مستند الشّيعة - ج ١٨

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٨

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-204-0
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٤٤٥

قلنا : من لم يحكم بما أنزل الله في حقّه وبحسب علمه ، وأيضاً الفسق هو الخروج عن طاعة الله ، ومثل ذلك الشخص ليس خارجاً عن طاعة الله.

ز : اختلفوا في اشتراط الإيمان في العدالة وعدمه ، فصرّح بعضهم بالأول ، منهم الفاضل ، قال : وأيّ فسق أعظم من عدم الإيمان (١)؟! ومنهم الشيخ حسن ، قال في منتقى الجمان : قيد العدالة مغنٍ عن التقييد بالإيمان ؛ لأنّ فاسد المذهب لا يتّصف بالعدالة حقيقةً ، كيف؟! والعدالة حقيقة عرفيّة في معنى معروف لا يجامع فساد العقيدة قطعاً. قال : وادّعاء والدي رحمه‌الله في بعض كتبه توقّف صدق وصف الفسق بفعل المعاصي المخصوصة على اعتقاد الفاعل كونها معصية ، عجيب (٢). انتهى.

وصرّح جماعة بالثاني ، قال في المسالك : والحق أنّ العدالة تتحقّق في جميع أهل الملل مع قيامهم بمقتضاها بحسب اعتقادهم (٣).

وقال شيخنا البهائي في الزبدة : وليس في آية التثبّت (٤) حجّة عليه ؛ لمنع صدق الفاسق على المخطئ في بعض الأُصول بعد بذل مجهوده (٥).

وقال المحدّث الكاشاني في نقد الأُصول في بيان العمل بأخبار غير أهل الإيمان : لكنّ العمل بأخبارهم غير بعيد ؛ لحصول الظنّ بها بعد توثيق الأصحاب لهم ، فإنّ المانع من الكذب في الرواية إنّما هو العدالة ، وهي حاصلة فيهم ، ولا يقدح فيه عدم إيمانهم كما لا يخفى. انتهى.

__________________

(١) حكاه عنه في مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٣٥٠.

(٢) منتقى الجمان ١ : ٥.

(٣) المسالك ٢ : ٤٠١.

(٤) الحجرات : ٦.

(٥) زبدة الأُصول : ٥٩.

١٠١

بل هو ظاهر كلّ من قال : إنّ العدالة هي ظاهر الإسلام مع عدم ظهور الفسق.

أقول : لا ينبغي الريب في تحقّق ملكة العدالة في غير المؤمن أيضاً ، ولكن هي غير ما نحن نتكلّم فيه.

وأمّا العدالة الشرعيّة التي كلامنا فيها فالأصل عدم تحقّقها فيه ، والأخبار المتقدّمة وإن كان ظاهرها الإطلاق ، إلاّ أنّ وجوب الاخوّة وقبول الشهادة يوجب الاختصاص بالمؤمن ، ولو لا ذلك لأمكن القول بثبوتها له إذا كان مصداقاً لما في الصحيحة.

فإن قيل : كيف يمكن كونه مصداقاً له مع كونه مرتكباً لأكبر الكبائر؟! وهو متابعة الإمام الجائر ، والردّ على المنصوب من قبل الله سبحانه وعدم قبوله ، كما في رواية أبي الصامت المرويّة في التهذيب : « أكبر الكبائر سبع » فعدّها وعدّ السابع : « إنكار ما أنزل الله عزّ وجلّ » إلى أن قال : « وأمّا إنكار ما أنزل الله عزّ وجلّ فقد أنكروا حقّنا وجحدوا له » الحديث (١).

وفي رواية عبد الرحمن بن كثير الهاشمي المرويّة في الفقيه : « الكبائر سبع فينا أُنزلت » فعدّها إلى أن قال : « وإنكار حقّنا » الحديث (٢).

قلنا : كون ذلك معصية كبيرة إنّما هو على فرض التقصير في التحقيق وعدم حصول العلم ، وإلاّ فلا يكلّف الله نفساً فوق معلومها.

كذا ذكره جماعة من المتأخّرين (٣) ، ولكنّ التحقيق خلاف ذلك ، بل‌

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٤٩ ، ٤١٧ ، الوسائل ١٥ : ٣٢٥ أبواب جهاد النفس ب ٤٦ ح ٢٠ وفيه صدر الحديث.

(٢) الفقيه ٣ : ٣٦٦ ، ١٧٤٥ ، الوسائل ١٥ : ٣٢٦ أبواب جهاد النفس ب ٤٦ ح ٢٢.

(٣) كالشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤٠١ ، والفيض الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٧٨.

١٠٢

هو أنّ الإمام عليه‌السلام حكم بثبوت العدالة بوجود أُمور خاصّة ، من الستر والعفاف عن أشياء معيّنة ، وكفّ الجوارح عنها ، واجتناب أُمور خاصّة متعيّنة عنده عليه‌السلام ، والإتيان بأُمور وجوديّة علماً وعملاً قلباً وجارحة ، فلازمه الحكم بثبوتها عند تحقّق هذه الأُمور ونفيها عند انتفائها كلاًّ أو بعضاً ولو واحداً ، سواء كان الانتفاء لأجل عدم ثبوت وجوب ذلك الأمر عند المكلّف ، بل وثبوت عدم وجوبه عنده ، أو كان عمداً وعصياناً وإن اختصّ ترتّب الإثم والعقاب بحكم العقل بصورة العمد والعصيان.

نعم ، تلك الأُمور على قسمين :

أحدهما : ما يعلم الواقع منه وكونه داخلاً في مراد الإمام بإجماع ، أو ضرورة دينيّة أو مذهبيّة ، أو كتاب محكم ، أو سنّة مقطوعة ، كالكفّ عن شرب الخمر ، والزنا ، والربا ، والشرك ، والتجسّم ، وإنكار النبوّة ، وجحد إمامة الأئمّة ، ونحو ذلك ، بل جميع ما يتعلّق بأُصول العقائد.

وثانيهما : ما لا يعلم الواقع منه وخصوص مراد الإمام ، بل قد يظنّ ظنّاً ، وإن كان ذلك الظن حجّة للظانّ ، كبعض أقسام الغناء ، وبعض أفراد الغيبة ، والنظر إلى الأجنبيّة بلا ريبة ، وترك غسل الجنابة بالوطء في الدبر من غير إنزال ، وترك الصلاة في أوقاتٍ اختُلف في تضيّقها فيها ، ونحو ذلك من مسائل الفروع المختلف فيها.

فما كان من الأول يحكم بانتفاء العدالة بانتفاء تلك الأُمور اجتناباً أو ارتكاباً قطعاً.

وما كان من الثاني فلمّا لم يعلم الواقع فلا يعلم أنّ المكلّف ترك واجباً واقعياً أو اجتنب محرّماً كذلك ، والوجوب والحرمة بحسب ظنّ مجتهد لا يجعله كذلك واقعاً ، وإن كان كذلك في حقّ من ظنّه كذلك‌

١٠٣

بالإجماع.

واحتمال كونه كذلك أو ظنّه لا يجعله كذلك في حقّ غير الظان ، سيّما مع انعقاد الإجماع على عدم كون ما ظنّ حكماً في حقّه. فتأمّل.

ولعمري أنّ هذا الخلاف والخلاف السابق عليه قليل الجدوى جدّاً ؛ لأنّه لا يقول أحدٌ بعدالة غير المؤمن أو الكافر ، الذي لم يعلم في حقّه بذل الجهد في تحقيق الدين ، بحيث لم يمكن له فوق ذلك.

وحصول العلم لنا في حقّ المخالف أو الكافر أنّه باذلٌ جهده وسعيه ، وحصل له العلم بحقّية دينه إمّا غير ممكن أو نادر جدّاً ، وأندر منه ما لو كان مع عدم التقصير جامعاً لغير ذلك من شرائط العدالة.

المسألة الثانية : إذا عرفت معنى العدالة ، وأنّها الستر والعفاف ، والكفّ عن المحارم ، والاجتناب عن الكبائر المنبعثة عن صفة راسخة نفسانيّة.

فلكونها أُموراً خفيّة تصعب معرفتها ؛ لعدم محصوريّة المحارم ؛ لكونها مبثوثة على القلب والجوارح من جهة الاعتقادات والأفعال ، ولها كبائر وصغائر ، والصغائر أيضاً تصير كبيرةً بالإصرار ، والعلم بالاجتناب عن الجميع في جميع الأحوال صعب مستصعب ، سيّما مع اشتراط كونها منبعثة عن صفة نفسانيّة.

فلذلك وقع الخلاف في طريق معرفتها بعد اتّفاقهم على حصولها بالمعاشرة الباطنيّة ، والصحبة المتأكّدة التامّة ، الموجبة للاختبار (١) ، المميّز بين الخلق والتخلّق ، والطبع والتكلّف ، وبالشياع الموجب للعلم ، وبشهادة‌

__________________

(١) في « ق » : للاجتناب.

١٠٤

العدلين في أنّه هل ينحصر الطريق بذلك؟ كما هو مختار أكثر المتأخّرين ، منهم : الشرائع والذكرى والدروس والبيان والمسالك والروضة الجعفريّة وحاشية الشرائع للكركي ووالدي رحمه‌الله في كتبه الأُصولية (١) ، وغيرهم (٢) ، ونسبه في المسالك إلى المشهور (٣) ، وقيل : إنّه القريب من الإجماع (٤).

[ أو ] (٥) يعرف بأقلّ من ذلك أيضاً ، كما قال به جماعة.

وهم بين قائلٍ بأنّه يعرف بظاهر الإسلام مع عدم ظهور ما يوجب الفسق ، كما حكي عن الإسكافي والإشراف والخلاف والمبسوط والاستبصار (٦) ، واختاره بعض المتأخّرين ، وجعله في المسالك أمتن دليلاً وأكثر روايةً ، وجعل حال السلف شاهداً عليه ، وإن جعل المشهور الآن بل المذهب خلافه (٧).

وقائلٍ بأنّه يعرف بحسن الظاهر ، نسبه في الذكرى إلى بعض الأصحاب (٨) ، ونسب إلى الشيخ أيضاً (٩) ، وعليه جماعة من متأخّري المتأخّرين (١٠).

__________________

(١) الشرائع ٤ : ١٢٦ ، الذكرى : ٢٦٧ ، الدروس ١ : ٢١٨ ، البيان : ١٣١. المسالك ٢ : ٣٦٢ ، الروضة ١ : ٣٧٩ ، الجعفرية ( رسائل المحقق الكركي ١ ) : ٨٠.

(٢) كالفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٣٧٠.

(٣) المسالك ٢ : ٣٦٢.

(٤) كما في الرياض ٢ : ٣٩١.

(٥) في « ح » و « ق » : و، والصحيح ما أثبتناه.

(٦) حكاه عن الإسكافي والإشراف في المختلف : ٧١٧ ، الخلاف ١ : ٥٥٠ ، المبسوط ٨ : ٢١٧ ، الاستبصار ٣ : ١٤.

(٧) المسالك ٢ : ٣٦٢.

(٨) الذكرى : ٢٦٧.

(٩) النهاية : ٣٢٧.

(١٠) منهم صاحب المدارك ٤ : ٦٩ ، صاحب الحدائق ١٠ : ٢٣.

١٠٥

والفرق بين ذلك وبين القول الأول : أنّه يحتاج على الأول إلى المعاشرة الباطنيّة مدّة مديدة ، يحصل فيها الاطّلاع على السريرة ولو في الجملة. وعلى هذا القول يكتفي في المعاشرة الظاهرة ، مثل : رؤيته مواظباً على الصلوات الخمس ، أو معاملته مع الناس من غير ظلم ، وإخبارهم من غير كذب ، ووعدهم من غير خلف.

وقد ينسب هذا القول إلى جمع من القدماء (١) المعبّرين في تعريف العدالة بالورع عن محارم الله ، أو بالصلاح ، أو بالاجتناب عن المحرّمات ، ونحو ذلك ـ وهو غير سديد ؛ لأنّ التعبير بهذه الأُمور يستدعي العلم بكونه كذلك كما مرّ ، وهو لا يحصل بمجرّد حسن الظاهر.

وهنا قول رابع ، اختاره والدي العلاّمة رحمه‌الله في كتاب القضاء من المعتمد ، وهو أنّ حسن الظاهر إن بلغ حدّا يفيد غلبة الظنّ بثبوت علائم الملكة جاز الاكتفاء ، وإلاّ فلا اعتماد عليه.

دليل الأولين : الأصل ، فيؤخذ بالمجمع عليه ، واشتراط العدالة ونحوها من الصلاح أو اجتناب الكبائر والكفّ واقعاً ، غاية الأمر التقييد في مقام التكاليف بالمعلوم ، فيشترط العلم بها ، وهو لا يحصل إلاّ بالمعاشرة الباطنية ، أو الشياع ، أو ما يقوم مقام العلم شرعاً ، وهو شهادة عدلين.

ولو منعت من حصول العلم بالمعاشرة الباطنيّة أيضاً ، كما هو ظاهر الكركي في حاشية الشرائع ، حيث قال : إذا غلبت على ظنّه عدالته بالطريق المعتبر في معرفة العدالة ، وهي المعاشرة الباطنيّة ، أو شهادة عدلين ، أو الشياع. خلافاً للشهيد في الذكرى ، حيث قال : الأقرب اشتراط العلم‌

__________________

(١) نسبه إليهم في المسالك ٢ : ٣٦١.

١٠٦

بالعدالة بالمعاشرة الباطنيّة (١).

نقول : إنّ الإجماع واقع على كفاية المعرفة بها وقيامها مقام العلم ، فهي كافية قطعاً.

وتدلّ على ذلك القول أيضاً رواية محمّد بن هارون الجلاّب : « إذا كان الجور أغلب من الحقّ لا يحلّ لأحد أن يظنّ بأحد خيراً حتى يعرف ذلك منه » (٢).

وحجّة من يكتفي في معرفتها بظاهر الإسلام : الإجماع المحكيّ في الخلاف (٣) ، والروايات المتكثّرة ، كروايتي سلمة والمجالس المتقدّمتين (٤).

وصحيحة حريز : « إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يُعرَفون بشهادة الزور اجيزت شهادتهم جميعاً ، وأُقيم الحدُّ على الذي شهدوا عليه ، إنّما عليهم أن يشهدوا بما أبصروا وعلموا ، وعلى الوالي أن يجيز شهادتهم ، إلاّ أن يكونوا معروفين بالفسق » (٥).

وحسنة العلاء : عن شهادة من يلعب بالحمام ، قال : « لا بأس إذا كان لا يُعرَف بفسق » (٦).

__________________

(١) الذكرى : ٢٦٧.

(٢) الكافي ٥ : ٢٩٨ ، ٢.

(٣) الخلاف ٢ : ٥٩٢.

(٤) في ص ٥٩.

(٥) الكافي ٧ : ٤٠٣ ، ٥ ، التهذيب ٦ : ٢٧٧ ، ٧٥٩ ، الإستبصار ٣ : ١٤ ، ٣٦ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٧ أبواب الشهادات ب ٤١ ح ١٨.

(٦) الفقيه ٣ : ٣٠ ، ٨٨ ، التهذيب ٦ : ٢٨٤ ، ٧٨٤ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٤ أبواب الشهادات ب ٤١ ح ٦.

١٠٧

وقد يستدلّ أيضاً بمرسلة ابن أبي عمير : في قوم خرجوا من خراسان أو بعض الجبال ، وكان يؤمّهم رجل ، فلمّا صاروا إلى الكوفة علموا أنّه يهودي ، قال : « لا يعيدون » (١).

وبمرسلة يونس : « خمسة أشياء يجب على الناس أن يأخذوا فيها بظاهر الحال : الولايات ، والمناكح ، والمواريث ، والذبائح ، والشهادات ، فإذا كان ظاهره ظاهراً مأموناً جازت شهادته ، ولا يُسأل عن باطنه » (٢).

وصحيحة ابن المغيرة : « كلّ من ولد على الفطرة وعرف بصلاح في نفسه جازت شهادته » (٣).

وبالأخبار المتضمّنة لوضع أمر أخيك على أحسنه ، وعدم اتّهام أخيك ، وهي كثيرة.

ويرد على المرسلة الاولى : أنّه يحتمل أن يكون مَن أمّ القوم حسن الظاهر ، أو كان شهد عدلان بعدالته.

وعلى المرسلة الأُخرى والصحيحة : بأنّهما متضمّنتان لقيدٍ آخر غير ظاهر الإسلام أيضاً ، وهو مأمونيّة الظاهر ، أو المعروفيّة بالصلاح في نفسه ، فهما يصلحان دليلاً للقول بحسن الظاهر.

وعلى الأخبار الأخيرة : أنّه مع ضعف دلالتها على المطلوب ومعارضتها مع ما يدلّ على خلافها ، أنّ الظاهر من الأخبار اختصاص الأخ‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٧٨ ، ٤ ، التهذيب ٣ : ٤٠ ، ١٤١ ، الوسائل ٨ : ٣٧٤ أبواب صلاة الجماعة ب ٣٧ ح ١.

(٢) الكافي ٧ : ٤٣١ ، ١٥ ، الفقيه ٣ : ٩ ، ٢٩ ، التهذيب ٦ : ٢٨٣ ، ٧٨١ ، الإستبصار ٣ : ١٣ ، ٣٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٢ أبواب الشهادات ب ٤١ ح ٣ ، بتفاوت.

(٣) الفقيه ٣ : ٢٨ ، ٨٣ ، التهذيب ٦ : ٢٨٤ ، ٧٨٣ ، قرب الاسناد : ٣٦٥ ، ١٣٠٩ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٨ أبواب الشهادات ب ٤١ ح ٢١.

١٠٨

المستحقّ لذلك بأشخاص لا يخلون عن حسن الظاهر.

ودليل من يكتفي بحسن الظاهر : مرسلة يونس وصحيحة ابن المغيرة المذكورتين (١) ، وموثّقة سماعة ورواية عبد الكريم المتقدّمتين (٢) ، وصحيحة ابن أبي يعفور السابقة (٣).

وصحيحة محمّد : « لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل الواحد إذا عُلِمَ منه خيرٌ مع يمين الخصم في حقوق الناس » (٤).

والأُخرى : يسلم الذمّي ويعتق العبد ، أتجوز شهادتهما على ما كانا أشهدا عليه؟ قال : « نعم ، إذا عُلمَ منهما بعد ذلك خيرٌ جازت شهادتهما » (٥).

وصحيحة عمّار بن مروان : عن الرجل يشهد لامرأته ، قال : « إذا كان خيراً جازت شهادته » (٦).

وعن الرجل يشهد لأبيه ، أو الأب لابنه ، أو الأخ لأخيه ، قال : « لا بأس بذلك ، إذا كان خيراً جازت شهادته » (٧).

__________________

(١) في ص : ١٠٦.

(٢) في ص ٧٦ و ٩٤.

(٣) راجع ص ٧٦.

(٤) الفقيه ٣ : ٣٣ ، ١٠٤ ، التهذيب ٦ : ٢٧٣ ، ٧٤٦ ، الإستبصار ٣ : ٣٣ ، ١٠٤ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٤ أبواب الشهادات ب ٤١ ح ٨.

(٥) الفقيه ٣ : ٤١ ، ١٣٩ ، الوسائل ٢٧ : ٣٨٧ أبواب الشهادات ب ٣٩ ح ١.

(٦) الكافي ٧ : ٣٩٣ ، ٢ ، الفقيه ٣ : ٢٦ ، ٧٠ ، التهذيب ٦ : ٢٤٧ ، ٦٢٨ ، الوسائل ٢٧ : ٣٦٦ أبواب الشهادات ب ٢٥ ح ٢.

(٧) الكافي ٧ : ٣٩٣ ، ٤ ، الفقيه ٣ : ٢٦ ، ٧٠ ، التهذيب ٦ : ٢٤٨ ، ٦٣١ ، الوسائل ٢٧ : ٣٦٧ أبواب الشهادات ب ٢٦ ح ٢.

١٠٩

وموثّقة أبي بصير : « لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً » (١).

ورواية العلاء بن سيّابة : قلت : فالمكاري والجمّال والملاّح؟ قال : « وما بأس بهم ، تقبل شهادتهم إذا كانوا صلحاء » (٢).

ورواية القاسم بن سليمان في القاذف والتائب : « إذا تاب ولم يعلم منه إلاّ خيرٌ جازت شهادته » (٣).

والمرويّ في تفسير الإمام وهو بعد حذف بعض الزوائد ـ : « أنّه كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا تخاصم إليه رجلان في حقّ ، قال للمدّعي : ألَكَ بيّنة؟ فإن أقام بيّنة يرضاها ويعرفها أنفذ الحكم على المدّعى عليه ، فإذا جاء بشهود لا يعرفهم بخير ولا شرّ قال للشهود : أين قبائلكما؟ ثم يقيم الخصوم والشهود بين يديه ، ثم يأمر فيكتب أسامي المدّعى والمدّعى عليه والشهود ، ثم يدفع ذلك إلى رجل من أصحابه الخيار ، ثم مثل ذلك إلى رجل آخر من خيار أصحابه ، ويقول : ليذهب كلّ واحد منكما فليسأل عنهما ، فيذهبان ويسألان ، فإن أتوا خيراً وذكروا فضلاً رجعا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبراه به ، فأحضر القوم الذين أثنوا عليهما ، فيقول : إنّ فلاناً وفلاناً جاءني عنكم بنبإ جميل وذكر صالح ، أفكما قالا؟ فإذا قالوا : نعم ، قضى حينئذٍ بشهادتهما على المدّعى عليه ، وإن رجعا بخبر سيّئ ونبأ قبيح ، لم يهتك ستر الشاهدين ، ولا عابهما ولا وبّخهما ، ولكن يدعو الخصوم إلى‌

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٢٧ ، ٧٧ ، التهذيب ٦ : ٢٥٨ ، ٦٧٦ ، الإستبصار ٣ : ٢١ ، ٦٤ ، الوسائل ٢٧ : ٣٧٢ أبواب الشهادات ب ٢٩ ح ٣.

(٢) الكافي ٧ : ٣٩٦ ، ١٠ ، الفقيه ٣ : ٢٨ ، ٨٢ ، التهذيب ٦ : ٢٤٣ ، ٦٠٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣٨١ أبواب الشهادات ب ٣٤ ح ١.

(٣) الكافي ٧ : ٣٩٧ ، ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٤٦ ، ٦٢٠ ، الإستبصار ٣ : ٣٧ ، ١٢٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣٨٣ أبواب الشهادات ب ٣٦ ح ٢.

١١٠

الصلح ، لئلاّ يفتضح الشهود ، ويستر عليهم ، وكان رؤوفاً رحيماً عطوفاً متحنّناً على أُمّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا كان الشهود من أخلاط الناس غرباء لا يُعرَفون ، ولا قبيلة لهما ولا سوق ولا دار ، أقبل على المدّعى عليه وقال : ما تقول فيهما؟ فإن قال : ما عرفت إلاّ خيراً ، غير أنّهما قد غلطا فيما شهدا عليّ ، أنفذ عليه شهادتهما ، وإن جرحهما وطعن عليهما أصلح بين الخصم وخصمه ، أو أحلف المدّعى عليه ، وقطع الخصومة بينهما » (١).

احتجّ الوالد العلاّمة رحمه‌الله لما اختاره : بأنّ غلبة الظنّ كافية في معرفة العدالة لنفي الجرح ؛ إذ اشتراط القطع بها يؤدّي إليه غالباً ، فحسن الظاهر إن بلغ حدّاً يفيد غلبة الظنّ يجوز الاكتفاء به.

أقول : حقّ المحاكمة بين هؤلاء الفرق أن يقال : أمّا أخبار ظاهر الإسلام التي هي مستند القول الثاني فقد عرفت أنّ ما يمكن القول بدلالته منحصر في أربعة.

فلو أغمضنا عن البحث في دلالة الأول منها حيث إنّها تتضمّن استثناء الظنين الذي يشمل الفاسق كما دلّت عليه الأخبار ، فيكون المعنى : المسلم الغير الفاسق عدل ، يعني : أنّ من عُلِمَ أنّه مسلم غير فاسق ، وهذا غير مفيد للتمسّك به ـ نقول : إنّها معارضة مع رواية محمّد بن هارون المتقدّمة وهو ظاهر والمروي في تفسير الإمام ؛ حيث إنّه ظاهرٌ في كون الشهود مسلمين كما قيل (٢) بحكم التبادر ، وغلبة الإسلام في المتخاصمين عنده ، وشهودهم في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل صريح في ذلك ؛ لقوله‌

__________________

(١) تفسير العسكري عليه‌السلام : ٦٧٣ ، ٣٧٦ ، الوسائل ٢٧ : ٢٣٩ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٦ ح ١.

(٢) انظر الرياض ٢ : ٣٩٠.

١١١

« متحنّناً على أُمّته » ، ومع ذلك بعث للفحص عن أحوال الشهود ، وأخّر القضاء الذي هو واجب فوراً ، وكان ديدنه ذلك ، وقصر في الحكم على صورة الإتيان بالنبإ وذكر الفضل عنهم ، ولم يحكم في صورة الإتيان بالنبإ القبيح ، ولا في صورة عدم المعرفة ، بل رغب في الصلح وأحلف ؛ مع أنّه لو كان عدم المعرفة في الصورة الأخيرة لعدم معرفة الإسلام لم يتوقّف على معرفة القبيلة والمحلّة ، بل يكفي إقرار الشاهد بأحد الطرفين ، ولا يفيد جرح المدّعى ، فكان عليه التفتيش.

ومع مفهوم قوله : « فإذا كان كذلك » إلى قوله : « فإنّ ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين » في صحيحة ابن أبي يعفور (١).

وكذا سائر الأخبار المشترطة للصلاح أو المعروفيّة به ، وللخيريّة والمعروفيّة بها ، وغير ذلك ممّا مرّ.

والتعارض بالعموم من وجه.

فلو لم نقل بعدم حجّية أخبار ظاهر الإسلام لمخالفتها الشهرة العظيمة الجديدة والقديمة ، حتى جعلها المحقّق في الشرائع شاذّة نادرة (٢) تكون مرجوحة البتّة ؛ لندرة القائل ، وقلّة العدد ، وضعف السند في الأكثر ، وقصور الدلالة ، وموافقة العامّة ، وكون كثير من معارضاتها أحدث ، فهي راجحة قطعاً.

ولو سلّمنا عدم الترجيح فليرجع إلى الأصل ، وهو مع المعارضات.

ومنه يظهر ضعف القول الثاني جدّاً ، ووجوب رفع اليد عنه.

وأمّا القول الثالث وهو حسن الظاهر فلا شكّ أنّ لحسن الظاهر عرضاً عريضاً ، ومراتب شتّى ، فيتّصل في أحد جانبيه بمجهول الحال ،

__________________

(١) المذكورة في ص ٧٦.

(٢) الشرائع ٤ : ٧٦.

١١٢

وبمجرّد الترقّي عنه يدخل في حسن الظاهر ، ويتّصل في جانبه الآخر بمرتبة العصمة ومنزلة النبوّة والولاية ، وبمحض التنزّل عنها يدخل فيه ، وأدنى ما ثبتت كفايته من الأخبار ما دلّت عليه صحيحتا محمّد المتقدّمتين (١) ، من قبول الشهادة إذا عُلِمَ منه خير.

ولا يتوهّم أنّ العلم بالخيريّة لا يحصل إلاّ بالمعاشرة أو الشياع ؛ لأنّه إذا شاهده متردّداً إلى المسجد في مواقيت الصلاة ويصلّي فقد علم منه خيراً.

ومنها ما يدلّ على اشتراط كونه خيراً ، وهو أعلى من السابق.

ومنها ما يدلّ على اشتراط العفّة والصيانة ، أو مأمونيّة الظاهر.

ومنها ما يدلّ على اشتراط عدم الخلف في الوعد ، وعدم الكذب في الحديث ، وعدم الظلم في المعاملة. ولكنّها لا تدلّ على اشتراط جميع ذلك في ثبوت العدالة ، فلعلّها لثبوت مجموع كمال المروّة ، ووجوب الاخوّة ، وثبوت العدالة.

ومنها ما يتضمّن الثناء الجميل والفضل.

والمتضمّن للجميع صحيحة ابن أبي يعفور (٢) ، المتضمّنة لـ : أنّ الدليل على العدالة كونه ساتراً لجميع عيوبه ، معاهداً لصلواته ، حافظاً لمواقيتها ، غير متخلّف بدون علّة من جماعتها ، مشهوداً له في قبيلته ومحلّته إنّا ما رأينا منه إلاّ خيراً ، مواظباً على الصلوات ، متعاهداً لأوقاتها ؛ لأنّ بكونه ساتراً للعيوب عُلِمَ الخير ـ لأنّه خيرٌ والعفّة ، والصيانة ، ومأمونيّة الظاهر ، وبشهادة القبيلة يحصل الثناء الجميل ، وبهما وبالتعاهد للصلوات وحفظ مواقيتها يعلم الصلاح عرفاً والخيريّة.

__________________

(١) في ص ١٠٧.

(٢) المتقدّمة في ص ٧٦.

١١٣

بل يمكن أن يقال : إنّه لا يعلم صدق الصلاح والخيريّة بأدنى من ذلك ، فيتحقّق ما تتضمّنه الصحيحة بتحقّق معرفة العدالة بمقتضى جميع تلك الأخبار ولا عكس ، ويحصل التعارض بالعموم من وجه ، ولو لم يكن مرجّح لزم الاقتصار على ما يجمع جميع ما تضمّنته الأخبار ، وهو مدلول الصحيحة ؛ لأصالة عدم تحقّق العدالة وعدم ثبوت المشروط بها إلاّ مع تيقّنها ، أو ما علم معرفته به.

ولا تتعارض رواية الجلاّب (١) مع هذه الصحيحة ؛ لأنّ مقتضى الاولى : عدم ظنّ الخير إلاّ بعد أن يُعرَف منه ذلك ، ومدلول الثانية : أنّ بهذه العلامات تُعرَف العدالة.

وعلى هذا فنقول : إن كان مراد القائلين بهذا القول أنّ بمطلق حسن الظاهر تُعرَف العدالة ويُحكم بها ، فلا دليل تامّاً عليه بحيث يمكن الركون إليه.

وإن كان مرادهم أنّها تُعرَف به في الجملة كما هو الظاهر منهم فهو صحيح ، ومدلول للخبر الصحيح ، وبه ترفع اليد عن الأصل المتقدّم ، المقتضي لإيجاب المعاشرة الباطنيّة.

والظاهر أنّ بهذا القدر من حسن الظاهر يحصل الظنّ بوجود الصفة الباعثة على اجتناب الكبائر أيضاً ، كيف؟! ومعرفة كونه ساتراً لجميع عيوبه أي متّصفاً بصفة الستر والصيانة لا تحصل بدون نوع اختيار ومعاشرة.

وعلى هذا ، فيتّحد ذلك القول على ما ذكرنا مع ما اختاره الوالد العلاّمة أيضاً ، ويكون الفرق في المستند ؛ فنحن نقول به لدلالة الأخبار ، وهو لإيجابه الظنّ بالملكة ، وكون الظنّ فيه مناط الاعتبار.

__________________

(١) المتقدّمة في ص ١٠٥.

١١٤

بل يظهر من بعض مشايخنا عدم المنافاة بين القول بالمعرفة بحسن الظاهر وبين القول بالمعرفة بالمعاشرة (١) ؛ إذ لا يُعرَف كونه ساتراً مواظباً إلاّ بعد نوع معاشرة.

بل نقول : إنّا لو قلنا : إنّ مراد القائل بحسن الظاهر أنّه نفس العدالة أيضاً ، لا تكون منافاة بينه وبين القول بالملكة ؛ إذ المراد بحسن الظاهر حينئذٍ كونه مجتنباً ورعاً كافّاً نفسه عن المحارم ، ولا يراد مجرّد رؤيته كذلك ، بل يراد معرفته بهذه الأوصاف ، وهي لا تنفكّ عن الملكة ، كما مرّ بيان ذلك أيضاً.

وظهر من ذلك أنّ الحقّ بين الأقوال هو القول بالحسن الظاهر بالمعنى الذي ذكرنا ، والظاهر أنّه أيضاً مراد القائلين به ، وإليه يرجع مختار الوالد أيضاً ، بل يتّحد مع القول بالمعرفة بالمعاشرة الباطنيّة في الجملة أيضاً ، فإنّه على ما ذكرنا وإن احتاج إلى نوع اختبار ومعاشرة لكن لا يحتاج إلى المعاشرة الباطنيّة التامّة المتأكّدة المخبرة عن السريرة.

وأمّا حمل حسن الظاهر على مجرّد عدم رؤية خلل منه ولو مع عدم العلم بتمكّنه من الخلل وعدمه ، ولا معرفة أوصاف حسنة منه فهو ليس حسناً ظاهريّا ، بل مثله غير سيّ‌ء الظاهر ، ولا يكون فرق بينه وبين ظاهر الإسلام.

فروع :

أ : المراد بكونه ساتراً لجميع عيوبه أن لا يكون معلناً بمعصية لا يبالي من ظهورها ، بل كان بحيث لا يرضى بظهور معصية منه ، وكان متّصفاً بصفة الحياء ، والساتريّة للعيوب ، والاستنكاف عن نسبة المعصية إليه.

__________________

(١) كما في الرياض ٢ : ٣٩٢.

١١٥

وهل تشمل العيوب الكبائر والصغائر ، أم تختصّ بما ينافي العدالة من الكبائر والإصرار على الصغائر؟

الظاهر : العموم ، ولا يستلزم عدم نقض فعل الصغيرة للعدالة عدم نقض الإعلان بها وعدم المبالاة عن ظهورها لصفة الساتريّة ، التي هي معرّفة العدالة ، ففعلها إن كان مع المبالاة عن ظهورها لا ينقض العدالة ، وكذا مع عدم المبالاة عنه إن علمت العدالة بالمعاشرة أو الشياع أو شهادة العدلين ، وأمّا إذا لم تعلم العدالة وتوقّفت معرفته على صفة الساتريّة فيكون عدم المبالاة لذلك منافياً لوجود المعرّف.

ب : الظاهر من سياق الصحيحة (١) أنّ المراد من التعاهد للصلوات بحضور الجماعة وعدم التخلّف عن جماعتهم ليس مجرّد صلاة الجماعة ودرك هذه الفضيلة حتى يتحقّق بصلاة شخص مع أهل بيته في بيته جماعةً أو مع واحد في منزله ، حيث قال : « وأن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلاّهم » وقال : « لتركهم الحضور لجماعة المسلمين » وقال : « وقد كان فيهم من يصلّي في بيته » وهو أعمّ من الصلاة فيه منفرداً وجماعة ، وقال : « لا صلاة لمن لا يصلّي في المسجد مع المسلمين » وقال : « ومن رغب عن جماعة المسلمين ».

بل المراد : الصلاة مع المسلمين في المواضع المعدّة للصلاة جماعةً ، بمحضر أهل الإسلام.

بل يمكن أن يقال : لا صراحة فيها في كون الصلاة بالجماعة والاقتداء أيضاً ، فيمكن أن يكون المراد : الصلاة في مصلاّه في محضر المسلمين‌

__________________

(١) أي صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة في ص ٧٦.

١١٦

بجماعة أو فرادى ، وإن كان الظاهر إرادة الجماعة.

وكيف كان ، فالظاهر من سياقها أيضاً أنّ ذلك إنّما هو لمعرفة كونه مصلّياً ، كما يدلّ عليه قوله : « وليس يمكن الشهادة على الرجل بأنّه يصلّي » وقوله : « وإنّما جعل الجماعة والاجتماع » وقوله : « ولو لا ذلك لم يمكن أحد » إلى آخره.

وأنّ ذلك إنّما هو كان في تلك الأعصار التي كانت مبادئ الإسلام ، وكانت الصلاة مع النبيّ أو خلفائه ، وكان الظاهر ممّن تخلّف عن جماعتهم أي كان بحيث صدق عليه التخلّف ، أي القعود عن الجماعة متكرّراً أنّه راغب عن الجماعة ومن الصلاة ، وكان عدم الاهتمام بذلك موجباً لترك آثار الشريعة ، ولذلك لم تقبل عن بعض من يصلّي في بيته أيضاً.

وعلى هذا ، فيكون المراد : العلم بتعاهد الصلوات في مواقيتهنّ وإن لم يحضر الجماعة ؛ وذلك لأنّ ذلك لا يمكن أن يكون لأجل درك فضيلة الجماعة ؛ لأنّه ـ كما عرفت يتحقّق بدون حضور المسجد وجماعة المسلمين في مصلاّهم ، فليس إلاّ معرفة كونه مصلّياً ، كما يظهر من سياق الصحيحة أيضاً.

فإذا عُلِمَ من حال شخص أنّه يصلّي في بيته ويحفظ مواقيتهنّ يكون ذلك كافياً في المعرّفيّة ، ولو اعتبر مع ذلك عدم ترك الجماعة ولو مع أهله أو بعض آخر إلا من علّة كان أحوط.

والعلّة هل تختصّ بالمرض ، أو تشمل سائر الأعذار أيضاً ، كشغل مهم ، أو مطر ، أو حرارة ، أو نحوها؟ الظاهر : التعميم.

ولا تشترط المداومة على ذلك ، بل يكفي قدر يصدق عليه عدم التخلّف ، وهو يتحقّق بكونه كذلك في الأغلب أو كثير من الأوقات ،

١١٧

فتأمّل.

ج : هل اللاّزم في المعرفة السؤال عن قبيلته ومحلّته معاً إذا اختلف الفريقان في المحل ، أو يكفي السؤال عن إحدى الطائفتين؟

الأظهر : السؤال عن الفريقين.

وهل يشترط السؤال عن جميع القبيلة أو المحلّة ، أو يشترط السؤال عن جمع ، أو يكفي مطلق السؤال؟

ظاهر قوله : « في قبيلته ومحلّته » كفاية مطلق السؤال ، ولكنّ الظاهر من قوله : « قالوا : ما رأينا منه إلاّ خيراً » اشتراط كون المسئولين جماعة ، بل الظاهر أنّ السؤال في القبيلة والمحلّة لا يتحقّق عرفاً إلاّ بالسؤال عن جماعة منهم.

وهل تشترط عدالتهم أم لا؟

الظاهر : الثاني ، وإلاّ لما اشترطت الجمعيّة ، وللإطلاق.

المسألة الثالثة : هل يشترط في العدالة اجتناب ما يسقط المروّة أيضاً ، أم لا؟

صرّح جماعة ولعلّهم الأكثر بالاشتراط ، ومنهم : المبسوط والسرائر والوسيلة والمختلف والتحرير والقواعد والإرشاد وتهذيب الأُصول والنهاية والمنية والدروس والذكرى والمفاتيح وجامع المقاصد واللّمعة والروضة وكشف الرموز (١) ، وحكاه في الكنز عن الفقهاء (٢) ، وفي المفاتيح والبحار‌

__________________

(١) المبسوط ٨ : ٢١٧ ، السرائر ٢ : ١١٧ ، الوسيلة : ٢٣٠ ، المختلف : ٧١٨ ، التحرير ٢ : ٢٠٨ ، القواعد ٢ : ٢٣٧ ، الدروس ٢ : ١٢٥ ، الذكرى : ٢٦٧ ، المفاتيح ١ : ٢٠ ، جامع المقاصد ٢ : ٣٧٢ ، اللمعة والروضة ٣ : ١٣٠.

(٢) كنز العرفان ٢ : ٣٨٤.

١١٨

أنّه المشهور (١) ، وفي الكشف : أنّه المشهور بين الخاصّة والعامة ، ونقله في المدارك والذخيرة عن المتأخّرين (٢) ، واعتبره والدي العلاّمة رحمه‌الله.

والمحكيّ عن المفيد والعدّة ونهاية الشيخ والحلبي والقاضي وموضع من الشرائع وروض الجنان والأردبيلي والمدارك والذخيرة والبحار : عدم الاشتراط (٣) ، واختاره بعض مشايخنا المعاصرين (٤).

ثم المروّة ، فقيل : إنّها في اللغة : الإنسانيّة كما في الصحاح ، أو الرجوليّة والكمال فيها كما عن العين ومحيط اللغة ، وأنّها اصطلاحاً : هيئة نفسانيّة تحمل الإنسان على الوقوف على محاسن الأخلاق وجميل العادات (٥).

وأمّا عبارات فقهائنا فقد اختلفت في التعبير عن المراد منها ، وعمّا يسقطها بكلمات متقاربة مدلولاً ، كالتجنّب عن الأُمور الدَّنيّة ، أو عمّا لا يليق بأمثاله من المباحات ، أو عمّا يسقط العزّة عن القلوب ويدلّ على عدم الحياء وعدم المبالاة بالانتقاص ، أو عمّا يؤذن بخباثة النفس ودناءة الهمّة من المباحات والصغائر والمكروهات ، أو عمّا يُستسخَر ويُستهزَأ به لأجله ، أو هي التخلّق بخلق أمثاله في زمانه ومكانه ، ونحو ذلك.

وقد يعدّ من مخالفات المروّة : الأكل والشرب في السوق لغير سوقي إلاّ مع غلبة العطش وفي الطرقات ، والمشي مكشوف الرأس بين الناس ،

__________________

(١) المفاتيح ١ : ٢٠ ، البحار ٨٥ : ٣٠.

(٢) المدارك ٤ : ٦٧ ، الذخيرة : ٣٠٣.

(٣) المفيد في المقنعة : ٧٢٥ ، النهاية : ٣٢٥ ، الحلبي في الكافي : ٤٣٥ ، القاضي في المهذّب ٢ : ٥٥٦ ، الشرائع ٤ : ١٢٧ ، الأردبيلي في مجمع الفائدة ٢ : ٣٥٢ ، المدارك ٤ : ٦٨ ، الذخيرة : ٣٠٥ ، البحار ٨٥ : ٣٠.

(٤) كما في الرياض ٢ : ٤٢٩.

(٥) كشف اللثام ٢ : ٣٧٤.

١١٩

ومدّ الرجلين في المجالس ، والبول في الشوارع عند سلوك الخلائق ، وكثرة السخريّة ، والحكايات المضحكة ، ولبس الفقيه لباس الجندي ، وبالعكس.

واستدلّ من قال باعتبارها بالأصل.

والشهرة.

ودلالة انتفائها على نوع جنون وخبل في العقل.

أو قلّة مبالاة في الدين.

وعدم الوثوق بمن لا مروّة له ؛ لأنّه كاشف عن قلّة حيائه ، ومن لإحياء له يصنع ما شاء كما ورد في الخبر.

وعدم إطلاق العرف العادل على من لا مروّة له.

والمرويّ عن مولانا الكاظم عليه‌السلام : « لا دين لمن لا مروّة له ، ولا مروّة لمن لا عقل له » (١).

ويردّ الأول : بإطلاق الأخبار المتقدّمة.

والثاني : بعدم الحجيّة.

والثالث : بمنع الكلّية ، ولو سلّمت الدلالة في موضعٍ فالشرط هو عدم الجنون أو الخبل ، وهو مسلّم ، واشتراط التكليف والعقل يغني عنه. وإن أُريد النقصان الغير المخرج عن دائرة التكليف فلا نسلّم منافاته للعدالة.

والرابع : بأنّ المراد إن كان : أنّ كونه كذلك منافٍ لفهم كونه ساتراً للعيوب ومناقض له ويسقط مرتبة الساتريّة ، فإن كان كذلك وبلغ إلى هذا الحدّ فنسلّم منافاته للعدالة ، ولكن لا نسلّم ذلك في كلّ من لا مروّة له بالمعنى المذكور.

__________________

(١) الكافي ١ : ١٣ ، ١٢ ، تحف العقول : ٢٩٠.

١٢٠