مستند الشّيعة - ج ١٨

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٨

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-204-0
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٤٤٥

وإن كان المراد : أنّ نفس انتفاء المروّة مطلقاً يدلّ على عدم المبالاة في الدين ، فلا نسلّمه.

والخامس : بمنع انتفاء الوثوق بانتفاء المروّة مطلقاً ، ولو سلّم فغايته عدم قبول الشهادة ، وهو غير انتفاء العدالة.

والسادس : بالمنع على الإطلاق أولاً ، وعدم اعتبار هذا العرف بعد ما عرفت من خفاء المعنى المراد من العدالة شرعاً من غير جهة الاختبار ثانياً.

والسابع : بالضعف أولاً ، وعدم الدلالة ثانياً ؛ إذ لا نعلم أنّ المراد من المروّة في الحديث هو المعنى المذكور ، بل ورد في الأخبار تفسيرها بغير هذا المعنى.

ففي مرسلة الفقيه : « عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ المروّة استصلاح المال » (١).

وفي خبر آخر : أنّها إصلاح المعيشة (٢).

وفي ثالث : أنّها ستّة ، ثلاثة في الحضر : تلاوة القرآن ، وعمارة المسجد ، واتّخاذ الإخوان ، ومثلها في السفر ، هي : بذل الزاد ، وحسن الخلق ، والمزاح في غير معاصي الله سبحانه (٣).

وفي رابعٍ أنّها : « أن يضع الرجل خوانه بفناء داره » (٤) إلى غير ذلك (٥).

__________________

(١) الفقيه ٣ : ١٠٢ ، ٤٠٣ ، الوسائل ١٧ : ٦٤ أبواب مقدمات التجارة ب ٢١ ح ٤ ، بتفاوتٍ يسير.

(٢) الكافي ٨ : ٢٤١ ، ٣٣١.

(٣) الخصال : ٣٢٤ ، ١١ ، عيون اخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٦ ، ١٣ ، الوسائل ١١ : ٤٣٦ أبواب آداب السفر ب ٤٩ ح ١٤.

(٤) معاني الأخبار : ٢٥٨ ، ٩ ، الوسائل ١١ : ٤٣٦ أبواب آداب السفر ب ٤٩ ح ١٣ ؛ والخوان : الذي يؤكل عليه مجمع البحرين ٦ : ٢٤٥.

(٥) انظر الوسائل ١١ : ٤٣٢ أبواب آداب السفر ب ٤٩.

١٢١

وليس في شي‌ء من هذه المعاني المرويّة ما يوافق ما ذكره الأصحاب في معنى المروّة ، ولا على كونها معتبرة في العدالة ، ولا إشعار لموثّقة سماعة المتقدّمة (١) ؛ لدلالتها بالمفهوم على أنّ من لم يجمع الثلاثة فلا يجمع الأربعة ، ومنها : كمال المروّة ، وأين ذلك من اشتراطها في العدالة ، أو قبول الشهادة؟! وإذ ظهر ضعف تلك الأدلّة تعلم أنّ القول الثاني في غاية المتانة والقوّة ، وعدم اعتبار المروّة في العدالة ما لم يبلغ انتفاؤها حدّا يوجب ارتكاب ما هو مخالف للشريعة ، أو ينبئ عن جنون ، أو يقدح في معرفة صفة الستر والعفّة.

وكما أنّ اجتناب ما يخالف المروّة ليس شطراً للعدالة فكذلك ليس شرطاً لقبول الشهادة ؛ للأصل ، وعدم ذكره في الأدلّة.

ونقل الأردبيلي عن بعضهم : أنّه اعتبره شرطاً لقبول الشهادة وإن لم يكن شطراً للعدالة.

وظاهر القواعد : أنّه جعله شرطاً له وشطراً لها معاً (٢).

ولا دليل تامّاً على شي‌ء منهما.

المسألة الرابعة : قد عرفت أنّ اجتناب الكبائر إمّا جزء العدالة أو جزء لازمها ، فارتكاب واحد منها يقدح في العدالة كما يأتي.

وقد اختلفوا أولاً في تقسيم الذنوب إلى الكبائر والصغائر ، فحكي عن جماعة ـ منهم : المفيد والطبرسي والشيخ في العدّة والقاضي والحلبي إلى عدم التقسيم ، بل الذنوب كلّها كبائر (٣).

__________________

(١) في ص ٧٦.

(٢) القواعد ٢ : ٢٣٦.

(٣) حكاه عن المفيد والطبرسي والقاضي والحلبي في المسالك ٢ : ٤٠٢ ، الشيخ في العدّة ١ : ٣٥٩.

١٢٢

ونسبه الثاني في تفسيره إلى أصحابنا (١) ، مؤذناً بدعوى الاتّفاق ، وكذلك الحلّي ، حيث قال بعد نقل القول بالتقسيم إلى الكبائر والصغائر وعدم قدح الثاني نادراً في قبول الشهادة عن المبسوط ـ : ولا ذهب إليه أحد من أصحابنا ؛ لأنّه لا صغائر عندنا في المعاصي إلاّ بالإضافة إلى غيرها (٢). انتهى.

والحاصل : أنّ الوصف بالكبر والصغر إضافي.

ومنهم (٣) من جعل الإضافة على ثلاثة أقسام :

أحدهما : بالإضافة إلى الطاعة ، وهو أنّ المعصية إن زاد عقابها على ثواب تلك الطاعة فهي كبيرة بالنسبة إليها ، وإن نقص فهي صغيرة.

وثانيها : بالإضافة إلى معصية أُخرى ، وهو أنّ عقابها إن زاد على عقاب تلك المعصية فهي كبيرة بالنسبة إليها ، وإن نقص فهي صغيرة.

وثالثها : بالإضافة إلى فاعلها ، وهو أنّها إن صدرت من شريفٍ له مزيدُ علمٍ وزهدٍ فهي كبيرة ، وإن صدرت ممّن هو دون ذلك فهي صغيرة.

ثم إنّه استدلّ على كون الجميع كبائر باشتراك الجميع في مخالفة أمره تعالى ونهيه (٤) ، ولذلك جاء في الحديث : « لا تنظر إلى ما فعلت ولكن انظر إلى ما عصيت » (٥).

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٣٨.

(٢) السرائر ٢ : ١١٨.

(٣) كالسيوري في التنقيح ٤ : ٢٩٠.

(٤) انظر الذخيرة : ٣٠٣.

(٥) أمالي الطوسي : ٥٣٨ ، مستدرك الوسائل ١١ : ٣٤٩ أبواب جهاد النفس ب ٤٣ ح ٨ وفيه : « لا تنظر إلى صغر الخطيئة ، ولكن انظر إلى من عصيت » وعن دعوات الراوندي في البحار ١٤ : ٣٧٩ ، ٢٥ ، مستدرك الوسائل ١١ : ٣٥١ أبواب جهاد النفس ب ٤٣ ح ١٤ : « إذا وقعت في معصيةٍ فلا تنظر إلى صغرها ، ولكن انظر إلى من عصيت ».

١٢٣

ولما ورد في بعض الأخبار من أنّ كلّ معصية شديدة ، وأنّها قد توجب لصاحبها النار (١).

وما ورد من التحذير على استحقار الذنب واستصغاره (٢).

وفي الأول : أنّ كون الجميع مخالفة له لا يمنع من كون بعضها كبيرة وبعضها صغيرة ، فإنّ الذنوب المتحقّقة بين العباد من بعضهم بالنسبة إلى بعض توصف بالكبر والصغر ، فيقال : فلان عصى السلطان عصياناً عظيماً وأذنب ذنباً كبيراً ، ويقال : الذنب الفلاني كبير ، والفلاني سهل صغير. فاشتراك الجميع في مخالفة الله سبحانه لا ينافي وصف بعضها بالكبر وبعضها بالصغر.

بل وكذلك عرفاً في معاصي الله سبحانه ، فيصدق على قتل النبيّ أو هدم الكعبة أنّه ذنب عظيم وإثم كبير ، وعلى ترك ردّ السلام مثلاً أنّه ذنب صغير.

وفي الثاني : أنّه لا تلازم بين كون كلّ معصية شديدة وبين كونها كبائر ، بمعنى ما يوعد عليه بالنار ، أو غير مكفّر بالأعمال الصالحة ، أو قادحاً في العدالة.

ومنه يظهر ما في الثالث أيضاً.

وذهب طائفة منهم : الشيخ في النهاية والمبسوط وابن حمزة والفاضلان والشهيدان (٣) ، بل أكثر المتأخّرين كما في المسالك (٤) ، بل‌

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٦٩ ، ٧ ، الوسائل ١٥ : ٢٩٩ أبواب جهاد النفس ب ٤٠ ح ٣.

(٢) الوسائل ١٥ : ٣١٠ أبواب جهاد النفس ب ٤٣.

(٣) النهاية : ٣٢٥ ، المبسوط ٨ : ٢١٧ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٢٣٠ ، المحقق في الشرائع ٤ : ١٢٧ ، والنافع : ٢٨٧ ، العلاّمة في القواعد ٢ : ٢٣٦ ، الشهيدان في اللمعة والروضة ٣ : ١٢٩ ، ١٣٠.

(٤) المسالك ٢ : ٤٠٢.

١٢٤

عامّتهم كما قيل (١) ، ونسب إلى الإسكافي والديلمي أيضاً (٢) إلى انقسام المعاصي إلى الكبائر والصغائر ، بل يستفاد من كلام الصيمري وشيخنا البهائي في الحبل المتين على ما حكي عنهما (٣) الإجماع عليه.

وهو الحقّ ؛ لظاهر قوله سبحانه ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) (٤).

وقوله ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ ) (٥).

ولقول عليّ عليه‌السلام : « من كبير أوعد عليه نيرانه ، أو صغير أرصد له غفرانه » (٦).

ورواية ابن سنان : « لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار » (٧).

ومرسلة الفقيه : « من اجتنب الكبائر كفّر الله عنه جميع ذنوبه » (٨).

وفي خبر آخر : « إنّ الأعمال الصالحة تكفّر الصغائر ».

وفي آخر : هل تدخل الكبائر في مشيئة الله؟ قال : « نعم » (٩).

وتشهد له الأخبار الواردة في ثواب بعض الأعمال : أنّه يكفّر الذنوب إلاّ الكبائر.

__________________

(١) انظر الرياض ٢ : ٤٢٨.

(٢) حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٧١٧.

(٣) حكاه عنهما في الرياض ٢ : ٤٢٧ و ٤٢٩.

(٤) النساء : ٣١.

(٥) الشورى : ٣٧.

(٦) نهج البلاغة ( محمد عبده ) ١ : ٢٠.

(٧) الكافي ٢ : ٢٨٨ ، ١ ، الوسائل ١٥ : ٣٣٧ أبواب جهاد النفس ب ٤٨ ح ٣.

(٨) الفقيه ٣ : ٣٧٦ ، ١٧٨١ ، الوسائل ١٥ : ٣١٦ أبواب جهاد النفس ب ٤٥ ح ٤ وفيه بتفاوتٍ يسير.

(٩) الفقيه ٣ : ٣٧٦ ، ١٧٨٠ ، الوسائل ١٥ : ٣٣٤ أبواب جهاد النفس ب ٤٧ ح ٧.

١٢٥

وللمستفيضة من النصوص الآتية ، المتضمّنة للكبائر والصغائر ، وبيان الكبائر. وتخصيصها بطائفة خاصّة من الذنوب وإبطال الانقسام يوجب طرح تلك الأخبار.

ثم اختلف القائلون بالتقسيم في تفسير الكبائر وتحديدها.

فمنهم من قال : إنّ كلّ ما وجب فيه حدّ فهو كبيرة ، وما لم يقرّر فيه حدّ فهو الصغيرة (١).

ومنهم من قال : ما ثبت تحريمه بقاطع فهو كبيرة (٢).

ومنهم من قال : كلّما آذن بقلّة الاكتراث في الدين فهو كبيرة (٣).

ومنهم من قال : ما يلحق صاحبه العقاب الشديد من كتاب أو سنّة (٤).

وقيل : إنّها ما نهى الله عنه في سورة النساء من أولها إلى قوله سبحانه ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) الآية (٥).

وقيل : إنّها سبع (٦). وقيل : إنّها تسع (٧). وقيل : عشرون. وقيل : أزيد.

وعن ابن عبّاس : أنّها إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبعة (٨) ، وبه صرّح في الروضة (٩).

وفي الدروس : أنّها إلى السبعين أقرب منها إلى السبعة (١٠).

والمشهور بين أصحابنا : أنّها ما توعّد عليها إيعاداً خاصّاً ، ولكن اختلفت‌

__________________

(١) انظر القواعد والفوائد ١ : ٢٢٥ مع هوامشه ، وبدائع الصنائع ٦ : ٢٦٨.

(٢) انظر القواعد والفوائد ١ : ٢٢٥ مع هوامشه ، وبدائع الصنائع ٦ : ٢٦٨.

(٣) انظر القواعد والفوائد ١ : ٢٢٥ مع هوامشه ، وبدائع الصنائع ٦ : ٢٦٨.

(٤) انظر القواعد والفوائد ١ : ٢٢٥ مع هوامشه ، وبدائع الصنائع ٦ : ٢٦٨.

(٥) حكاه عن ابن مسعود في مجمع البيان ٢ : ٣٨ ، والتفسير الكبير ١٠ : ٧٤.

(٦) انظر الخصال : ٦١٠.

(٧) انظر الجامع لأحكام القرآن ٥ : ١٦٠.

(٨) حكاه عنه في مجمع البيان ٢ : ٣٩ ، والجامع لأحكام القرآن ٥ : ١٥٩.

(٩) الروضة ٣ : ١٢٩.

(١٠) الدروس ٢ : ١٢٥.

١٢٦

كلماتهم في بيان الإيعاد الخاصّ.

ففي نهاية الشيخ والقواعد والإرشاد والمنقول في المسالك : أنّها ما أوعد الله سبحانه عليها بالنار (١).

وفي التنقيح نقلاً عن الأكثر ـ : أنّها ما توعّد عليه بعينه وخصوصه (٢).

وفي الدروس : كلّ ذنب توعّد عليه بخصوصه بالعقاب (٣).

وفي قواعد الشهيد : كلّما توعّد الشرع عليه بخصوصه (٤).

ومثله في الروضة ، فإنّ فيها : أنّها ما توعّد عليها بخصوصها في كتاب أو سنّة (٥).

وعن الذخيرة وفي الكفاية : أنّها كلّ ذنب توعّد الله عليه عزّ وجلّ بالعقاب في الكتاب العزيز (٦) وقال في الأخير : إنّه المعروف بين أصحابنا ، قال : ولم أجد في كلامهم اختيار قول آخر.

وربّما يستفاد من كلام بعض مشايخنا المعاصرين اتّحاد المراد من كلماتهم المختلفة في الإيعاد ، حيث ذكر ما ذكره في الكفاية ، وحكى عن التنقيح نسبته إلى الأكثر ، وجعل صحيحة ابن أبي يعفور (٧) مشعراً به (٨).

وهذا التفسير أي ما توعّد عليه للكبائر يحتمل وجوهاً ؛ لأنّه إمّا‌

__________________

(١) النهاية : ٣٢٥ ، القواعد ٢ : ٢٣٦ ، الإرشاد ٢ : ١٥٦ ، المسالك ٢ : ٤٠٢.

(٢) التنقيح ٤ : ٢٩١.

(٣) الدروس ٢ : ١٢٥.

(٤) القواعد والفوائد ١ : ٢٢٤.

(٥) الروضة ٣ : ١٢٩.

(٦) الذخيرة : ٣٠٤ ، الكفاية : ٢٧٩.

(٧) المتقدّمة في ص ٧٦.

(٨) انظر الرياض ٢ : ٤٢٧.

١٢٧

توعّد عليه بخصوصه النار ، أو بالعقاب مطلقاً.

وعلى التقديرين ، إمّا توعّد عليه بعينه وخصوصه ، نحو : أنّ الذنب الفلاني يترتّب عليه ذلك.

أو بالعموم ، نحو ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (١).

وعلى التقادير الأربع ، إمّا يكون ما توعّد الله سبحانه عليه ، أو يكون أعمّ ممّا يوعد الله أو حججه.

وعلى التخصيص بإيعاد الله ، إمّا يختصّ بإيعاده في الكتاب العزيز ، أو يكون أعمّ منه ومن الإيعاد الحاصل في الحديث القدسي وفي أخبار الحجج بأنّ الله سبحانه أوعد كذا وكذا.

وعلى تقدير تخصيص الإيعاد بالنار ، إمّا يختصّ بالإيعاد بلا واسطة ، كأن يقول : من فعل كذا فهو يدخل النار. أو أعمّ منه وممّا يكون بواسطة ، كأن يقول : من فعل كذا فهو كافر أو شقي ، وأوعد الكافر أو الشقي بالنار.

وكذا على التخصيص بالكتاب ، يحتمل التخصيص والتعميم باعتبار حصول الواسطة وعدمه ، فإنّه قد يوعد في الكتاب بوصفٍ رتّب في السنّة النار على المتّصف به ، وقد يعكس.

واللاّزم في المقام الرجوع إلى دليل تعريف الكبائر ، وهو موقوف على ذكر الأخبار الواردة في المقام ، فمنها : صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة (٢).

ورواية الحلبي : في قوله تعالى ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ )

__________________

(١) الزلزلة : ٨.

(٢) في ص ٧٦.

١٢٨

الآية (١) ، قال : « الكبائر التي أوجب الله عليها النار » (٢).

وصحيحة أبي بصير في بيان ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) (٣) قال : « معرفة الإمام ، واجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار » (٤).

وصحيحة السرّاد : عن الكبائر كم هي وما هي؟ فكتب : « الكبائر من اجتنب ما وعد الله عليه النار كفّر عنه سيّئاته إذا كان مؤمناً ، والسبع الموجبات : قتل النفس الحرام ، وعقوق الوالدين ، وأكل الربا ، والتعرّب بعد الهجرة ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزحف » (٥).

وصحيحة محمّد : « الكبائر سبع : قتل المؤمن متعمّداً ، وقذف المحصنة ، والفرار من الزحف ، والتعرّب بعد الهجرة ، وأكل مال اليتيم ظلماً ، وأكل الربا بعد البيّنة ، وكلّ ما أوجب الله عليه النار » (٦).

ورواية عبّاد بن كثير : عن الكبائر ، قال : « كلّ ما أوعد الله عليه النار » (٧).

والمدلول من تلك الأخبار أنّ الكبائر ما أوعد الله عليه النار ، والثلاثة الاولى وإن لم تكن صريحة لاحتمال كون الوصف فيها احترازيّاً ولكن‌

__________________

(١) النساء : ٣١.

(٢) الكافي ٢ : ٢٧٦ ، ١ ، الوسائل ١٥ : ٣١٥ أبواب جهاد النفس ب ٤٥ ح ٢.

(٣) البقرة : ٢٦٩.

(٤) الكافي ٢ : ٢٨٤ ، ٢٠ ، الوسائل ١٥ : ٣١٥ أبواب جهاد النفس ب ٤٥ ح ١ ؛ وفيهما : أوجب ، بدل : أوعد.

(٥) الكافي ٢ : ٢٧٦ ، ٢ ، الوسائل ١٥ : ٣١٨ أبواب جهاد النفس ب ٤٦ ح ١.

(٦) الكافي ٢ : ٢٧٧ ، ٣ ، الوسائل ١٥ : ٣٢٢ أبواب جهاد النفس ب ٤٦ ح ٦.

(٧) الفقيه ٣ : ٣٧٣ ، ١٧٥٨ ، عقاب الأعمال : ٢٣٣ ، ٢ ، الوسائل ١٥ : ٣٢٧ أبواب جهاد النفس ب ٤٦ ح ٢٤.

١٢٩

البواقي صريحة في أنّ الكبائر هي ذلك العنوان.

ولا تضرّ معارضة مفهوم الحصر فيما يختصّ بما أوعد الله بها مع ما يشتمل على السبع أيضاً ؛ لأنّ الأخير أخصّ مطلقاً من الأول ، فيجب تخصيصه به ، ويحكم بكون المجموع كبيرة.

ومنها صحيحة عبيد : عن الكبائر ، فقال : « هنّ في كتاب علي عليه‌السلام سبع : الكفر بالله ، وقتل النفس ، وعقوق الوالدين ، وأكل الربا بعد البيّنة ، وأكل مال اليتيم ظلماً ، والفرار من الزحف ، والتعرّب بعد الهجرة » قال : قلت : فهذا أكبر المعاصي؟ قال : « نعم » قلت : فأكل درهم من مال اليتيم ظلماً أكبر ، أم ترك الصلاة؟ قال : « ترك الصلاة » قلت : فما عددتَ ترك الصلاة في الكبائر؟ قال : « أيّ شي‌ءٍ أول ما قلت لك؟ » قال : قلت : الكفر ، قال : « فإنّ تارك الصلاة كافر ، يعني من غير علّة » (١).

ورواية عبد الرحمن بن كثير : « الكبائر سبعٌ فينا أُنزلت ومنّا استُحلّت ، فأولها الشرك بالله العظيم ، وقتل النفس التي حرّم الله ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق الوالدين ، وقذف المحصنة ، والفرار من الزحف ، وإنكار حقّنا » الحديث (٢).

وموثّقة أبي بصير : « الكبائر سبعة : منها قتل النفس متعمّداً ، والشرك بالله العظيم ، وقذف المحصنة ، وأكل الربا بعد البيّنة ، والفرار من الزحف ، والتعرّب بعد الهجرة ، وعقوق الوالدين ، وأكل مال اليتيم [ ظلماً ] » قال‌

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٧٨ ، ٨ ، الوسائل ١٥ : ٣٢١ أبواب جهاد النفس ب ٤٦ ح ٤.

(٢) الفقيه ٣ : ٣٦٦ ، ١٧٤٥ ، الخصال : ٣٦٣ ، ٥٦ ، العلل : ٤٧٤ ، ١ ، الوسائل ١٥ : ٣٢٦ أبواب جهاد النفس ب ٤٦ ح ٢٢.

١٣٠

« والتعرّب والشرك واحد » (١).

ورواية مسعدة ، قال : « الكبائر : القنوط من رحمة الله ، واليأس من رَوح الله ، والأمن من مكر الله ، وقتل النفس التي حرّم الله ، وعقوق الوالدين ، وأكل مال اليتيم ظلماً ، وأكل الربا بعد البيّنة ، والتعرّب بعد الهجرة ، وقذف المحصنة ، والفرار من الزحف » (٢).

وهذه الأخبار الأربعة وإن اختلف بعضها مع بعض في العدد أو في المعدود إلاّ أنّه لا تعارض بينها منطوقاً.

نعم ، يعارض بعضها بحسب المفهوم مع بعض ، ولكن يقدّم المثبت من المتعارضين ؛ لكون التعارض بالعموم والخصوص المطلقين ، فيحكم بتخصيص عموم مفهوم الحصر بخصوص المنطوق ، ويكون كلّ ما في هذه الأحاديث كبيرة.

وأمّا مع الأخبار المتقدّمة فلا تعارض أيضاً بحسب المنطوق ، وأمّا مفهوم الحصر في تلك الأخبار فهو وإن تعارض مع ما يختصّ بما أوعد الله من الأخبار الاولى بالعموم من وجه ، ولكن يعارض مع ما يشتمل على السبع أيضاً بالعموم المطلق ، فيخصّص به ، ويثبت الحكم للمجموع.

هذا ، مع أنّه يمكن اختلاف مراتب الكبائر وحمل ما يتضمّن الحصر في عدد مخصوص على إرادة أكبرها ، ويعضده ما في بعض الصحاح المتقدّمة من الحكم بأنّها ما أوعد الله عليه النار ، بعد ذكر السبع كما في بعض ، أو قبله كما في بعض آخر.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٨١ ، ١٤ ، الوسائل ١٥ : ٣٢٤ أبواب جهاد النفس ب ٤٦ ح ١٦ ؛ وما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) الكافي ٢ : ٢٨٠ ، ١٠ ، الوسائل ١٥ : ٣٢٤ أبواب جهاد النفس ب ٤٦ ح ١٣.

١٣١

بل تدلّ عليه رواية أبي الصامت : « أكبر الكبائر سبع : الشرك بالله العظيم ، وقتل النفس التي حرّم الله عزّ وجلّ إلاّ بالحقّ ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق الوالدين ، وقذف المحصنات ، والفرار من الزحف ، وإنكار ما أنزل الله عزّ وجلّ » (١).

ثم بما ذكر يظهر حال رواية الصدوق عن الفضل بن شاذان ، فيما كتب به مولانا الرضا عليه‌السلام للمأمون ، المرويّة في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام بأسانيد متعددة كما في الذخيرة (٢) : « إنّ الكبائر هي : قتل النفس التي حرّم الله تعالى ، والزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وأكل مال اليتيم ظلماً ، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهلّ لغير الله به من غير ضرورة ، وأكل الربا بعد البيّنة ، والسحت ، والميسر وهو القمار ، والبخس في المكيال والميزان ، وقذف المحصنات ، واللواط ، وشهادة الزور ، واليأس من رَوح الله ، والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، ومعونة الظالمين ، والركون إليهم ، واليمين الغموس ، وحبس الحقوق من غير عسر ، والكذب ، والكبر ، والإسراف ، والتبذير ، والخيانة ، والاستخفاف بالحجّ ، والمحاربة لأولياء الله ، والاشتغال بالملاهي ، والإصرار على الذنوب » (٣) وفي بعض النسخ : « والإصرار على الصغائر من الذنوب ».

فإنّها تعارض مفاهيم الحصر المتقدّمة بالخصوص المطلق ، يعني : أنّ هذه أخصّ منها فيجب تقديمها والحكم بكون الجميع كبيرة ؛ مع أنّه‌

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٤٩ ، ٤١٧ ، الوسائل ١٥ : ٣٢٥ أبواب جهاد النفس ب ٤٦ ح ٢٠.

(٢) الذخيرة : ٣٠٤.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٢١ ، تحف العقول : ٤٢٢ ، بتفاوت ، الوسائل ١٥ : ٣٢٩ أبواب جهاد النفس ب ٤٦ ح ٣٣.

١٣٢

لا نعلم تعارضها مع ما يتضمّن أنّ الكبائر ما أوعد الله عليه النار ؛ لجواز الإيعاد بها في جميع ما تضمّنته الرواية ، سيّما مع بعض احتمالات ذلك العنوان كما مرّ.

وكذا يعلم ممّا ذكر حال سائر ما تضمّن ذكر كبيرة أو كبائر من الأخبار ، ويحكم بكون الجميع كبيرة ، كمرسلة الفقيه : « إنّ الحيف في الوصيّة من الكبائر » (١).

ورواية أبي خديجة : « الكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأوصياء عليهم‌السلام من الكبائر » (٢).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من قال عَليَّ ما لم أقل فليتبوّأ مقعده من النار » (٣).

ورواية عبد العظيم : « أُحبّ أن أعرف الكبائر من كتاب الله تعالى ، فقال : نعم يا عمرو ، أكبر الكبائر : الإشراك بالله ، يقول الله تعالى ( مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ) (٤) وبعده اليأس من رَوح الله ؛ لأنّ الله تعالى يقول ( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) (٥) ثم الأمن من مكر الله ؛ لأنّ الله تعالى يقول ( فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ ) (٦) ومنها عقوق الوالدين ؛ لأنّ الله تعالى‌

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٣٦٩ ، ١٧٤٧ ، الوسائل ١٥ : ٣٢٧ أبواب جهاد النفس ب ٤٦ ح ٢٣.

(٢) الفقيه ٣ : ٣٧٣ ، ١٧٥٥ ، المحاسن ١ : ١١٨ ، ١٢٧ ، عقاب الأعمال : ٢٦٨ ، ١ ، الوسائل ١٥ : ٣٢٧ أبواب جهاد النفس ب ٤٦ ح ٢٥.

(٣) الفقيه ٣ : ٣٧٣ ، ١٧٥٦ ، المحاسن ١ : ١١٨ ، ١٢٧ ، عقاب الأعمال : ٢٦٨ ، ١ ، الوسائل ١٥ : ٣٢٧ أبواب جهاد النفس ب ٤٦ ح ٢٦.

(٤) المائدة : ٧٢ وهي هكذا : « إنَّه مَن يُشرك بالله .. ».

(٥) يوسف : ٨٧.

(٦) الأعراف : ٩٩.

١٣٣

جعل العاقّ جبّاراً شقيّاً (١) ؛ وقتل النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ ؛ لأنّ الله تعالى يقول ( فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ) (٢) الآية ، وقذف المحصنة ؛ لأنّ الله تعالى يقول ( لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) (٣) وأكل مال اليتيم ؛ لأنّ الله تعالى يقول ( إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) (٤) والفرار من الزحف ؛ لأنّ الله تعالى يقول ( وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ) إلى قوله ( وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (٥) وأكل الربا ؛ لأنّ الله تعالى يقول ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ) (٦) والسحر ؛ لأنّ الله تعالى يقول ( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ) (٧) والزنا ؛ لأنّ الله تعالى يقول ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً ) (٨) واليمين الغموس الفاجرة ؛ لأنّ الله تعالى يقول ( الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ) (٩) والغلول ؛ لأنّ الله تعالى يقول ( وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) (١٠) ومنع الزكاة المفروضة ؛ لأنّ الله‌

__________________

(١) إشارة إلى قوله سبحانه في سورة مريم ( وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا ).

(٢) النّساء : ٩٣.

(٣) النّور : ٢٣.

(٤) النّساء : ١٠.

(٥) الأنفال : ١٦.

(٦) البقرة : ٢٧٥.

(٧) البقرة : ١٠٢.

(٨) الفرقان : ٦٨.

(٩) آل عمران : ٧٧.

(١٠) آل عمران : ١٦١.

١٣٤

تعالى يقول ( فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ) (١) وشهادة الزور وكتمان الشهادة ؛ لأنّ الله تعالى يقول ( وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) (٢) وشرب الخمر ؛ لأن الله تعالى نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان (٣) ، وترك الصلاة متعمّداً أو شيئاً ممّا فرض الله ؛ لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من ترك الصلاة متعمّداً فقد برئ من ذمّة الله وذمّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ونقض العهد وقطيعة الرحم ؛ لأنّ الله تعالى يقول ( أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدّارِ ) (٤) » الحديث (٥).

وظهر من جميع ما ذكر أنّ الكبائر : كلّ ما أوعد الله تعالى عليه النار ، وأنّ جميع ما في تلك الأخبار بخصوصه من الكبائر أيضاً.

بقي الكلام في بيان المراد ممّا أوعد الله عليه من الاحتمالات المتقدّمة.

فنقول : إنّه بعد ما عرفت أنّ الثابت من الأخبار في القسم الأول من الكبائر هو عنوان ما أوعد الله عليه النار ، فيلزم متابعة ما يدلّ عليه ذلك العنوان ، وهو صريحٌ في أنّه يلزم أن يكون الإيعاد بالنار ، فلا يصحّ تعميم العنوان بالعقاب ، أو مطلق الوعيد ، إلاّ أن يثبت أنّ عقابه ووعيده منحصرٌ بذلك.

وهو غير ثابت ، بل الظاهر خلافه ، وظاهرٌ في كون الإيعاد على الذنب‌

__________________

(١) التوبة : ٣٥.

(٢) البقرة : ٢٨٣.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ ) المائدة : ٩٠.

(٤) الرعد : ٢٥.

(٥) الكافي ٢ : ٢٨٥ ، ٢٤ ، الوسائل ١٥ : ٣١٨ أبواب جهاد النفس ب ٤٦ ح ٢.

١٣٥

المخصوص بعينه ؛ لأنّه الظاهر المتبادر من قوله : « أوعد الله عليه » فلا يشمل ما أوعد عليه عموماً ، نحو قوله ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) (١) وقوله ( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها ) (٢).

مع أنّ الأول إيعادٌ بالأعمّ من النار ؛ للتصريح بالفتنة أيضاً.

والثاني مخصوصٌ بعصيان الكفر بقرينة الخلود ، وكذا الظاهر المتبادر منه الإيعاد الصريحي ، فلا يشمل الضمني الحاصل في ضمن مجرّد النهي.

ومطلقٌ بالنسبة إلى كونه في الكتاب العزيز أم لا ، فيشمل ما أوعد بالنار في الحديث القدسي ، أو بلسان الرسول ، أو الإمام حاكياً عن الله ، بمثل : قال الله كذا ، أو : أوجب كذا ؛ لصدق إيعاده سبحانه عرفاً ، ولا يشمل إيعاد الرسول والإمام من غير نسبته إلى الله تعالى وإن احتمل في الأول ؛ لقوله تعالى ( إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى ) (٣).

ونقل المحدّث المجلسي في حقّ اليقين عن بعضهم : الإيعاد في السنّة المتواترة أيضاً موجبٌ للكون كبيرة مطلقاً ، وعن بعض آخر : أنّ الإيعاد بالأحاديث الصحيحة أيضاً كذلك.

والظاهر عدم اشتراط كونه بلا واسطة ، بل يشمل ما كان بالواسطة ، مثل أن يقول : تارك الصلاة منافق ، وقال : المنافق في النار ؛ لصدق الإيعاد بالنار ، ومثل أن يقول : المضيع ماله مسرف ، وقال : إنّ الإسراف يوجب دخول النار.

__________________

(١) النور : ٦٣.

(٢) الجن : ٢٣.

(٣) النجم : ٤.

١٣٦

ومن ذلك يظهر سرّ ما سبق من أنّ الكبائر إلى سبعمائة أقرب ، بل على هذا يصعب حصر الكبائر ، والله هو العالم بالسرائر.

فرع : قد مرّ رواية الفضل : أنّ من الكبائر الإصرار على الصغائر (١) ، وتدلّ عليه أيضاً رواية الحسين بن زيد الطويلة ، المرويّة في الفقيه في ذكر المناهي ، وفي آخرها : « لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار » (٢) ، ورواية ابن سنان المتقدّمة (٣) ، ونفى بعض مشايخنا المعاصرين عنه الريب بل الخلاف (٤) ، وهو كذلك ، بل هو إجماعي.

وبما ذكر يجبر ما لو كان في الأخبار من الضعف ، وبهما تخصّص الأخبار الظاهرة في الحصر فيما لا يدخل فيه ذلك ؛ مع أنّ عدم كونه ممّا أوعد الله عليه النار ولو بالواسطة غير معلوم.

ثم إنّهم اختلفوا في حدّ الإصرار الموجب لدخول الصغيرة في الكبائر.

فقيل : هو المداومة على نوع واحد منها ، والمواظبة والملازمة له (٥).

وقيل : هو الإكثار منها ، سواء كان من نوع واحد أو من أنواع مختلفة ، ذكره في المسالك والروضة وكشف الرموز (٦) وغيرها (٧).

وقيل : يحصل بكلّ واحد منها (٨).

__________________

(١) راجع ص ١٣٠.

(٢) الفقيه ٤ : ٢ ، ١ ، الوسائل ١٥ : ٣١٢ أبواب جهاد النفس ب ٤٣ ح ٨.

(٣) في ص ١٢٣.

(٤) كما في الرياض ٢ : ٤٢٨.

(٥) كما في الرياض ٢ : ٤٢٨.

(٦) المسالك ٢ : ٤٠٢ ، الروضة ٣ : ١٣٠.

(٧) كما في كنز العرفان ٢ : ٣٨٥ ، الذخيرة : ٣٠٥.

(٨) انظر كفاية الأحكام : ٢٧٩.

١٣٧

وقيل : هو فعل الصغيرة مع العزم على معاودتها (١).

ونقل عن بعضهم قولٌ بأنّ المراد فعل الصغيرة مع عدم التوبة (٢).

واستدلّ للأخير برواية جابر : في قول الله عزّ وجلّ ( وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٣) قال : « الإصرار : أن يذنب الذنب فلا يستغفر [ الله ] ولا يحدّث نفسه بتوبة » (٤).

ودليل الأول : كلام أهل اللغة ، قال الجوهري : أصررت على الشي‌ء : أي أقمت ودمت عليه (٥). وقال ابن الأثير : أصرّ على الشي‌ء يصرّ إصراراً : إذا لزمه وداومه وثبت عليه (٦). وفي القاموس : أصرّ على الأمر : لزم (٧). وقريب منه كلام ابن فارس في المجمل (٨).

ودليل الثاني والثالث : إمّا صدق المداومة واللزوم مع الإكثار ، أو صدق الإصرار عرفاً معه.

وحجّة الرابع : فحوى رواية جابر ، وهو الإصرار عرفاً.

قال في البحار : وفي العرف يقال : فلان مصرّ على هذا الأمر إذا كان عازماً على العود إليه (٩).

__________________

(١) انظر البحار ٨٥ : ٢٩.

(٢) انظر البحار ٨٥ : ٢٩.

(٣) آل عمران : ١٣٥.

(٤) الكافي ٢ : ٢٨٨ ، ٢ ، الوسائل ١٥ : ٣٣٨ أبواب جهاد النفس ب ٤٨ ح ٤ ؛ وما بين المعقوفين من المصدرين.

(٥) الصحاح ٢ : ٧١١.

(٦) النهاية ٣ : ٢٢.

(٧) القاموس المحيط ٢ : ٧١ وفيه : وأصرّ يعدو : أسرع ، وعلى الأمر : عزم.

(٨) مجمل اللغة ٣ : ٢٢٣.

(٩) البحار ٨٥ : ٣٠.

١٣٨

ولا ينبغي الريب في ضعف الأخير كما عن الذخيرة والبحار أيضاً (١) ؛ لعدم مساعدة اللغة ولا العرف ، وعدم دلالة الخبر على أنّه المراد من الإصرار مطلقاً ، فلعلّه في تفسير الآية بخصوصه ولا في صدق الإصرار بالأول لغةً وعرفاً.

وإنّما الكلام في البواقي ، والظاهر لزوم اعتبار صدق الملازمة والمداومة في الإكثار أيضاً ، فلا يُكتفى بمجرّد ارتكابها مرّات عديدة في يوم أو يومين أو ثلاثة مثلاً ، وإن صدق الإكثار ، فلو تركها بعد الثلاث لا يحكم بكونه إصراراً ولو لم تُعلَم التوبة ، وهو الظاهر من التحرير ، حيث قال : وعن الإصرار على الصغائر أو الإكثار منها (٢). بل من الإرشاد والقواعد أيضاً (٣) ، كما صرّح بالظهور منهما في الذخيرة (٤).

نعم ، يظهر منهم كون الإكثار أيضاً قادحاً في العدالة أو في قبول الشهادة ، ولكنّ الظاهر أنّ مرادهم من الإكثار : أغلبيّة ارتكابه عن الاجتناب إذا عنّ له من غير توبة.

وأمّا مع العزم على العود بدون الإكثار كما هو القول الرابع فصدق الإصرار غير معلوم عرفاً ، ولو علم في هذا الزمان فلا يفيد للأخبار.

فالمناط في صدق المداومة ، ثم المناط صدق المداومة والملازمة العرفيّتين.

وهل يشترط كون الإصرار على نوع واحد ، أو لا؟

__________________

(١) الذخيرة : ٣٠٥ ، البحار ٨٥ : ٢٩.

(٢) التحرير ٢ : ٢٠٨.

(٣) القواعد ٢ : ٢٣٦.

(٤) الذخيرة : ٣٠٥.

١٣٩

الظاهر : الثاني ؛ لصدق الإصرار على الصغائر بالمداومة على جنسها ، كالإصرار على قتل الحيوانات بالمداومة على الجنس ، ومن الإصرار على الجنس : الإكثار من الذنوب بحسب ارتكابه أغلب عن اجتنابه إذا عنّ له من غير توبة ؛ لصدق المداومة عرفاً.

ثم إنّ الشهيد قسّم الإصرار إلى فعلي وحكمي ، فالفعلي هو الدوام على نوع واحد بلا توبة ، أو الإكثار من جنس الصغائر كذلك ؛ والحكمي هو العزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها (١). وارتضاه جماعة من المتأخّرين (٢).

ولعلّ مستنده اللغة والعرف وحديث جابر ، فبالأولين يثبت الأولان ـ وهما الإصرار وبالثالث يثبت حكم الإصرار للثالث ، وفيه تأمّل.

فرع : كما يتحقّق الإصرار على الصغيرة بالإتيان بأفراد نوع واحد منها بقدر تصدق معه الملازمة عرفاً ، كذلك يتحقّق باستمرار فرد واحد من نوعٍ بقدر تصدق الملازمة. ولا يتوقّف على تكرّر الفعل ، فلو لبس ثوباً حريراً مدّة مديدة ، أو اقتنى آنية ذهب على القول بحرمة اقتنائها أيضاً أو تختّم بخاتم ذهب كذلك ، يخرج عن العدالة ؛ لصدق الإصرار على الصغيرة.

وعلى هذا يقدح في العدالة فعل صغيرة مع العزم بالمعاودة لو علم منه ذلك ، أو ترك التوبة مع التذكّر في مدّة مديدة ، لا لأجل كون ذلك إصراراً على الصغيرة المذكورة ، بل لأجل الإصرار على ترك التوبة ، وهو أيضاً من الصغائر ؛ لوجوب التوبة ، فإذا استمرّ تركها يكون مصرّاً على هذه‌

__________________

(١) القواعد والفوائد ١ : ٢٧٧.

(٢) كالسيوري في كنز العرفان ٢ : ٣٨٥ ، الشهيد الثاني في الروضة ٣ : ١٣٠.

١٤٠