليل ، كالزنا.

نعم ، يمكن أن يستدلّ للشيخ بمكاتبة الصفّار الصحيحة ، وفيها : هل يجوز للشاهد الذي أشهده بجميع هذه القرية أن يشهد بحدود قطاع الأرضين التي [ له ] فيها إذا تُعرَف حدود هذه القطاع بقوم من أهل هذه القرية إذا كانوا عدولاً؟ فوقّع عليه‌السلام : « نعم ، يشهدون على شي‌ء مفهوم معروف إن شاء الله تعالى » (١).

ولكنّها مصرّحة بحصول التعرّف ، الذي هو حقيقة في العلم للشاهد ، ومع ذلك متضمّنة للقوم الذي ظاهره الأكثريّة من العدلين ، ويشعر به الإتيان بضمير الجمع له ، فيحتمل الشياع المفيد للعلم.

فهي تصلح دليلاً لمن يعتبر الاستفاضة العلميّة ، ومع ذلك إرادة الإشهاد وتحمّل الشهادة منها محتملة ، فيتحمّل ويؤدّي بما تحمل من شهادة القوم ، فيكون شاهد فرع ، فلا تصلح دليلاً له أيضاً ، فتأمّل.

والقول الثاني أيضاً كالأخير في فساد المستند.

أمّا أول مستندهم ، فلأنّ الأولويّة إنّما تنهض حجّة لو كانت العلّة في حجّية شهادة العدلين إفادتها المظنّة ، وليست كذلك ، بل هي من الأسباب‌

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٢٧٦ ، ٧٥٨ ، وفي الكافي ٧ : ٤٠٢ ، ٤ ، والوسائل ٢٧ : ٤٠٧ أبواب الشهادات ب ٤٨ ح ١ ؛ بتفاوت يسير. وما بين المعقوفين من المصادر.

٣٤١

الشرعيّة كاليد حتى أنّها لو لم تفد مظنّة أصلاً لكانت حجّة أيضاً.

مع أنّه لو كان ذلك المناط في حجّيتها وجب أن يدار مدار الظنّ الأقوى ، حتى لو فرض حصوله من شهادة الفاسقين أو الصبي أو القرائن دون شهادة العدلين كان حجّة دون شهادتهما ، وهو باطل.

مع أنّ الظنّ الأقوى أعمّ من المتاخم للعلم ، وأيضاً الظنّ الحاصل من العدلين له مراتب مختلفة جدّاً ، ولا يُعلَم أن أيّتها المراد هنا ، وكذلك المتاخم للعلم.

هذا كلّه ، مع أنّ الأصل أيضاً محلّ المنع حتى عندهم ، فإنّهم لا يجوّزون الشهادة بشهادة العدلين فكيف يجعلونها أصلاً للإثبات؟! نعم ، لو كان الكلام بالنسبة إلى أصل الثبوت لم يرد عليه ذلك ، بل يردّ بما ذكر أولاً.

وأمّا ثانيهما ، فلمنع ندرة حصول العلم من الاستفاضة ، بل هو كثير غاية الكثرة ، وما لم يحصل فيه العلم بها لا تعتبر استفاضته ، ولا حرج فيه ولا ضرر ، بل قد يوجب الضرر في الطرف الآخر بمجرّد الظنّ الغير المعتبر.

فهذا القول أيضاً كالأخير في غاية الضعف ، فلم يبق إلاّ الأول ، وهو الصحيح فيما اعتبرنا فيه الاستفاضة من الشهادة أو الثبوت.

ولكن لي ها هنا كلاماً آخر ، وهو أنّ من يقول باعتبار الاستفاضة العلميّة في النسب ما أراد من متعلّق العلم الذي هو المعلوم بالاستفاضة؟

فهل مراده التولّد من النطفة؟ فالعلم به محال غالباً.

أو التولّد على فراش الشخص؟ فلا يشاهده غالباً إلاّ اثنتان من النسوان وثلاثة أو نحوها ، فكيف يحصل العلم؟! سيّما إذا لم نقل بكون‌

٣٤٢

الأمة والمنقطعة فراشاً ، وكذلك إقرار الوالد.

بل المشاهد المحسوس أنّ بتقاليب الدهر وتصاريف الزمان يجي‌ء هذا من خراسان إلى العراق وبالعكس ، ومن فارس إلى أحدهما وبالعكس ، ومن العرب إلى العجم وبالعكس ، ومن الترك إليهما وبالعكس ، وهكذا ، فيتوطّن في المقام الثاني ، وينسب فيه إلى أبيه أو قبيلته بقول أربعة أو ثلاثة ، بل بقول نفسه ، ويبقى في ذلك البلد ، ويشتهر فيه بتلك النسبة بعد مدّة ، سيّما إذا ماتت الطبقة الأُولى ، بحيث ينسبه بها جميع أهل البلد أو المملكة ، وأكثر الأنسباء إلى الطبقات التي فوق الأُولى أو الثانية كذلك.

نعم ، يحصل العلم من الاستفاضة في النسبة ، وذلك أيضاً من أقوى الشواهد على ما قلنا من أنّ نفس الاستفاضة هو سبب تحقّق النسبة ، ونَسَبُ شخص مَن اشتهر بنسبته إليه من غير معارض.

ومرادنا من الاستفاضة العلميّة : أن يعلم أن كلّ أحد يعرف المنتسبين بنسبتهما إلى الآخر ، ونقول : هذا نفس النسبة المخصوصة ، كالأبنية مثلاً.

فلو نذر أحد لشخص لبني تميم يبرأ بالإعطاء إلى من ينسبه كلّ من يعرفه [ في هذا البلد إليهم ] (١) وإن لم يعلم سبب نسبتهم.

بل وكذا نقول في مثل الوقف ، فإنّ المعلوم فيه بالاستفاضة لا بدّ وأن يكون هو صيغة الوقف والإقباض ، ونحن نجد من أنفسنا أن ما استفاضت وقفيّته ولا نشكّ فيها كالمساجد العظيمة الجامعة في المدن الكبيرة والمدارس والرباطات والقناطر والقباب والقنوات الوقفيّة لا نظنّ من أغلبها صدور صيغة الوقف ، فكيف من العلم به؟! وهذا أيضاً من أقوى الشواهد على ما ذكرنا من أنّ مناط ثبوت الوقفيّة‌

__________________

(١) في « ق » و « ح » : إلى هذا البلد إليه ، والظاهر ما أثبتناه.

٣٤٣

في الأغلب يد الموقوف عليهم أو المتولّي الخاصّ أو العامّ ، والاستفاضة المفيدة استفاضة تلك اليد ، وهذه اليد ممكنة الشهود غالباً ؛ وكذا الكلام في أمثالهما.

المسألة الخامسة : المشهور بين الأصحاب كما صرّح به جماعة (١) جواز الشهادة بالملك المطلق لشخص بمشاهدة الشي‌ء في يده مع تصرّفه فيه مكرّراً ـ بنحو البناء والهدم والإجارة والصبغ والقصّ والخياطة وغيرها بلا منازع له ، وعن الخلاف الإجماع عليه (٢) ، وفي الشرائع نفي الريب عنه (٣) ، وعن المبسوط نسبته إلى روايات الأصحاب (٤) ، وحكي القول به عن الصدوق والكليني والخلاف والحلبي والقاضي والحلّي وعامّة المتأخّرين (٥) ونسب الخلاف فيه إلى النافع (٦).

وفيه تأمّل ؛ لأنّه جعل الأولى الشهادة بالتصرّف دون الملك ، وهو على الجواز أدلّ منه على المنع ، فلا يكون في المسألة مخالف معلوم وإن حكاه في المبسوط (٧) وغيره (٨) قولاً.

لا لما قيل من قضاء العادة بأنّ ذلك لا يكون إلاّ بالملك ، وجواز شرائه منه ، وأنّه متى حصل عند المشتري جاز له دعوى الملكيّة ، ولو ادّعى‌

__________________

(١) منهم السيوري في التنقيح ٤ : ٣١٠ ، السبزواري في الكفاية : ٢٨٤.

(٢) الخلاف ٢ : ٦١١.

(٣) الشرائع ٤ : ١٣٤.

(٤) المبسوط ٨ : ١٨٢.

(٥) الصدوق في الفقيه ٣ : ٣١ ، الكليني في الكافي ٧ : ٣٨٧ ، الخلاف ٢ : ٦١١ ، الحلبي في الكافي في الفقه : ٤٣٧ ، القاضي في المهذّب ٢ : ٥٦١ ، الحلّي في السرائر ٢ : ١٣٠ ؛ وحكاه عنهم وعن عامّة المتأخّرين في الرياض ٢ : ٤٥١.

(٦) المختصر النافع : ٢٨٩.

(٧) المبسوط ٨ : ١٨٢.

(٨) كما في إيضاح الفوائد ٤ : ٤٤٠ ، الكفاية : ٢٨٤.

٣٤٤

عليه فأنكر جاز له الحلف (١).

حتى يرد عليه بعض ما ذكره الأردبيلي وصاحب الكفاية (٢).

ويحتمل إمكان منع قضاء العادة ، ولو سلّم فلا يفيد إلاّ المظنّة ، والشهادة بها غير جائزة ، بل وكذلك العلم كما عرفته.

ومنع استلزام جواز الشراء ودعوى الملكيّة والحلف لجواز الشهادة.

بل لرواية حفص بن غياث المتقدّمة في المسألة الثانية (٣) ، المنجبر ضعفها لو كان برواية المشايخ الثلاثة لها ، وموافقتها الشهرة العظيمة المحقّقة والمحكيّة والإجماع المحكي ، المعتضدة بأخبار أُخر مرّت في باب القضاء ، الدالّة على كون الأصل في اليد الملكيّة ، سيّما موثّقة يونس المصرّحة بأنّ : « من استولى على شي‌ء فهو له » (٤).

ولا ينافيها ما مرّ من اشتراط العلم الحسّي في جواز الشهادة ؛ لأنّ الملكيّة الظاهريّة الشرعيّة التي هي المشهود بها ، بل لا ملكيّة إلاّ الشرعيّة معلومة قطعاً ؛ لحكم الشارع بها مع اليد المذكورة ، كما مرّ بيانه في المسألة المذكورة.

احتجّ في النافع لما ذكره : بأنّ اليد والتصرّف دلالة الملك وليس بملك (٥).

وفيه : أنّه إن أراد بالدلالة أنّها مخبرة عن الملك كالاستفاضة والعدلين ـ فكونها دلالة ممنوع.

__________________

(١) انظر المسالك ٢ : ٤١١.

(٢) مجمع الفائدة ١٢ : ٤٥٩ ٤٦٠ ، الكفاية : ٢٨٤.

(٣) راجع ص ٣٢٧.

(٤) التهذيب ٩ : ٣٠٢ ، ١٠٧٩ ، الوسائل ٢٦ : ٢١٦ أبواب ميراث الأزواج ب ٨ ح ٣.

(٥) النافع : ٢٨٩.

٣٤٥

وإن أراد أنّها سبب للملك الظاهري ومولّد له كقوله : عليَّ كذا لزيد ، فإنّه دلالة الاعتراف وسبب ومولّد له فكذلك ، وهو نفس الملكيّة الظاهريّة.

وإلى هذا يشير قول من قال : إنّه يمكن دعوى الضرورة في إفادة اليد المتصرّفة بل مطلقاً الملكيّة ، وعليه بناء الفقهاء ، بل والمسلمين كافّة (١). انتهى.

فإنّ المراد من إفادتهما : سببيتهما لها.

وأمّا ما أُورد عليه أيضاً من أنّ بعد تسليم الدلالة على الملكيّة لا وجه للمنع عن الشهادة عليها ، وإن هو حينئذٍ إلاّ كالاستفاضة ، فكما تجوز الشهادة على الملكيّة بها من غير لزوم إقامة الشهادة على الاستفاضة فكذا هنا (٢).

فمردودٌ بأنّ كونه كالاستفاضة لا يوجب جواز الشهادة به ؛ لأنّ الاستفاضة عنده مستثناة من قاعدة لزوم الاستناد إلى الحسّ بالإجماع أو الضرورة ، ولا يلزم منه استثناء ما هو مثلها في الإفادة.

ثم بما ذكرنا تظهر الشهادة باليد خاصّة أيضاً ، كما نقله في الكفاية عن أكثر المتأخّرين (٣) ، وادّعى بعضهم إطباق جمهور المتأخّرين عليه (٤).

وأمّا ما قيل من أنّ اليد أو هي مع التصرّف لو أوجبت الملك لم تسمع دعوى من يقول : الدار التي في يد زيد ، أو في يده ويتصرّف فيها‌

__________________

(١) انظر الرياض ٢ : ٤٥٢.

(٢) انظر الرياض ٢ : ٤٥٢.

(٣) الكفاية : ٢٨٤.

(٤) كما في الرياض ٢ : ٤٥٢.

٣٤٦

لي ، كما لا تسمع لو قال : ملك زيد لي (١).

ففيه : أنّ هذا إنّما كان يصحّ لو قلنا إنّهما يفيدان الملكيّة الواقعيّة ، وأمّا الظاهريّة فلا ؛ إذ معناه : أنّ الدار التي ملك زيد ظاهراً لي واقعاً.

المسألة السادسة : لا تجوز الشهادة برؤية الشاهد خطّه وخاتمه إذا لم يتذكّر الواقعة وإن أمن التزوير بلا خلاف إذا لم يكن معه عدل آخر ولا المدّعى ثقة ؛ للإجماع ، والأصل ، وعمومات اشتراط العلم ، وأدلّة اعتبار الحسّ كما مرّت ـ وخصوص المعتبرة ، كمرسلة الفقيه المتقدّمة في المسألة الأُولى (٢).

وحسنة الحسين بن سعيد : جاءني جيران لنا بكتاب زعموا أنّهم أشهدوني على ما فيه ، وفي الكتاب اسمي بخطّي قد عرفته ، ولستُ أذكر الشهادة ، وقد دعوني إليها ، فأشهد لهم على معرفتي أنّ اسمي في الكتاب ولستُ أذكر الشهادة؟ أو لا تجب لهم الشهادة عليَّ حتى أذكرها ، كان اسمي في الكتاب [ بخطي ] أم لم يكن؟ فكتب : « لا تشهد » (٣).

ورواية السكوني : « لا تشهد بشهادة لا تذكرها ، فإنّه من شاء كتب كتاباً ونقش خاتماً » (٤).

وإن عرف خطّه وخاتمه ، وعلم أنّه خطّه ، وكان معه عدل آخر ، وكان المدّعى ثقة ، ففي جواز الشهادة مع عدم التذكّر خلاف.

__________________

(١) انظر الشرائع ٤ : ١٣٤.

(٢) راجع ص ٣٢١.

(٣) الكافي ٧ : ٣٨٢ ، ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٥٩ ، ٦٨٤ ، الإستبصار ٣ : ٢٢ ، ٦٧ ، الوسائل ٢٧ : ٣٢٢ أبواب الشهادات ب ٨ ح ٢ ؛ وما بين المعقوفين من المصادر.

(٤) الكافي ٧ : ٣٨٣ ، ٤ ، التهذيب ٦ : ٢٥٩ ، ٦٨٣ ، الإستبصار ٣ : ٢٢ ، ٦٦ ، الوسائل ٢٧ : ٣٢٣ أبواب الشهادات ب ٨ ح ٤.

٣٤٧

فعن الشيخ في النهاية والمفيد والإسكافي والقاضي والديلمي ووالد الصدوق (١) ، بل كما قيل (٢) الصدوق والكليني أيضاً : جواز الشهادة ، وبه أفتى بعض متأخّري المتأخّرين (٣) ، ويظهر من بعضهم دعوى شهرة القدماء عليه (٤).

لصحيحة عمر بن يزيد : الرجل يشهدني على الشهادة ، فأعرف خطّي وخاتمي ، ولا أذكر من الباقي قليلاً ولا كثيراً ، قال : فقال لي : « إذا كان صاحبك ثقة ومعك رجل ثقة فاشهد له » (٥).

والرضوي : « وإذا أتى الرجل بكتاب فيه خطّه وعلامته ولم يذكر الشهادة فلا يشهد ؛ لأنّ الخطّ يتشابه ، إلاّ أن يكون صاحبه ثقة ومعه شاهد آخر ثقة ، فيشهد حينئذ » (٦).

وذهب الشيخ في الاستبصار والفاضل ووالده وولده وأكثر المتأخّرين إلى عدم الجواز (٧) ؛ للعمومات ، وأدلّة اعتبار الحسّ ، والمعتبرة المتقدّمة ، وترجيح هذه على الصحيحة والرضويّ لأكثريّتها وأوفقيّتها للأُصول.

__________________

(١) النهاية : ٣٣٠ ، المفيد في المقنعة : ٧٢٨ ، حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٧٢٤ ، القاضي في المهذّب ٢ : ٥٦١ ، الديلمي في المراسم ( الجوامع الفقهية ) : ٦٥٧ ، حكاه عن والد الصدوق في المختلف : ٧٢٤.

(٢) انظر الرياض ٢ : ٤٥٣ ، وهو في الفقيه ٣ : ٤٣ ، الكافي ٧ : ٣٨٢.

(٣) في « ح » : صاحب الوافي وشارح المفاتيح منه رحمه الله تعالى. انظر الوافي ١٦ : ١٠٣١ ١٠٣٣.

(٤) كما في الرياض ٢ : ٤٥٣.

(٥) الكافي ٧ : ٣٨٢ ، ١ ، الفقيه ٣ : ٤٣ ، ١٤٥ ، التهذيب ٦ : ٢٥٨ ، ٦٨١ ، الإستبصار ٣ : ٢٢ ، ٦٨ ، الوسائل ٢٧ : ٣٢١ أبواب الشهادات ب ٨ ح ١ ؛ بتفاوت يسير.

(٦) فقه الرضا «ع» : ٢٦١ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٤١٣ أبواب الشهادات ب ٥ ح ٣.

(٧) الاستبصار ٣ : ٢٢ ، الفاضل في المختلف : ٧٢٥ ، والده وولده في الإيضاح ٤ : ٤٤٣.

٣٤٨

وصريح المحقّق وظاهر الدروس التردّد (١) ؛ لمعارضة جهة الترجيح المذكورة مع جهة خصوصيّة الصحيحة.

والتحقيق : أنّ الصحيحة وإن كانت أخصّ مطلقاً من المعتبرة ولكنّها أعمّ من وجه من عمومات اشتراط العلم ؛ لأعمّيتها من مفروض الصحيحة ، واختصاصها بالعلم ، وعموم الصحيحة بالنسبة إلى صورة حصول العلم وعدمه ، فإنّ حصوله بمعرفة الخطّ والخاتم وضمّ الثقة والوثوق بالمستشهد ليس بعزيز ، بل هو الغالب ، سيّما مع تذكّر أصل إشهاده له ، كما يدلّ عليه قوله : يشهدني ، فيكون التعارض بالعموم من وجه ، فيعمل بهما في صورة العلم ؛ لعدم الاختلاف ، وفي صورة عدم العلم يعمل بالعمومات ؛ لرجحانها بما مرّ ، وبموافقة الأصل ، كما عن المختلف (٢) وظاهر بعض آخر (٣).

ولا ينافي ذلك أدلّة اعتبار استناد الشهادة إلى الحسّ ، لأنّ المعلوم هنا ليس مجرّد المشهود به كما في الاستفاضة العلميّة بل يعلم بما ذكر إحساس الشاهد وحضوره ، فهو أيضاً مستند إلى الحسّ ، غاية الأمر أنّه لا يتذكّر الإحساس ، وعلمه من الخارج.

مع أنّه لو لم يكن استناداً إليه لم يضرّ ؛ لأنّ تخصيص العامّ بمخصّص صحيح صريح موافق لعمل أساطين القدماء ليس بعزيز ، ولكنّه يجب التخصيص بمورد الصحيحة ، من تذكر الإشهاد ، وكون صاحبه رجلاً لا امرأة.

المسألة السابعة : لا شكّ في جواز شهادة الشاهد الاستصحابي‌

__________________

(١) المحقّق في المختصر النافع : ٢٩٠ ، الدروس ٢ : ١٣٤.

(٢) المختلف : ٧٢٥.

(٣) كالتنقيح الرائع ٤ : ٣١٦.

٣٤٩

بما شهده في السابق مقيّداً به ، من غير ضمّ الاستصحاب ، كأن يشهد بأنّه : كان ملكه بالأمس ، أو : كان في يده كذلك ، أو : اعترف بالأمس بملكيّته ، أو : أخذ منه المبلغ الفلاني بالأمس قرضاً ، أو : غصب بالأمس ، ونحو ذلك.

وكذا مع ضمّ الاستصحاب ، كقوله : كان ملكه بالأمس ، وهو إلى الآن مستصحب.

أو ضمّ ما يؤدّي مؤدّاه ، نحو قوله : ولا أعلم له مزيلاً ، و : لا أدري أزال ملكه عنه أم لا ؛ لأنّ جميع ذلك هو مشهوده ومعلومه.

وهل تجوز له الشهادة بالملك المطلق أو الشغل المطلق أو نحوهما بالاستصحاب كما تجوز له الشهادة بالملك المطلق باليد أم لا؟

الظاهر : نعم ، بل قال بعض فضلائنا المعاصرين : إنّ جواز اعتماد الشاهد على الظنّ الحاصل له من جهة الاستصحاب ممّا لا خلاف فيه ، ولا إشكال يدانيه (١). انتهى.

ويدلّ عليه : أنّه لولا جواز ذلك لم تجز الشهادة بالملك المطلق أصلاً ، إذ حصول العلم بالملك في آن الشهادة من المحالات العاديّة غالباً ؛ إذ نقل الملك قد يحصل من نفس المالك بنفسه ، بحيث لا يطّلع عليه أحد غيره بنذر أو وقف أو غيره من الأُمور أو مع عدم اطّلاع الشاهد ، كأن يكون مالكاً لداره اليوم ، ونقلها في الليلة إلى زوجته أو ولده.

وأيضاً الاستصحاب سبب شرعي ، ومولّد للمستصحب كاليد ، فكما تجوز له الشهادة فكذا به.

__________________

(١) انظر رسالة في القضاء ( غنائم الأيام ) : ٧١٠.

٣٥٠

فإن قيل : الاستصحاب سبب لولا المزيل واقعاً ، فلعلّه تحقّق المزيل ولم يعلم به الشاهد.

قلنا : كذلك اليد ، سببٌ لولا المعارض أو اعتراف ذي اليد بخلافه ، فلعلّه تحقّق من دون اطّلاع الشاهد.

والحلّ : أنّ كلاًّ منهما دليل شرعيّ للشاهد ، وهو يشهد عن معلومه ولو بواسطة الشرع ، لا عن معلوم غيره.

وأيضاً يجوز للشاهد الاستصحابي شراء الملك ممّن كان يعلم أنّه له أمس ، ثم ادّعاء ملكيّته والحلف عليه ، فله أن يشهد بملكيّة من كان ملكه سابقاً ، بالعلّة المنصوصة في رواية حفص المتقدّمة (١).

هذا ، مضافاً إلى خصوص المعتبرة المجوّزة للشهادة بالاستصحاب :

كصحيحة ابن وهب : إنّ ابن أبي ليلى يشهدني الشهادة على أنّ هذه الدار مات فلان وتركها ميراثاً ، وأنّه ليس له وارث غير الذي شهدنا له ، فقال : « اشهد ، فإنّما هو على علمك » قلت : إن ابن أبي ليلى يحلفني الغموس (٢) ، قال : « احلف ، إنّما هو على علمك » (٣).

فإنّ ترك الميّت للدار ميراثاً ، وانتفاء وارث آخر له ، ليس إلاّ‌

__________________

(١) في ٣٢٧.

(٢) في الحديث : « اليمين الغموس هي التي تذر الديار بلاقع » اليمين الغَمُوس : هي اليمين الكاذبة الفاجرة التي يقطع بها الحالف ما لغيره ، مع علمه أنّ الأمر بخلافه ، وليس فيها كفّارة لشدّة الذنب فيها ، سمّيت بذلك لأنّها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار. وفي الحديث : « اليمين الغموس هي التي عقوبتها دخول النار » وهي أن يحلف الرجل على مال امرئ مسلم أو على حقه ظلماً مجمع البحرين ٤ : ٩٠.

(٣) الكافي ٧ : ٣٨٧ ، ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٦٢ ، ٦٩٦ ، الوسائل ٢٧ : ٣٣٦ أبواب الشهادات ب ١٧ ح ١ ، بتفاوت.

٣٥١

باستصحاب الوجود في الأول ، والعدم في الثاني.

وموثّقته : الرجل يكون له العبد والأمة ، قد عرف ذلك ، فيقول : أبَقَ غلامي أو أمتي ، فيكلّفونه القضاة شاهدين بأن هذا غلامه أو أمته ، لم يبع ولم يهب ، فنشهد على هذا إذا كُلِّفناه؟ قال : « نعم » (١).

والأُخرى : الرجل يكون في داره ، ثم يغيب عنها ثلاثين سنة ، ويدع فيها عياله ، ثم يأتينا هلاكه ، ونحن لا ندري ما أحدث في داره ، ولا ندري ما حدث له من الولد ، إلاّ أنّا لا نعلم نحن أنّه أحدث في داره شيئاً ولا حدث له ولد ، ولا تقسّم هذه الدار بين ورثته الذين ترك في الدار ، حتى يشهد شاهدا عدل أنّ هذه الدار دار فلان بن فلان ، مات وتركها ميراثاً بين فلان وفلان ، أفنشهد على هذا؟ قال : « نعم » ، ونحوها روايته (٢).

وأمّا ما في ذيل تلك الرواية : الرجل يكون له العبد والأمة ، فيقول : أبَقَ غلامي وأبِقَت أمتي ، فيؤخذ في البلد ، فيكلّفه القاضي البيّنة أنّ هذا غلام فلان لم يبعه ولم يهبه ، أفنشهد على هذا إذا كُلِّفناه ، ونحن لا نعلم أنّه أحدث شيئاً؟ قال : « فكلّما غاب عن يد المرء المسلم غلامه أو أمته أو غاب عنك لم تشهد عليه ».

فلا يثبت سوى مرجوحيّة الشهادة ، ولا بأس بها.

فإن قيل : الشهادة إن كانت جائزة كانت واجبة ، فلا معنى لمرجوحيّتها.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٣٣٧ أبواب الشهادات ب ١٧ ح ٣ ، الوافي ١٦ : ١٠٣٤ أبواب القضاء والشهادات ب ١٤٠ ح ١٠.

(٢) الكافي ٧ : ٣٨٧ ، ٤ ، التهذيب ٦ : ٢٦٢ ، ٦٩٨ ، الوسائل ٢٧ : ٣٣٦ أبواب الشهادات ب ١٧ ح ٢.

٣٥٢

قلنا : الواجب هو الشهادة بما هو عنده ، لا بالملك المطلق والشي‌ء المستصحب مطلقاً ، فالمعنى : أنّه لم يشهد أنّه كذا وكذا ، وإن وجبت الشهادة بأنّه كان كذا وكذا ، ولم يعلم حدوث شي‌ء.

وبذلك جمع في الوافي بين تلك الرواية وبين الموثّقة الأُولى ، فقال في بيانها : وإنّما تجوز الشهادة على أنّه كان له ، لا على أنّه الآن له ، وبهذا يجمع بينه وبين الخبر الآتي ، حيث حكم بعدم جواز الشهادة في مثله (١). انتهى.

هذا ، ثم إنّه يظهر من بعض الفضلاء المعاصرين : أنّ جواز شهادة الشاهد بالاستصحاب إنّما هو إذا كان البقاء معلوماً له أو مظنوناً ، ولم يكن اتّكاله على مجرّد الاستصحاب وإن كان شاكّاً أو ظانّاً خلافه.

قال : فكما أنّ المجتهد قد يرجّح الظاهر على الأصل ، ويقطع الاستصحاب بسبب ظهور خلافه وأظهريّته ، ويسقط عنده عن درجة الحجّية ، فكذلك الشاهد في إخباره ، قد يكون على ظنٍّ بما علمه سابقاً ، وبأنّه باقٍ لعدم سنوح سانحة ، ووجود أمارات تفيد الظنّ بالبقاء ، وقد تسنحه سوانح تزلزله عن ذلك الظنّ ، ويصير شكّاً أو وهماً ، فحينئذٍ لا يمكنه الإخبار ، لا بالعلم ولا بالظنّ (٢). انتهى.

وفيه : أنّه مبنيّ على ما تقرّر عنده ، من أنّ حجّية الاستصحاب من جهة إفادته الظنّ ، وأمّا على التحقيق المستفاد من أدلّته من أنّه حجّة بنفسه ولو لم يفد الظنّ فلا وقع لذلك الكلام.

المسألة الثامنة : كلّ ما ذكر إنّما هو في بيان تكليف الشاهد ووظيفته‌

__________________

(١) الوافي ١٦ : ١٠٣٤.

(٢) انظر رسالة في القضاء ( غنائم الأيام ) : ٧١٠.

٣٥٣

في أداء الشهادة ومستندها.

وأمّا الحاكم وتكليفه في القبول واستنتاج الحكم منها فهو أمر آخر ، غير لازم لذلك ، فإنّ جواز الشهادة للشاهد لا يستلزم جواز الحكم بكلّ ما تجوز له الشهادة ، كما في شهادة الجرح والتعديل ، فإنّه لا شكّ في جواز الشهادة بالتعديل المطلق ، والجرح كذلك للعالم به ، ولكن لا يجب على الحاكم عند الأكثر ، بل لا يجوز له الحكم به إلاّ مع بيان السبب ، أو اتّفاق الشاهد مع الحاكم في أسبابهما.

وعلى هذا ، فالأهمّ هنا بيان تكليف الحاكم ، وأنّه بأيّ شهادة يحكم. والمحصّل : أنّ فيما سبق كان الكلام في مستند الشهادة ، وبقي الكلام في مستند الحكم أي الشهادة التي تصلح مستنداً للحكم أنّه هل يكفي الإطلاق في الشهادة ، بأن يقول : هذا ملك زيد ، أو : له على عمرو كذا ، أو : باع زيد داره لعمرو ، أو : غصب ، ونحو ذلك ، أو : أعلم أنّه كذا؟

أو لا يكفي ، بل يشترط فيه بيان المستند ، وذكر السبب من الحسّ ، أو الاستفاضة ، أو اليد ، أو الاستصحاب ، أو نحوها ممّا هو مستند الشاهد؟

وبعبارة اخرى : هل يشترط أن تكون الشهادة حسّية بأن تذكر محسوساته ـ أو تكفي العلميّة؟

الحقّ : هو الأول ؛ لوجهين :

أحدهما : أنّه قد عرفت الاختلاف الشديد فيما يصلح أن يكون مستنداً للشهادة ، فإنّ الأكثر قالوا بوجوب الاستناد إلى الحسّ وعدم كفاية مطلق العلم.

ومنهم من استثنى العلم الحاصل بالاستفاضة في موارد خاصّة ، ولهم اختلاف كثير في تلك الموارد.

٣٥٤

ثم اختلفوا في الاستفاضة المثمرة لجواز الشهادة ، أنّها هل هي العلميّة أو الظنّية؟

ثم اختلف المكتفون بالظنيّة ، هل هي الظنّ المتاخم للعلم ، أو يكفي مطلق الظنّ؟

ومنهم من اكتفى بالظنّ الحاصل من شهادة العدلين.

ومنهم من اكتفى برؤية الخطّ والخاتم مع ضمّ الثقة.

وزاد جمع شرط كون المدّعى أيضاً ثقة.

ومنهم من اكتفى في الشهادة بالملك بالاستفاضة مع اليد والتصرّف.

ثم اختلفوا في التصرّف أنّه هل يكفي مطلقه أو تشترط تصرّفات خاصّة؟ وهل تشترط فيه المدّة الطويلة أم لا؟

ومنهم من اكتفى باليد والتصرّف.

ومنهم من اكتفى باليد.

ثم في تشخيص اليد الدالّة على الملكيّة اختلاف شديد مرّ في مقصد القضاء ـ من جهة فهم ما هو يد ، وتعارض أسباب صدق اليد ، وشرائطه ، وموارد اكتفاء اليد.

ثم اختلفوا في الشهادة بالاستصحاب ، وفي أنّه هل يشترط معه الظنّ بالبقاء ، أو يكفي عدم الشكّ في خلافه ، أو عدم الظنّ به ، أو لا يُشترَط شي‌ء من ذلك؟ إلى غير ذلك من وجوه الاختلافات.

ومع ذلك الاختلاف وتشتّت الآراء والمذاهب كيف يعلم الحاكم بتحقّق ما هو الشهادة الصحيحة عنده بمجرّد الشهادة المطلقة؟ حتى يجوز له الحكم بها أو يجب ، والأصل عدمهما ، وعدم تحقّق الشهادة المقبولة.

وإلى هذا ينظر كلام الحلّي في السرائر ، بعد نفيه تحمّل شاهد الفرع‌

٣٥٥

لشهادة شاهد الأصل ، بدون الاسترعاء ، وسماع الشهادة عند الحاكم ، وبدون ذكر السبب.

قال : مثل أن سمعه يقول : أشهد أنّ لفلان بن فلان على فلان بن فلان درهماً ، فإنّه لا يصير بهذا متحمّلاً للشهادة على شهادته ؛ لأنّ قوله : أشهد بذلك ، ينقسم إلى الشهادة بالحقّ ، ويحتمل العلم به على وجه لا يشهد به ، وهو أن يسمع الناس يقولون : على فلان كذا وكذا (١). انتهى.

وبمثل ذلك صرّح الشيخ في المبسوط (٢) ، على ما حكي عنه.

هذا كلّه ، مع ما في اشتباه العلم والظنّ على كثير كثيرا ، واختلاف الناس في سهولة القبول وصعوبته ، واختلاف الأسباب في إفادة العلم وعدمها بالنسبة إلى الأشخاص ، وحصول العلم القطعيّ لبعضهم بما لا يفيده عند الأكثر ، فإنّي شاهدت ذلك كثيراً.

فمن العدول من شهد بشهادة قطعيّة ، فعلمت أنّه لم يشاهد المشهود عليه ، فسألته عن ذلك ، فقال : علمت بالتواتر والشياع ، فقلت : كم شهد عندك من الأشخاص؟ فانتهى إلى ثلاثة أو أربعة من أوساط الناس ومجاهيلهم.

وكثير منهم كانوا ممّن شهدوا قطعاً على شخص غير حاضر في البلد ، فاستفسرت منهم ، قالوا : علمنا ذلك بمكاتيب شركائنا من البلدة الفلانيّة ، مع أنّ مكاتيبهم لم تكن مستندة إلى حسّ أيضاً.

ومنهم من قال : كتب إليّ ولدي ، وأعرف خطّه ، وهو غير كاذب.

ومنهم من قال بعد الشهادة العلميّة والاستفسار منه ـ : أنّه مكتوب‌

__________________

(١) السرائر ٢ : ١٢٩.

(٢) المبسوط ٨ : ٢٣٢.

٣٥٦

بخطّي وخاتمي ، وأقطع بأنّي لا أكتب إلاّ عن علم.

وشهد في بعض الوقائع عندي نحو من أربعين نفراً ، كان جمع منهم من العدول ، وحصلت لي ريبة من جهة مضيّ مدّة طويلة من الواقعة ، وقصور سنيّ الشهود عن درك هذه المدّة ، فاستفسرت من جمع من عدولهم ، فاستندوا إلى شهادة جمع كثير من هؤلاء الأربعين ، فتفحّصت منهم ، فاستند كثير منهم إلى طائفة اخرى منهم ، إلى أن انتهت شهادة الباقين إلى حكم بعض المنصوبين لمنصب الحكم والمدّعي لمرتبته ، من غير تعمّق في علمه أو عدالته.

فإن قيل : العدالة مانعة عن الشهادة بالمطلق مع الاختلاف في المستند ، فمع الإطلاق يعلم أنّه أراد ما هو المجمع عليه ، أو المقبول عند الحاكم.

وأيضاً تمنع العدالة عن الشهادة بالعلم بالأسباب الضعيفة الغير المفيدة للعلم غالباً.

قلنا في الجواب عن الأول بمثل ما أجابوا عمّن اكتفى بالإطلاق في التعديل لمثل ذلك ، فإنّ العدالة لا تستلزم الاطّلاع على هذه الاختلافات ، ولا تنافي البناء على مذهب مجتهده.

مع أنّه قد لا يفيد الموافقة لرأي الحاكم أيضاً ، فإنّ الشاهدين قد يشهدان بالاستصحاب مع ظنّ البقاء ، وعلمهما بجوازها عند الحاكم ، ويشهد آخران بخلافه ؛ لأجل اليد الحاليّة ، وعلمهما باعتبارها عند الحاكم ، فلو لم يستفسر الحاكم ، وحكم بمقتضى التعارض ، كان حاكماً بمقتضى الاستصحاب مع وجود المزيل ، إذا كان الحاكم يقدّم اليد الحاليّة على الملكيّة السابقة.

٣٥٧

وعن الثاني : بأنّ حصول العلم وسهولة القبول ليس أمراً اختياريّاً تمنعه العدالة ، وبعد حصوله لم يكذب الشاهد في شهادته بالعلم ، أو لا حرج عليه ، سيّما إذا لم يسمع الاختلاف في وجوه الشهادات ، أو لم يسمع إلاّ اشتراط العلم فيها.

وثانيهما : أنّه قد عرفت وصرّح به جماعة (١) أنّ الشهادة هي الأخبار عمّا شاهده وعاينه ، ولم يعلم شمولها لغير ذلك ، فلا تدلّ عمومات قبول الشهادة إلاّ على وجوب قبول الخبر الكذائي في ترتيب الحكم عليها ، والأصل عدمه في غير ذلك.

وإلى هذا ينظر كلام الشهيد في الدروس كما تقدّم في المسألة الثانية ناقلاً عن بعض الأصحاب ، حيث قال بلابدّيّة الإتيان بلفظ الشهادة ، وعدم سماع قول الشاهد : إنّي أعلم أو أتيقّن أو أخبر عن علم أو حقّ (٢).

وذلك لأنّ هذه الأقوال لا تفيد الاستناد إلى الحسّ ، بخلاف قوله : أشهد ، فإنّ معناه الإخبار عن الحضور والمشاهدة.

ولكن هذا لا يفيد في الأكثر أيضاً ؛ لأنّ غالب الشهود في هذه الأزمنة لا يعرفون معنى الشهادة ، سيّما في البلاد العجميّة ، فلا يفرّقون بين الشاهد والمخبِر.

ولعلّ هذا وجه عدم اكتفاء الحلّي والمبسوط كما مرّ بالإتيان بلفظ الشهادة أيضاً.

فإن قيل : قد ذكرت أنّ الشهادة بالملك المطلق والاستصحاب أيضاً شهادة عن المحسوس ؛ حيث إنّ اليد الحاضرة والسابقة كانتا محسوستين ،

__________________

(١) كصاحب الرياض ٢ : ٤٤٦.

(٢) الدروس ٢ : ١٣٥.

٣٥٨

والشارع جعل اليد والاستصحاب سبباً لحصول الملكيّة الظاهرة بذلك المحسوس ، فهما أيضاً شهادتان حسّيّتان.

قلنا : الشهادة : الإخبار عن الحسّ والمشاهدة ، لا عن المحسوس والمشاهَد.

المسألة التاسعة : إذا شهد الشاهد عند الحاكم لزيد باليد ثبت عنده اليد ، ومقتضاها الملكيّة ، فيحكم له بها ؛ لأنّ اليد مستلزمة لها ، سواء علمت بالمشاهدة أو ثبتت بالبيّنة ، فيكون حينئذٍ الثابت بالبيّنة : اليد ، وبها وبالقاعدة الشرعيّة : الملكيّة ، وإن شئت نسبت الثانية إلى الشهادة أيضاً.

وإذا شهد بملكيّة الأمس ، فإمّا يكتفي بها ، أو يضمّ معها ما يفيد استصحابه أيضاً.

فعلى الأول : تثبت ملكيّة الأمس بالبيّنة ، وملكيّة اليوم باستصحاب الحاكم ؛ لأنّه أمر شرعيّ يجب عليه اتّباعه.

وبه صرّح في القواعد ، قال ـ : أمّا أنّه لو شهد بأنّه أقرّ له بالأمس ثبت الإقرار ، واستصحب موجبه ، وإن لم يتعرّض الشاهد (١) للملك الحالي (٢). انتهى.

وحكي عن بعض آخر أيضاً (٣) ، وجعله الشهيد الثاني مقتضى إطلاق كلام المحقّق (٤) ، بل الظاهر عندي أنّه مقتضى كلام القوم ، وإن رجّحوا اليد عليه لكونها مزيلة للاستصحاب.

__________________

(١) في المصدر : المالك.

(٢) القواعد ٢ : ٢٣٤.

(٣) انظر كشف اللثام ٢ : ١٨٧.

(٤) المسالك ٢ : ٣٩٢.

٣٥٩

وأمّا ما ربّما يظهر من بعض معاصرينا ، من الإشكال في جواز عمل الحاكم هنا بالاستصحاب ؛ استناداً إلى أنّ الثابت جواز العمل بعلمه ، أمّا عمله بظنّه فلا دليل عليه.

فممّا لا ينبغي الإصغاء إليه ؛ فإنّه لا يعمل بظنّه من حيث هو ظنّ ، بل هو يعمل بمقتضى الدليل الشرعيّ الذي هو الاستصحاب.

وأيّ فرق بين قاعدة الاستصحاب وقاعدة العمل بالبيّنة؟! فإنّ شيئاً منهما لا يفيد العلم.

وجعل الثاني تعبّديّاً والأول عملاً بالظنّ شططٌ من الكلام.

مع أنّه تجوز شهادة الشاهد بالاستصحاب ، وحكم الحاكم باستصحاب الشاهد لو صرّح به.

وليت شعري كيف صار الاستصحاب حجّة للشاهد مع النهي عن الشهادة بدون العلم؟! وصار استصحابه حجّة للحاكم دون استصحاب نفسه؟! نعم ، لو قال : بأنّ هذا ليس إثباتاً للحقّ بالبيّنة الآن كما صرّح به قبل ذلك في مسألة اخرى لا اعتراض لنا عليه.

وعلى الثاني : فإمّا تكون الضميمة صريح الاستصحاب ، فيقول : كان ملكه بالأمس ، واعتقد أنّه ملكه حينئذٍ بالاستصحاب.

أو ما يفيد مفاده ، فيقول : ولا أعلم له مزيلاً.

أو تكون الضميمة ما يفيد شكّه ، فيقول : ولا أدري أزال ملكه عنه أم لا؟

وممّا ذكرنا ظهر الحكم في جميع تلك الصور أيضاً ، لعدم منافاة شي‌ء من هذه الأقوال لاستصحاب الحاكم الملكيّة السابقة ، فيستصحبها ،

٣٦٠