مستند الشّيعة - ج ١٨

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٨

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-204-0
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٤٤٥

أو : يشبه بالقيافة هذا الابن فلاناً ، ونحو ذلك.

الثاني : أن يخبر بالعلم أو الظنّ بالمخبَر به من غير تفصيل أسباب العلم أو الظنّ وموجباته ، فيقول : إنّي أعلم أنّ هذا الملك ملك زيد ، أو أظنّه.

أو : أعلم أنّ زيداً تشتغل ذمّته لعمرو بالمبلغ الفلاني ، أو أظنّه.

أو : أعلم أنّ زيداً ابن عمرو ، أو أظنّه ، وغير ذلك.

الثالث : أن يخبر بالمخبَر به مطلقاً ، مجرّداً عن العلم أو الظنّ ، وعن تفصيل موجباتهما ، كأن يقول : هذا ملك زيد ، أو : زيد مشغول الذمّة لعمرو بمبلغ كذا ، أو : زيد ابن عمرو ، وأمثال ذلك.

الفائدة الثالثة : اعلم أنّ كلام الفقهاء في هذا المقام إمّا يكون في بيان وظيفة الشاهد وتكليفه ، أو في وظيفة الحاكم وشأنه.

أمّا على الأول : فيكون المراد أنّه في مقام الشهادة بأي مستند تجوز له الشهادة بالمشهود به ، من العلم أو الظنّ ، ثم العلم بمطلقه ، أو الحاصل بأحد الحواسّ الظاهرة ، أو الشرع ، أو العقل ، أو التجارب ، أو الحدس ، وكذا الظنّ بمطلقه ، أو بالمتاخم للعلم.

وعلى هذا لا يكون لهم كلام في القسم الأول ؛ لأنّ المشهود به فيه نفس المستند والدليل والأسباب ، دون المدلول والمسبّب ، وهي لا تحتاج إلى مستند ودليل ، وجواز الشهادة على ذلك النحو بديهي ، وعلى الحاكم الحكم بمقتضاه من النتائج والمدلولات.

إلاّ أن يقال : إنّه يجب أن يكون عالماً بذلك المستند ، فإذا قال : رأيت ، أو سمعت ، كان عالماً برؤية فلان ، أو سماع الكلام الفلاني ، أو نحوهما.

٣٢١

بل وكذا الظاهر أنّه ليس كلامهم في القسم الثاني ؛ لأنّهم يقولون : ضابط مستند الشهادة العلم ، ولا معنى لكون العلم مستند العلم.

إلاّ أن يتكلّم فيه في أنواع العلوم ، أي في أنّ أيّ علم يعتبر شرعاً ، حتى يجوز للشاهد أن يجعله مبنى الشهادة ، ويشهد شهادة علميّة بسببه؟ فيقولون : إنّه يجب أن يكون المستند في المبصرات حسن البصر مثلاً ، ولا تجوز الشهادة العلميّة فيها بالعلم الحاصل من السماع.

أو يتكلّم فيه فيما يفيد العلم ولا يفيده ، حتى يجوز بواسطته الإخبار بالعلم بالمشهود به ، أو لا يجوز.

ولكنّهما خلاف الظاهر من مرادهم.

فكلامهم على هذا إنّما هو في القسم الثالث ، يعني : أنّ مستند الشهادة بالملك المطلق مثلاً ، أو اشتغال الذمّة المطلق ، أو غيرهما ما هو ، وفي أيّ مقام تصحّ وتجوز له الشهادة بالمطلق ، وفي أيّة لا تصحّ؟

وأمّا على الثاني ، فيكون المراد : أنّ الحاكم بأيّ شهادة يجوز له الحكم أو يجب؟ أبالمستند إلى العلم ، أو يجوز العمل بالمستند إلى الظنّ أيضاً؟

وعلى الأول : فبالمستند بأيّ علم؟ فهل يختصّ بالعلم الحاصل من حسن البصر في المبصرات ، وحسن السمع في المسموعات ، وهكذا ؛ أو يحكم بالمستند إلى العلم مطلقاً ولو بالحاصل من السماع في المبصرات؟

وعلى هذا ، لا يكون كلامهم إلاّ في القسم الأول ؛ إذ في القسمين الأخيرين لم يُذكَر مستند ولا سبب حتى يقال : إنّه هل يجوز للحاكم الحكم به أم لا؟

نعم ، يمكن أن يكون هناك كلام آخر ، وهو : أنّه هل يجوز للحاكم‌

٣٢٢

الحكم بالشهادة المطلقة من غير بيان العلم أو الظنّ ، أو بالشهادة العلميّة من غير ذكر مستند العلم ، أنّه هل هو الحسّ ، أو السماع ، أو التجربة ، أو الشرع ، أو غير ذلك؟

المسألة الأُولى : قالوا : إنّ ضابط المستند وما يصير به الشاهد شاهداً : العلم القطعي العادي بلا خلاف فيه ، في غير ما يجي‌ء الخلاف فيه.

لمرسلة الفقيه : « لا تكون الشهادة إلاّ بعلم ، من شاء كتب كتاباً ونقش خاتماً » (١).

وروايتي عليّ بن غياث (٢) وعليّ بن غراب (٣) : « لا تشهدنَّ بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفّك ».

وفي النبويّ : وقد سُئل عن الشهادة ، [ قال ] : « هل ترى الشمس؟ » فقال : نعم ، فقال : « على مثلها فاشهد ، أو دع » (٤).

قال في السرائر : وما روي عن الأئمّة الأطهار في مثل هذا المعنى أكثر من أن يحصى (٥).

ويدلّ عليه أيضاً : أنّه لولاه للزم الكذب ؛ لأنّ من يخبر عن شي‌ءٍ ظاهرٌ في أنّه يخبر عن الواقع عالماً به ، ولو قيّده بالعلم أيضاً يصير صريحاً فيه ، فلو لم يكن عالماً كان كاذباً.

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٤٣ ، ١٤٦ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤١ أبواب الشهادات ب ٢٠ ح ٢.

(٢) الكافي ٧ : ٣٨٣ ، ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٥٩ ، ٦٨٢ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤١ أبواب الشهادات ب ٢٠ ح ١.

(٣) الفقيه ٣ : ٤٢ ، ١٤٣ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤١ أبواب الشهادات ب ٢٠ ح ١.

(٤) الشرائع ٤ : ١٣٢ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤٢ أبواب الشهادات ب ٢٠ ح ٣ ؛ وما بين المعقوفين من المصدرين.

(٥) السرائر ٢ : ١٣١.

٣٢٣

نعم ، لو كان ظانّاً وأخبر عن ظنّه به ، وقال أظنّ كذا ، لم يكن كذباً وجاز أيضاً ، كما صرّح به في الكفاية (١) ؛ للأصل ، فإنّه ليس بشهادة حتى يدخل تحت النهي ، ولو سلّم فالمشهود به هو ظنّه وليس كاذباً فيه ، إلاّ أنّه غير معتبر إجماعاً.

المسألة الثانية : ثم إنّهم زادوا على ذلك وقالوا : يعتبر أن يكون ذلك العلم حاصلاً إمّا بالرؤية أو بالسماع.

فالأول في الأفعال.

والثاني في الأقوال ، كالأقارير والعقود ونحوها.

وقد يقال : أو بالسماع والرؤية ؛ إذ تفتقر الشهادة على القول لرؤية القائل.

وهو أيضاً مراد من لم يضمّ معه الرؤية ، قالوا : إلاّ فيما تتعذّر أو تتعسّر فيه الرؤية أو السماع كالنسب والوقف ونحوهما ممّا يأتي فإنّه يكفي فيه التسامع والاشتهار.

والسماع المأخوذ في ذلك غير السماع المتقدّم ، فإنّ المراد فيما تقدّم هو أن يكون المسموع هو عين المشهود به ، وهنا أن يكون إخباراً عنه.

فالعلم في الأول حسّيّ حاصل عن الحسّ ، وفي الثاني مستفاد من قرينة امتناع تواطئهم على الكذب.

وأيضاً الحاصل من الأول هو العلم البتّة إذا كانت الحاسّة صحيحة والقول واضحاً ، وأمّا الثاني فقد لا يحصل منه إلاّ الظنّ.

ولا يخفى أنّه تخرج من ذلك الشهادة على اللمس أو الذوق أو الشمّ‌

__________________

(١) الكفاية : ٢٨٣.

٣٢٤

فيما يحتاج إليه.

ومنهم من قال : بالرؤية كالأفعال أو السماع كالوقف والنسب أو بهما ، كالعقود والأقارير (١).

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ السماع الأول أيضاً يحتاج إلى رؤية المسموع منه.

والقول : بأنّ المرئيّ هنا غير المشهود له أو عليه.

قلنا : المسموع أيضاً كذلك كما مرّ ؛ مع أنّ ذكر السماعين يدلّ على اتّحاد المراد منهما ، وليس كذلك.

ومنهم من بدّل الرؤية بالمشاهدة كما في الشرائع فقال بالمشاهدة أو السماع (٢) ، وأراد من السماع هو المعنى الثاني ، أي التسامع.

وفسّر بعضهم المشاهدة في كلامه بالمعنى الشامل للذوق والشمّ واللمس أيضاً (٣).

وفيه أيضاً : أنّه كان حسناً لولا حصره المشاهدة في الأفعال. وأيضاً المشاهدة بهذا المعنى تشمل السماع بالمعنى الأول أيضاً.

وبالجملة : لم أعثر على كلام منقّح في التعبير في ذلك المقام.

والصواب أن يقال : إنّه يجب أن يكون مستنده : المشاهدة الشاملة للشهود بكلّ من الحواسّ الخمس الظاهريّة ، التي هي مبادئ اقتناص العلوم في المحسوسات.

ثم نتكلّم في السماع بالمعنى الثاني ، في أنّه هل يكفي ذلك في شي‌ء‌

__________________

(١) انظر الروضة ٣ : ١٣٥.

(٢) الشرائع ٤ : ١٣٢.

(٣) انظر الرياض ٢ : ٤٤٦.

٣٢٥

أم لا؟ وعلى الأول ففي أيّ موضع يكفي ، وأي قدر يُكتفى فيه؟ فهل يشترط أن يفيد العلم أو الظنّ المتاخم له ، أو يكفي مطلق الظنّ؟

فنحن نتكلّم في هذه المسألة في الأول ، ونتبعها في الثالثة بالثاني.

فنقول : قد صرّحوا بأنّه يجب أن يكون مستند الشهادة هو أحد الحواسّ الظاهرة.

بل قال بعضهم : الأصل في الشهادة عندهم القطع المستند إلى الحسّ الظاهر ؛ اعتباراً منهم للمعنى اللغوي مهما أمكنهم (١). انتهى.

وقوله : مهما أمكنهم ، إشارة إلى الاعتذار للشهادة بالتسامع والاشتهار في بعض الامور ، كما يظهر ممّا ذكره قبل الكلام المذكور.

ولا يتوهّم أنّ العلم الحاصل بالتسامع أيضاً مستند إلى حاسّة السمع.

فإنّه علم حاصل بواسطة مقدّمات أُخر من بُعد تواطئهم على الكذب ، ولذا يختلف باختلاف السامع في سبق الشبهة وعدمه ، وسهولة القبول وعدمها ، واختلاف المخبَر عنه جلاءً وخفاءً ، واختلاف المخبرين وثوقاً وعدمه ، ولو كان مجرّد التوقّف على مبدئيّة الحسّ لم يكن علم غير حسّي ، فإنّ العلم بالصانع من المصنوعات يتوقّف على مشاهدتها ، والعلم بحدوث العالم بالتغيّر يحتاج إلى إحساس التغيّر.

ثم الدليل على اعتبار العلم المستند إلى المشاهدة الحسّية هو ما ذكره بعضهم من أنّ المفروض أنّ الشاهد في مقام الشهادة ، والشهادة كما مرّ في صدر المقصد هي الحضور أو الإخبار عمّا شاهده وعاينه ، وهما ـ بالنسبة إلى العالم الغير المستند علمه إلى الحسّ مفقودان ؛ إذ يقال له‌

__________________

(١) انظر الرياض ٢ : ٤٤٧.

٣٢٦

عرفاً ولغةً : أنّه غير حاضر وغير مخبر عمّا شاهده.

وإلى هذا يشير كلام الشهيد في الدروس حاكياً عن بعض الأصحاب ، حيث قال : ولا بدّ عند الإقامة من إتيان الشاهد بلفظ الشهادة ، فيقول : أشهد بكذا ، وأنا شاهد عليه الآن بكذا ، أو : شهدت عليه ، ولو قال : أعلم ، أو أتيقّن ، أو أُخبر عن علم أو حقّ ، لم يُسمَع ، قاله بعض الأصحاب (١). انتهى.

ولا يعارضه ما قيل من إطلاق الفتاوى والنصوص المتقدّمة ، المتضمّنة للفظ العلم والمعرفة (٢) ، المتقدّمة في المسألة الأُولى.

لأنّ الفتاوى وإن كانت في العنوان مطلقة ، ولكن الأكثر قيّدوها بعده بالمشاهدة أو الرويّة ، وما أرادوا المطلق ، وإلاّ لم يجعلوا الشهادة في النسب والوقف وأشباههما ممّا يكتفون فيها بالاستفاضة مستثناة ، سيّما عند الأكثر المشترطين للاستفاضة العلميّة. ولو سلّم إطلاق البعض لم يصلح للمعارضة.

وأمّا النصوص فلا عموم فيها أصلاً ؛ لتضمّنها لفظ الشهادة أيضاً ، فمدلولها أنّه لا بدّ مع الحضور من العلم والمعرفة ، ولا يكفي مطلق الحضور حتى الذي لم يفد غير الظنّ ؛ مع أنّ العلم في المرسلة (٣) ليس عامّاً ، بل معناها : أنّه لا يكون الإخبار عمّا شاهده إلاّ مع علم به ، والأخبار المتعقّبة لها مخصوصة بعلم خاصّ ، هو العلم بالكفّ وبالشمس المرئيّة ، واختصاصهما بالعلم الحاصل عن المشاهدة ظاهر ، فهي أيضاً أدلّة على‌

__________________

(١) الدروس ٢ : ١٣٥.

(٢) انظر الرياض ٢ : ٤٤٧.

(٣) أي مرسلة الفقيه المتقدّمة في ص ٣٢١.

٣٢٧

المطلوب.

وتدلّ عليه أيضاً المستفيضة من الصحاح وغيرها ، الواردة في شهود الزنا ، المتضمّنة لمثل قولهم : « حتى تقوم البيّنة الأربعة أنّهم رأوه يجامعها » أو « أنّهم رأوه يدخل ويخرج » (١).

بل يمكن دعوى الإجماع عليه أيضاً ؛ لتصريح الكلّ بذلك ، ولم يذكروا علماً آخر سوى العلم الحاصل من التسامع في موارد خاصّة ، وجعلوه مستثنى من القاعدة بالدليل.

وممّا ذكرنا ظهر ما في كلام المحقّق الأردبيلي ، حيث قال بعد ما نقل عنهم : إنّه لا يجوز كون مستند الشهادة في الأفعال السماع من الغير : وفيه تأمّل ؛ إذ يجوز أن يعلم هذه الأُمور بالسماع من الجماعة الكثيرة بقرائن أو غيرها ، بحيث يتيقّن ولم يبق عنده شبهة أصلاً ، كسائر المتواترات والمحفوفات بالقرائن ، فلا مانع من الشهادة حينئذٍ ، لحصول العلم (٢). انتهى.

فإنّه لا كلام في جواز حصول العلم بما ذكر ، بل بغيره أيضاً من التجارب والقرائن ، كما يعلم كون الليلة ثاني الشهر فصاعداً برؤية ظلّ الشاخص ونحوها.

وإنّما الكلام في أنّه هل يجوز جعل كلّ علم مناط الشهادة؟ مع أنّه خلاف مقتضاها اللغوي والعرفي ، وخلاف مدلول النصّ المصرّح بأنّه على مثل رؤية الشمس وعلى معرفة كما يعرف الكفّ يشهد (٣) ، كيف؟! ولو‌

__________________

(١) انظر الوسائل ٢٨ : ٩٤ أبواب حد الزنا ب ١٢.

(٢) مجمع الفائدة ١٢ : ٤٤٤.

(٣) راجع ص ٣٢١.

٣٢٨

كان المناط العلم مطلقاً لم ينحصر بالعلم الحاصل من التسامع ، بل يحصل كثيراً ما من التجارب والحدسيّات والاستقراء ، بل عن قول ثلاثة أو اثنين أو واحد ، كما ذكروه في الأُصول. واختلفوا في أنّه هل يحصل العلم من الخبر الواحد ، أم لا؟ وعلى الأول هل يطرد ، أم لا؟

فإن قيل : عدم اعتبار هذه العلوم لاختلافها شدّةً وضعفاً وتخلّفها كثيراً.

قلنا : تحقّق هذا التخلّف والاختلاف في العلم الحاصل من التسامع أكثر بكثير.

ولا تنافي ما ذكرنا رواية حفص بن غياث : أرأيت إذا رأيتُ شيئاً في يدي رجل ، أيجوز لي ان اشهد أنّه له؟ قال : « نعم » قال الرجل : أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : « أفيحلّ الشراء منه؟ » قال : نعم ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « فلعلّه لغيره ، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك ثم تقول بعد الملك : هو لي ، وتحلف عليه ، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟! » الحديث (١).

لأنّ ذلك أيضاً شهادة مستندة إلى حسّ البصر ، وهو الرؤية في يد زيد ، واليد معرِّف شرعيّ للملكيّة الظاهريّة ، أي كونه محكوماً له بالملكية ما لم يعلم خلافها.

بل اليد التي لم يعلم فيها عدم الملكيّة هي نفس الملكيّة الظاهريّة ، فإنّ الملكيّة ارتباط جعليّ من الشارع ، إمّا واقعاً وهي ما كان كذلك في نفس الأمر ، وهي لا يظهر خلافها أو ظاهراً ، وهي كونها كذلك على‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨٧ ، ١ ، الفقيه ٣ : ٣١ ، ٩٢ ، التهذيب ٦ : ٢٦١ ، ٦٩٥ ، الوسائل ٢٧ : ٢٩٢ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٢٥ ح ٢ ، بتفاوتٍ يسير.

٣٢٩

الظاهر.

وللواقعيّة أسباب ، وللظاهريّة معرِّفات ، هي أيضاً أسبابها ، وأحد معرِّفاتها اليد. كما أنّه تجوز الشهادة على الزوجيّة بمشاهدة الزوج والزوجة وسماع عقد النكاح بينهما ، وبتطهير الثوب برؤية غسله على ما هو المقرّر في الشرع ، وبنجاسته برؤية وصول بول الإنسان إليه ، وبالطلاق بالحضور في مجلسه ، وهكذا. فإنّ نفس الزوجيّة والتطهير والتنجيس وزوال عقد النكاح ليست اموراً محسوسة ، ولا ترتّبها على الأسباب المذكورة محسوساً ، ولا ترتّباً عقليّاً ولا عاديّاً ، بل ترتّب شرعيّ بجعل الشارع ، فبمشاهدة الموجبات الشرعية يشهد بالموجَب ، بالفتح.

وكذلك الغصب ، واشتغال الذمّة بالقرض ، والشهادة بالوقف بسماع الصيغة ورؤية الإقباض ، ونحوها ، بل كذلك في جميع الشهادات الحسّية.

فإنّه إذا سمع قول زيد : إنّ عليَّ ألفاً لعمرو ، يشهد عليه بالإقرار ، وهي شهادة حسّية ؛ مع أنّ اللفظ المذكور محتمل للتجوّز والتخصيص والحذف ونحوها ، بدون قرينة ، أو بقرينة مخفيّة عليه ، وسببه أنّ اللفظ المذكور مفيد للاعتراف وضعاً ما لم تُعلَم القرينة.

وكذلك إذا قال : أعرف فلان بن فلان ، فإنّ ابنيّته له أمر شرعيّ مترتّب على اشتهار نسبه ، أو إقرار والده ، أو تحقّق الفراش ونحوه ، فالمحسوس شي‌ء ، والمشهود به شي‌ء آخر مترتّب على المحسوس إمّا بحكم الشرع ، أو الوضع ، أو العقل ، أو العرف ؛ فكذلك الملكيّة بعينها بالنسبة إلى اليد.

وقد ثبت ممّا ذكر أنّ الأصل في الشهادة هو الاستناد إلى العلم الحضوري ، وعدم كفاية الحصولي على سبيل الإطلاق.

٣٣٠

المسألة الثالثة : قد استثنوا من الأصل المذكور أُمورا مخصوصة ، فاكتفوا في جواز الشهادة فيها بالعلم الحصولي لا مطلقاً ، بل بالتسامع والاستفاضة.

ثم إنّهم اختلفوا في تعداد تلك الأُمور ، فمنهم من خصّها بالنسب وحده ، وهو الإسكافي (١).

وعدّها في النافع أربعة ، بزيادة : الملك المطلق ، والوقف ، والزوجيّة (٢).

وفي الخلاف جعلها ستّة ، بزيادة : الولاء ، والعتق (٣). وكذلك في الكفاية ، ولكنه نقص : الولاء والزوجيّة ، وزاد : الموت والولاية (٤).

وفي القواعد سبعةً بزيادة : الموت ، والولاية للقاضي ، ونقص : الولاء (٥).

وفي التحرير ثمانيةً بزيادة : الولاء (٦).

وبعضهم تسعةً بزيادة : الرقّ ، والعدالة ، ونقص : الولاية (٧).

ومن متأخّري المتأخّرين من لم يحصرها في أُمور مخصوصة ، بل جوّزها في كلّ ما تتعذّر فيه المشاهدة في الأغلب (٨).

وعدّها في الشرائع في باب الشهادات ثلاثة : النسبة ، والموت ،

__________________

(١) نقله عنه في التنقيح الرائع ٤ : ٣١٠.

(٢) النافع : ٢٨٩.

(٣) الخلاف ٢ : ٦١١.

(٤) الكفاية : ٢٨٣.

(٥) القواعد ٢ : ٢٤٠.

(٦) التحرير ٢ : ٢١١.

(٧) كما في الرياض ٢ : ٤٤٧.

(٨) كما في كشف اللثام ٢ : ٣٨١.

٣٣١

والملك المطلق (١) ، وفي باب القضاء سبعة ، بزيادة : ولاية القاضي ، والنكاح ، والوقف ، والعتق (٢).

وظنّي أنّ المسألتين مختلفتان ، فإنّ الكلام تارةً في مستند الشهادة وما تجوز الشهادة بسببه.

وأُخرى فيما يثبت به الشي‌ء وإن لم تجز الشهادة بذلك الثبوت ، بل يكون مناطاً لحكم من ثبت عنده وتكليفه ، كشهادة العدلين ، فإنّه يثبت بها المشهود به عند من شهدا عنده ، ويثبت ما هو تكليفه بها ، ولا تجوز الشهادة بها عند الأكثر. وكذا العدل الواحد لو قلنا بإفادته العلم في بعض الموارد وأفاده. وكذا الخبر الواحد المحفوف بالقرينة العلميّة ، فإنّه يحكم به الحاكم ؛ لوجوب قضائه بعلمه ، وليس للشاهد أن يشهد به. إلى غير ذلك.

فمراد المحقّق في الأول بيان مستند الشاهد ، وفي الثاني بيان مستند كلّ شخص في حقّه ، وعلى هذا يمكن أن يكون قول المحقّق بعد عدّ الثلاثة وذكر مسائل اخرى ـ : والوقف والنكاح يثبت بالاستفاضة (٣) ، زيادة الأمرين على الثلاثة ؛ حيث إنّه ذكرهما في باب الشهادة ويمكن أن يكون المراد : الثبوت الذي ذكرناه ، بل الظاهر أنّه ليس غير ذلك ؛ حيث إنّه أدرج النكاح بعد ذلك في القسم الثالث من مستند الشاهد ، قال : الثالث : ما يفتقر إلى السماع والمشاهدة ، كالنكاح (٤) ، إلى آخره.

__________________

(١) الشرائع ٤ : ١٣٣.

(٢) الشرائع ٤ : ٧٠.

(٣) الشرائع ٤ : ١٣٤.

(٤) الشرائع ٤ : ١٣٥.

٣٣٢

ونحوه في الكفاية ، ولكنّه بعد عدّه الستّة المتقدّمة ممّا يشهد فيه بالاستفاضة ، وذكر مسائل أُخرى قال : والوقف والنكاح يثبت بالاستفاضة عند جماعة (١). انتهى.

وهذا أظهر في تغاير المسألتين ؛ لذكر الوقف في الموضعين.

ثم إنّهم استدلّوا على استثناء ما ذكروه بوجوه :

منها : ما قيل من عدم وجدانه الخلاف فيه بعد عدّ التسعة المذكورة إلاّ عن الإسكافي (٢).

ووهنه بعد ما ذكرنا من أقوالهم ظاهر ؛ إذ لم يذكر التسعة إلاّ الشاذّ النادر ، ولعلّه رأى بعض ذلك مذكوراً في مقام الثبوت فأدرجه في مقام مستند الشاهد.

ومع ذلك صرّح الشهيد الثاني (٣) وبعض من تبعه (٤) بمنع الجواز في الموت ، وذكر أوجهاً بالمنع في النسبة إلى الأُمّ.

ونسب في التنقيح الجواز في الموت والملك المطلق إلى الأكثر ، وفي الوقف والولاء والعتق والنكاح إلى الخلاف والفاضلين (٥) ، وظهور ذلك في الخلاف ظاهر ، وكذا عبارة الكفاية المتقدّمة.

هذا ، مع أنّه لا حجّية في عدم وجدان الخلاف أصلاً ، سيّما محكيّة.

وأمّا دعوى الإجماع في مثل هذه المعركة فجزاف ، منشؤه ضيق الفطن.

__________________

(١) الكفاية : ٢٨٤.

(٢) انظر الرياض ٢ : ٤٤٧.

(٣) المسالك ٢ : ٤١٠.

(٤) كالفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٣٨١.

(٥) التنقيح الرائع ٤ : ٣١٠.

٣٣٣

ومنها : ما قيل في النسب من أنّه أمر لا مدخل فيه للرؤية ، وغاية الممكن رؤية الولادة على فراش الإنسان ، لكن النسب إلى الأجداد المتوفّين والقبائل القديمة لا تتحقّق فيه الرؤية ومعرفة الفراش ، فدعت الحاجة إلى اعتماد التسامع والاستفاضة (١).

وفيه أولاً : أنّ الاستفاضة إن لم تكن مثبتة لشي‌ء ومعتمداً عليها فكيف تصلح مستندة للشاهدين؟! وإن كانت مثبتة ومعتمداً عليها فيثبت بها النسب عند الحاكم ، الذي عليه أن يحكم بعلمه ، وكذا كلّ من اطّلع على الاستفاضة ، فإنّ كلّ أحد مكلّف بعلمه ، فلا حاجة غالباً إلى شهادة الشاهدين ، التي يجب أن تكون مستندة إلى الحسّ ، فثبت النسب بالاستفاضة عند الحاكم وغيره.

وإن لم تجز الشهادة لأجلها والحاجة أحياناً إلى إثباته عند حاكم بشاهدين كما لم يمكن الإثبات بالاستفاضة عند الحاكم ووقع تنازع لا تصير دليلاً لإثبات أمر مخالف للنصّ والأصل ، وإلاّ لثبت بالاستفاضة كلّ شي‌ء ؛ إذ ليس شي‌ء إلاّ وقد يتعذّر إثباته بشاهدين مشاهدين للمشهود به ، بل يمكن التعدّي إلى غير الاستفاضة أيضاً.

وثانياً : إنّا نسلّم جواز الشهادة في النسب بالاستفاضة ، ولكن لا لكونه مستثنى ، ولا لدعاء الحاجة وعدم الاطّلاع على الفراش والولادة.

بل لأنّا نقول : إنّ النسب الشرعي هو ما اشتهر واستفاض ، فابن الشخص مَن شاع وذاع بين الناس ببنوَّته له من غير معارض.

فإنّا لا نقول : إنّ ابن شخص شرعاً مثلاً منحصر بمن انعقد من‌

__________________

(١) انظر المسالك ٢ : ٤١٠ ، الرياض ٢ : ٤٤٧.

٣٣٤

نطفته ، بل هو بحكم العقل.

ومن ولد على فراشه بحكم الشرع بقوله : « الولد للفراش » (١).

ومن أخرجته القرعة في المشتبه ، كما نطقت به الأخبار (٢) وأطبقت عليه الفتاوى.

ومن أقرّ به الأب ولم يعارضه الابن بالأخبار المستفيضة والإجماع.

ومن شاع واشتهر واستفاض بين الناس أنّه ابنه من غير معارض بالإجماع القطعي ، بل الضرورة الدينيّة ، بل ضرورة كلّ دين.

فبناؤهم كلاًّ من لدن آدم إلى ذلك الزمان أنّهم ينسبون الأولاد إلى الآباء بذلك ، فكون من اشتهر في حقّه ذلك ابناً شرعيّاً مجمع عليه ، بل بناء المواريث وغيرها من الأحكام الشرعيّة على مجرّد الاشتهار.

وكذا غير الابن من الأنسباء ، بل لولا ذلك لم يثبت نسب غالباً ، كما يأتي في المسألة الآتية.

فشهرة النسب من غير معارض كشهرة كونه زيداً.

فكما يشهد : أنّي رأيت زيداً ، بمجرّد ثبوت كونه زيداً بالاشتهار من غير استثناء وعدم منافاة لاستناد الشهادة إلى الحسّ.

فكذا النسب ، فالمشهود به هو الابنيّة مثلاً كالزيديّة في شخص زيد ومستنده إحساس الاشتهار الذي هو موجبها شرعاً بحاسّة السمع ، يعني : أنّ المشهود به مسموع كسماع الاعتراف وصيغ العقود ، فإنّك إذا سمعت : بعت ، من البائع ، تشهد بالبيع ؛ لأنّ ذكر هذا القول في مقام الإنشاء بيعٌ لا أنّه إخبار عن البيع ومثبت له.

__________________

(١) التهذيب ٨ : ١٨٣ ، ٦٤٠ ، الوسائل ٢٢ : ٤٣٠ أبواب اللعان ب ٩ ح ٣.

(٢) الوسائل ٢٧ : ٢٥٧ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٣.

٣٣٥

فكذا الاشتهار ، فإنّ المشتهر بذلك من غير معارضٍ ابنٌ شرعاً ، لا أنّ الشهرة إخبار عن أمر آخر هو الابنيّة.

وكذلك في سائر النسب.

ومنها : ما ذكروه في بعض سائر الأُمور المذكورة ، فقيل : يثبت الموت بالاستفاضة ؛ لتعذّر مشاهدة الميّت في أكثر الأوقات للشهود ، والملك المطلق لا يمكن الشهادة عليه بالقطع ، والوقف لو لم تسمع فيه الاستفاضة لبطلت الوقوف على تطاول الأزمنة ؛ لتعذّر بقاء الشهود ، والشهادة الثالثة عندنا غير مسموعة ، والوقوف للتأبيد (١).

وكذا العتق والزوجيّة والرقّية والولاية وغيرها ، فقيل : لو لم يجز في الشهادة فيها الاكتفاء بالسماع للزم بطلان أكثر تلك الحقوق بتطاول الأزمان والدهور (٢).

ويظهر ما فيها ممّا ذكرنا أولاً في الوجه السابق.

مضافاً إلى أنّ تعذّر مشاهدة الميّت وسائر ما استندوا فيه إلى التعذّر أو التعسّر ليس بأكثر من تعذّر مشاهدة كثير ممّا صرّحوا فيه باشتراط المشاهدة ، كالرضاع سيّما مع شرائط التحريم به والغصب ، والسرقة ، والاصطياد ، والإتلاف ، والولادة ، وغيرها. ولا أرى فرقاً بين البيع أو الهبة أو الإجارة وبين العتق والنكاح ونحوهما.

وإلى أنّ إثبات تلك الحقوق في الأزمنة المتطاولة لا تنحصر جهته بشهادة الشاهدين بها بالاستفاضة ، بل يمكن الإثبات بنفس الاستفاضة عند الحاكم وبيد الموقوف عليه أو المتولّي على الموقوف ، وبالأخبار المحفوفة‌

__________________

(١) انظر التحرير ٢ : ٢١١.

(٢) انظر المسالك ٢ : ٤١٠ ، كشف اللثام ٢ : ٣٨١.

٣٣٦

بالقرائن العلميّة ، وبتصرف المولى أو ورثته في الرقيق.

وقد ظهر من ذلك أنّ الحقّ عدم جواز الشهادة بشي‌ء بمجرّد الاستفاضة سوى النسب ، لا لأجل كونه مستثنى ؛ بل لما ذكرنا.

وأمّا غير الشهادة ، فيثبت كلّ شي‌ء بالاستفاضة إذا أفاد العلم عند من حصلت له الاستفاضة.

المسألة الرابعة : اختلف الأصحاب في الاستفاضة ـ التي هي مستند الشهادة عند من يجوّز استنادها إليها ودليل النسب الشرعي ، أو مستند الحاكم وغيره لا لأجل الشهادة بل لأجل الثبوت عنده على ما ذكرنا هل يشترط إيراثها العلم القطعي ، أو الظنّ المتاخم للعلم خاصّة ، أو يكفي مطلق الظنّ؟ على أقوال ثلاثة :

الأول : لجماعة ، منهم : المحقّق في الشرائع والنافع والفاضل في جملة من كتبه وصاحب التنقيح (١) وغيرهم (٢) ، وهو ظاهر كلّ من جعل ضابط الشهادة العلم ، من غير استثناء الاستفاضة الظنّية.

اقتصاراً فيما خالف الأصل على المتيقّن ، وللأخبار المتقدّمة المعتبرة للعلم في الشهادة (٣) ، والظواهر من الكتاب (٤) والسنّة (٥) الناهية عن اتّباع الظنّ والعمل به.

__________________

(١) الشرائع ٤ : ١٣٢ ، النافع : ٢٨٩ ، الفاضل في القواعد ٢ : ٢٣٩ ، والتحرير ٢ : ٢١١ ، التنقيح ٤ : ٣١١.

(٢) كالسبزواري في الكفاية : ٢٨٤.

(٣) الوسائل ٢٧ : ٣٤١ أبواب الشهادات ب ٢٠.

(٤) يونس : ٣٦ ، النجم : ٢٨.

(٥) الوسائل ٢٧ : ٤٠ أبواب صفات القاضي ب ٦ ح ٨ ، وص ٥٨ ح ٤٠ ، ٤٢.

٣٣٧

والثاني : محكيّ عن الإرشاد واللمعتين والدروس والمسالك (١).

واستدلّ له بأنّ الظنّ المتاخم للعلم أقوى من الحاصل من قول الشاهدين ، فيستفاد من مفهوم الموافقة بالنسبة إلى الحاصل من الشاهدين الذي هو حجّة منصوصة حجّيته أيضاً.

وبأنّه لو لم يعتبر هذا القدر من الظنّ فقد يحصل الضرر العظيم في أمثال ما ذكر من اعتبار الاستفاضة فيه ؛ لأنّ حصول العلم بها نادر جدّاً.

والثالث : منقول عن المبسوط والخلاف (٢).

محتجّاً (٣) بأنّه يجوز لنا الشهادة بأنّ خديجة زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما نقضي بأنّها أُمّ فاطمة ( سلام الله عليها ) ، ويجوز لنا الشهادة لها بزوجيّته ، مع أنّ العلم فيها غير حاصل ؛ لأنّه لو كان حاصلاً لكان بالتواتر ، وهو هنا مفقود ؛ لأنّ شرطه الاستناد إلى الحسّ ، والظاهر أنّ المخبرين في الطبقة الأُولى لم يخبروا عن المشاهدة ، بل عن السماع.

وبأنّه لو لم يعتبر الظنّ الحاصل من الاستفاضة لزم عدم الثبوت في أكثر ما ذكر ، سيّما فيما يطلب فيه التأبيد ؛ حيث إنّ شهادة الفرع الثالثة غير مسموعة عندنا.

أقول : أُورد (٤) على الدليل الأول للقول الثالث : بمنع فقد شرط التواتر في تزويج خديجة ؛ لأنّ الطبقة الأُولى بالغون حدّ التواتر ؛ لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أعلى قريش حينئذ ، وكان أبو طالب المتولّي لتزويجه رئيس بني‌

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ١٦٠ ، اللمعة والروضة ٣ : ١٣٦ ، الدروس ٢ : ١٣٤ ، المسالك ٢ : ٤١٠.

(٢) المبسوط ٨ : ١٨٣ ، الخلاف ٢ : ٦١١.

(٣) نقل الاحتجاج في التحرير ٢ : ٢١١.

(٤) أورده في المسالك ٢ : ٤١١ ٤١٢.

٣٣٨

هاشم ، وخديجة من أجلاّء بيوتات قريش ، وخطب في المسجد الحرام بمجمع من قريش ، فيمكن بلوغ المشاهدين حدّ التواتر ، وكذا يمكن بلوغ المخبرين عن طبقتهم السابقة في كلّ طبقة ، فبعد حصول العلم يحكم بحصول الشرط ـ كما قالوا في عدد التواتر.

وعلى الثاني (١) : بأنّ كما أنّ الشهادة الثالثة الفرعيّة غير مسموعة فكذلك الظنّية ، فتخصيص الثاني ليس بأولى من الأول (٢) ، بل [ الأول (٣) ] أولى ؛ لعدم استلزامه مخالفة الكتاب والعقل.

والقول بأنّ عدم قبول الثالثة إجماعيّ دون عدم قبول الظنّية.

مردودٌ بعدم معلوميّة الإجماع حتى في المورد في الأول ، كيف؟! وجوّزه الفاضل في المختلف في ردّ ذلك الدليل (٤) ، وهو وإن كان واحداً إلاّ أنّ الشيخ أيضاً مثله.

ثم أقول : إنّه يرد على الأول أيضاً أولاً : أنّه لو سلّم عدم إمكان التواتر فحصول العلم بالخبر المحفوف بالقرينة ممكن ، فلِمَ ليس كذلك هنا؟! كيف؟! ولو لم تكن زوجيّة خديجة معلومة لسرت الظنيّة إلى أعقاب خديجة أيضاً ، وصار الكلّ ظنّياً. وفساده ظاهر.

والظاهر أنّ الاستدلال بذلك الدليل لإثبات جواز الشهادة بالاستفاضة لا لأجل إثبات اعتبار الاستفاضة الظنّية ، وحينئذٍ يرد عليه أيضاً ما مرّ من أنّ الثبوت بالاستفاضة ولو كانت علميّة لا يستلزم جواز الشهادة بها ، غايته‌

__________________

(١) أورده في المختلف : ٧٢٩ ، وحكاه في المسالك ٢ : ٤١١.

(٢) أي أنّ تخصيص النهي عن الشهادة الظنّية بالوقف مثلاً تحصيلاً لمصلحة ثبوته ليس بأولى من تخصيص النهي عن الشهادة الثالثة بذلك.

(٣) في « ح » و « ق » : الثاني ، والصحيح ما أثبتناه.

(٤) المختلف : ٧٢٩.

٣٣٩

أنّه لم يجز لنا الشهادة في مقام التنازع والمرافعة في تلك الواقعة ، وأيّ محذور فيه؟! ولا نزاع ولا منازع.

ويرد على الثاني أيضاً ما مرّ من أنّه لا يستلزم عدم جواز الشهادة بالاستفاضة عدم إمكان الثبوت بها عند الحاكم وغيره ، فإنّ الثبوت لا يستلزم جواز الشهادة ، كما في شهادة العدلين ، بل المرأة الواحدة في ربع الوصيّة.

وبذلك ظهر ضعف القول الأخير بالنسبة إلى الشهادة ، وكذا بالنسبة إلى نفس الثبوت عند الحاكم وغيره ، بأن يجعل الاستفاضة الظنّية موجبة للثبوت ، فإنّ الأصل عدم الثبوت بها ، وعمومات النهي عن العمل بالظنّ وعدم إعبائه عن الشي‌ء تمنع اعتباره.

ثم أضعف من ذلك بالنسبة إلى الشهادة ما حكي عن الشيخ أيضاً ، من كفاية السماع عن العدلين فصاعداً ، فيصير بسماعه شاهد أصل ومتحمّلاً للشهادة ؛ لأنّ ثمرة الاستفاضة هي الظنّ ، وهو حاصل بهما (١).

وفيه أولاً : منع اعتبار الاستفاضة المثمرة للمظنّة.

وثانياً : أنّه لو سلّم ينبغي الاقتصار عليه ؛ لعدم دليل على العموم.

وثالثاً : أنّه لو كان سبباً لاعتبار مطلق الظنّ لزم اعتباره ولو حصل من واحد ـ ولو أُنثى أو فاسق.

والجواب بالاختصاص بما ثبت اعتباره شرعاً ، أو ما أفاد الظنّ القوي.

مردودٌ بأنّه إن أُريد اعتباره مطلقاً أو في مقام الشهادة فلم يثبت ها هنا أيضاً.

__________________

(١) المبسوط ٨ : ١٨١ ، وحكاه عنه في الرياض ٢ : ٤٤٨.

٣٤٠