مستند الشّيعة - ج ١٤

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٤

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-040-4
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٤٥٨

هو الظاهر ، لأنّه الذي يفوّت ربح الناس بعضهم عن بعض ، وأمّا التلقّي ففيه أيضا يرزق المتلقّي ، فلا يناسبه التعليل.

الثاني : الخروج بقصد المعاملة‌ ، فلو خرج إليهم لا لذلك واتّفق ذلك فلا بأس ، لأنّ التلقّي ـ وهو الاستقبال ـ ليس بمنهيّ عنه إجماعا مع عدم القصد إلى البيع والشراء ، وبعد حصوله لا دليل على النهي عن نفس المبايعة ، لعدم كونها تلقّيا ، وحصولها بعد التلقّي لا يجعلها من أفراده ، كما أنّ التلقّي الواقع مباحا لا يصير لحصول المبايعة بعده منهيّا عنه.

الثالث : تحقّق الخروج من البلد‌ ، أي حدوده عرفا ولو بالمسمّى ، فلو تلقّى الركب في أول وصوله إليه لم يثبت الحكم ، لقوله : « خارجا عن المصر » في رواية عروة (١).

وفيه : أنّ إطلاق غيرها كاف في ثبوت الحكم فيما يصدق عليه التلقّي ، وتوقّف صدقه على الخروج ممنوع.

وفي رواية السرائر الأولى دلالة على تحقّقه قبل إهباط السلع.

الرابع : جهل الركب بسعر البلد فيما يبيعه ويشتريه.

واستدلّ عليه تارة بالتعليل المذكور ، وقد ظهر ضعفه ، واخرى بالعلّة المستفادة من الحكم من أنّه خداع وإضرار ، وثالثة بعدم تبادر غير ذلك من الأخبار ، وضعفهما ظاهر ، فالتعميم بالنسبة إليه ـ كما في شرح القواعد (٢) وغيره ـ أقوى.

وهل يختصّ الحكم بشراء متاع الركب ، أو يعمّ البيع عليهم أيضا؟

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٦٨ ـ ١ ، الفقيه ٣ : ١٧٤ ـ ٧٧٨ ، التهذيب ٧ : ١٥٨ ـ ٦٩٧ ، الوسائل ١٧ : ٤٤٣ أبواب آداب التجارة ب ٣٦ ح ٥.

(٢) انظر جامع المقاصد ٤ : ٣٨.

٤١

فيه وجهان ، والأقرب : الثاني ، لصدق التجارة المنهيّ عنها في رواية عروة ، ولإطلاق النهي عن التلقّي مطلقا ، خرج ما لم يكن فيه معاملة أصلا بالإجماع ، فيبقى الباقي.

ومنه تعلم قوّة إلحاق غير البيع والشراء من عقود المعاملات بهما.

نعم ، يشترط بحكم الإجماع أن يكون ما وقعت عليه المعاملة ممّا كان مقصود الركب معاملته ، فلو كان معهم شي‌ء لم يكن في نظرهم بيعه فتلقّاهم متلقّ واشتراه كان جائزا ، وكذا الشراء ، ومنه بيع المأكول والمشروب منهم غير ما يحتاجون إليه في المصر ، وأمّا فيه فالحكم بالجواز مشكل.

ولا يشترط في حرمة التلقّي كون الركب قاصدين لبلد المتلقّي ، فلو كانوا قاصدين لبلد آخر وتلقّاه متلقّ من موضع آخر ولو مرّ الركب به لم يجز.

نعم ، لو لم يقصدوا بلدا معيّنا للمعاملة ، بل كان معهم سلع يريدون بيعها كلّما اتّفق ، وعرضوها على أهل كل بلد مرّوا به ، جاز لهم بيعها وإن لم يدخلوا البلد بل نزلوا خارجه ، للإجماع.

نعم ، لا يجوز لأحد من أهل تلك المنازل السبق إليهم قبل نزولهم.

ثمَّ لو خرج وباع عليهم أو اشترى منهم فهل ينعقد البيع ، أو يقع فاسدا؟

الأول ـ وهو الأقوى ـ للأكثر ، لتعلّق النهي بالخارج.

وقد يستدلّ على الصحّة أيضا بإثبات الخيار في بعض الروايات المتقدّمة ، حيث إنّ الخيار لا يكون إلاّ في البيع الصحيح.

وفيه نظر ، لأنّه إنّما يكون لو كان المعنى خيار الفسخ ، وهو غير‌

٤٢

معلوم ، ولم تثبت حقيقة شرعيّة في الخيار ، فيمكن أن يكون المراد بالخيار أنّ الأمر بيده ، فإن شاء أخذ منه وإن شاء باع عليه.

والثاني : للإسكافي (١) ، وهو ضعيف.

نعم ، يحرم أكل ما تلقّى وشراؤه ، للخبرين الثانيين (٢) ، وقد يجعل ذلك دليلا على الفساد.

وفيه : أنّه يجوز أن يكون من باب التعبّد لا لأجل الفساد.

ومنها : النجش‌ ، وهو حرام وفاقا للأكثر ، بل في المنتهى وعن المحقّق الثاني الإجماع عليه (٣) ، وفي المهذّب : ولا أعلم في تحريمه خلافا بين الأصحاب (٤).

لرواية عبد الله بن سنان المرويّة في الكافي : « الواشمة والمتوشّمة والناجش والمنجوش ملعونون على لسان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٥).

والمرويّ في معاني الأخبار للصدوق عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تناجشوا » (٦) ، ورواه في التذكرة أيضا (٧).

وهو باتّفاق اللغويين والفقهاء ـ وإن اختلفت عباراتهم ـ : الزيادة في‌

__________________

(١) حكاه عنه في المختلف : ٣٤٦.

(٢) وهما صحيحة منهال ومرسلته ، المتقدمتان في ص : ٣٨.

(٣) المنتهى ٢ : ١٠٠٤ ، المحقق الثاني في جامع المقاصد ٤ : ٣٩.

(٥) الكافي ٥ : ٥٥٩ ـ ١٣ الوسائل ١٧ : ٤٥٨ أبواب آداب التجارة ب ٤٩ ح ٢.

والوشم : أن يغرز الجلد بإبرة ، ثمَّ يحشى بكحل أو نيل ، فيزرق أثره أو يخضر.

وقد وشمت تشم وشما فهي واشمة. والمستوشمة والموتشمة : التي يفعل بها ذلك ـ نهاية ابن الأثير ٥ : ١٨٩.

(٤) المهذب البارع ٢ : ٣٦٦.

(٦) معاني الأخبار : ٢٨٤ ، الوسائل ١٧ : ٤٥٩ أبواب آداب التجارة ب ٤٩ ح ٤.

(٧) التذكرة ١ : ٥٨٤.

٤٣

ثمن المبيع مظهرا إرادة شرائه من غير إرادته ، بل أراد به محض ترغيب الغير بالثمن الغالي.

نعم ، زاد بعضهم كونه بمواطاة البائع (١).

وعلى التقديرين يكون خداعا وغشّا أيضا ، والأخبار في تحريمهما مستفيضة ، فالقول بالكراهة ـ كما نقله في الدروس عن قوم (٢) ـ لا وجه له.

ومنه يظهر التعدّي في التحريم إلى ترك الزيادة في ثمن السلعة ليشتري بالثمن القليل ، بل إلى سائر المعاوضات أيضا.

ثمَّ مع وقوع البيع معه ، فهل يصحّ ولا خيار ، كما عن المبسوط (٣)؟.

أو يصحّ وله الخيار مطلقا ، كما عن القاضي؟.

أو مع الغبن ، كالفاضلين والثانيين (٤)؟.

أو يبطل البيع إن كان من البائع ، كالإسكافي (٥)؟.

الأقوى هو : الثالث.

ومنها : الاحتكار‌ ، وهو حبس الشي‌ء انتظارا لغلائه إجماعا.

نعم ، يظهر من النهاية الأثيريّة أنّه الاشتراء والحبس (٦) ، وفي بعض الأخبار أيضا تصريح به كما يأتي.

__________________

(١) انظر المختصر النافع : ١٢٠ ، جامع المقاصد ٤ : ٣٩.

(٢) الدروس ٣ : ١٧٨.

(٣) المبسوط ٢ : ١٥٩.

(٤) المحقق في الشرائع ٢ : ٢١ ، والنافع : ١٢٠ ، العلاّمة في المنتهى ٢ : ١٠٠٤ ، والتذكرة ١ : ٥٨٤ ، والمختلف : ٣٤٦ ، المحقق الثاني في جامع المقاصد ٤ : ٣٩ ، الشهيد الثاني في المسالك ١ : ١٧٧.

(٥) حكاه عنه في المختلف : ٣٤٦.

(٦) النهاية ١ : ٤١٧.

٤٤

وأما من خصّه بالطعام فالظاهر أنّه أراد الممنوع منه شرعا.

وهو حرام ، وفاقا للصدوق في المقنع والشيخ في الاستبصار والقاضي والحلّي والحلبي في أحد قوليه والمنتهى والتحرير والتنقيح والدروس والمسالك والروضة (١).

وخلافا للشيخين في المقنعة والفقيه والمبسوط والديلمي والحلبي في قوله الآخر والشرائع والنافع والمختلف والإرشاد واللمعة ، فقالوا بالكراهة (٢).

لنا : المستفيضة ، منها : رواية حذيفة بن منصور ، وفيها : « ثمَّ قال ـ يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : يا فلان ، إنّ المسلمين ذكروا أنّ الطعام قد نفد إلاّ شيئا عندك ، فأخرجه وبعه كيف شئت ولا تحبسه » (٣).

وصحيحة الحلبي : « الحكرة : أن يشتري طعاما ليس في المصر غيره فيحتكره ، فإن كان في المصر طعام أو يباع غيره فلا بأس بأن يلتمس بسلعته الفضل » ، قال : وسألته عن الزيت ، فقال : « إن كان عند غيرك فلا بأس بإمساكه » (٤) ، دلّت بالمفهوم على ثبوت البأس ـ الذي هو العذاب ـ عند عدم الشرط.

وصحيحة الحنّاط : قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : « ما عملك؟ » ‌

__________________

(١) المقنع : ١٢٥ ، الاستبصار ٣ : ١١٥ ، نقله عن القاضي في المختلف : ٣٤٦ ، الحلبي في الكافي : ٣٦٠ ، المنتهى ٢ : ١٠٠٦ ، التحرير ١ : ١٦٠ ، التنقيح ٢ : ٤٢ ، الدروس ٣ : ١٨٠ ، المسالك ١ : ١٧٧ ، الروضة ٣ : ٢٩٨.

(٢) المقنعة : ٦١٦ ، الفقيه ٣ : ١٦٨ ، المبسوط ٢ : ١٩٥ ، الديلمي في المراسم : ١٨٢ ، الحلبي في الكافي : ٢٨٣ ، الشرائع ٢ : ٢١ ، النافع ١ : ١٢٠ ، المختلف : ٣٤٥ ، اللمعة ( الروضة ٣ ) : ٢٩٨.

(٣) الكافي ٥ : ١٦٤ ـ ٢ ، التهذيب ٧ : ١٥٩ ـ ٧٠٥ ، الاستبصار ٣ : ١١٤ ـ ٤٠٧ ، الوسائل ١٧ : ٤٢٩ ، أبواب آداب التجارة ب ٢٩ ح ١.

(٤) الكافي ٥ : ١٦٤ ـ ٣ ، الفقيه ٣ : ١٦٨ ـ ٧٤٦ ، الاستبصار ٣ : ١١٥ ـ ٤٠٩ ، الوسائل ١٧ : ٤٢٧ ـ ٤٢٨ أبواب آداب التجارة ب ٢٨ ح ١ و ٢.

٤٥

قلت : حنّاط ، وربّما قدمت على نفاق ، وربّما قدمت على كساد فحبست ، قال « فما يقول من قبلك فيه؟ » قلت : يقولون : محتكر ، قال : « يبيعه أحد غيرك؟ » قلت : ما أبيع أنا من ألف جزء جزءا ، قال : « لا بأس ، إنّما كان ذلك رجل من قريش يقال له حكيم بن حزام ، وكان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كلّه ، فمرّ عليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا حكيم بن حزام ، إيّاك أن تحتكر » (١).

ورواية القدّاح : « الجالب مرزوق والمحتكر ملعون » (٢).

ورواية السكوني : « الحكرة في الخصب أربعون يوما ، وفي البلاء والشدة ثلاثة أيّام ، فما زاد على الأربعين يوما في الخصب فصاحبه ملعون ، وما زاد في العسرة على ثلاثة أيّام فصاحبه ملعون » (٣) ورواية أخرى : « نهى أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الحكرة في الأمصار » (٤).

وثالثة : « لا يحتكر الطعام إلاّ خاطئ » (٥).

والمرويّ في نهج البلاغة في عهد كتبه أمير المؤمنين عليه‌السلام للأشتر : « فامنع من الاحتكار ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منع منه ، وليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل وأسعار لا يجحف بالفريقين من البائع والمبتاع ، فمن قارف حكرة بعد نهيك إيّاه فنكّل وعاقب » (٦).

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٦٥ ـ ٤ ، الفقيه ٣ : ١٦٩ ـ ٧٤٧ ، التهذيب ٧ : ١٦٠ ـ ٧٠٧ ، الاستبصار ٣ : ١١٥ ـ ٤١٠ ، الوسائل ١٧ : ٤٢٨ أبواب آداب التجارة ب ٢٨ ح ٣.

(٢) الكافي ٥ : ١٦٥ ـ ٦ ، الفقيه ٣ : ١٦٩ ـ ٧٥١ ، التهذيب ٧ : ١٥٩ ـ ٧٠٢ ، الاستبصار ٣ : ١١٤ ـ ٤٠٤ ، الوسائل ١٧ : ٤٢٤ أبواب آداب التجارة ب ٢٧ ح ٣.

(٣) الكافي ٥ : ١٦٥ ـ ٧ ، الفقيه ٣ : ١٦٩ ـ ٧٥٣ ، التهذيب ٧ : ١٥٩ ـ ٧٠٣ ، الاستبصار ٣ : ١١٤ ـ ٤٠٥ ، الوسائل ١٧ : ٤٢٣ أبواب آداب التجارة ب ٢٧ ح ١.

(٤) الفقيه ٣ : ١٦٩ ـ ٧٥٢ ، الوسائل ١٧ : ٤٢٦ أبواب آداب التجارة ب ٢٧ ح ٩.

(٥) الفقيه ٣ : ١٦٩ ـ ٧٤٩ ، الوسائل ١٢ : ٣١٤ أبواب آداب التجارة ب ٢٧ ح ٨.

(٦) نهج البلاغة ( محمد عبده ) ٣ : ١١٠ ، الوسائل ١٧ : ٤٢٧ أبواب آداب التجارة ب ٢٧ ح ١٣.

٤٦

وفي الخصال : « ولأن يلقى الله العبد سارقا أحبّ إلى الله من أن يلقاه وقد احتكر طعاما » (١).

وفي مجالس الشيخ بسند معتبر : « أيّما رجل اشترى طعاما فكبسه أربعين صباحا يريد به غلاء المسلمين ، ثمَّ باعه فتصدّق بثمنه ، لم يكن كفّارة لما منع » (٢).

وفي قرب الإسناد : إنّ عليّا عليه‌السلام كان ينهى عن الحكرة في الأمصار ، وقال : « ليس الحكرة إلاّ في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن » (٣).

وفي كتاب ورّام : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن جبرئيل قال : « اطّلعت في النار فرأيت واديا في جهنّم يغلي فقلت : يا مالك ، لمن هذا؟ فقال : لثلاثة : المحتكرين والمدمنين الخمر والقوّادين » (٤).

وفي طرق العامّة : « من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه » (٥).

وأيضا : « من احتكر على المسلمين لم يمت حتى يضربه الله بالجذام والإفلاس » (٦).

ويؤيّده أيضا الإجماع على إجبار المحتكر على البيع كما يأتي.

وبعض تلك الروايات وإن كان قاصرا سندا أو دلالة ، إلاّ أنّ فيها ما لا يقصر بشي‌ء منهما ، فالإيراد بالقصور ضعيف.

__________________

(١) الخصال ١ : ٢٨٨ ، الوسائل ١٧ : ١٣٧ أبواب ما يكتسب به ب ٢١ ح ٤.

(٢) أمالي الطوسي : ٦٨٧ ، الوسائل ١٧ : ٤٢٥ أبواب آداب التجارة ب ٢٧ ح ٦.

(٣) قرب الاسناد : ١٣٥ ، الوسائل ١٧ : ٤٢٦ أبواب آداب التجارة ب ٢٧ ح ٧.

(٤) الوسائل ١٧ : ٤٢٦ أبواب آداب التجارة ب ٢٧ ح ١١.

(٥) الجامع الصغير ٢ : ٥٥٦ ـ ٨٣٣٢.

(٦) سنن ابن ماجه ٢ : ٧٢٩ ـ ٢١٥٥.

٤٧

حجّة القول بالكراهة : الأصل ، وعموم السلطنة على المال ، وخصوص صحيحة الحلبي : عن الرجل يحتكر الطعام ويتربّص به ، هل يجوز ذلك؟ فقال : « إن كان الطعام كثيرا يسع الناس فلا بأس ، وإن كان قليلا لا يسع الناس فإنّه يكره أن يحتكره ويترك الناس ليس لهم طعام » (١).

وفيه : أنّ ثبوت الحقيقة الشرعيّة في الكراهة ممنوع ، وهي في اللغة أعمّ من التحريم ، والعدول إليها مع السؤال عن الجواز لا يصلح قرينة لتعيين عدم الحرمة ، والأصل والعمومات مندفعة بما ذكرنا من الأدلّة.

فروع :

أ : لا خلاف في أنّه لا يكون الاحتكار الممنوع منه إلاّ في الأطعمة ، كما أنّه لا خلاف ـ على ما قيل (٢) ـ في كونه في الحنطة والشعير والتمر والزبيب.

وإنّما الخلاف فيما عداها من الأطعمة ، فأطلق المفيد فقال : إنّ الحكرة في احتباس الأطعمة (٣).

وخصّها الحلبي بالأربعة المتقدّمة (٤).

وزاد عليها الشيخ في النهاية والحلّي والقاضي والمحقّق والعلاّمة في المنتهى والمختلف والتحرير وابن فهد في مهذّبه : السمن (٥).

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٦٥ ـ ٥ ، التهذيب ٧ : ١٦٠ ـ ٧٠٨ ، الاستبصار ٣ : ١١٥ ـ ٤١١ ، الوسائل ١٧ : ٤٢٤ أبواب آداب التجارة ب ٢٧ ح ٢.

(٢) انظر مجمع الفائدة ٨ : ٢٦ وفيه : ولعلّه لا خلاف في وجوده فيها.

(٣) المقنعة : ٦١٦.

(٤) الكافي في الفقه : ٣٦٠.

(٥) النهاية : ٣٧٤ ، الحلي في السرائر ٢ : ٢٣٨ ، نقله عن القاضي في المختلف : ٣٤٦ ، المحقق في الشرائع ٢ : ٢١ ، والنافع : ١٢٠ ، المنتهى ٢ : ١٠٠٧ ، المختلف : ٣٤٦ ، التحرير ١ : ١٦٠ ، ابن فهد في المهذب البارع ٢ : ٣٧٠.

٤٨

وزاد الصدوق في المقنع على الخمسة : الزيت (١).

وفي الدروس واللمعة على الستّة : الملح (٢).

وجعله ابن حمزة والمبسوط والقواعد والإرشاد بدلا عن الزيت (٣).

والأقوى قول الصدوق ، لموثّقة غياث بن إبراهيم المرويّة في الفقيه : « ليس الحكرة إلاّ في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت » (٤) ، وبها تقيّد إطلاقات الاحتكار أو الاحتكار في الطعام.

ويدلّ على الثبوت في الستّة أيضا المرويّ في الخصال : « الحكرة في ستّة أشياء : في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت » (٥).

وفي خصوص الزيت أيضا صحيحة الحلبي المتقدّمة (٦).

ب : يستفاد من رواية السكوني الاولى : أنّ الحكرة الممنوعة في زمان الرخص والسعة ما زاد على الأربعين يوما ، سواء احتاج الناس إلى القوت أم لا ، وفي زمان الغلاء والشدّة ما زاد على ثلاثة أيّام ، وبه أفتى الشيخ والقاضي (٧).

ومن صحيحة الحلبي الأولى : أنّها إذا لم يكن في المصر طعام ، أو لم يوجد بائع غيره. والمراد بالأول : أن لا يكون طعام للناس لا يحتاجون الى الشراء ، وبمضمونها عمل جماعة ، منهم : المحقّق في الشرائع والنافع (٨).

__________________

(١) نقله عنه في المختلف : ٣٤٦.

(٢) الدروس ٣ : ١٨٠ ، اللمعة ( الروضة ٣ ) : ٢٩٩.

(٣) ابن حمزة في الوسيلة : ٢٦٠ ، المبسوط ٢ : ١٩٥ ، القواعد ١ : ١٢٢ ، الإرشاد ١ : ٣٥٦.

(٤) الفقيه ٣ : ١٦٨ ـ ٧٤٤ ، الوسائل ١٧ : ٤٢٥ أبواب آداب التجارة ب ٢٧ ح ٤.

(٥) الخصال : ٣٢٩ ـ ٢٣ ، الوسائل ١٧ : ٤٢٦ أبواب آداب التجارة ب ٢٧ ح ١٠.

(٦) في ص ٤٥.

(٧) الشيخ في النهاية : ٣٧٤ ، نقله عن القاضي في المختلف : ٣٤٦.

(٨) الشرائع ٢ : ٢١ ، النافع : ١٢٠.

٤٩

ومن صحيحته الأخيرة : أنّها تكون مع قلّة الطعام وعدم سعته للناس ، بأن يحتاجون كلاّ أو بعضا إلى طعامه ، وبها صريح فتوى جماعة من المتأخّرين (١) ، والظاهر اتّحاده مع الثاني.

والرواية الاولى وإن كانت أخصّ مطلقا من الثانيتين ، إلاّ أنّ ضعفها ـ باعتبار مخالفتها للشهرة العظيمة ـ يمنع من تخصيصهما بها ، فالأقوى اشتراط المنع بحاجة الناس كلاّ أو بعضا إلى ما احتكره ، وإن كان قول الشيخ أحوط.

ج : صرّح جماعة بعدم الفرق بين أن يكون ما احتكره من غلّته أو اشتراه (٢).

واشترط الفاضل الاشتراء (٣) ، وهو الأصحّ ، لمفهوم الحصر في صحيحة الحلبي (٤).

واحتمال ورودها مورد الغالب منفي بالأصل ، لكونه تجوّزا ، وكذا تخصيص الحصر فيها بالنسبة إلى فقد الطعام والبائع ، وبها تقيّد إطلاقات الاحتكار وعموم العلّة لو ثبت.

د : يشترط فيها أن يكون الحبس لزيادة الثمن ، فلو أمسكه لنفقته أو الزرع فلا مانع منه ، لعدم صدق الاحتكار عليه ، لأنّه ـ كما عرفت ـ هو الحبس انتظارا للغلاء.

__________________

(١) منهم العلاّمة في التحرير : ١٦٠ ، والشهيد في الدروس ٣ : ١٨٠ ، والشهيد الثاني في الروضة ٣ : ٢٩٩.

(٢) كما في المسالك ١ : ١٧٧ ، والرياض ١ : ٥٢٢.

(٣) المنتهى ٢ : ١٠٠٧.

(٤) الكافي ٥ : ١٦٥ ـ ٥ ، التهذيب ٧ : ١٦٠ ـ ٧٠٨ ، الاستبصار ٣ : ١١٥ ـ ٤١١ ، الوسائل ١٧ : ٤٢٤ أبواب آداب التجارة ب ٢٧ ح ٢.

٥٠

وتدلّ عليه أيضا الأخبار المستفيضة الواردة في إحراز قوت السنة (١) ، وأنّه راجح مندوب إليه.

نعم ، يستحبّ مواساة الناس في الأقوات ، وبيعها وشرائها كلّ يوم مع الناس إذا كان زمان غلاء وقحط ، كما تدلّ عليه صحيحة حمّاد بن عثمان (٢) وروايتا معتب (٣).

هـ : يجبر المحتكر على البيع إجماعا حتى من القائل بالكراهة ، كما في المهذّب والتنقيح (٤) وكلام جماعة (٥). وهو ـ كما مرّ ـ من الشواهد القويّة على الحرمة ، لاستبعاد جواز الحبس ووجوب الجبر على تركه.

ثمَّ الدليل على الإجبار ـ بعد الإجماع ـ وجوب النهي عن المنكر على القول بالحرمة.

وأمّا الاستدلال برواية حذيفة المتقدّمة (٦) ورواية ضمرة : « أنّه ـ يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مرّ بالمحتكرين فأمر بحكرتهم أن يخرج إلى بطون الأسواق ، وحيث ينظر الناس إليها ، فقيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو قوّمت عليهم ، فغضب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى عرف الغضب في وجهه وقال : أنا أقوّم‌

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٤٣٤ أبواب آداب التجارة ب ٣١.

(٢) الكافي ٥ : ١٦٦ ـ ١ ، التهذيب ٧ : ١٦٠ ـ ٧٠٩ ، الوسائل ١٧ : ٤٣٦ أبواب آداب التجارة ب ٣٢ ح ١.

(٣) الاولى في : الكافي ٥ : ١٦٦ ـ ٢ ، التهذيب ٧ : ١٦١ ـ ٧١٠ ، الوسائل ١٧ : ٤٣٦ أبواب آداب التجارة ب ٣١ ح ٢.

الثانية في : الكافي ٥ : ١٦٦ ـ ٣ ، التهذيب ٧ : ١٦١ ـ ٧١١ ، الوسائل ١٧ : ٤٣٧ أبواب آداب التجارة ب ٣١ ح ٣.

(٤) المهذّب البارع ٢ : ٣٧٠ ، التنقيح ٢ : ٤٢.

(٥) منهم صاحبي الحدائق ١٨ : ٦٤ والرياض ١ : ٥٢٢.

(٦) الكافي ٥ : ١٦٤ ـ ٢ ، التهذيب ٧ : ١٥٩ ـ ٧٠٥ ، الاستبصار ٣ : ١١٤ ـ ٤٠٧ ، الوسائل ١٧ : ٤٢٩ أبواب آداب التجارة ب ٢٩ ح ١.

٥١

عليهم؟! إنّما السعر إلى الله عزّ وجلّ ، يرفعه إذا شاء ويخفضه إذا شاء » (١).

فضعيف ، لأنّ أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالبيع لا يدلّ على وجوب الأمر على غيره ، بل ولا على وجوبه عليه أيضا.

وإذ قد عرفت أنّ وجوبه من باب النهي عن المنكر لا يكون مختصّا بالإمام ، بل يجب على الكلّ.

وهل يسعّر السعر عليه ، أم لا؟

ذهب المفيد والديلمي إلى الأول (٢) ، فيسعّر عليه بما يراه الحاكم من المصلحة ، والمشهور الثاني ، لروايتي حذيفة وضمرة.

وقال ابن حمزة والفاضل والشهيد في اللمعة (٣) وجمع آخر (٤) بالتسعير مع إجحاف المالك ، وعدمه بدونه.

وقيل بالأمر بالنزول مع الإجحاف حتى يرتفع وتركه أن يبيع كيف شاء مع عدمه (٥) ، وهو الأقوى.

أمّا الأمر بترك الإجحاف معه فلوجوب كون البيع بأسعار لا يجحف ، لما نقلناه من نهج البلاغة (٦) ، وبه تخصّص الروايتان ، فيجب الأمر به من باب الأمر بالمعروف ، ولأنّه لولاه لانتفت فائدة الإجبار على البيع.

وأمّا تركه يبيع كيف شاء مع عدمه فللأصل والروايتين.

__________________

(١) الفقيه ٣ : ١٦٨ ـ ٧٤٥ ، التهذيب ٧ : ١٦١ ـ ٧١٣ ، الاستبصار ٣ : ١١٤ ـ ٤٠٨ ، الوسائل ١٧ : ٤٣٠ أبواب آداب التجارة ب ٣٠ ح ١.

(٢) المفيد في المقنعة : ٦١٦ ، الديلمي في المراسم : ١٨٢.

(٣) ابن حمزة في الوسيلة : ٢٦٠ ، الفاضل في المختلف : ٣٤٦ ، اللمعة ( الروضة ٣ ) : ٢٩٩.

(٤) منهم الشهيد في الدروس ٣ : ١٨٠ ، الفاضل المقداد في التنقيح ٢ : ٤٣ ، الكركي في جامع المقاصد ٤ : ٤٢.

(٥) الروضة ٣ : ٢٩٩.

(٦) راجع ص : ٤٦.

٥٢

المقصد الثالث

في بيان المكاسب المكروهة والمحرّمة‌

وفيه فصلان‌ :

٥٣
٥٤

الفصل الأول

فيما يكره التكسّب به‌

وهو أمور :

منها : الصرف ، وبيع الأكفان ، والطعام ، والرقيق ، والجزارة ، والصياغة‌ ، بلا خلاف في شي‌ء منها ، له.

ولرواية إسحاق بن عمّار : « لا تسلّمه صيرفيّا ، فإنّ الصيرفيّ لا يسلم من الربا ، ولا تسلّمه بيّاع الأكفان ، فإنّ صاحب الأكفان يسرّه الوبا إذا كان ، ولا تسلّمه بيّاع طعام ، فإنّه لا يسلم من الاحتكار ، ولا تسلّمه جزّارا ، فإنّ الجزارة تسلب الرحمة ، ولا تسلّمه نخّاسا ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : شرّ الناس من يبيع الناس » (١).

ورواية ابن عبد الحميد : « لا تسلّمه سبّاء ولا صائغا ولا قصّابا ولا حنّاطا ولا نخّاسا » ، قال : « فقال : يا رسول الله ، وما السبّاء؟ قال : الذي يبيع الأكفان ويتمنّى موت أمّتي » (٢).

ورواية طلحة : « نهيتها أن تجعله قصّابا أو حجّاما أو صائغا » (٣).

والأولان لا يفيدان أزيد من الكراهة ، لاحتمال الصيغة أن تكون نفيا.

__________________

(١) الكافي ٥ : ١١٤ ـ ٤ ، التهذيب ٦ : ٣٦١ ـ ١٠٣٧ ، الاستبصار ٣ : ٦٢ ـ ٢٠٨ ، علل الشرائع : ٥٣٠ ـ ١ ، الوسائل ١٧ : ١٣٥ أبواب ما يكتسب به ب ٢١ ح ١.

(٢) الفقيه ٣ : ٩٦ ـ ٣٦٩ ، التهذيب ٦ : ٣٦٢ ـ ١٠٣٨ ، الاستبصار ٣ : ٦٣ ـ ٢٠٩ ، العلل : ٥٣٠ ـ ٢ ، معاني الأخبار : ١٥٠ ـ ١ ، الخصال : ٢٨٧ ـ ٤٤ ، الوسائل ١٧ : ١٣٧ أبواب ما يكتسب به ب ٢١ ح ٤.

(٣) الكافي ٥ : ١١٤ ـ ٥ ، التهذيب ٦ : ٣٦٣ ـ ١٠٤١ ، الاستبصار ٣ : ٦٤ ـ ٢١٢ ، العلل : ٣٠ ـ ٣ ، الوسائل ١٧ : ١٣٦ أبواب ما يكتسب به ب ٢١ ح ٢.

٥٥

وأمّا الأخير فظاهر النهي فيه وإن اقتضى الحرمة ، إلاّ أنّ الإجماع منع من حمله عليها ، مضافا إلى المعارضة مع بعض أخبار أخر في الجملة ، وترك الإنكار على أرباب هذه الصناعات في جميع الأعصار والأمصار.

قيل : وظاهر هذه الأخبار كغيرها اختصاص الكراهة باتّخاذ ذلك حرفة وصنعة ، دون أن يصدر منه ذلك أحيانا (١).

وهو كذلك ، أمّا في غير بيع الرقيق فظاهر ، وأمّا فيه فقد يناقش من جهة عموم العلّة.

وفيه : أنّ المذكور في العلّة كراهة بيع الناس ، الذي هو اسم الجمع المحلّى المفيد للعموم ، وهو وإن كان غير مراد ولكن لم يثبت إرادة من يبيعه أحيانا ، فيقتصر على القدر المتيقّن.

ثمَّ بعد اختصاص الكراهة بما ذكر لا يحتاج إلى تقييد المكروه بعدم احتياج الناس إليه ، لئلاّ يلزم اجتماع المكروه مع الواجب العيني أو الكفائي ، لعدم مماسّة الحاجة إلى اتّخاذ ذلك حرفة.

والظاهر أنّ المراد ببيّاع الطعام : بيّاع الحنطة ، لأنّ الطعام في لغة العرب هو الحنطة ، كما بيّنوه في بيان حلّية طعام أهل الكتاب ، ويؤكّده التعليل بعدم السلامة من الاحتكار ، والتخصيص بالحنّاط في الرواية الثانية.

والمراد ببيّاع الحنطة ـ كما مرّ ـ : من اتّخذ ذلك حرفة ، فلا بأس ببيع الزارع للحنطة ما يفضل عن قدر حاجته ، ولو تكرّر ذلك منه ، بل اتّخذ حرفته الزراعة ويبيع الفاضل ، لأنّ ذلك يسمّى زارعا لا بيّاع الحنطة.

ومنها : الحياكة‌ ، لقول أمير المؤمنين عليه‌السلام للأشعث بن قيس : « حائك‌

__________________

(١) الحدائق ١٨ : ٢٢٨.

٥٦

ابن حائك ، منافق بن كافر » (١).

وفي بعض الأخبار : « لا ينجب الحائك إلى سبعة بطون ».

ورواية الصيقل : جعلت فداك ، تغزلهما أمّ إسماعيل وأنسجهما أنا ، فقال لي : « حائك؟ » فقلت : نعم ، قال : « لا تكن حائكا » (٢).

ويستفاد من ذلك اتّحاد النساجة والحياكة ، كما صرّح في الصحاح وغيره (٣) ، فتعمّ الكراهة كلّ النسج من الغزل والإبريسم ، كما في التذكرة ، حيث عطف النساجة على الحياكة (٤).

قيل : الكراهة والرذالة مختصّتان بوقت كونهما حرفة ، فلو تركهما زالتا (٥). وبه تشعر رواية الصيقل.

ومنها : الحجامة إذا شرط الأجرة ، لرواية أبي بصير : عن كسب الحجّام ، فقال : « لا بأس به إذ لم يشارط » (٦).

وموثّقة سماعة : « السحت أنواع كثيرة ، منها : كسب الحجّام إذا شارط » (٧).

ونحوها موثّقته الأخرى (٨) ، إلاّ أنّه ليست فيها الجملة الشرطيّة.

__________________

(١) نهج البلاغة ( محمد عبده ) ١ : ٥١.

(٢) الكافي ٥ : ١١٥ ـ ٦ ، التهذيب ٦ : ٣٦٣ ـ ١٠٤٢ ، الاستبصار ٣ : ٦٤ ـ ٢١٣ ، الوسائل ١٧ : ١٤٠ أبواب ما يكتسب به ب ٢٣ ح ١.

(٣) الصحاح ٤ : ١٥٨٢ ، وانظر القاموس المحيط ٣ : ٣١٠.

(٤) التذكرة ١ : ٥٨١.

(٥) انظر التذكرة ١ : ٥٨١ ، الحدائق ١٨ : ٢٢٨.

(٦) الكافي ٥ : ١١٥ ـ ١ ، التهذيب ٦ : ٣٥٤ ـ ١٠٠٨ ، الاستبصار ٣ : ٥٨ ـ ١٩٠ ، الوسائل ١٧ : ١٠٤ أبواب ما يكتسب به ب ٩ ح ١.

(٧) الكافي ٥ : ١٢٧ ـ ٣ الوسائل ١٧ : ٩٢ أبواب ما يكتسب به ب ٥ ح ٢.

(٨) التهذيب ٦ : ٣٥٥ ـ ١٠١٣ ، الوسائل ١٧ : ٩٣ أبواب ما يكتسب به ب ٥ ح ٦.

٥٧

والبأس والسحت وإن كانا موجبين للحرمة ، إلاّ أنّ الإجماع على عدمها ـ مضافا إلى بعض الروايات ـ أوجب حملهما على الكراهة.

ثمَّ إنّ إطلاق الموثّقة الأخيرة وإن اقتضى الكراهة مطلقا ، إلاّ أنّه لا بدّ من تقييدها بها ، لمفهوم الاولى للأصل.

فالقول بالكراهة مطلقا ـ كاللمعة (١) ، لإطلاق الموثّقة الأخيرة ـ غير سديد ، كالقول بعدم الكراهة كذلك ، لرواية حنّان : دخلنا على أبي عبد الله عليه‌السلام ومعنا فرقد الحجّام ، قال : جعلت فداك ، إنّي أعمل عملا وقد سألت عنه غير واحد ولا اثنين فزعموا أنّه عمل مكروه ، فأنا أحبّ أن أسألك عنه ، فإن كان مكروها انتهيت عنه ـ إلى أن قال ـ : « وما هو؟ » قال : حجّام ، قال : « كل من كسبك يا ابن أخ ، وتصدّق وحجّ منه ، وتزوّج ، فإنّ نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد احتجم وأعطى الأجر ، ولو كان حراما ما أعطاه » ، قال : جعلني الله فداك ، إنّ لي تيسا (٢) أكريه فما تقول في كسبه؟ قال : « كل من كسبه فإنّه لك حلال والناس يكرهونه » ، قال حنّان : قلت : لأيّ شي‌ء يكرهونه وهو حلال؟ قال : « لتعيير الناس بعضهم بعضا » (٣).

لإجمال الرواية من حيث المراد من الكراهة ، إذ يحتمل أن يكون المراد بالكراهة فيها المعنى المصطلح ، وبالحرام الكراهة ، ويحتمل العكس ، ويؤيده التعليل كما قيل.

ثمَّ كراهة التكسّب وإن اختصّت بصورة الشرط لما مرّ ، إلاّ أنّه يمكن‌

__________________

(١) اللمعة ( الروضة ٣ ) : ٢١٩.

(٢) التيس : الذكر من المعز ، والجمع : أتياس وأتيس ، والجمع الكثير : تيوس ـ لسان العرب ٦ : ٣٣.

(٣) الكافي ٥ : ١١٥ ـ ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٥٤ ـ ١٠٠٩ ، الاستبصار ٣ : ٥٨ ـ ١٩١ ، الوسائل ١٧ : ١٠٥ أبواب ما يكتسب به ب ٩ ح ٥.

٥٨

القول بكراهة الأكل من كسبه مطلقا ، لإطلاق صحيحة الحلبي : عن كسب الحجّام ، فقال : « لك ناضح (١)؟ » فقال : نعم ، فقال : « اعلفه إيّاه ولا تأكله » (٢).

والحكمان مخصوصان بالحجّامة ، فلا يتعدّيان إلى الفصد (٣) ، للأصل.

ومنها : ضراب الفحل بأن يؤاجره لذلك‌ ، للمرسل : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عسيب الفحل ، وهو اجرة الضراب » (٤) ، وحمل على التنزيه ، للإجماع.

ولصحيحة ابن عمّار : عن أجر التيوس ، قال : « إن كانت العرب لتعاير به فلا بأس » (٥) ، ورواية حنّان المتقدّمة.

وظاهر هذه الأخبار كراهة أخذ الأجر مطلقا بجعل وإجارة ، والتخصيص بالأجرة غير ظاهر.

ومنها : التكسّب بما يكتسب به الصبيان بنحو الاحتطاب والاحتشاش فيما لم تعلم الإباحة أو الحرمة‌ ، أي يكره للولي أن ينقله إلى نفسه أو غيره أو يتصرّف فيه بالتصرّفات الجائزة ، وأما بالواجبة ـ كحفظه من التلف ، أو صرفه فيما يحتاج إليه الصغير ـ فواجب.

وكذا يكره لغير الولي بأن يشتريه من الولي.

وكذا يكره التكسّب بما يكتسب به كلّ من يعلم عدم اجتنابه من المحرّمات ، كالعشّار والظلمة والمعاملين معهم في أموالهم المحرّمة ، بل‌

__________________

(١) الناضح : البعير يستقى عليه ـ الصحاح ١ : ٤١١.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٥٦ ـ ١٠١٤ ، الاستبصار ٣ : ٦٠ ـ ١٩٦ ، الوسائل ١٧ : ١٠٤ أبواب ما يكتسب به ب ٩ ح ٢.

(٣) الفصد : قطع العرق ـ الصحاح ٢ : ٥١٩.

(٤) الفقيه ٣ : ١٠٥ ـ ٤٣٣ ، الوسائل ١٧ : ١١١ أبواب ما يكتسب به ب ١٢ ح ٣.

(٥) الكافي ٥ : ١١٦ ـ ٥ ، التهذيب ٦ : ٣٥٥ ـ ١٠١٢ ، الاستبصار ٣ : ٥٩ ـ ١٩٤ ، الوسائل ١٧ : ١١١ أبواب ما يكتسب به ب ١٢ ح ٢ ، بتفاوت يسير.

٥٩

المشتبهة ، بل كلّ من لا يؤمن عنه في اجتنابه عن المحرّمات ، بل عن المشتبهات ، لصدق الشبهة المستحبّ اجتنابها بالمستفيضة على الجميع.

ولفحوى رواية السكوني : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كسب الإماء ، فإنّها إن لم تجد زنت ، إلاّ أمة قد عرفت بصنعة يد ، ونهى عن كسب الغلام الصغير الذي لا يحسن صناعة بيده ، فإنّه إن لم يجد سرق » (١).

والمراد : أنّهما مظنّتان لذلك ، فيسري الحكم إلى كلّ من هو مظنّة لأخذ كلّ محرّم ، بضميمة الإجماع المركّب.

والتخصيص المصرّح به فيها محمول على شدّة الكراهة ، وإلاّ فيكره في غير محلّ التخصيص مع عدم الاطمئنان أيضا ، لما ذكر ، ولعلّه تتفاوت مراتب الكراهة بتفاوت المظنّة.

ومنها : أخذ الأجرة على تعليم القرآن‌ ، لرواية حسّان : عن التعليم ، فقال : « لا تأخذ على التعليم أجرا » قلت : الشعر والرسائل وما أشبه ذلك أشارط عليه؟ قال : « نعم ، بعد أن يكون الصبيان عندك سواء في التعليم لا تفضّل بعضهم على بعض » (٢).

ورواية الأعشى : إنّي أقرئ القرآن فتهدى إليّ الهديّة فأقبلها؟ قال : « لا » قلت : إن لم أشارطه؟ قال : « أرأيت أن لو لم تقرئ كان يهدى لك؟ » قال : قلت : لا ، قال : « فلا تقبله » (٣).

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٢٨ ـ ٨ ، التهذيب ٦ : ٣٦٧ ـ ١٠٥٧ ، الوسائل ١٧ : ١٦٣ أبواب ما يكتسب به ب ٣٣ ح ١.

(٢) الكافي ٥ : ١٢١ ـ ١ ، التهذيب ٦ : ٣٦٤ ـ ١٠٤٥ ، الاستبصار ٣ : ٦٥ ـ ٢١٤ ، الوسائل ١٧ : ١٥٤ أبواب ما يكتسب به ب ٢٩ ح ١.

(٣) الفقيه ٣ : ١١٠ ـ ٤٦٢ ، التهذيب ٦ : ٣٦٥ ـ ١٠٤٨ ، الاستبصار ٣ : ٦٦ ـ ٢١٩ ، الوسائل ١٧ : ١٥٥ أبواب ما يكتسب به ب ٢٩ ح ٤ ، بتفاوت يسير.

٦٠