مستند الشّيعة - ج ١٤

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٤

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-040-4
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٤٥٨

ينفيه ، وإن أراد في التحريم ففيه تفصيل يأتي.

ثمَّ إنّه لا ريب في حرمة الغيبة ، ويدلّ عليها الإجماع ، والكتاب ، والسنّة.

قال الله سبحانه مخاطبا للذين آمنوا ( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) (١).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إيّاكم والغيبة ، فإنّ الغيبة أشدّ من الزنا ، فإنّ الرجل قد يزني فيتوب الله عليه ، وإنّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه » (٢).

وعن الصادق عليه‌السلام : « الغيبة حرام على كلّ مسلم » (٣).

وفي مرسلة ابن أبي عمير : « من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله عزّ وجلّ ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ ) » (٤).

ورواية السكوني : « الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الآكلة في جوفه » (٥).

ورواية الحسين بن زيد : « ونهى عن الغيبة ، وقال : من اغتاب إمرءا مسلما بطل صومه ونقض وضوءه ، وجاء يوم القيامة تفوح من فيه رائحة أنتن من الجيفة ، يتأذّى بها أهل الموقف ، فإن مات قبل أن يتوب مات‌

__________________

(١) الحجرات : ١٢.

(٢) أمالي الطوسي : ٥٤٨ ، الوسائل ١٢ : ٢٨٠ أبواب أحكام العشرة ب ١٥٢ ح ٩.

(٣) مصباح الشريعة : ٢٠٤ ، وعنه في البحار ٧٢ : ٢٥٧ ـ ٤٨.

(٤) الكافي ٢ : ٣٥٧ ـ ٢ ، الوسائل ١٢ : ٢٨٠ أبواب أحكام العشرة ب ١٥٢ ح ٦ ، والآية : النور : ١٩.

(٥) الكافي ٢ : ٣٥٦ ـ ١ ، الوسائل ١٢ : ٢٨٠ أبواب أحكام العشرة ب ١٥٢ ح ٧.

١٦١

مستحلاّ لما حرّمه الله تعالى » (١).

وفي خطبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « معاشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه ، لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتّبعوا عوراتهم » (٢).

وفي رواية : « كذب من زعم أنّه ولد حلال وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة » (٣).

والمستفاد من إطلاق رواية السكوني وما بعدها وما في معناها وإن كان حرمة غيبة المخالف أيضا ، إلاّ أنّ صريح جماعة التخصيص بالمؤمن (٤) ، بل نفى بعضهم الريب عنه (٥) ، فتجوز غيبة المخالف ، وهو كذلك.

لصحيحة داود بن سرحان : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم ، وأكثروا من سبّهم والقول فيهم والوقيعة ، وباهتوهم ، كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ، ويحذرهم الناس ولا يتعلّموا من بدعهم ، يكتب الله لكم بذلك الحسنات ، ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة » (٦).

والوقيعة : الغيبة ، قال في مجمع البحرين : وقع في الناس وقيعة :

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٨ ـ ١ ، الوسائل ١٢ : ٢٨٢ أبواب أحكام العشرة ب ١٥٢ ح ١٣.

(٢) الكافي ٢ : ٣٥٤ ـ ٢ ، المحاسن : ١٠٤ ـ ٨٣ ، عقاب الأعمال : ٢٤١ ، الوسائل ١٢ : ٢٧٥ أبواب أحكام العشرة ب ١٥٠ ح ٣ ، بتفاوت في الجميع.

(٣) أمالي الصدوق : ١٧٤ ـ ٩ ، الوسائل ١٢ : ٢٨٣ أبواب أحكام العشرة ب ١٥٢ ح ١٦.

(٤) منهم المحقق في الشرائع ٢ : ١٠ والعلامة في المنتهى ٢ : ١٠١٣ والشهيد الثاني في المسالك ١ : ١٦٦.

(٥) كما في الرياض ١ : ٥٠٣.

(٦) الكافي ٢ : ٣٧٥ ـ ٤ ، الوسائل ١٦ : ٢٦٧ أبواب الأمر والنهي ب ٣٩ ح ١.

١٦٢

اغتابهم (١).

ويؤيّده اختصاص أكثر الأخبار الواردة في طرقنا بالمؤمن أو الأخ في الدين (٢) ، ودعوى الإيمان والأخوّة للمخالف ممّا يقطع بفساده.

وتؤكّده النصوص المتواترة الواردة عنهم في طعنهم ولعنهم وتكفيرهم ، وأنّهم شرّ من اليهود والنصارى وأنجس من الكلاب (٣).

فتأمّل نادر ممّن تأخّر ضعيف كتمسّكه بإطلاق الكتاب (٤) ، لاختصاص الخطاب بأهل الإيمان ، وكون المخالفين منهم ممنوع ، واقتضاء التعليل بما تضمّن الاخوّة اختصاص الحكم بمن ثبت له الصفة.

مضافا إلى أنّ تعدية خطاب المشافهة إلى الغائبين تحتاج إلى اتّحاد الوصف ، ولا ريب في تغايره.

فروع :

أ : ذكر جماعة (٥) ـ منهم : والدي رحمه‌الله في جامع السعادات (٦) ـ أنّ الغيبة لا تنحصر باللسان ، بل كلّما يفهم نقصان الغير ويعرّف ما يكرهه فهو غيبة ، سواء كان بالقول ، أو الفعل ، أو التصريح ، أو التعريض ، أو الإشارة ، أو الإيماء ، أو الغمز ، أو الرمز ، أو الكتابة ، أو الحركة.

__________________

(١) مجمع البحرين ٣ : ٤٠٨.

(٢) الوسائل ١٢ : ٢٧٨ أبواب أحكام العشرة ب ١٥٢.

(٣) الوسائل ١٦ : ١٧٦ أبواب الأمر والنهي ب ١٧.

(٤) مجمع الفائدة ٨ : ٧٦.

(٥) كالعلامة في القواعد ٢ : ٤٦ والمحقق الثاني في جامع المقاصد ٤ : ٢٧ والشهيد الثاني في الروضة ٣ : ٣١٤.

(٦) جامع السعادات ٢ : ٣٠٥.

١٦٣

أقول : لا شكّ فيه إذا كان بالتعريض بالقول ، لصدق القول والذكر ، وأمّا في البواقي فاستدلّ عليه بأنّ الذكر باللسان غيبة محرّمة ليفهمه الغير نقصان أخيك ، لا لكون المفهم لسانا.

مضافا في الإيماء والحركة إلى ما روي : أنّه دخلت امرأة قصيرة على عائشة ، فلمّا ولّت أومأت بيدها ـ أي هي قصيرة ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قد اغتبتها » (١).

مع أنّ القلم أحد اللسانين.

وفي الكلّ نظر ، لكون العلّة مستنبطة ، والرواية ضعيفة ، والعبارة غير ثابتة ممّن كلامه حجّة ، ولفظ البثّ في صحيحة داود (٢) وإن اقتضى التعميم ، إلاّ أنّ صدر الصحيحة ورواية عبد الرحمن (٣) يخصّصها بالقول ، وهو الأظهر.

ب : قال والدي في جامع السعادات : ذكر مصنّف في كتابه فاضلا معيّنا وتهجين كلامه بلا اقتران شي‌ء من الأعذار المحوجة إلى ذكره غيبة (٤).

وفي كونه غيبة نظر ، وإن كان محرّما لكونه إيذاء.

ج : قال والدي ـ رحمه‌الله ـ في الكتاب المذكور : الغيبة إنّما تحرم إذا قصد بها هتك عرضه أو إضحاك الناس منه ، وأمّا إذا كان ذلك لغرض صحيح لا يمكن التوصّل إليه إلاّ به فلا تحرم (٥).

وفي إطلاقه نظر ، والظاهر الاقتصار في الجواز فيما ورد في جوازه‌

__________________

(١) مسند أحمد ٦ : ١٣٦.

(٢) المتقدّمة في ص : ١٦٠.

(٣) المتقدّمة في ص : ١٥٩.

(٤) جامع السعادات ٢ : ٣٢٣.

(٥) جامع السعادات ٢ : ٣٢٠.

١٦٤

رخصة خصوصا أو عموما ، كما يأتي وجهه.

د : النقص ـ كما صرّح به والدي (١) ـ أعمّ من أن يكون في بدنه ، أو أخلاقه ، أو أفعاله ، أو أقواله المتعلّقة بدينه أو دنياه ، بل في ثوبه ، أو داره ، أو دابّته ، وأمثال ذلك.

ثمَّ إنّه استثنيت من الغيبة المحرّمة مواضع :

الأول : الفاسق مطلقا إذا كان مصرّا على فسقه‌ ، استثناه بعضهم ، بل ظاهر مجمع البحرين أنّه المشهور ، قال : المنع من غيبة الفاسق المصرّ ـ كما يميل إليه كلام بعض من تأخّر ـ ليس بالوجه (٢).

ويدلّ عليه ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قال : « قولوا في الفاسق ما فيه كي يحذره الناس » (٣).

وعنه أيضا : أنّه قال : « لا غيبة لفاسق » (٤).

والحمل على النهي بعيد ، وينفيه بعض الأخبار الآتية ، ولكن ضعف الروايتين وعدم ثبوت الشهرة الجابرة يمنع الحكم بمقتضاهما.

نعم ، في موثّقة سماعة : « من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدّثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، كان ممّن حرمت غيبته ، وكملت مروّته ، وظهر عدله ، ووجبت اخوّته » (٥).

وفي موثّقة أبي بصير : أنّه : « استأذن على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وكان عند‌

__________________

(١) جامع السعادات ٢ : ٣٠٣.

(٢) مجمع البحرين ١ : ١٣٦.

(٣) تفسير القرطبي ١٦ : ٣٣٩.

(٤) مستدرك الوسائل ٩ : ١٢٩ أبواب أحكام العشرة ب ١٣٤ ح ٦ ، ورواه في غوالي اللئالي ١ : ٤٣٨ ـ ١٥٣.

(٥) الكافي ٢ : ٢٣٩ ـ ٢٨ ، الوسائل ١٢ : ٢٧٨ أبواب أحكام العشرة ب ١٥٢ ح ٢.

١٦٥

عائشة ـ رجل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بئس أخو العشيرة ، فقامت عائشة فدخلت البيت ، فأذن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما دخل أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوجهه وبشره اليه يحدّثه ، حتى إذا فرغ وخرج من عنده قالت عائشة : يا رسول الله ، بينا أنت تذكر هذا الرجل بما ذكرته به إذ أقبلت عليه بوجهك وبشرك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ذلك : إنّ من شرار عباد الله من يكره مجالسته لفحشه » (١).

ولكن جواز كون المنفيّ بالمفهوم في الأولى مجموع الأربعة ، والرجل في الثانية كافرا أو بالفسق مجاهرا ، يمنع من إثباتهما الحكم.

الثاني : المجاهر بالفسق المعلن له‌ ، وقد استثناه جماعة (٢).

وتدلّ عليه روايات أبان وعبد الرحمن وصحيحة داود بن سرحان المتقدّمة (٣).

مضافة إلى صحيحة هارون بن الجهم المرويّة في مجالس الصدوق : « وإذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة » (٤).

واحتمال النهي ـ مع كونه بعيدا ـ ينفيه العطف على الحرمة والشرط.

وتؤيّده رواية ابن أبي يعفور : « لا غيبة لمن صلّى في بيته ورغب عن جماعتنا ، ومن رغب عن جماعة المسلمين وجبت على المسلمين غيبته » (٥).

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٢٦ ـ ١ ، وأورد ذيله في الوسائل ١٦ : ٣٠ أبواب جهاد النفس ب ٧٠ ح ٥.

(٢) منهم العلاّمة في القواعد ٢ : ١٤٨ ، الشهيد الثاني في الروضة ٣ : ٢١٤ ، السبزواري في الكفاية : ٨٧.

(٣) في ص : ١٥٩ ، ١٦٢.

(٤) أمالي الصدوق : ٤٢ ـ ٧ ، الوسائل ١٢ : ٢٨٩ أبواب أحكام العشرة ب ١٥٤ ح ٤.

(٥) التهذيب ٦ : ٢٤١ ـ ٥٩٦ ، الاستبصار ٣ : ١٢ ـ ٣٣ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٢ أبواب الشهادات ب ٤١ ح ٢.

١٦٦

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له » (١).

لا يقال : إنّ تعارض الأخبار المجوّزة مع الأخبار الناهية عن غيبة المؤمن والمسلم بالعموم من وجه ، والترجيح للناهية بموافقة الكتاب.

فإنّا نقول : إنّ هذا إذا علم عموم الكتاب للمجاهر بالفسق أيضا ، وهو غير معلوم ، لأنّ الخطاب للمشافهين ، وكون واحد منهم مجاهرا بالفسق لم يعلم ، بل هو بالأصل مدفوع ، فإثبات الحكم للمجاهر بالشركة غير جائز.

ومقتضى الروايتين والصحيحة المتقدّمة وإن كان اختصاص الجواز بما جاهر وتظاهر به ، وعدم التعدّي إلى غيره من الأسواء ـ كما هو المصرّح به في كلام جماعة (٢) ـ إلاّ أنّ مقتضى البواقي التعميم ، فعليه الفتوى.

الثالث : من كان معروفا باسم يعرب عن غيبته.

وتدلّ عليه ـ بعد عمل العلماء ـ الروايتان ، والصحيحة المتقدّمة ، بل مقتضاها استثناء كلّ عيب عرفه الناس ولو لم يعرف به ، ولكنّ المستفاد منها عدم كون ذلك غيبة ، لا عدم الإثم عليه لو كان ممّا يكره صاحبه لو سمعه ، فيحرم لو كان كذلك ، لعمومات حرمة الإيذاء وإظهار العيوب (٣).

الرابع : إذا علم اثنان من رجل عيبا فذكره أحدهما عند الآخر‌ ، استثناه بعضهم (٤) ، وهو تخصيص للعمومات من غير حجّة ، ورواية أبان (٥)

__________________

(١) الاختصاص ( مصنفات الشيخ المفيد ١٢ ) : ٢٤٢ ، مستدرك الوسائل ٩ : ١٢٩ أبواب أحكام العشرة ب ١٣٤ ح ٣.

(٢) منهم الشهيد في القواعد والفوائد ٢ : ١٤٨.

(٣) الوسائل ٨ : ٦٠٨ أبواب أحكام العشرة ب ١٥٧.

(٤) انظر القواعد والفوائد ٢ : ١٥١.

(٥) الكافي ٢ : ٣٥٨ ـ ٦ ، الوسائل ١٢ : ٢٨٩ أبواب أحكام العشرة ب ١٥٤ ح ٣.

١٦٧

غير مفيدة ، لأنّه لم يعرفه الناس.

الخامس : التظلّم عند من يرجو إزالة ظلمه‌ ، لبعض الروايات ، ولتوقّف دفع الظلم المجوّز إجماعا عليه.

السادس : ما كان متعلّقه ـ أعني المقول فيه ـ غير معيّن‌ ، نحو : بعض الناس كذا ، و : بعض أهل البصرة كذا ، أو : رأيت شخصا كذا ، لعدم ظهور الأخبار الناهية في مثل ذلك ، وللإجماع ، ولورود مثله في كلمات الأطهار.

السابع : ما كان متعلّقه غير معروف عند السامع.

الثامن : ما كان متعلّقه غير محصور. وفي استثنائهما نظر ظاهر ، بل الحرمة فيهما أظهر.

التاسع : الجرح والتعديل للشاهد والراوي‌ ، لعمل العلماء ، وأخبار التذكية المعارضة لمحرّمات الغيبة ، فيرجع إلى الأصل.

ومنه يعلم استثناء كلّ ما وردت في جوازه أو وجوبه حجّة خاصّة أو عامة مكافئة لأدلّة حرمة الغيبة ، كالاستفتاء ، ونصح المستشير ، وتحذير المسلم من الوقوع في الخطر والشرّ ، والشهادة على فاعل المحرّم حسبة وأمثالها.

ومنها : غشّ الناس‌ ، وهو حرام بلا خلاف فيه ظاهرا ، وفي المنتهى التصريح به (١) ، للصحاح المستفيضة وغيرها.

ففي صحيحة هشام بن سالم : « ليس من المسلمين من غشّهم » (٢).

وصحيحة هشام بن الحكم ـ كما في الفقيه ـ وحسنته ـ كما في‌

__________________

(١) المنتهى ٢ : ١٠١٢.

(٢) الكافي ٥ : ١٦٠ ـ ٢ ، التهذيب ٧ : ١٢ ـ ٤٩ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٩ أبواب ما يكتسب به ب ٨٦ ح ٢.

١٦٨

الكافي والتهذيب ـ : « البيع في الظلال غشّ ، والغشّ لا يحل » (١).

ومرسلة عبيس : « إيّاك والغشّ » (٢).

ومرسلة الفقيه : « ليس منّا من غشّ مسلما » (٣).

واخرى : « من غشّ المسلمين حشر مع اليهود يوم القيامة » (٤).

وثالثة : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزينب العطّارة : إذا بعت فأحسني ولا تغشّي » (٥).

وفي عقاب الأعمال : « من غشّ مسلما في بيع أو شراء فليس منّا ، ويحشر مع اليهود يوم القيامة » (٦) إلى غير ذلك.

ثمَّ الغشّ خلاف النصح والخلوص ، أو إظهار خلاف ما أضمر ، وحصوله في المعاملات إنّما يكون إذا كان في المبيع نقص ورداءة ، وله صور.

وتوضيح المقام : أنّ النقص الذي يمكن أن يتحقّق فيه الغشّ يتصوّر على وجوه ، لأنّ سببه إمّا يكون مزج المبيع بغير جنسه ـ كاللبن بالماء ـ أو بجنسه ـ كالجيّد بالردي ـ أو بغير المزج.

وهو قد يكون بعيب فيه أخفاه بإبداء وصف يستره ، أو عدم إظهاره‌

__________________

(١) الفقيه ٣ : ١٧٢ ـ ٧٧٠ ، الكافي ٥ : ١٦٠ ـ ٦ ، التهذيب ٧ : ١٣ ـ ٥٤ ـ ووجه كونها حسنة فيهما وجود إبراهيم بن هاشم في السند وهو إمامي ممدوح ـ الوسائل ١٧ : ٢٨٠ أبواب ما يكتسب به ب ٨٦ ح ٣.

(٢) الكافي ٥ : ١٦٠ ـ ٤ ، التهذيب ٧ : ١٢ ـ ٥١ ، الوسائل ١٧ : ٢٨١ أبواب ما يكتسب به ب ٨٦ ح ٧.

(٣) الفقيه ٣ : ١٧٣ ـ ٧٧٦ ، ٧٧٧ ، الوسائل ١٧ : ٢٨٢ أبواب ما يكتسب به ب ٨٦ ح ١٠.

(٤) الفقيه ٣ : ١٧٣ ـ ٧٧٦ ، ٧٧٧ ، الوسائل ١٧ : ٢٨٢ أبواب ما يكتسب به ب ٨٦ ح ١٠.

(٥) الفقيه ٣ : ١٧٣ ـ ٧٧٥ ، الوسائل ١٧ : ٢٨١ أبواب ما يكتسب به ب ٨٦ ح ٦.

(٦) عقاب الأعمال : ٢٨٤ ، الوسائل ١٧ : ٢٨٣ أبواب ما يكتسب به ب ٨٦ ح ١١.

١٦٩

مع كونه مستورا.

وقد يكون بتغييره عمّا هو في الواقع إلى الأدنى لمصلحة نفسه ، كبلّ اليابس لزيادة الوزن.

وقد يكون بالتباس السلعة بأن يزعم الردي‌ء الجيّد ، كأن يبيع لبن البقر مكان لبن المعز.

ثمَّ على جميع التقادير : إمّا يكون النقص خفيّا حال المعاملة عرفا ، أو غير خفيّ ، بل يكون ممّا يعرف غالبا.

وعلى الأول : إمّا يكون ممّا يظهر النقص حال المعاملة بالفحص ، ويكون خفاؤه لتقصير المشتري ، أو لا يظهر بالفحص.

وعلى الثاني : إمّا يعلم تفطّن المشتري به ، أو عدم تفطّنه ، أو لا يعلم.

وعلى التقادير : إمّا يبيعه على ما هو المتعارف في الخالي عن النقص من السعر ، أو على ما يتعارف مع النقص.

وعلى التقادير : إمّا يكون حصول النقص بفعل البائع بقصد الغشّ ، أو لا.

وعلى التقادير : إمّا يظهر من البائع عدم النقص قولا أو فعلا ، أو يظهر النقص ، أو لا يظهر شي‌ء منهما.

فإن أظهر عدم النقص ارتكب المحرّم مطلقا ، لكونه كذبا مطلقا ، وغشّا أيضا في صور عدم تفطّن المشتري.

وإن أظهر النقص لم يرتكب محرّما أصلا ، بالإجماع والمستفيضة.

وإن لم يظهر شيئا منهما فلا حرام مع تفطّن المشتري ، بل مع عدم‌

١٧٠

العلم بعدم تفطّنه ، وإن علم عدم تفطّنه فالظاهر الحرمة أيضا ، لكونه خلاف النصح الواجب بالأخبار المستفيضة ، إلاّ إذا باعه بسعر الردي‌ء ولم يتضرّر به المشتري.

ثمَّ البيع صحيح في جميع تلك الصور ، لتعلّق النهي بالغشّ ، وهو غير البيع ، لأنّه يتحقّق بإظهار خلاف ما أضمر أو ترك النصح ، وكلاهما غير البيع.

ولا يضرّ ظنّ المشتري اتّصافه بخلاف ما هو كذلك فلا يقصد ذلك ، لأنّ ثبوت خيار الرؤية بالأخبار (١) والإجماع يدلّ على عدم اعتبار ذلك في الصحة.

ومنها : تدليس الماشطة بإظهارها في المرأة محاسن ليست فيها لترويج كسادها ، بلا خلاف ، بل عليه الإجماع في بعض العبارات (٢) ، لكونه غشّا. ومنه يظهر انسحاب الحكم في فعل المرأة ذلك بنفسها.

ولو انتفى التدليس ـ كما لو كانت مزوّجة ـ فلا تحريم ، للأصل ، والمستفيضة :

ففي صحيحة محمّد : « فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ادني منّي يا أمّ عطيّة ، إذا أنت قنيت الجارية فلا تغسلي وجهها بالخرقة ، فإنّ الخرقة تشرب ماء الوجه » (٣).

ومرسلة ابن أبي عمير : « دخلت ماشطة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال‌

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٢٨ أبواب الخيار ب ١٥.

(٢) مجمع الفائدة ٨ : ٨٤.

(٣) الكافي ٥ : ١١٨ ـ ١ ، التهذيب ٦ : ٣٦٠ ـ ١٠٣٥ ، الوسائل ١٧ : ١٣١ أبواب ما يكتسب به ب ١٩ ح ١ ، بتفاوت يسير.

١٧١

لها : هل تركت عملك أو أقمت عليه؟ قالت : يا رسول الله ، أنا أعمله إلاّ أن تنهاني عنه فأنتهي ، فقال : افعلي ، فإذا مشّطت فلا تجلي الوجه بالخرقة ، فإنّه يذهب بماء الوجه ، ولا تصلي الشعر بالشعر » (١).

ورواية سعد الإسكاف : عن القرامل التي تضع النساء في رؤوسهنّ يصلنه بشعورهن ، فقال : « لا بأس به على المرأة ما تزيّنت به لزوجها » ، قال : فقلت له : بلغنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن الواصلة والموصولة ، فقال : « ليس هناك ، إنّما لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواصلة التي تزني في شبابها ، فلمّا كبرت قادت النساء إلى الرجال ، فتلك الواصلة والموصولة » (٢).

ومضمرة عبد الله بن الحسن : عن القرامل ، قال : « وما القرامل؟ » قلت : صوف تجعله النساء في رؤوسهن ، قال : « إذا كان صوفا فلا بأس ، فإن كان شعرا فلا خير فيه من الواصلة والموصولة » (٣).

ومرسلة الفقيه : « لا بأس بكسب الماشطة إذا لم تشارط وقبلت ما تعطى ، ولا تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها ، وأمّا شعر المعز فلا بأس بأنّ يوصل بشعر المرأة » (٤).

بل يستحبّ تزيين المرأة لزوجها ، كما يستفاد من كثير من المعتبرة.

ثمَّ المستفاد من المرسلتين حرمة وصل شعر المرأة بشعر امرأة‌

__________________

(١) الكافي ٥ : ١١٩ ـ ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٥٩ ـ ١٠٣١ ، الوسائل ١٧ : ١٣١ أبواب ما يكتسب به ب ١٩ ح ٢ ، بتفاوت يسير.

(٢) الكافي ٥ : ١١٩ ـ ٣ بتفاوت يسير ، التهذيب ٦ : ٣٦٠ ـ ١٠٣٢ ، الوسائل ١٧ : ١٣٢ أبواب ما يكتسب به ب ١٩ ح ٣.

(٣) التهذيب ٦ : ٣٦١ ـ ١٠٣٦ ، الوسائل ١٧ : ١٣٢ أبواب ما يكتسب به ب ١٩ ح ٥.

(٤) الفقيه ٣ : ٩٨ ـ ٣٧٨ ، الوسائل ١٧ : ١٣٣ أبواب ما يكتسب به ب ١٩ ح ٦ ، بتفاوت.

١٧٢

اخرى ، وحمل على الكراهة ، أو على ما إذا كان فيه تعريض للشعر إلى غير ذات محرم ، فإن ثبت إجماع ، وإلاّ فلا وجه للحمل ، وثبوت الإجماع مشكل ، فالتعميم أظهر.

وتجويز وضع القرامل في رواية سعد ، وإنكار لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطلق الواصلة والموصولة للقرامل ، لا يفيد ، لكون القرامل أعمّ ، فيجب التخصيص ، سيّما مع التصريح بذلك التخصيص في رواية عبد الله.

وهل يلحق به وضع شعر الغير على الرأس من غير وصل؟

فيه تأمّل ، وعدم اللحوق أظهر.

ومنها : تزيين الرجل بالذهب والحرير إلاّ ما استثني ، وبالسوار والخلخال والثياب المختصّة بالنسوة في العادة ـ وتختلف باختلاف الأصقاع والأزمان ـ إجماعا ، نصّا وفتوى في الأولين ، وعلى الأظهر الأشهر في البواقي ، بل قد يحتمل فيها الإجماع أيضا ، للنصوص المانعة عن تشبّه كلّ من الرجال والنساء بالآخر :

ففي الخبر المرويّ عن الخلاف والعلل : « لعن الله المتشبّهين من الرجال بالنساء والمتشبّهات من النساء بالرجال » (١).

وفي آخره : « أخرجوهم من بيوتكم ، فإنّهم أقذر شي‌ء » (٢) وقصور الأسانيد منجبر بالشهرة ، مع التأيّد بأنّه من لباس الشهرة المنهيّ عنها في المستفيضة.

__________________

(١) العلل : ٦٠٢ ـ ٦٣ ، الوسائل ١٧ : ٢٨٤ أبواب ما يكتسب به ب ٨٧ ح ٢ وج ٢٠ : ٣٣٧ أبواب النكاح المحرّم ب ١٨ ح ٩.

(٢) العلل : ٦٠٢ ـ ٦٤ ، الوسائل ١٧ : ٢٨٥ أبواب ما يكتسب به ب ٨٧ ح ٣ وج ٢٠ : ٣٣٨ أبواب النكاح المحرّم ب ١٨ ح ١٠.

١٧٣

ويظهر من الخبر المذكور أنّه ينسحب الحكم في تزيين المرأة بلباس الرجل أيضا ، مع أنّه لا قائل بالفرق.

ومنها : العمل بآلات اللهو. وقد ذكرنا تفصيلها في كتاب الشهادات.

ومنهم من زاد أمورا أخر ، ومنهم من نقص.

١٧٤

المقصد الرابع

في بعض ما يتعلّق بهذا المقام‌

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : المشهور أنّه لا يجوز أخذ الأجرة على ما يجب فعله عينا أو كفاية ، ونفى بعضهم الخلاف فيه (١) ، وظاهر الأردبيلي الإجماع عليه (٢).

وعن فخر المحقّقين : عدم الجواز في الواجبات المتوقّفة على النيّة دون غيرها (٣).

وظاهر بعضهم اختصاص عدم الجواز بالذاتي دون التوصّلي ، بل ادّعى الإجماع على الجواز في الثاني (٤).

__________________

(١) كما في الرياض ١ : ٥٠٥.

(٢) مجمع الفائدة ٨ : ٨٩.

(٣) إيضاح الفوائد ٢ : ٢٦٤.

(٤) انظر الرياض ١ : ٥٠٥.

١٧٥

وتوهّم اتّحاد القولين الأخيرين باطل ، لأنّ الذاتي قد تكون فيه النيّة وقد لا تكون ، كردّ الأمانة ، وأداء الدين ، ومضاجعة الزوجة ، ونحوها.

ونسب الخلاف إلى السيّد في تغسيل الموتى وتكفينهم ودفنهم بالنسبة إلى غير الولي (١) ، وهو بالخلاف في الموضوع أشبه ، فإنّه لا يقول بوجوب هذه الأمور على غير الولي.

واستدلّ عليه تارة بالإجماع. وهو ـ لعدم ثبوته إلاّ في الجملة ـ قاصر عن إفادة تمام المطلوب.

واخرى بمنافاته للإخلاص المأمور به. وهو ـ مع اختصاصه بما يتوقّف على النيّة ـ ممنوع ، لإمكان الإخلاص غبّ (٢) إيقاع عقد الإجارة ، فإنّ العمل يصير بعده واجبا ، ويصير من قبيل ما لو وجب بنذر وشبهه ، فيمكن تحقّق الإخلاص في العمل ، وإن صارت الأجرة سببا لتوجه الأمر الإيجابي إليه.

وبذلك صحّح جماعة جواز الأجرة على استئجار الصلوات على الأموات (٣).

والتحقيق أن يقال : إنّ مورد الإجارة إمّا ما هو واجب على الأجير عينا أو كفاية ، أو على المستأجر.

وعلى الأول : إمّا دلّ دليل على وجوبه مطلقا ، أي من غير تقييد بأخذ الأجرة عليه ، أو ليس كذلك.

وعلى التقادير : إمّا يكون واجبا ذاتيّا ، أو توصّليّا.

__________________

(١) نسبه إليه في شرح جمل العلم والعمل : ١٤٨.

(٢) غبّ كلّ شي‌ء : عاقبته ـ الصحاح ١ : ١٩٠.

(٣) منهم صاحب الرياض ١ : ٥٠٥.

١٧٦

وعلى الأول : إمّا تجب فيه النيّة ، أو لا.

فإن كان واجبا مطلقا على الأجير لا ترد عليه الإجارة ، ولا يجوز أخذ الأجرة عليه مطلقا ، لأنّ هذا الفعل إمّا ليس فيه منفعة للمستأجر ، أو تكون فيه منفعة له.

فإن لم تكن فيه منفعة فلا معنى للإجارة والأجر فيه ، لأنّ الأجر عبارة عمّا يؤخذ عوضا عن شي‌ء ينتقل إلى المستأجر ، فإذ لا منفعة له فيه فلا نقل ، فلا أجر ولا إجارة.

وكذلك إن كانت فيه منفعة له ، كإنقاذ ولده الغريق ، لأنّ إيجاب الله سبحانه هذا الفعل على الأجير وطلبه منه تمليك للمستأجر لهذه المنفعة من الأجير ، ولا تجوز الإجارة ولا أخذ الأجرة عن شخص بعوض أداء ما يملكه.

وهذا ظاهر ، وفيما تجب فيه النية أظهر ، لأنّ منافع العبد بأسرها ملك الله سبحانه ، وهو وإن أذن له في التصرّف فيها بأنحاء التصرّفات ، إلاّ أنّ إيجابه سبحانه لفعل له عزّ شأنه يوجب عدم الإذن للعبد في التصرّف في تلك المنفعة وأخذ العوض عنها ونقلها إلى الغير. بل الإيجاب تفويت تلك المنفعة وإخراجها من يده ، لأنّ إيجاب المنفعة طلب من الله سبحانه هذه المنفعة لنفسه وعدم كونها مملوكة للعبد ، فلا يجوز أخذ العوض عنها.

ثمَّ لا فرق في ذلك بين ما كان وجوبه عينا أم كفاية ، لأنّ الواجب الكفائي أيضا واجب مشروط على كلّ أحد ، وشرطه عدم العلم بفعل غيره ، وهو متحقّق فيما نحن فيه.

ويدلّ على المطلوب أيضا : أنّ عموم أدلّة الإجارة بحيث يشمل المورد غير معلوم ، والأصل في المعاملات الفساد ، إلاّ أنّ ذلك لا يثبت إلاّ‌

١٧٧

فساد عقد الإجارة في غير ما دلّ الدليل على صحّتها فيه ، نحو الصنائع وما يشبهها من الواجبات الكفائيّة ، أو الحجّ والصلاة ونحوهما من الغير. وأمّا عدم جواز أخذ الأجرة وحرمتها فلا ، بخلاف الأول ، فإنّ نقل ما هو ملك للغير إليه أو إلى غيره وأخذ العوض عنه غير جائز.

نعم ، لو أعطاه ذلك الغير ، مع علمه بأنّه ليس عوضا له ولا يستحقّ العوض ، يكون ذلك إباحة محضة لا عوضا واجرة ، فيكون مباحا.

ولنا أن نستدلّ أيضا بأنّ المتبادر عن إيجاب شي‌ء طلبه مجانا ، ولذا لو أمر المولى عبده بأمر فأخذ الأجر من شخص ولو كان له فيه نفع يذمّ عرفا ، إلاّ أن تكون قرينة على جواز الأخذ.

ثمَّ إنّ ما ذكرناه إنّما هو في الواجب المعيّن ، أمّا المخيّر فلا حرمة في أخذ الأجرة على أحد أفراده المعيّن إذا كان في التعيين نفع للمستأجر.

وإن لم يثبت وجوبه مطلقا ـ بل احتمل كونه واجبا بشرط الإجارة أو معها ـ فلا يحرم أخذ الأجرة.

وبه تتّضح الإجارة في أكثر الصنائع ـ التي هي واجبات كفائيّة ـ مضافا إلى الإجماع بل الضرورة على الجواز فيها.

وإن كان واجبا على المستأجر ، فإن كان واجبا توقيفيا فلا شكّ أنّ الأصل عدم صحّته إذا صدر عن غيره ، لأنّ الصحّة في مثله موافقة الأمر ، وبعد توجّه الأمر إلى شخص لا يكون ما أتى به غيره موافقا للمأمور به ، فلا يكون العمل صحيحا ، فلا تكون منفعة ، ولا إجارته صحيحة ، ولا أخذ الأجرة عليه جائزا.

نعم ، إن دلّ دليل على جواز فعل الغير عنه نيابة فيخرج به عن الأصل ، ويحكم بصحّة العمل والإجارة بهذا الدليل.

١٧٨

ومن هذا القبيل استئجار الغير للعبادة عن الميّت ، كالصلاة والحجّ والصوم ، فما وجد له دليل على جواز الإجارة يحكم به فيه ، وما لم يوجد لا يحكم.

وأمّا أنّه هل يوجد دليل على جواز استئجار العبادات مطلقا أو عبادة خاصّة ، فهو ليس من وظيفة المقام.

نعم ، قد يستشكل فيما ثبت فيه ذلك من وجهين :

أحدهما : أنّ صحّة الإجارة موقوفة على قابليّة المنفعة وكونها محلّلة ، ولا ريب أنّ الصلاة ـ مثلا ـ عن الغير قبل الإجارة في غير التبرّع غير صحيحة ، فصحّتها بالإجارة توجب الدور ، إذ صحّة الصلاة عن الغير موقوفة على الإجارة الصحيحة المتوقّفة على صحّة الصلاة عن الغير.

ودفعه : أنّ وقوع الإجارة الصحيحة موقوف على إمكان الصلاة عن الغير بالإجارة ، وإمكانها موقوف على دليل شرعيّ عليها ، لا على الإجارة الصحيحة ، وإنّما يتوقّف عليها وقوع الصلاة المؤدّاة صحيحة ، وصحّة الإجارة غير موقوفة عليها.

وثانيهما : أنّ الصلاة ونحوها عبادة يجب فيها إخلاص النيّة ، وهو مع الإجارة غير متحقّق ، لأنّ الفعل حينئذ يكون بقصد أخذ الأجرة.

ودفع : بأنّ بعد ثبوت صحّة الإجارة بدليل يكون ذلك دليل على جواز تشريك ضميمة أخذ الأجرة مع القربة في القصد ، كالجنّة ، والخلاص من النار ، وأمثالهما.

ولا يخفى أن مبنى ذلك على عدم إمكان الإخلاص مع الإجارة ، وإلاّ لم يدلّ دليل جوازها على جواز التشريك ، والظاهر إمكانه كما مرّ ، فإنّ الفعل بالإجارة يصير واجبا شرعا وتتمّ نيّة التقرّب ، وعدم استحقاق تمام‌

١٧٩

الأجرة قبل العمل لا يوجب عدم وجوبه.

قيل : المتصوّر من نيّة التقرّب من جهة الإجارة إنّما هو من جهتها لا من جهة أنّه عبادة مخصوصة ، ولا ريب أنّ المعتبر في الصلاة والصوم ونحوهما نيّة التقرّب بها إلى الله من حيث إنّها هي.

قلنا : لم يثبت من أدلّة وجوب الإخلاص أزيد من وجوب قصد كون الفعل لله سبحانه ، ولأجل إطاعته وامتثال أمره ، أمّا وجوب نيّة الإطاعة ـ من حيث إنّ الفعل هذا الفعل ، أو لأجل الإيجاب من هذه الجهة ـ فلا ، ولو وجب ذلك لم يبرأ من نذر واجبا أصليّا أبدا ، فاندفع الإشكال.

بل الحقّ : عدم ورود الإشكال ابتداء أيضا ، لأنّ القدر المسلّم وجوب الإخلاص في كلّ عبادة على من يتعبّد بها ، وكون ما يلزم بالإجارة ممّا هو في الأصل عبادة للأجير ممنوع ، وكونه عبادة لمن وجب عليه بأصل الشرع لا يقتضي كونه عبادة للأجير أيضا ، ووجوبه بالإجارة لا يجعله عبادة كسائر الأفعال الواجبة بالإجارة.

نعم ، يشترط فيه قصد ما يميّزه عن غيره من الأفعال إن لم يميّز بغيره ، وقصد كونه أداء لما وجب بالإجارة ، كما هو شرط في أداء كلّ حقّ لازم ، ويجب الخلوص في ذلك بحيث ينصرف إليه ، وأمّا وجوب ما سوى ذلك فلا دليل عليه.

فإن قيل : لا شكّ أنّ الصلاة الفائتة التي تتدارك بالاستئجار ـ مثلا ـ كان قصد القربة جزءا لها ، فتجويز تداركها بالاستئجار أو الأمر به يقتضي تدارك جميع أجزائها.

قلنا : فيه ـ مع أنّ هذا مخصوص بما يتدارك به الفائتة لا مطلقا ـ أنّ كون قصد الإخلاص جزءا الماهيّة الصلاة ممنوع ، وإنّما هو شرط في صحّتها‌

١٨٠