مستند الشّيعة - ج ١٨

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٨

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-204-0
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٤٤٥

الصغيرة ، ولأجله يخرج عن العدالة.

المسألة الخامسة : اعلم أنّه لا خلاف في زوال العدالة بارتكاب كبيرة من الكبائر ولو كان إصراراً على الصغيرة ، بل هو إجماعي ؛ ويدلّ عليه الإجماع ، ورواية علقمة (١) ، وصحيحة ابن أبي يعفور (٢) ، وبعض الروايات الأُخر (٣).

وهل يقدح فيها فعل صغيرة من دون إصرار ، أم لا؟

المشهور سيّما بين المتأخّرين (٤) : الثاني إن لم يبلغ حدّ الإكثار ، على القول بعدم كونه إصراراً ، بل قيل : إنّه اتّفاقيّ بين القائلين بتقسيم المعاصي إلى الكبائر والصغائر ، وادّعي عليه الشهرة العظيمة (٥).

وهو الأقوى ؛ لتعريف العدالة في الصحيحة باجتناب الكبائر ، فمن اجتنبها يكون عادلاً ولا ارتكب الصغيرة ، بل مقتضاها اختصاص القدح بالكبيرة التي أوعد الله عليها النار دون غيرها لو قلنا بأعميّة الكبيرة عنه وعمّا في الأخبار ، ولو لا الإجماع على قدح الكبيرة مطلقاً لأمكن القول بالاختصاص.

ويؤيّده أيضاً استلزام قدح مطلق الصغيرة في العدالة الحرج العظيم ، كما ذكره الشيخ في المبسوط (٦) ، وتشعر به رواية علقمة. وإمكان الرفع بالتوبة كما ذكره الحلّي (٧) غير مفيد غالباً ؛ لأنّ العلم بالتوبة مشكل.

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٩١ ، ٣ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٥ أبواب الشهادات ب ٤١ ح ١٣.

(٢) الفقيه ٣ : ٢٤ ، ٦٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩١ أبواب الشهادات ب ٤١ ح ١.

(٣) الوسائل ٢٧ : ٣٩١ أبواب الشهادات ب ٤١.

(٤) كالشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤٠٢ ، السبزواري في الكفاية : ٢٧٩ ، الكاشاني في المفاتيح ١ : ١٩.

(٥) كما في الرياض ٢ : ٤٢٨.

(٦) المبسوط ٨ : ٢١٧.

(٧) السرائر ٢ : ١١٨.

١٤١

وكذا يؤيّده قوله سبحانه ( وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا ) (١) وقوله ( إِلاَّ اللَّمَمَ ) (٢) وقد فسّره الجوهري بصغار الذنوب (٣) ، وكذا ابن الأثير في حديث أبي العالية ، ونقله عن بعضهم أيضاً (٤) ، وفسّره أيضاً في الصافي بما صغر (٥).

وحكي عن جماعة من القدماء الأُول (٦) ، وهم بين من أطلق في اشتراط العدالة أو قبول الشهادة بالاجتناب عن المحارم أو القبائح أو نحوهما ممّا يشمل الصغيرة أيضاً ، وهو أكثرهم ، ومن صرّح بقدح جميع الذنوب ونفى الصغيرة من الذنوب ، وهو الحلّي (٧).

واستدلّ لهم بوجوه كثيرة بيّنة الضعف.

ويمكن أن يستدلّ لذلك القول بوجوه ثلاثة أُخرى.

أحدها : التصريح في صحيحة ابن أبي يعفور باشتراط كفّ الجوارح الأربع ، الشامل للكفّ عن الصغائر أيضاً.

وثانيهما : تصريح الأخبار بعدم قبول شهادة الفاسق ، وكونه مناقضاً للعادل ، والفسق هو الخروج عن طاعة الله ، وهو يصدق مع فعل الصغيرة أيضاً.

__________________

(١) آل عمران : ١٣٥.

(٢) النجم : ٣٢.

(٣) الصحاح ٥ : ٢٠٣٢.

(٤) النهاية الأثيرية ٤ : ٢٧٣.

(٥) الصافي ٥ : ٩٤.

(٦) حكاه عن ابن الجنيد في المختلف : ٧١٧ ، والقاضي في المهذّب ٢ : ٥٥٦ ، والحلبي في الكافي في الفقه : ٤٣٥.

(٧) السرائر ٢ : ١١٨.

١٤٢

وثالثها : مفهوم الشرط في قوله : « فمن لم تره بعينك » إلى آخره ، في رواية علقمة المتقدّمة.

ويمكن الجواب عن الأول : بأنّ ما يكفّ عنه غير مذكور ، وللكلام مقتضى ، والمقتضى غير معلوم ، وعمومه كما قيل ممنوع ، فلعلّه الكبائر ، بل هو القدر المتيقّن ، ويؤكد إرادتها تخصيص المجتنَب عنه بها ، ولو كان الأول عامّاً لما كان وجه لتخصيص الثاني ، سيّما إذا جعل قوله في الصحيحة : « ويعرف » بياناً للستر والكفّ ، كما مرّ ؛ مع أنّ منافاة فعل شي‌ء يسير نادراً للكفّ غير معلوم ، فإنّ من يجتنب عن الأغذية المضرّة له دائماً يصدق عليه المحتمي ولو تناول شيئاً يسيراً منها نادراً ـ كتفّاحة مثلاً بعد الكفّ عن غيرها.

وعن الثاني : بمنع صدق الخروج عن طاعة الله عرفاً بفعل صغيرة نادراً بعد تركه جميع الكبائر والصغائر ، وهذا ظاهر جدّاً.

وعن الثالث : بأنّه لو سلّم كونه مفهوم شرط ، وكون : « مَن » فيه مفيدة للعموم ، يكون مفهومه : أنّ كلّ من تراه بعينك أنّه يرتكب ذنباً فهو ليس بأهل العدالة ، وهذا لا ينافي كون بعض المرتكبين من أهل العدالة ؛ لتحقّق المفهوم بانتفاء العدالة عن المرتكبين للكبائر.

ثم إنّ هذا إذا لم يكن مصرّاً على الصغائر لإيجابه الكبر ، ولا مكثراً فيها.

ثم لو كان مكثراً في فعل الصغائر بحيث يصدق الإكثار عرفاً ، أو يكون ارتكابه للذنب أغلب من اجتنابه عنه إذا عنّ له من غير توبة ، وقلنا بعدم دخوله في الإصرار فهل يقدح في العدالة ، أم لا؟

١٤٣

وقد نفى غير واحد الخلاف في قدح الثاني (١) ، وعن التحرير الإجماع عليه أيضاً (٢).

ولا ينبغي الريب في قدحه بالمعنيين في معرفة العدالة بكونه ساتراً لعيوبه ، إلى آخر المعرّف كما مرّ.

وإنّما الإشكال فيمن عرف اجتنابه للكبائر بالخبرة الباطنيّة والمعاشرة التامّة ثم ظهر منه الإكثار بأحد المعنيين ، ولا شكّ أنّ القول بالقدح أحوط ؛ لنفي الخلاف والإجماع المنقول المتقدّمين ، ودلالة رواية جابر (٣) على كون ذلك إصراراً في الجملة ، بل شهادة العرف المتأخّر به أيضاً ، وعدم صدق الكفّ معه ، واحتمال إرادة العموم من الكفّ ، فالمجتنب عن ذلك عادل قطعاً دون غيره ، وصدق الخروج عن طاعة الله معه ، بل مقتضى الأخيرين كون ذلك أظهر أيضاً.

المسألة السادسة : صرّحوا بأنّ المرتكب للذنب القادح في العدالة إذا تاب عمّا فعل وعُلِمت توبته تُقبَل شهادته (٤) ، بل صرّح جماعة منهم والدي العلاّمة قدس‌سره بأنّه تعود عدالته.

فإن كان مرادهم العود الحكمي فلا إشكال ، وكذا إن أُريد العود الحقيقي وقلنا بكون العدالة حسن الظاهر ، أو الاجتناب المنبعث عن صفة نفسانيّة ، أو صفة باعثة على الاجتناب الفعلي ؛ إذ ليس المراد من حسن الظاهر أو الاجتناب المذكور كونه كذلك دائماً ، بل المراد أنّه حين‌

__________________

(١) كما في الكفاية : ٢٧٩ ، والذخيرة : ٣٠٥ ، والرياض ٢ : ٤٢٨.

(٢) التحرير ٢ : ٢٠٨.

(٣) المتقدّمة في ص ١٣٦.

(٤) انظر البحار ٨٥ : ٣٠ ، والكفاية : ٢٧٩.

١٤٤

يتّصف بذلك فهو عادل وإن لم يكن قبله عادلاً. ولا شكّ أنّ بعد العلم بالتوبة يُعلَم لأجلها حسن ظاهره ، ويكون حينئذٍ مجتنباً اجتناباً منبعثاً عن صفة نفسانيّة بعثته على التوبة.

نعم ، يشكل على القول بكون العدالة ملكة راسخة كالشجاعة والسخاوة كما هو ظاهر أكثر المتأخّرين (١) ، فإنّ في زوالها بفعل كبيرة إشكالاً ؛ لأنّ فعل كبيرة لا ينافي تلك الملكة ، كما اشتهر أنّ الصدوق قد يكذب ، ثم في عودها بمجرّد التوبة أيضاً إشكالاً.

ويمكن التفصّي عن الأول : بأنّهم لا يقولون إنّ العدالة المعتبرة شرعاً هي تلك الملكة فقط ، بل هي مقارنة مع عدم فعل الكبيرة أي مع الاجتناب عنها فبمجرّد الارتكاب تزول العدالة الشرعيّة عنه ؛ ضرورة انتفاء الكلّ بانتفاء جزئه.

وبذلك يحصل التفصّي عن الثاني أيضاً ؛ فإنّ التوبة لمّا كانت مزيلة لأثر الارتكاب ، أو كانت التوبة محصّلة للاجتناب المطلوب كما أُشير إليه أو كانت قائمة شرعاً مقام الاجتناب ، تعود العدالة الشرعيّة.

فالمراد : زوال العدالة الشرعيّة وعودها دون نفس الملكة ، أو المراد بالزوال والعود المذكورين : أنّ غاية ما يحصل من معرفة الملكة ولو بالمعاشرة التامّة الباطنيّة هي المعرفة الظنيّة ، وهي ترتفع مع ارتكاب كبيرة ، فإنّه كما يمكن أن يكون ذلك الارتكاب مع بقاء الملكة وبعث الأُمور الخارجيّة على الارتكاب يمكن أن يكون لانتفاء الملكة أولاً.

فالمراد زوال معرفة العدالة ، ثم بعد ندامته وتوبته يحصل الظنّ بكون‌

__________________

(١) منهم السيوري في كنز العرفان ٢ : ٣٨٤ ، الشهيد الثاني في الروضة ١ : ٣٧٨ ، الأردبيلي في مجمع الفائدة ٢ : ٣٥١.

١٤٥

الاجتناب لأجل الملكة ، وأنّ الارتكاب إنما هو لأجل غلبة الأُمور الخارجيّة.

ثم إنّ عود العدالة بالتوبة في الجملة ممّا لا خلاف فيه أجده ، وفي شرح الإرشاد للأردبيلي : لا يبعد كونه إجماعيّاً ، قال : وما يدلّ عليه من الآيات والأخبار كثير (١).

أقول : لا يحضرني من الآيات والأخبار الدالّة على عود العدالة بالتوبة شي‌ء.

ويحتمل أن يكون مراده ما يدلّ على قبول شهادة التائب.

ولكن الأخبار الدالّة على ذلك يختصّ أكثرها بخصوص القاذف ، والآيات أيضاً منحصرة بآية واحدة.

وأن يكون مراده آيات قبول التوبة ، كما يظهر من كلامه بعد ذلك ، حيث قال : بل لا يبعد العود بمحض التوبة إلى أن قال : لعموم قبول التوبة في الآيات والأخبار الكثيرة.

ولكن يرد عليه : أنّها وإن كانت كثيرة إلاّ أنّها لا تدلّ على عود العدالة.

ويمكن أن يكون مراده الآيات المادحة للتائب بمدائح يبعد مدح الله سبحانه الفسّاق بها ، نحو ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ ) (٢).

وقوله سبحانه ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرّاءِ وَالضَّرّاءِ ) (٣) الآية.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٣٢١.

(٢) البقرة : ٢٢٢.

(٣) آل عمران : ١٣٣ ـ ١٣٤.

١٤٦

( وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ) إلى أن قال ( أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) (١).

وأمّا الأخبار المصرّحة بقبول شهادة التائب فكثيرة جدّاً ، ولكنّ أكثرها واردة في القاذف كما يأتي.

ومنها ما ورد في السارق ، كرواية السكوني : « أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام شهد عنده رجل وقد قطعت يده ورجله شهادة ، فأجاز شهادته ، وقد كان تاب وعرفت توبته » (٢) وقريبة منها الأُخرى (٣).

ومنها ما ورد في مطلق المحدود ، كرواية اخرى للسكوني : « ليس يصيب أحد حدّا فيقام عليه ثم يتوب إلاّ جازت شهادته » (٤) ، وقريبة منها الأُخرى (٥).

ويؤكّد المطلوب رواية جابر : « التائب من الذنب كمن لا ذنب له » (٦).

ولا يضرّ اختصاصها بالقاذف أو السارق أو المحدود ؛ لعدم القول بالفصل ، بل يظهر من المحقّق الأردبيلي إمكان التعميم بتنقيح المناط ،

__________________

(١) آل عمران : ١٣٥ ١٣٦.

(٢) الكافي ٧ : ٣٩٧ ، ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٤٥ ، ٦١٨ ، الإستبصار ٣ : ٣٧ ، ١٢٣ ، الوسائل ٢٧ : ٣٨٥ أبواب الشهادات ب ٣٧ ح ٢.

(٣) الفقيه ٣ : ٣١ ، ٩٣ ، الوسائل ٢٧ : ٣٨٥ أبواب الشهادات ب ٣٧ ح ٢.

(٤) الكافي ٧ : ٣٩٧ ، ٤ ، التهذيب ٦ : ٢٤٥ ، ٦١٩ ، الإستبصار ٣ : ٣٧ ، ١٢٤ ، الوسائل ٢٧ : ٣٨٤ أبواب الشهادات ب ٣٦ ح ٣.

(٥) التهذيب ٦ : ٢٨٤ ، ٧٨٦ ، الإستبصار ٣ : ٣٧ ، ١٢٧ ، الوسائل ٢٧ : ٣٨٤ أبواب الشهادات ب ٣٦ ح ٦.

(٦) الكافي ٢ : ٤٣٥ ، ١٠ ، الوسائل ١٦ : ٧٤ أبواب جهاد النفس ب ٨٦ ح ٨.

١٤٧

حيث قال : إنّ التخصيص بالقاذف بعيد من غير علّة موجبة لذلك ، بل ظهور العلّة (١). انتهى.

ولكن يخدش الاستدلال بها أنّها مخصوصة ببَعد قيام الحدّ ، والتعدّي إلى التائب الذي يجب عليه الحدّ قبل حدّه يحتاج إلى دليل ، ومع ذلك فالتعدّي إلى ما لا حدّ فيه أو حدّه القتل أو لا تقبل توبته ظاهراً أشكل.

ودعوى الإجماع المركّب أو البسيط بحيث يطمئنّ القلب أيضاً مشكل.

فالأولى الاستدلال للعموم بأنّ بعد العلم بالتوبة يصدق عليه أنّه مجتنب عن الكبائر اجتناباً منبعثاً عن صفة نفسانيّة ، فيصدق عليه أنّه العادل المستفاد من الصحيحة.

وبذلك صرّح المحقّق الأردبيلي أيضاً ، قال : والدليل على القبول والعود بمطلق التوبة أنّ المفهوم من العدالة عدم ارتكاب الكبيرة على الوجه الذي فُهمَ من رواية ابن أبي يعفور ، وذلك يحصل بعدم ذلك ابتداءً ، وتنعدم بفعلها ، فتعود بالترك مع الندامة والعزم على عدم العود وإن لم يتحقّق [ بالترك ] فقط ، ولأنّه حينئذٍ يتحقّق ما يفهم اعتباره في قبول الشهادة (٢). انتهى.

بل يظهر من المحقّق المذكور عدم احتياج حصول العدالة بالتوبة لسبق العدالة على المعصية التي تاب عنها ، حيث قال ما ملخّصه :

إنّه إذا ثبت قبول شهادة الفاسق بعد التوبة كما هو مقتضى الأدلّة السابقة يفهم عدم اعتبار الملكة في تعريف العدالة ، بل في اشتراط قبول‌

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٣٢٥.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٣٢٢ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

١٤٨

الشهادة ؛ إذ لم توجد الملكة في ساعة واحدة ، بل الساعات المتعدّدة.

وأنّه لا يحتاج في إثبات العدالة إلى المعاشرة الباطنيّة أو الاستفاضة.

بل لا يشترط العدالة قبل الشهادة ؛ إذ يتوب الشاهد فيأتي بها ، بل يأتي بها بعد ردّه بالفسق أيضاً كما هو رأي الأكثر والأصحّ فإنّ الفسق في وقتٍ ما ليس بمانع عن الشهادة مطلقاً ، فإنّه يقبل مع حصول العدالة.

بل وإنّه لا يحتاج إلى الجرح والتعديل.

فاعتبار ذلك كلّه عبث ولغو بلا فائدة ؛ مع أنّه معركة للآراء ، ومحلّ البحث بين الفحول من العلماء ، فيصير معظم هذه المباحث قليل الجدوى.

واحتمال أن لا يتوب قليلٌ في الناس ممّن يستشهد به ، فيُقبَل مجهول الحال بعد التوبة أيضاً وإن لم يقبل قبلها بالطريق الأولى ؛ لأنّ الفاسق إذا تاب قُبِل ، فهو بالطريق الأولى ، وهو ظاهر (١). انتهى.

وبالجملة : نقول بحصول العلم بالعدالة الشرعيّة بعد العلم بالتوبة ، من غير حاجة إلى إثبات عود العدالة بالتوبة.

نعم ، يشترط هنا تحصيل العلم بالتوبة ، بل مع استمرارٍ ما لها ولو كان في ساعة كما اعتبره المحقّق في الشرائع (٢) كما كان يشترط أولاً تحصيل العلم بالعدالة.

ولا يكفي في العلم بالتوبة مجرّد قول الشاهد : تبت وندمت واستغفر الله ؛ لأنّ مجرّد ذلك القول ليس توبة ، وقبول إخباره لا دليل عليه ، كما لا يقبل خبره عن عدالة نفسه أو اجتنابه الكبائر.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٣٢٥ ٣٢٦.

(٢) الشرائع ٤ : ١٢٨.

١٤٩

بل تحتاج معرفة ذلك إلى معاشرة باطنيّة أو استفاضة ، بحيث يحصل العلم بكونها توبة وندامة ، وبمضيّ زمان يمكن العود ، ولم يكن له مانع من الذنوب ، وما ينقض التوبة وما فعل.

ومن ذلك يظهر عدم كون معارك الآراء وبحث فحول العلماء بلا فائدة.

فرع : عود العدالة أو العلم بتحققها بالتوبة إنّما يكون مع السعي في تلافي وتدارك ما يمكن تداركه ، مثل : قضاء حقوق الناس ، أو الخلاص من ذلك بإبراء أو إسقاط ، وقضاء العبادات التي يجب قضاؤها ، كذا ذكره المحقّق المذكور (١).

ووجهه : أنّ هذه الأُمور واجبة ، فتركها معصية محرّمة كبيرة أو صغيرة ، تصير كبيرة بالاستمرار عليه ، إلاّ أنّه يجب التقييد بما كان تلافيه واجباً فوريّاً ، كأداء حقوق الناس.

وأمّا الموسّعات كقضاء الصلوات على الحقّ المشهور فاللاّزم العلم بعزمه على القضاء ، ولا يكفي عدم العلم بعدم العزم على القضاء ؛ لأنّ مرجعه إلى عدم العلم بكونه تاركاً للمعصية ، والمعتبر في العدالة العلم بالتاركيّة.

نعم ، يكفي الظنّ المعتبر شرعاً هنا ، الحاصل من المعاشرة والأمارات ، والله الموفّق للصواب.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٣٢٢.

١٥٠

البحث الثالث

في ذكر خصوص بعض المعاصي التي ذكروا منافاتها

للعدالة أو عدمها

وقد مرّ شطر من المعاصي في بحث المكاسب ، وهاهنا مسائل :

المسألة الاولى : لا يقدح في العدالة ولا يحرم اتّخاذ الحمام للاستئناس بها وإنفاذ الكتب بلا خلاف ظاهر ؛ للأصل ، والعمومات ، وخصوص المستفيضة المعتبرة :

كصحيحة ابن وهب : « الحمام من طيور الأنبياء » (١).

وصحيحة حفص : « أصل حمام الحرم كانت لإسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام اتخذها كان يأنس بها » فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « يستحبّ أن يتّخذ طيراً مقصوصاً يأنس بها مخافة الهوام » (٢).

ورواية ابن سنان : « شكى رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوحشة ، فأمره أن يتّخذ في بيته زوج حمام » (٣).

ورواية الشحّام : ذكرت الحمام عند أبي عبد الله عليه‌السلام ، فقال : « اتّخذوها في منازلكم ، فإنّها محبوبة ، لحقتها دعوة نوح عليه‌السلام ، وهي آنس شي‌ء في البيوت » (٤).

__________________

(١) الكافي ٦ : ٥٤٦ ، ١ ، الوسائل ١١ : ٥١٤ أبواب أحكام الدواب ب ٣١ ح ١.

(٢) الكافي ٦ : ٥٤٦ ، ٣ ، الوسائل ١١ : ٥١٤ أبواب أحكام الدواب ب ٣١ ح ٢ و ٣ بتفاوتٍ يسير.

(٣) الكافي ٦ : ٥٤٦ ، ٦ ، الوسائل ١١ : ٥١٦ أبواب أحكام الدواب ب ٣١ ح ١٠ وفيه بتفاوت.

(٤) الكافي ٦ : ٥٤٦ ، ٧ ، الوسائل ١١ : ٥١٧ أبواب أحكام الدواب ب ٣١ ح ١١.

١٥١

ورواية أبي سلمة : « الحمام طير من طيور الأنبياء عليهم‌السلام التي كانوا يمسكون في بيوتهم ، وليس من بيت فيه حمام إلاّ لم تصب أهل ذلك البيت آفة من الجنّ » إلى أنّ قال : « فرأيت في بيت أبي عبد الله عليه‌السلام حماماً لابنه إسماعيل » (١).

ورواية داود بن فرقد : كنت جالساً في بيت أبي عبد الله عليه‌السلام فبصرت إلى حمام راعبيّ (٢) يقرقر طويلاً ، فنظر إليّ أبو عبد الله ، فقال : « يا داود ، تدري ما يقول هذا الطير؟ » قلت : لا والله جعلت فداك ، قال : « يدعو على قتلة الحسين عليه‌السلام ، فاتّخذوا في منازلكم » (٣).

ورواية السكوني : « اتّخذوا الحمام الراعبيّة في بيوتكم ، فإنّها تلعن قتلة الحسين بن عليّ صلوات الله عليهما » (٤).

ورواية عثمان الأصبهاني ، وفيها : فقال يعني أبا عبد الله ـ : « اجعلوا هذا الطير الراعبي معي في البيت يؤنسني » (٥).

ورواية عبد الكريم بن صالح ، وفيها : هؤلاء الحمام تقذر الفراش ، فقال : « لا ، إنّه يستحبّ أن يمسكن في البيت » (٦).

ومرسلة أبان : « كان في منزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوج حمام أحمر » (٧).

__________________

(١) الكافي ٦ : ٥٤٧ ، ٨ ، الوسائل ١١ : ٥١٥ أبواب أحكام الدواب ب ٣١ ح ٧ ، بتفاوتٍ يسير.

(٢) حمامةٌ راعِبيَّة : تُرَعّبُ في صوتها ترعيباً ، وهو شدّة الصوت ، وقيل : هو نَسَبٌ إلى موضعٍ لسان العرب ١ : ٤٢١.

(٣) الكافي ٦ : ٥٤٧ ، ١٠ ، الوسائل ١١ : ٥١٨ أبواب أحكام الدواب ب ٣٣ ح ١.

(٤) الكافي ٦ : ٥٤٧ ، ١٣ ، الوسائل ١١ : ٥١٩ أبواب أحكام الدواب ب ٣٣ ح ٣.

(٥) الكافي ٦ : ٥٤٨ ، ١٤ ، الوسائل ١١ : ٥١٩ أبواب أحكام الدواب ب ٣٣ ح ٢.

(٦) الكافي ٦ : ٥٤٨ ، ١٥ ، الوسائل ١١ : ٥٢٠ أبواب أحكام الدواب ب ٣٤ ح ١.

(٧) الكافي ٦ : ٥٤٨ ، ١٦ ، الوسائل ١١ : ٥٢٠ أبواب أحكام الدواب ب ٣٤ ح ٢.

١٥٢

إلى غير ذلك من الأخبار المتكثّرة ، وصريح كثير منها : استحباب الاتّخاذ للأُنس ، كما صرّح به جماعة أيضاً (١).

وكذا لا يحرم اقتناؤها للّعب بها ، بإطارتها والتفرّج بطيرانها ، وفاقاً للمحكيّ عن النهاية والمبسوط والقاضي (٢).

وكافّة متأخّري أصحابنا مع الكراهة ، وظاهر المبسوط كونه إجماعيّاً عندنا ، حيث قال : فإنّ اقتناءها للّعب بها وهو أنّ يطيّرها وتنقلب في السماء ونحو هذا فإنّه مكروه عندنا.

ويدلّ عليه الأصل ، ورواية العلاء بن سيّابة : عن شهادة من يلعب بالحمام ، قال : « لا بأس إذا لم يُعرَف بفسق » قلت : فإنّ مَن قبلنا يقولون : قال عمر : هو شيطان ، فقال : « سبحان الله ، أما علمت أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّ الملائكة لتنفر عند الرهان وتلعن صاحبه ، ما خلا الحافر والخفّ والريش والنصل ، فإنّها تحضره الملائكة ، وقد سابق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُسامة بن زيد وأجرى الخيل؟! » (٣).

والأُخرى : « لا بأس بشهادة الذي يلعب بالحمام ، ولا بأس بشهادة صاحب السباق المراهن عليه ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أجرى الخيل وسابق ، وكان يقول : إنّ الملائكة تحضر الرهان في الخفّ والحافر والريش ، وما عدا ذلك قمارٌ حرام » (٤).

وضعف سند الروايتين عندنا غير ضائر ، مع أنّ الاولى مرويّة في الفقيه‌

__________________

(١) انظر الرياض ٢ : ٤٢٩.

(٢) النهاية : ٣٢٧ ، المبسوط ٨ : ٢٢١ ، القاضي في المهذب ٢ : ٥٥٧.

(٣) الفقيه ٣ : ٣٠ ، ٨٨ ، الوسائل ٢٧ : ٤١٣ أبواب الشهادات ب ٥٤ ح ٣.

(٤) التهذيب ٦ : ٢٨٤ ، ٧٨٥ ، الوسائل ٢٧ : ٤١٣ أبواب الشهادات ب ٥٤ ح ٢.

١٥٣

بطريق معتبر ، مع أنّ العمل بهما جائز.

والتأمّل في دلالتهما لأجل ما ذكره بعض متأخّري المتأخّرين من أنّ لعب الحمام عند أهل مكّة هو لعب الخيل ، فيحتمل ورود الخبر على مصطلحهم ؛ ويشعر به ردّ الإمام في الأول على عمر بقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوارد في الرهان ، وذكر سباقه مع أُسامة في الخيل (١) مردودٌ بأنّه خلاف الظاهر المتبادر ؛ مع أنّ ما نقله غير ثابت.

وعلى التسليم ، فلا داعي على الحمل على مصطلح أهل مكّة ، ولم يكن المتكلّم منهم ولا المخاطب.

ولا إشعار في ردّ الإمام بقول النبيّ ؛ لتضمّنه الريش الظاهر في الطير أيضاً.

ولا ينافي ذكر سباقه ؛ لأنّه لعلّه لأجل بيان جواز أصل السباق.

بل في مرسلة إبراهيم بن هاشم ما يشعر بخلافه ، قال : ذكر الحمام عند أبي عبد الله عليه‌السلام ، فقال له رجل : بلغني أنّ عمر رأى حماماً يطير ورجل تحته يعدو ، فقال عمر : شيطان يعدو تحته شيطان ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « ما كان إسماعيل عندكم؟ » فقيل : صدّيق ، فقال : « بقيّة حمام الحرم من حمام إسماعيل » (٢).

والاستشكال في الروايتين بتضمّنهما جواز المسابقة بالريش ، المتبادر منه الطيور ، ولم يقولوا به مدفوعٌ بأنّ الذي لا يقولون به هو المسابقة مع العوض ، وأمّا بدونه ففيه خلاف ، بل قيل : إنّ المشهور فيه‌

__________________

(١) انظر الرياض ٢ : ٤٢٩.

(٢) الكافي ٦ : ٥٤٨ ، ١٨ ، الوسائل ١١ : ٥١٥ أبواب أحكام الدواب ب ٣١ ح ٥ وفيه بتفاوتٍ يسير.

١٥٤

الجواز (١) ، كما يأتي.

خلافاً للمحكيّ عن الحلّي ، فحكم بقدح اللعب بها في العدالة ؛ لقبح اللعب (٢).

وفيه المنع (٣) بحيث يثبت منه النهي ، مع أنّ الروايتين تدفعانه.

ثم إنّ ما ذكر إنّما هو في اللعب الخالي عن المسابقة والمغالبة ، وأمّا معها فإن كان بدون عوض للسابق ففيه خلاف ، فظاهر التذكرة والقواعد والمسالك والكفاية والمفاتيح وشرحه الجواز (٤) ، بل ربّما يستفاد من بعضهم أنّه الأشهر (٥) ؛ ويدلّ عليه الأصل ، وروايتا العلاء المتقدّمتين.

وحكي عن جماعة المنع ، منهم : ظاهر المهذّب والمحقّق الثاني (٦) ، ونسب إلى التذكرة أيضاً (٧) وهو في غير الطيور من أنواع المسابقات ، بل ربّما نسب إلى الشهرة أيضاً (٨) ، بل حكى بعض مشايخنا المعاصرين ـ في بحث السبق والرماية ـ عن ظاهر الأولين وصرح الثالث الإجماع عليه (٩).

ولا تصريح ولا ظهور في الثالث أصلاً. نعم ، قال في الأول بعد ذكر مسائل ، منها المسابقة بالطيور بغير عوض ـ : إنّ الكلّ عندنا حرام.

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٣٥٤.

(٢) السرائر ٢ : ١٢٤.

(٣) يعني : منع القبح.

(٤) التذكرة ٢ : ٣٥٤ ، القواعد ٢ : ٢٣٦ ، المسالك ٢ : ٤٠٤ ، الكفاية : ٢٨١ ، المفاتيح ٣ : ٩.

(٥) كما في الكفاية : ٢٨١.

(٦) المهذّب ١ : ٣٣١ ، المحقّق الثاني في جامع المقاصد ٨ : ٣٢٦.

(٧) التذكرة ٢ : ٣٥٤.

(٨) كما في الرياض ٢ : ٤١.

(٩) انظر الرياض ٢ : ٤١.

١٥٥

وكون ذلك دعوى الإجماع غير ظاهر.

واستدلّ على المنع بهذا الإجماع المنقول.

وبما دلّ على حرمة اللهو واللعب.

وعلى تنفّر الملائكة عند الرهان ولعنهم صاحبها ، خلا الثلاثة : الخفّ والحافر والنصل.

وعلى أنّ ما عداها قمارٌ حرام.

وبسائر ما دلّ على حرمة القمار بقول مطلق.

وبالصحيح المصرّح بأنّه : « لا سبق إلاّ في نصل ، أو خفّ ، أو حافر » (١) على أن تكون الباء في السبق ساكنة.

وأجاب هؤلاء عن دليل الأولين ، أمّا عن الأصل فباندفاعه بما ذكر.

وأمّا عن الروايتين فبمنع إرادة الطير من الريش ، أو لاحتمال أن يراد به السهام المثبت ذلك فيها ، وبالحمل على التقيّة ثانياً.

كما يؤيّده ما ذكره في المسالك أنّه قيل : إنّ حفص بن غياث وضع للمهديّ العبّاسي في حديث : « لا سبق إلاّ في نصل ، أو خفّ ، أو حافر » قوله : أو ريش ؛ ليدخل فيه الحمام تقرّباً إلى الخليفة ، حيث رآه يحبّ الحمام ، فلمّا خرج من عنده قال : أشهد أنّ قفاه قفاءٌ كذّاب ، ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أو ريش ، ولكنّه أراد التقرّب إلينا بذلك ، ثم أمر بذبح الحمام (٢).

أقول : أمّا اندفاع الأصل بما ذكر فيتوقّف على تماميّته ، وفيه نظر.

أمّا الإجماع المنقول فلعدم حجّيته أولاً ، ولعدم صراحة ما حكي ، بل‌

__________________

(١) سنن أبي داود ٣ : ٢٩ ، ٢٥٧٤ ، غوالي اللئلئ ٣ : ٢٦٥ ، ١.

(٢) المسالك ٢ : ٤٠٤.

١٥٦

ولا ظهور في دعوى الإجماع ثانياً.

وأمّا حرمة اللهو واللعب فلعدم دليل على حرمة مطلقهما.

وأمّا تنفّر الملائكة عند الرهان فلعدم معلوميّة صدق الرهان على ما لا عوض له فيه.

قال في الصحاح : راهنتُ على كذا مراهنةً : خاطرته (١).

وفي القاموس : والمراهنة والرهان : المخاطرة والمسابقة على الخيل (٢).

وفي مجمع البحرين : وأكثرهم على أنّ الرهان ما يوضع في الأخطار ، ويراهن القوم : أخرج كلّ واحد منهم رهناً ليفوز بالجميع إذا غلب (٣).

وظاهر هذه الكلمات أنّ الرهان يكون في موضع يكون فيه عوض في معرض الخطر.

ولو سلّمنا ، فقد تضمّنت الرواية استثناء الريش المتبادر منه الطير أيضاً كما صرّحوا به ؛ وتدلّ عليه حكاية حفص مع الخليفة ، ويؤكّده عطف النصل على الريش. وجعله من باب عطف المرادف أو الخاصّ على العامّ خلاف الظاهر.

ومنه يظهر وجه النظر في الاستدلال بقوله : « وما عدا ذلك قمارٌ حرام » ؛ لأنّ الريش مذكور في الرواية ، وصدق السباق المراهن عليه بدون العوض غير معلوم ؛ مع أنّ في صدق القمار على ما لا عوض فيه نظر ، بل خصّصه بعضهم بالقمار بالآلات المعدّة له من أشياء مخصوصة ، كما صرّح به في مجمع البحرين (٤).

__________________

(١) الصحاح ٥ : ٢١٢٩.

(٢) القاموس ٤ : ٢٣٢.

(٣) مجمع البحرين ٦ : ٢٥٨.

(٤) مجمع البحرين ٣ : ٤٦٣.

١٥٧

ومنه يظهر أيضاً وجه النظر في عمومات حرمة القمار.

وأمّا الصحيح المذكور أخيراً فلعدم تعيّن كون الباء فيه ساكنة ؛ لاحتمال الفتح فيها ، فيراد منه العوض.

وعدم دلالته على الحرمة أصلاً على السكون أيضاً ، كما صرّح به الأردبيلي وصاحب الكفاية (١) ؛ لجواز إرادة نفي شرعيّة السبق دون جوازه. والحمل على العموم لا دليل عليه.

ومنه يظهر عدم وجود دافع للأصل أصلاً.

وأمّا ما أجابوا به عن الروايتين من احتمال إرادة النصل من الريش كما ذكره في السرائر (٢) ، وبالحمل على التقيّة ففي الأول : أنّه خلاف الظاهر المتبادر كما مرّ.

والثاني : خلاف الأصل ، ولا داعي عليه ؛ مع أنّ الرواية متضمّنة للردّ على عُمَرهم ، فكيف تحتمل التقيّة؟! بل في حكاية حفص مع الخليفة ـ وقول الخليفة : « أنّه كذب » وأمره بذبح الحمام دلالة على أنّهم لا يقولون بالجواز في الريش ، وأنّ التقيّة تقتضي خلاف ذلك ؛ مع أنّه على فرض عدم دلالة الروايتين يكفي الأصل الخالي عن الدافع للحكم بالجواز ، فهو الحقّ.

وإن كان مع عوض ، فالمذكور في كلام الأصحاب حرمته ، بل عن المهذّب والتنقيح والمسالك والتذكرة الإجماع عليها (٣) ، وجعل بعض مشايخنا قدحه في العدالة قولاً واحداً (٤) ، وصرّح بعدم الخلاف بعضٌ‌

__________________

(١) الكفاية : ٢٨١.

(٢) السرائر ٢ : ١٢٤.

(٣) المهذّب ١ : ٣٣١ ، التنقيح ٢ : ٣٥٠ ، المسالك ١ : ٣٨١ ، التذكرة ٢ : ٣٥٤.

(٤) كما في الرياض ٢ : ٤٣٠.

١٥٨

آخر أيضاً (١) ، ولم أجد تصريحاً بل ولا إشعاراً بالخلاف ، فالظاهر أنّه إجماعيّ محقّق ؛ فهو الدليل على حرمته.

مضافاً إلى قوّة احتمال صدق القمار عليه ، بل ظهوره من الأخبار ، حيث لم تخصّصه بآلة مخصوصة معدّة له.

وقال : « حتى الكعاب والجوز » (٢).

وفي الصحيح : « كانت قريش تقامر الرجل بأهله وماله » (٣).

وبذلك يوهن الاستدلال بالروايتين المتضمّنتين لاستثناء الريش في صورة العوض ؛ لإمكان القول بعدم حجّيتهما في هذه الصورة ؛ لمخالفتهما لظاهر الإجماع ، أو الشهرة العظيمة المخرجة للخبر عن الحجّية.

فالقول بالحرمة في هذه الصورة في غاية القوّة ، والله العالم.

المسألة الثانية : يحرم الاشتغال بالملاهي واستعمال آلات اللهو ، وحرمته مصرّح بها في أكثر كتب الأصحاب ، ذكره في النهاية والسرائر والشرائع والنافع والقواعد والإرشاد والتحرير والتذكرة والدروس والمسالك والكفاية (٤) وغيرها (٥) ، وفي الأخير : لا أعرف في حرمته خلافاً بين الأصحاب.

ونفى المحدّث المجلسي في حقّ اليقين الخلاف فيها بين الشيعة ، وفي‌

__________________

(١) كما في التنقيح ٢ : ٣٥٠.

(٢) في الكافي ٥ : ١٢٢ ، ٢ ، الوسائل ١٧ : ١٦٥ أبواب ما يكتسب به ب ٣٥ ح ٤.

(٣) الكافي ٥ : ١٢٢ ، ١ ، الوسائل ١٧ : ١٦٤ أبواب ما يكتسب به ب ٣٥ ح ١.

(٤) النهاية : ٣٢٥ ، السرائر ٢ : ٢١٥ ، الشرائع ٤ : ١٢٨ ، النافع : ٢٨٧ ، القواعد ٢ : ٢٣٦ ، التحرير ٢ : ٢٠٩ ، التذكرة ٢ : ٣٥٤ ، الدروس ٢ : ١٢٦ ، المسالك ٢ : ٤٠٤ ، الكفاية : ٢٨١.

(٥) انظر الرياض ٢ : ٤٣٠.

١٥٩

شرح الإرشاد للأردبيلي : أنّه إجماع عندنا. وحكى بعض مشايخنا المعاصرين الإجماع على ظاهر عبارات جمع (١) ، بل الظاهر أنّه إجماع محقّق.

وتدلّ عليه المستفيضة من الأخبار ، كرواية الفضل المتقدّمة ، المصرّحة بكون الاشتغال بالملاهي من الكبائر (٢).

ومرسلة الفقيه الطويلة ، المشتملة على المناهي : « ونهى عن اللّعب بالشطرنج والنرد (٣) والكوبة والعرطبة وهي الطنبور والعود » (٤).

ورواية السكوني : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنهاكم عن الزفن والمزمار والكوبات والكبرات » (٥).

ورواية عمران الزعفراني : « من أنعم الله عليه بنعمة فجاء عند تلك النعمة بمزمار فقد كفرها » (٦).

ورواية أبي الربيع الشامي ، وفيها : « إنّ الله بعثني رحمة للعالمين ، لأمحق المعازف والمزامير » (٧).

__________________

(١) انظر الرياض ٢ : ٤٣٠.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٢٥ ، ١ ، تحف العقول : ٤٢٣ ، الوسائل ١٥ : ٣٢٩ أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب ٤٦ ح ٣٣.

(٣) النَّرْدُ : هو النردشير ، الذي هو من موضوعات سابور بن أردشير بن بابك ، أردشير أول ملوك الساسانية ، شبّه رقعته بوجه الأرض ، والتقسيم الرباعي بالكعاب الأربعة ، والرقوم المجعولة ثلاثين بثلاثين يوماً ، والسواد والبياض بالليل والنهار ، والبيوت الاثني عشرية بالشهور ، والكعاب بالأقضية السماوية ، للّعب بها والكسب. و « نَرْدشير » : معرّب ، وشير معناه حلو مجمع البحرين ٣ : ١٥٠.

(٤) الفقيه ٤ : ٢ ، ١ ، الوسائل ١٧ : ٣٢٥ أبواب ما يكتسب به ب ١٠٤ ح ٦.

(٥) الكافي ٦ : ٤٣٢ ، ٧ ، الوسائل ١٧ : ٣١٣ أبواب ما يكتسب به ب ١٠٠ ح ٦.

(٦) الكافي ٦ : ٤٣٢ ، ١١ ، الوسائل ١٧ : ٣١٤ أبواب ما يكتسب به ب ١٠٠ ح ٧.

(٧) مسند أحمد ٥ : ٢٧٥ ، بتفاوت.

١٦٠