مستند الشّيعة - ج ١٨

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٨

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-204-0
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٤٤٥

والرضوي : « من بقي في بيته طنبور أو عود أو شي‌ء من الملاهي من المِعْزَفَة والشطرنج وأشباهه أربعين يوماً فقد باء بغضب من الله ، فإن مات في أربعين مات فاجراً فاسقاً ، مأواه جهنّم وبئس المصير » (١).

وفيه أيضاً : « وإيّاك والضربة بالصوالج (٢) ، فإنّ الشيطان يركض معك ، والملائكة تنفر عنك » (٣).

وما رواه الشيخ الحرّ في الفصول المهمّة : « إنّما حرّم الله الصناعة التي هي حرام كلّها ، التي يجي‌ء منها أنواع الفساد محضاً ، نظير البرابط والمزامير والشطرنج ، وكلّ ملهوٍّ به ، والصلبان ، والأصنام ، وما أشبه ذلك من صناعات الأشربة الحرام ، وما يكون منه وفيه الفساد محضاً ولا يكون منه ولا فيه شي‌ء من وجوه الصلاح فحرام تعليمه ، وتعلّمه ، والعمل به ، وأخذ الأُجرة عليه ، وجميع التقليب فيه من جميع الحركات كلّها ، إلاّ أن تكون صناعة قد تنصرف إلى بعض وجوه المنافع » (٤).

وما رواه فيه أيضاً : « كلّ ما ألهى عن ذكر الله فهو ميسر » (٥).

ورواية : « إنّ الله يغفر لكلّ مذنب إلاّ لصاحب عرطبة أو كوبة » (٦).

__________________

(١) فقه الرضا عليه‌السلام : ٢٨٢ ، مستدرك الوسائل ١٣ : ٢١٨ أبواب ما يكتسب به ب ٧٩ ح ١٠ ، بتفاوتٍ يسير.

(٢) الصَّوْلَج والصولجان والصولجانة : العود المعوج .. عصا يعطف طرفها يضرب بها الكرة على الدواب لسان العرب ٢ : ٣١٠.

(٣) فقه الرضا عليه‌السلام : ٢٨٤ ، الفقيه ٤ : ٤١ ، ١٣٥ وفيه : الصوانَج.

(٤) وجدناه في تحف العقول : ٣٣٥ ، الوسائل ١٧ : ٨٣ أبواب ما يكتسب به ب ٢ ح ١ ، وفيهما : الصنائع ، بدل : المنافع.

(٥) وجدناه في مجالس ابن الشيخ : ٣٤٥ ، الوسائل ١٧ : ٣١٥ أبواب ما يكتسب به ب ١٠٠ ح ١٥.

(٦) انظر الفائق للزمخشري ٢ : ٤١٢ ، غريب الحديث ( لابن الجوزي ) ٢ : ٨٧ ، النهاية الأثيرية ٣ : ٢١٦.

١٦١

والرواية الواردة في بيان آخر الزمان : « ورأيت الملاهي قد ظهرت لا يمنعها أحدٌ أحداً ، ولا يجترئ أحد على منعها ، ورأيت المعازف ظاهرة في الحرمين » (١).

والمرويّ في جامع الأخبار : « يحشر صاحب الطنبور يوم القيامة أسود الوجه ، وبيده طنبور من نار ، وفوق رأسه سبعون ألف ملك ، وبيد كلٍّ مقمعة من نار يضربون وجهه ورأسه » إلى أن قال : « وصاحب المزمار مثل ذلك ، وصاحب الدفّ مثل ذلك » (٢).

والنبويّ : « إنّ الله حرّم على أُمّتي الخمر والميسر والمزمر والكوبة » (٣).

وفي رواية محمّد بن الحنفيّة في تهديد أقوام ، وفيها : « واشتروا المغنّيات والمعازف ».

وضعف هذه الأخبار كلاًّ أو بعضاً غير ضائر ؛ لانجبارها بما مرّ من فتاوى الأصحاب ، وحكايات نفي الخلاف ، والإجماع.

وتعضده أيضاً روايات كثيرة أُخرى ، كرواية سماعة : « لمّا مات آدم شَمَتَ به إبليس وقابيل ، واجتمعا في الأرض ، فجعل إبليس وقابيل المعازف والملاهي شماتةً بآدم ، فكلّ ما كان في الأرض من هذا الضرب الذي يتلذّذ به الناس فإنّما هو من ذلك » (٤).

ورواية عنبسة : « الغناء واللهو ينبت النفاق في القلب » (٥).

__________________

(١) الكافي ٨ : ٣٦ ، ٧ ، الوسائل ١٦ : ٢٧٥ أبواب الأمر والنهي ب ٤١ ح ٦ ، بتفاوت.

(٢) جامع الأخبار : ٤٣٣ ، ١٢١١ ، مستدرك الوسائل ١٣ : ٢١٩ أبواب ما يكتسب به ب ٧٩ ح ١٧.

(٣) مسند أحمد ١ : ٢٧٤ و ٢٨٩ وج ٢ : ١٦٥ و ١٧١.

(٤) الكافي ٦ : ٤٣١ ، ٣ ، الوسائل ١٧ : ٣١٣ أبواب ما يكتسب به ب ١٠٠ ح ٥.

(٥) الكافي ٦ : ٤٣٤ ، ٢٣ ، الوسائل ١٧ : ٣١٦ أبواب ما يكتسب به ب ١٠١ ح ١.

١٦٢

ورواية إسحاق بن جرير : « إنّ شيطاناً يقال له : القفندر ، إذا ضُرِبَ في منزل رجل أربعين يوماً بالبَرْبَط ، ودخل عليه الرجال ، وضع ذلك الشيطان كلّ عضو منه على مثله من صاحب البيت ، ثم ينفخ فيه نفخة فلا يغار بعدها ، حتى يؤتى بنسائه فلا يغار » (١) ، وقريبة منها رواية أبي داود المسترقّ (٢).

ورواية كليب الصيداوي : « ضرب العيدان ينبت النفاق في القلب » (٣).

ورواية موسى بن حبيب : « لا يقدّس الله امّة فيها بَرْبَط. [ يقعقع ] » (٤) إلى غير ذلك.

وجعل هذه الأخبار الأخيرة معاضدة لعدم صراحتها في التحريم.

والملاهي : جمع الملهاة ، وهي آلة اللهو.

والكوبة فُسّرت بالنرد والشطرنج ، وبالطنبور وبمطلق الطبل ، وبالطبل الصغير المختصر ، وبالبربط (٥).

والعرطبة فُسّرت في المرسلة بالطنبور ، وقيل : هي الطبل (٦).

والعود : آلة لهو يضرب به.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٣٣ ، ١٤ ، الوسائل ١٧ : ٣١٢ أبواب ما يكتسب به ب ١٠٠ ح ١ ، بتفاوتٍ يسير.

(٢) الكافي ٦ : ٤٣٤ ، ١٧ ، الوسائل ١٧ : ٣١٣ أبواب ما يكتسب به ب ١٠٠ ح ٢.

(٣) الكافي ٦ : ٤٣٤ ، ٢٠ ، الوسائل ١٧ : ٣١٣ أبواب ما يكتسب به ب ١٠٠ ح ٣.

(٤) الكافي ٦ : ٤٣٤ ، ٢١ ، الوسائل ١٧ : ٣١٣ أبواب ما يكتسب به ب ١٠٠ ح ٤ ؛ بدل ما بين المعقوفين في « ح » و « ق » : يفقع ، وما أثبتناه من المصدرين ؛ والقَعْقَعَة : حكاية صوت السلاح ونحوه مجمع البحرين ٤ : ٣٨٢.

(٥) انظر الصحاح ١ : ٢١٥ ، والقاموس ١ : ١٣١ ، والنهاية الأثيرية ٤ : ٢٠٧ ، ولسان العرب ١ : ٧٢٩ ، وأقرب الموارد ١ : ٤٧٣.

(٦) انظر القاموس ١ : ١٠٧.

١٦٣

والزفن فُسّر باللعب ، [ وبالدفع (١) ] ، وبالرقص (٢).

والمزمار : ما يزمر به. والزمر : التغنّي في القصب ونحوه ، ومزامير داود : ما كان يتغنّى به من الزبور. وقيل : المزمار : قصبة يُزمَّر بها (٣).

والكَبَر بالفتحتين الطبل ، وفي الصحاح : طبل له وجه واحد (٤).

والمعازف : هي آلات اللهو يضرب بها ، وقيل : المعزف : نوع من الطنبور يتّخذه أهل اليمن ، حكي عن المغرب (٥) ، وفي النهاية الأثيريّة : المعازف : هي الدفوف وغيرها ممّا يضرب بها (٦).

والبَرْبَط كجعفر ملهاة يشبه العود ، ويشبه صدر الإوز أي البطّ فهو فارسيّ معرّب ، أي صدر بطّ.

ثم المستفاد حرمته من هذه الأخبار على قسمين :

أحدهما : ما صرّح بحرمته خصوصاً ، وهو الطنبور والعود والمزمار والطبل والبربط والدفّ ، ولا خفاء في تحريمه.

وثانيهما : ما يدخل في عموم الملاهي المذكورة في بعض تلك الأخبار ـ أي آلات اللهو أو عموم المعازف على تفسيرها بآلات اللهو ، أو عموم قوله « كلّ ملهوٍّ به ».

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في « ح » : وبالدفاف ، وفي « ق » : وبالدف ؛ والصحيح ما أثبتناه انظر المصادر أدناه.

(٢) كما في مجمع البحرين ٦ : ٢٦٠ ، نهاية ابن الأثير ٢ : ٣٠٥ ، لسان العرب ١٣ : ١٩٧.

(٣) انظر نهاية ابن الأثير ٢ : ٣١٢ ، أقرب الموارد ١ : ٤٧٣.

(٤) لم نعثر عليه في الصحاح ، ولعلّه تصحيف المصباح انظر المصباح المنير : ٥٢٤.

(٥) المغرب ٢ : ٤٢.

(٦) النهاية ٣ : ٢٣٠.

١٦٤

والمراد بها : ما يتّخذ للهو ويعدّ له ويصدق عليه عرفاً أنّه آلة اللهو ، لا كل ما يلهى به وإن لم يكن معدّاً له ولم يصدق عليه آلته عرفاً ، بل كان متّخذاً لأمر آخر ـ كالطشت والجوز كما يستفاد من قوله في رواية الفصول المهمّة ، المشتملة على قوله : « كلّ ملهوٍّ به » « التي يجي‌ء منها أنواع الفساد محضاً » وقوله في آخرها : « ولا فيه شي‌ء من وجوه الصلاح ».

ولعلّه لذلك قيّد جماعة كما في المسالك وشرح الإرشاد والكفاية (١) الدفّ بالمشتمل على الجلاجل (٢) ؛ ليمتاز المتّخذ للهو منه عن غيره ، وإن اشتهر في هذه الأزمان كون جميع أفراده آلة اللهو.

ثم في المراد باللهو الذي تتّخذ له الآلة أيضاً إجمال ؛ إذ اللهو في اللغة : الاشتغال والتشاغل والسهو. وقد يستعمل بمعنى اللعب ؛ ولا يُعلَم أيّهما المراد ، ولو أُريد الأول فلا بدّ من التخصيص بالشغل عن ذكر الله ، وواضح أنّ كلّ ما يشغل عن ذكر الله ليس بمحرّم إجماعاً ، ولا يُتَّخذ آلة للشغل عن ذكر الله ، بل كلّ ما يُتَّخذ من أموال الدنيا ملهاة عن ذكر الله.

وأيضاً ظاهر رواية سماعة الاختصاص بما يضرب ضرباً يتلذّذ به الإنسان.

وظاهر الرضوي اختصاص الملاهي بالمعزفة والشطرنج وأشباهه.

وظاهر رواية الفصول المهمّة اختصاصها بما يجي‌ء منه أنواع الفساد محضاً ، وأيضاً إرادة العموم غير ممكنة ، والاقتصار بما ثبت تخصيصه يوجب خروج غير نادر ؛ مع أنّ الجابر في جميع ما يشغل عن ذكر الله غير معلوم.

__________________

(١) المسالك ٢ : ٤٠٤ ، الكفاية : ٢٨١.

(٢) الجُلْجُل : الجرس الصغير يعلّق في أعناق الدواب وغيرها مجمع البحرين ٥ : ٣٤١.

١٦٥

وعلى هذا ، فلا محيص عن الأخذ بما يتيقّن إرادته من الملاهي ، وليس هو إلاّ صنف مخصوص يعبّر عنه بالفارسيّة بـ : « أنواع سازها » فيجب الاقتصار في الحكم بالتحريم بذلك ، سواء كان من الآلات المسمّاة في الأخبار المتعارفة في أزمنة الشارع ، أو المستحدثة في هذه الأزمان ، بشرط صدق العنوان ، وهو بالفارسيّة : « ساز » ويكون آلة له ومتّخذة لأجله ، ويحكم في غيره بمقتضى الأصل.

ومنه ما يشكّ في دخوله فيه ، كالصور ، وما يتّخذه السلاطين لإعلام العساكر وعلامة الجلال ، ويقال له بالفارسيّة : كُرْنا.

وكذا الصنج بالمعنى الذي فسّره به في القاموس (١) ، وهو : دفّتان من رصاص ونحوه ، يضرب بأحدهما على الآخر لاجتماع الناس.

وأمّا ما روي من قولهم : « إيّاك والصوانج ، فإنّ الشيطان يركض معك ، والملائكة تنفر عنك » (٢) فلا يصلح لإثبات الحرمة ؛ لاختلاف النسخة ، فإنّ في الأكثر : « الصوالج » فتأمّل.

وكذا الصولجان والكرة ونحو ذلك.

فروع :

أ : هل تختصّ حرمة استعمال آلات الملاهي باستعمالٍ خاصّ؟ كالإلهاء بها بما أُعدّت له مع قصد الإلهاء ، فلا يحرم استعمالها بهذا النحو لا بقصد اللهو ، كضرب الطبل أو الدفّ ، أو الطنبور للإعلام بدخول وقت أو خروجه ، أو طرد الحيوانات المؤذية من الزرع ونحو ذلك ، وكذا لا يحرم‌

__________________

(١) القاموس ١ : ٢٠٤.

(٢) فقه الرضا عليه‌السلام : ٢٨٤ ، الفقيه ٤ : ٤١ ، ١٣٥.

١٦٦

استعمالها بغير النحو الخاص ، كجعل الدفّ مكيالاً ، والمزمار عصا ، ونحو ذلك.

أو تعمّ الحرمة جميع أنواع الاستعمالات؟

الظاهر : الثاني ، بل كأنّه لا خلاف فيه أيضاً ، وفي المنتهى : وكما يحرم بيع هذه الأشياء يحرم عملها مطلقاً ، بلا خلاف بين علمائنا في ذلك (١).

وتدلّ عليه روايتا الفصول المهمّة وأبي الربيع الشامي المتقدّمتين (٢).

والمرويّ في تحف العقول ، ورسالة المحكم والمتشابه للسيّد ، والفصول المهمّة أيضاً ، عن الصادق عليه‌السلام : « كلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله وشربه ، أو كسبه ، أو نكاحه ، أو ملكه ، أو هبته ، أو عاريته ، أو إمساكه ، أو يكون فيه شي‌ء من وجوه الفساد ، نظير : البيع بالربا ، والبيع للميتة والدم ولحم الخنزير ، أو لحوم السباع من جميع صنوف سباع الوحش ، أو الطير ، أو جلودها ، أو الخمر ، أو شي‌ء من وجوه النجس ، فهذا كلّه حرام محرّم ؛ لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله ، وشربه ، ولبسه ، وملكه ، وإمساكه ، والتقلّب فيه ، فجميع تقلّبه في ذلك حرام » الحديث (٣).

وفيه أيضاً : « وكذا كلّ ملهوٍّ به ، وكلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به لغير الله ، ويقوى به الكفر والشرك من جميع وجوه المعاصي ، أو باب يوهن به‌

__________________

(١) المنتهى ٢ : ١٠١١.

(٢) في ص ١٥٨ ١٥٩.

(٣) تحف العقول : ٣٣٣ ، المحكم والمتشابه : ٤٦ ، الوسائل ١٧ : ٨٣ أبواب ما يكتسب به ب ٢ ح ١.

١٦٧

الحقّ فهو حرام بيعه ، وشراؤه ، وإمساكه ، وملكه ، وهبته ، وعاريته ، وجميع التقلّب فيه ، إلاّ في حال تدعو الضرورة إلى ذلك ».

وتؤيّده أيضاً الروايات المتقدّمة ، المتضمّنة لصاحب العرطبة والكوبة والطنبور والمزمار والدفّ ، والرضوي المتقدّم (١).

والمرويّ في تفسير القمي : « فأمّا الميسر فالنرد والشطرنج ، وكلّ قمار ميسر ، وأمّا الأنصاب فالأوثان التي كان يعبدها المشركون ؛ وأمّا الأزلام فالأقداح التي كانت تستقسم بها مشركو العرب في الأُمور في الجاهليّة ؛ كلّ هذا بيعه وشراؤه والانتفاع بشي‌ء من هذا حرام من الله محرّم » (٢).

بل يمكن جعل ذلك دليلاً بضميمة الإجماع المركّب.

وظهر ممّا ذكر حرمة جميع التصرّفات في آلات اللهو وإمساكها واقتنائها ، ووجوب كسرها على المتمكّن منه ؛ دفعاً لمنكر الإمساك.

نعم ، لو كان ممّا يتّخذ للمنافع المحلّلة أيضاً أي لم ينحصر اتّخاذها للهو خاصّة ، بل قد ينصرف إلى وجوه المنافع المحلّلة ، بحيث كان ذلك متعارفاً فيه ـ يمكن الحكم بجواز الانتفاع منه بهذا الوجه ، كما ذكر في رواية الفصول المهمّة.

ولكن مثل ذلك نادر في آلات اللهو ؛ مع أنّ الرواية ضعيفة ، والجابر لها في ذلك غير معلوم.

إلاّ أن يقال : إنّ دليل حرمة جميع الانتفاعات أيضاً ضعيف ، والجابر له غير معلوم.

__________________

(١) في ص ١٥٩.

(٢) تفسير القمّي ١ : ١٨١ ، الوسائل ١٧ : ٣٢١ أبواب ما يكتسب به ب ١٠٢ ح ١٢ ، بتفاوتٍ يسير.

١٦٨

ولكن يمكن أن يمنع ضعف الجميع ، فإنّ رواية أبي الربيع حجّة ، ومحق النبيّ للمعازف إنّما هو على الوجوب ؛ لأنّه جعله غاية البعث ، والتأسّي به فيما لم يعلم كونه من خواصّه واجب ، ووجوب المحق ينافي جواز شي‌ء من الاستعمالات.

ب : هل يحرم اللهو بغير آلات اللهو الثابتة حرمتها المتقدّمة ، كالطشت يضرب به كالدفّ ، والصور ينفخ فيه لعباً ولهواً ، ونحو ذلك؟

الظاهر : لا ؛ للأصل ، واختصاص ثبوت الحرمة باستعمالات اللهو.

نعم ، لو ثبتت حرمة مطلق اللهو أيضاً لأمكن القول بالحرمة لذلك ، ولكنّها غير ثابتة ، فإنّ اللهو ما يتشاغل به ، والمراد به هنا عن ذكر الله ، أو خصوص اللعب ، وهو أيضاً فسّر بعمل لا يجدي نفعاً ، وحرمة مطلق الأمرين غير ثابتة.

وظاهر التذكرة حرمة مطلق اللهو ؛ احتجاجاً بذمّ الله سبحانه اللهو واللعب (١). وفي ثبوت ذلك الذمّ المثبت للتحريم نظر.

وقد يستدلّ للتحريم برواية عنبسة المتقدّمة (٢).

وقوله : « كلّ ملهوٍّ به » في رواية الفصول المهمة السابقة.

ورواية اخرى : « كل ما ألهى عن ذكر الله فهو ميسر » (٣).

ورواية الوشّاء : عن شراء المغنّية ، قال : « قد تكون للرجل الجارية تلهيه ، وما ثمنها إلاّ ثمن كلب ، وثمن الكلب سحت ، والسحت في‌

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٥٨١.

(٢) في ص ١٦١.

(٣) مجالس الحسن بن محمد الطوسي ١ : ٣٤٥ ، الوسائل ١٧ : ٣١٥ أبواب ما يكتسب به ب ١٠٠ ح ١٥.

١٦٩

النار » (١).

ورواية اخرى ذكرها في مجمع البحرين : عن قول الله تعالى ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) (٢) قال : « هو الغناء وسائر الأقوال الملهية » (٣).

ورواية أبي عمرو الزبيري ، وهي طويلة ، وفيها « وفرض على السمع أن يتنزّه عن الاستماع إلى ما حرّمه الله ، وأن يعرض عمّا لا يحلّ له ممّا نهى الله تعالى عنه ، والإصغاء إلى ما أسخط الله تعالى ، فقال في ذلك ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ ) (٤) » إلى أن قال : « وقال ( فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (٥) وقال تعالى ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) (٦) وقال ( وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ) (٧) وقال ( وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ) (٨) فهذا ما فرض الله على السمع من الإيمان أن لا يصغي إلى ما لا يحلّ له » الحديث (٩). ولا شكّ أنّ كلّ لهوٍ لغو.

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٢٠ ، ٤ ، التهذيب ٦ : ٣٥٧ ، ١٠١٩ ، الإستبصار ٣ : ٦١ ، ٢٠٢ ، الوسائل ١٧ : ١٢٤ أبواب ما يكتسب به ب ١٦ ح ٦.

(٢) الحج : ٣٠.

(٣) مجمع البحرين ٣ : ٣١٩ ، بتفاوت.

(٤) النساء : ١٣٩.

(٥) الزمر : ١٧ ١٨.

(٦) المؤمنون : ١ ٣.

(٧) القصص : ٥٥.

(٨) الفرقان : ٧٢.

(٩) الكافي ٢ : ٣٣ ، ١ ، الوسائل ١٥ : ١٦٤ أبواب جهاد النفس ب ٢ ح ١.

١٧٠

ويمكن أن يجاب عن الأول : بمنع دلالته على التحريم ، بل مثل ذلك يستعمل في أكثر المكروهات.

وعن الثاني : أنّه ذكره في بيان ما فيه الفساد محضاً وليس فيه شي‌ء من وجوه الصلاح ، وليس غير آلات اللهو كذلك ، فالمراد به هي الملاهي ؛ مع أنّ الرواية ضعيفة ، وانجبارها في غير الملاهي وآلات القمار غير معلوم.

وعن الثالث : بمعارضته مع رواية الوشّاء : « الميسر هو القمار » (١) ، ورواية جابر ، وفيها : ما الميسر؟ قال : « ما تقومر به حتى الكعاب والجوز » (٢).

وعن الرابع : أنّ مطلق الإلهاء ليس بمحرّم إجماعاً ، والحمل على الإلهاء عن ذكر الله ليس بأولى من حمله على الإلهاء عن الواجبات كالصلاة ونحوها ، فلا يدلّ على حرمة مطلق اللهو ؛ مع أنّ الظاهر أنّ المراد الجارية المغنّية الملهية بغنائها ، بأن تكون اللاّم في : « الجارية » للعهد الذكري ، ولا شكّ في تحريم ذلك الإلهاء.

وعن الخامس : بالمعارضة مع ما فسّر قول الزور بالغناء خاصّة ، كرواية أبي بصير ، ففيها : « إنّه هو الغناء » (٣).

وعن السادس : أنّه لا يدلّ إلاّ على حرمة الإصغاء إلى ما لا يحلّ له ، ولا يدلّ على أنّ اللّغو منه وذكر الآيات إنّما هو لبيان كون السمع أيضاً‌

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٢٤ ، ٩ ، الوسائل ١٧ : ١٦٥ أبواب ما يكتسب به ب ٣٥ ح ٣.

(٢) الكافي ٥ : ١٢٢ ، ٢ ، الفقيه ٣ : ٩٧ ، ٣٧٤ ، التهذيب ٦ : ٣٧١ ، ١٠٧٥ ، الوسائل ١٧ : ١٦٥ أبواب ما يكتسب به ب ٣٥ ح ٤.

(٣) الكافي ٦ : ٤٣١ ، ١ ، الوسائل ١٧ : ٣٠٥ أبواب ما يكتسب به ب ٩٩ ح ٩ ، بتفاوتٍ يسير.

١٧١

مكلّفاً ، بقرينة أنّه لا دلالة في الآيات المذكورة على الفرضيّة ، وأيضاً ذكر اتّباع الأحسن ، وهو غير مفروض قطعاً إذ المراد باللّغو : ما ثبت عدم حلّية إصغائه ، كالغناء والهجاء والغيبة.

ج : قُيّد الدفّ المحرّم في طائفة من كلمات الأصحاب كالمسالك وشرح الإرشاد للأردبيلي والكفاية (١) بالمشتمل على الجلاجل ؛ وأطلقه جماعة (٢) ، وهو المستفاد من رواية جامع الأخبار (٣) والأخبار المتضمّنة للملاهي وآلات اللهو (٤) ، فهو الأظهر.

د : صرّح في القواعد والشرائع والتحرير والإرشاد والدروس بحرمة استماع أصوات آلات اللهو (٥) ؛ وكأنّه لصدق الاشتغال المصرّح به في رواية الفضل (٦) ، ولعلّه لا خلاف فيه أيضاً ، وهو كذلك.

ومنع صدق الاشتغال بمجرّد مطلق الاستماع ، وتوقّفه على نوع مواظبة غير جيّد ، ولو سلّم يمكن أن يقال : إنّ تحريم المواظبة على الاستماع بحيث يصدق الاشتغال قطعاً يثبت تحريم مطلقه ؛ للإجماع المركّب ، وأمّا سماعها فلا ؛ للأصل ، وعدم صدق الاشتغال وإن وجب المنع نهياً عن المنكر.

__________________

(١) المسالك ٢ : ٤٠٤ ، الكفاية : ٢٨١.

(٢) منهم ابن إدريس في السرائر ٢ : ٢١٥ والعلاّمة في التذكرة ٢ : ٥٨١ ، وصاحب الحدائق ١٨ : ٢٠٠.

(٣) المتقدّمة في ص ١٦٠.

(٤) الوسائل ١٧ : ٣١٢ أبواب ما يكتسب به ب ١٠٠.

(٥) القواعد ٢ : ٢٣٦ ، الشرائع ٤ : ١٢٨ ، التحرير ٢ : ٢٠٩ ، الدروس : ١٩٠.

(٦) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٢١ ، الوسائل ١٥ : ٣٢٩ أبواب جهاد النفس ب ٤٦ ح ٣٣.

١٧٢

وتظهر الثمرة فيما إذا لم يمكن المنع وأمكن التباعد بحيث لا يسمع أو سدّ السمع بخرقة فلا يجب ذلك ، وفيما إذا مرّ على طريق يوجب السماع مع إمكان العبور عن غيره فيجوز المرور.

نعم ، لا يجوز الجلوس في مجلس الاشتغال بالملاهي مع عدم إمكان المنع وإمكان الخروج ؛ لحرمة الجلوس في مجلس المعصية.

هـ : يجب على كلّ متمكّن كسر آلات اللهو أو إتلافها ؛ نهياً عن المنكر ، الذي هو إمساكه واقتناؤه ، ولا يضمن به لصاحبه.

نعم ، يجب عليه في صورة الكسر ردّ المكسور إلى المالك إن تصوّر فيه نفع.

و : قد استثنى جماعة من أصحابنا منهم : الشيخ في المبسوط والخلاف كما حكي ، والمحقّق في الشرائع والنافع ، والفاضل في القواعد والإرشاد والتحرير ، والشهيد في الدروس ، وحكي عن المحقّق الثاني أيضاً (١) الدفّ في العرائس ، وادّعى بعض مشايخنا المعاصرين الإجماع عليه بفتوى وعملاً (٢) ، بل عن الخلاف دعوى الوفاق عليه (٣).

للنبويّين ، أحدهما : « أعلنوا بالنكاح ، وأضربوا عليه بالغربال » يعني الدفّ (٤).

وفي الثاني : « فَصلُ ما بين الحلال والحرام الضرب بالدفّ عند‌

__________________

(١) المبسوط ٨ : ٢١٤ ، الخلاف ٢ : ٦٢٦ ، الشرائع ٤ : ١٢٨ ، النافع : ٢٨٧ ، القواعد ٢ : ٢٣٦ ، التحرير ٢ : ٢٠٩ ، الدروس ٢ : ١٢٦ ، المحقق الثاني في جامع المقاصد ٤ : ٢٤.

(٢) انظر الرياض ٢ : ٤٣٠.

(٣) الخلاف ٢ : ٦٢٧.

(٤) سنن ابن ماجة ١ : ٦١١ ، ١٨٩٥.

١٧٣

النكاح » (١).

والمرسل المرويّ في التذكرة ، حيث قال : وروى جواز ذلك في الختان والعرس (٢).

خلافاً للمحكيّ عن الحلّي وفي التذكرة (٣) ، فمنعا عنه فيه وفيما يأتي من الختان أيضاً ، ونفى عنه البعد في الكفاية (٤) ، واستبعد الاستثناء في شرح الإرشاد ؛ عملاً بالعمومات المتقدّمة.

ولا ريب أنّه أحوط وإن كان في الفتوى بالمنع نظر ؛ لإمكان تخصيص العمومات بالروايات الثلاث المتقدّمة ، المنجبر ضعفها بما مرّ من حكاية الشهرة والإجماع ، مع اعتضادها كما قيل (٥) بفحوى المعتبرة ، المبيحة لأجر المغنّية في العرائس.

ويظهر من الرواية الثالثة وجه ما ألحقوه بالنكاح أعني الختان مضافاً إلى ما قيل من عدم القائل بالفرق بينهما (٦) ؛ مع ما في مجمع البحرين من قوله : وفيه أي في الحديث يقولون : إنّ إبراهيم عليه‌السلام ختن نفسه بقَدُوم على دفّ ؛ لكنّه فسّره : بـ : على جنب (٧).

قيل : وهو أنسب بعصمته عليه‌السلام ، المانعة عن ارتكاب نحو هذا المكروه الشديد الكراهة (٨).

__________________

(١) سنن النسائي ٦ : ١٢٧ ، بتفاوت.

(٢) التذكرة ٢ : ٥٨١ ، وليس فيه : الختان.

(٣) السرائر ٢ : ٢١٥ ، التذكرة ٢ : ٥٨١ ؛ وحكاه عنهما في الرياض ٢ : ٤٣٠.

(٤) الكفاية : ٢٨١.

(٥) انظر الرياض ٢ : ٤٣١.

(٦) انظر الرياض ٢ : ٤٣١.

(٧) مجمع البحرين ٥ : ٥٩.

(٨) انظر الرياض ٢ : ٤٣١.

١٧٤

وفيه نظر ؛ لعدم وضوح مأخذ الكراهة في تلك الأزمنة.

وإطلاق الأخبار كأكثر عبارات الأصحاب ، ككتب الفاضلين عدم الفرق في المستثنى بين ذات الصنج وغيره ، وقيّده الشهيد والمحقّق الثاني بالثاني (١) ، ولا وجه له.

والمراد بالصنج هنا كما عن المطرزي ـ : ما يجعل في أطراف الدفّ من النحاس ، أو الصفر المدوّرة صغاراً شبيه الفلوس (٢). وأمّا أصله فهو ما سبق تفسيره.

ثم إنّ المذكور في الروايتين الأُوليين الاستثناء على النكاح وعنده ، والخلاف في معناه مشهور وإن كان الأقرب أنّه العقد ، وهو الأنسب بقوله : « أعلنوا بالنكاح » ، فإنّه الذي ورد في الأخبار استحباب الإشهاد عليه والإعلان به (٣).

وفي الأخيرة (٤) في العرس ، وهو قد يفسّر بالزفاف.

وأمّا الأصحاب ، فذكر جمع منهم بلفظ النكاح كما في المسالك والكفاية وشرح الإرشاد (٥) وبعضهم بلفظ العرس كما في القواعد والتذكرة (٦) وذكر الأكثر كالشرائع والنافع والتحرير والإرشاد والدروس (٧) بلفظ الإملاك ، المفسّر في كلام الأكثر بالنكاح ، وقد يفسّر بالتزويج.

__________________

(١) الشهيد في الدروس ٢ : ١٢٦ ، المحقق الثاني في جامع المقاصد ٤ : ٢٤.

(٢) المغرب ١ : ٣٠٩ وفيه بتفاوت.

(٣) كما في الوسائل ٢٠ : ٩٧ أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب ٤٣.

(٤) أي المرسل المروي في التذكرة ٢ : ٥٨١.

(٥) المسالك ٢ : ٤٠٤ ، الكفاية : ٢٨١ ، مجمع الفائدة ١٢ : ٣٤١.

(٦) القواعد ٢ : ٢٣٦ ، التذكرة ٢ : ٥٨٢.

(٧) الشرائع ٤ : ١٢٨ ، النافع : ٢٨٧ ، التحرير ٢ : ٢٠٩ ، الإرشاد ٢ : ١٥٧ ، الدروس ٢ : ١٢٦.

١٧٥

وعلى هذا فيشكل مورد الاستثناء عند الفصل بين العقد والزفاف ، أي زمان دخول أحد الزوجين على الآخر للوطء وإن لم يتّفق الوطء. وكذا يشكل تعيين قدر زمان الاستثناء.

واللاّزم الاقتصار على صورة مقارنة العقد والزفاف أي وقوعهما في يوم واحد ، أو ليلة واحدة لأنّ الظاهر أنّ النكاح في عرف الشرع هو العقد.

وأمّا إرادته في كلمات الأصحاب التي هي الجابرة للأخبار فغير معلومة ، فالعقد المجرّد عن الزفاف لا يُعلَم له جابر ، والزفاف المنفصل عن العقد لا تُعلَم به رواية.

ولا يبعد الحكم بالجواز إذا وقعا في يوم وليلة ، وجواز الدفّ في ذلك اليوم والليلة خلاف الاحتياط جدّاً ، فالأحوط الاقتصار على وقوعهما في يوم واحد ، أو ليلة واحدة ، وعلى ذلك اليوم أو الليلة ، بل على بعض منه ، الذي يقع فيه الأمران عرفاً ، والأحوط من الجميع تركه بالمرّة.

ز : هل الاشتغال بالملاهي من الكبائر فتزول به العدالة ولو بمرّة أو لا ، فلا تزول إلاّ بالإصرار؟

ظاهر كلمات أكثر من حكي عنه التحريم : الأول (١) ، حيث أطلقوا ردّ الشهادة له وحصول الفسق به.

واستشكل فيه بعض مشايخنا (٢) ، بل صرّح في المسالك بعدم كونه من الكبائر (٣) ، واستحسنه في الكفاية (٤) ؛ لأنّ المستفاد من النصوص مجرّد‌

__________________

(١) راجع ص ١٥٧ ١٥٨.

(٢) انظر الرياض ٢ : ٤٣٠.

(٣) المسالك ٢ : ٤٠٢.

(٤) الكفاية : ٢٨١.

١٧٦

النهي عنه ، وتحريمه من دون توعيد النار عليه.

أقول : كان ذلك حسناً لو خُصّت الكبائر بما عُلِمَ أنّه ممّا أوعد الله عليه النار ، وأمّا على ما ذكرنا من جعلها قسمين أحدهما : ما ذكر ، والثاني ما صرّح بكونه كبيرة في الأخبار فيدخل ذلك فيها ؛ للتصريح به في رواية الفضل (١) ، التي هي في نفسها حجّة ؛ مع كونها بالإطلاق المذكور في كلام الأكثر منجبرة.

المسألة الثالثة : لا تقبل شهادة القاذف مع عدم اللعان أو البيّنة قبل التوبة بلا خلاف ، بل بالإجماع المحقّق والمحكيّ (٢) ؛ له ، وللآية الكريمة ( وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً ) (٣).

وتقبل شهادته بعد التوبة بلا خلاف أيضاً ، بل عليه الإجماع عن التحرير والتنقيح (٤).

لقوله سبحانه ( إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا ) (٥).

وللنصوص المستفيضة ، كصحيحة ابن سنان : عن المحدود إذا تاب ، تقبل شهادته؟ فقال : « إذا تاب ، وتوبته أن يرجع ممّا قال ، ويكذّب نفسه عند الإمام وعند المسلمين ، فإذا فعل فإنّ على الإمام أن يقبل شهادته بعد ذلك » (٦).

ومرسلة يونس : عن الذي يقذف المحصنات ، تقبل شهادته بعد الحدّ إذا تاب؟ قال : « نعم » قلت : وما توبته؟ قال : « يجي‌ء فيكذّب نفسه عند‌

__________________

(١) المتقدّمة في ص ١٣٠.

(٢) كما في الرياض ٢ : ٤٣١.

(٣) النور : ٤.

(٤) التحرير ٢ : ٢٠٨ ، التنقيح ٤ : ٢٩٣.

(٥) النور : ٥.

(٦) الكافي ٧ : ٣٩٧ ، ٦ ، التهذيب ٦ : ٢٤٥ ، ٦١٦ ، الإستبصار ٣ : ٣٦ ، ١٢١ ، الوسائل ٢٧ : ٣٨٥ أبواب الشهادات ب ٣٧ ح ١.

١٧٧

الإمام ، ويقول : قد افتريت على فلانة ، ويتوب ممّا قال » (١).

ورواية الكناني : عن القاذف إذا أكذب نفسه وتاب ، أتقبل شهادته؟ قال : « نعم » (٢).

والأُخرى : عن القاذف بعد ما يقام عليه الحدّ ما توبته؟ قال : « يكذّب نفسه » قلت : أرأيت إن أكذب نفسه وتاب أتقبل شهادته؟ قال : « نعم » (٣).

ورواية القاسم بن سليمان ، الصحيحة عمّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه : عن الرجل يقذف الرجل فيُجلَد حدّا ، ثم يتوب ولا يعلم منه إلاّ خيراً ، أتجوز شهادته؟ قال : « نعم ، ما يقال عندكم؟ » قلت : يقولون : توبته فيما بينه وبين الله ، ولا تقبل شهادته أبداً ، فقال : « بئس ما قالوا ، كان أبي يقول : إذا تاب ولم يعلم منه إلاّ خيراً جازت شهادته » (٤) إلى غير ذلك.

وأمّا رواية السكوني : « ليس يصيب أحداً حدٌّ فيقام عليه ثم يتوب إلاّ جازت شهادته ، إلاّ القاذف ، فإنّه لا تقبل شهادته ، إنّ توبته فيما بينه وبين الله » (٥).

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٩٧ ، ٥ ، التهذيب ٦ : ٢٤٥ ، ٦١٧ ، الإستبصار ٣ : ٣٦ ، ١٢٢ ، الوسائل ٢٧ : ٣٨٤ أبواب الشهادات ب ٣٦ ح ٤.

(٢) التهذيب ٦ : ٢٤٦ ، ٦٢١ ، الإستبصار ٣ : ٣٧ ، ١٢٦ ، الوسائل ٢٧ : ٣٨٤ أبواب الشهادات ب ٣٦ ح ٥.

(٣) الكافي ٧ : ٣٩٧ ، ١ ، التهذيب ٦ : ٢٤٥ ، ٦١٥ ، الإستبصار ٣ : ٣٦ ، ١٢٠ ، الوسائل ٢٧ : ٣٨٢ أبواب الشهادات ب ٣٦ ح ١.

(٤) الكافي ٧ : ٣٩٧ ، ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٤٦ ، ٦٢٠ ، الإستبصار ٣ : ٣٧ ، ١٢٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣٨٢ أبواب الشهادات ب ٣٦ ح ٢.

(٥) التهذيب ٦ : ٢٨٤ ، ٧٨٦ ، الإستبصار ٣ : ٣٧ ، ١٢٧ ، الوسائل ٢٧ : ٣٨٤ أبواب الشهادات ب ٣٦ ح ٦ ، بتفاوت.

١٧٨

فمع مخالفتها لعمل الأصحاب وموافقتها للعامّة كما يستفاد من رواية القاسم ، مع كون راويها من قضاة العامّة لا حجّية فيها ، سيّما مع خلو الرواية عن الاستثناء على نسخة الكافي ، بل على بعض نسخ التهذيب أيضاً كما قيل (١).

ثم إنّه يشترط في توبته إكذاب نفسه ، بلا خلاف بين الفرقة كما في الخلاف (٢) ، بل بالاتّفاق عن الغنية (٣) ؛ للأخبار المتقدّمة المصرّحة بذلك.

ويشترط أن يكون الإكذاب بما هو حقيقة فيه عرفاً ، نحو : كذبت على فلانة ، أو افتريت ، سواء كان كاذباً في القذف واقعاً أو صادقاً ، وفاقاً للمحكيّ عن الصدوقين والعماني والشيخ في النهاية والشرائع والنافع والدروس والمسالك والتنقيح (٤) وغيرها (٥) ، بل قيل : إنّ الظاهر أنّه المشهور بين المتأخّرين ، بل المتقدّمين أيضاً (٦).

لظاهر النصوص ؛ حيث إنّ المتبادر من الإكذاب هو معناه الحقيقي ، بل هو صريح مرسلة يونس ، بل صحيحة ابن سنان ؛ حيث إنّ الرجوع لا يتحقّق بدون الإكذاب الحقيقي.

وخلافاً لظاهر المبسوط ، فقال : إنّ كيفيّة إكذابه أن يقول : القذف‌

__________________

(١) انظر الرياض ٢ : ٤٣١.

(٢) الخلاف ٢ : ٦١٠.

(٣) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥.

(٤) الصدوق في المقنع : ١٣٣ ، حكاه عن والده وعن العماني في المختلف : ٧١٧ ، النهاية : ٣٢٦ ، الشرائع ٤ : ١٢٨ ، النافع : ٢٨٧ ، الدروس ٢ : ١٢٦ ، المسالك ٢ : ٤٠٣ ، التنقيح ٤ : ٢٩٤.

(٥) كالجامع للشرائع : ٥٤٠.

(٦) انظر الرياض ٢ : ٤٣٢.

١٧٩

باطل حرام ، ولا أعود إلى ما قلت (١).

وللمحكيّ عن ابن حمزة وعن السرائر والإرشاد والقواعد والتحرير والمختلف والإيضاح (٢) ، فقالوا : إن كان في قذفه كاذباً فتوبته إكذاب نفسه حقيقة ، وإن كان صادقاً فحدّها أن يقول : الكذب حرام ولا أعود إلى مثل ما قلت ، كما قال ابن حمزة ، أو يقول : أخطأت ، كما قاله الآخرون ؛ معلّلين بحرمة الكذب.

وفيه : أنّها لولا النصوص المجوّزة له ، مع أنّ التورية عنه ممكنة ، بل وجه التورية ظاهر بإرادة كونه كاذباً بحكم الله ؛ حيث قال ( فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ ) (٣).

وهل تعرف التوبة بمجرّد الإكذاب ، أم تحتاج بعده إلى معرفة الندامة أيضاً؟

الظاهر كما حكي عن بعض المحقّقين (٤) : الثاني ؛ لقوله في مرسلة يونس : « ويتوب ممّا قال » بعد الإكذاب.

وموثّقة سماعة ، وفيها : وأمّا قول الله ( وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً ) .. ( إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا ) قال : قلت : كيف تُعرَف توبته؟ قال : « يكذّب نفسه على رؤوس الناس حين يُضرَب ، ويستغفر ربّه ، فإذا فعل ذلك فقد ظهرت توبته » (٥).

__________________

(١) المبسوط ٨ : ١٧٩.

(٢) ابن حمزة في الوسيلة : ٢٣١ ، السرائر ٢ : ١١٦ ، القواعد ٢ : ٢٣٦ ، التحرير ٢ : ٢٠٨ ، المختلف : ٧١٧ ، الإيضاح ٤ : ٤٢٣.

(٣) النور : ١٣.

(٤) الفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٣٧٢.

(٥) الفقيه ٣ : ٣٦ ، ١٢١ ، التهذيب ٦ : ٢٦٣ ، ٦٩٩ ، الوسائل ٢٧ : ٣٣٤ أبواب الشهادات ب ١٥ ح ٢ ، بتفاوت.

١٨٠