أحمد بن محمّد مهدي النّراقي
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-040-4
ISBN الدورة:
الصفحات: ٤٥٨
عن مطلق الغناء ، كما في مرسلة إبراهيم المدني (١).
وقد ظهر من جميع ذلك أنّ القدر الثابت من الأدلّة هو حرمة الغناء بالمعنى المتيقّن كونه غناء لغويا ، وهو ترجيع الصوت مع الإطراب في الجملة ، ولا دليل على حرمته بالكلّية ، فاللازم فيه هو الاقتصار على القدر المعلوم حرمته بالإجماع ، وهو ما كان في غير ما استثنوه ، وهي أمور
منها : غناء المغنّية في زفّ العرائس ، استثناه في النهاية والنافع والمختلف والتحرير والقاضي (٢) ، وجمع آخر (٣) ، وهو كذلك ، ولكنّه ليس لما ذكرنا من عدم ثبوت الدليل على حرمة المطلق ، لوجوده في غناء المغنّيات كما مرّ ، بل للأخبار المقيّدة لهذه المطلقات : كرواية أبي بصير المتقدّمة : « والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس » (٤).
والأخرى : « المغنّية التي تزفّ العرائس لا بأس بكسبها » (٥).
وصحيحته : « أجر المغنّية التي تزفّ العرائس ليس به بأس ، ليست بالتي يدخل عليها الرجال » (٦).
__________________
(١) الكافي ٦ : ٤٣٤ ـ ١٨ ، الوسائل ١٧ : ٣٠٦ أبواب ما يكتسب به ب ٩٩ ح ١٢.
(٢) النهاية : ٣٦٧ ، النافع : ١١٦ ، المختلف : ٣٤٢ ، التحرير ١ : ١٦٠ ، القاضي في المهذّب ١ : ٣٤٦.
(٣) كما في الدروس ٣ : ١٦٢ ، الروضة ٣ : ٢١٣ ، الرياض ١ : ٥٠٢.
(٤) الكافي ٥ : ١١٩ ـ ١ ، التهذيب ٦ : ٣٥٨ ـ ١٠٢٤ ، الاستبصار ٣ : ٦٢ ـ ٢٠٧ ، الوسائل ١٧ : ١٢٠ أبواب ما يكتسب به ب ١٥ ح ١.
(٥) الكافي ٥ : ١٢٠ ـ ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٥٧ ـ ١٠٢٣ ، الاستبصار ٣ : ٦٢ ـ ٢٠٦ ، الوسائل ١٧ : ١٢٦ أبواب ما يكتسب به ب ١٥ ح ٢.
(٦) الكافي ٥ : ١٢٠ ـ ٣ ، الفقيه ٣ : ٩٨ ـ ٣٧٦ ، التهذيب ٦ : ٣٥٧ ـ ١٠٢٢ ، الاستبصار ٣ : ٦٢ ـ ٢٠٥ ، الوسائل ١٧ : ١٢١ أبواب ما يكتسب به ب ١٥ ح ٣.
خلافا للمفيد والحلبي والحلّي والديلمي والتذكرة والإرشاد (١) ، فلم يستثنوه.
إمّا لمعارضة تلك الأخبار للروايات المحرّمة للغناء أو كسبه أو لشراء المغنّيات وبيعهنّ وتعليمهنّ ، حيث إنّه لو كانت له جهة إباحة لم يحرم البيع والشرى والتعليم.
أو لضعف سندها.
أو لضعف دلالتها ، إذ غايتها نفي البأس عن الأجرة ، وهو غير ملازم لنفي الحرمة.
ويمكن الجواب : بأنّ المعارضة بقسميها مطلقة ، فيجب حملها على المقيّد.
وضعف السند غير ضائر ، مع أنّ فيها الصحيح.
والملازمة ثابتة ، لعدم القول بالفرق ، والاستقراء الحاصل من تتبّع الأخبار الدالّة على الملازمة في كثير من الأمور المحرّمة ، مع أنّ المنفيّ عنه البأس في روايتي أبي بصير هو نفس الكسب ، وحمله على المكتسب تجوّز.
هذا ، ثمَّ إنّه يشترط في الحلّية عدم دخول الرجال عليهنّ ، وإلاّ فيحرم وإن كانوا محارم ، كما احتمله المحقّق الثاني (٢) ، للإطلاق.
وكذا يشترط عدم التكلّم بالباطل ، وعدم سماع الأجانب من الرجال ،
__________________
(١) المفيد في المقنعة : ٥٨٨ ، الحلبي في الكافي في الفقه : ٢٨١ ، الحلي في السرائر ٢ : ٢١٥ ، الديلمي في المراسم : ١٧٠ ، التذكرة ٢ : ٥٨١ ، الإرشاد ١ : ٣٥٧.
(٢) جامع المقاصد ٤ : ٢٤.
والوجه ظاهر.
وأمّا اشتراط عدم العمل بالملاهي فلا وجه له ، لأنّه ليس نفس الغناء ، ولا عارضا له ، ولا من مشخّصاته كما في السابقين ، بل هو حرام مقارن له ، فلا يحرم به ، ولذا خصّ بعضهم الأولين بالذكر (١).
وهل يتعدّى إلى المغنّي وإلى غير الزفاف ـ وهو إهداء العروس إلى زوجها حتى يدخله عليها ـ بل وغير الأعراس؟
الظاهر : نعم ، [ لا ] (٢) لإطلاق قوله عليهالسلام في الرواية : « التي تدعى إلى الأعراس » ، لعدم ثبوت صدق العرس على غير ما ذكر في زمان الشارع.
بل لقوله في الصحيحة « ليست بالتي يدخل عليها الرجال » يدلّ على علّيّة عدم دخول الرجال للجواز ، فيتحقّق كلّما لم يدخلوا عليهن.
وردّ : بأنّ عدم الجواز في بعض صور عدم الدخول أيضا إجماعيّ ، ومنه يعلم عدم ثبوت العلّيّة الحقيقيّة لعدم دخول الرجال للجواز ، فيكون تجوّزا ، فلا يعلم منه ثبوت الحكم في غير محلّ التصريح.
وفيه نظر ظاهر ، لأنّه يكون حينئذ من باب تخصيص عموم العلّة ، وهو لا يخرجها عن الحجّيّة في غير موضع التخصيص.
هذا ، مضافا في المغنّي إلى الأصل المعتمد عليه ، حيث لم تثبت الحرمة بالإطلاق.
ومنها : الحداء ، وهو سوق الإبل بالغناء ، واشتهر فيه الاستثناء ، وتوقّف فيه جماعة ، مصرّحين بعدم عثورهم على دليل عليه (٣) ، ولذا ذهب
__________________
(١) كالشيخ في النهاية : ٣٦٧.
(٢) ما بين المعقوفين أضفناه لاستقامة المعنى.
(٣) منهم السبزواري في الكفاية : ٨٦ ، صاحب الحدائق ١٨ : ١١٦.
جمع إلى عدم الاستثناء (١).
والرواية العامّية ـ أنّه كان واحد من أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يفعل الحداء بحضرته وهو يسمع ، وبعد ذلك ترحّم عليه (٢) ـ غير صالحة للحجّيّة.
والحقّ فيه : عدم الحرمة ، للأصل ، وعدم ثبوت الحرمة كلّية.
ومنها : في مراثي الحسين عليهالسلام وغيره من الحجج والمعصومين ، للأصل المذكور المعتمد.
وربّما يؤيّد أيضا بعمل الناس في الأعصار والأمصار من غير نكير.
وقول الصادق عليهالسلام لمن أنشد عنده مرثية « اقرأ كما عندكم » أي بالعراق (٣).
وبأنّه معين على البكاء ، فهو إعانة على الخير.
والقول بأنّ المسلّم هو إعانة الغناء على مطلق البكاء ، وكونه خيرا ممنوع ، وأمّا كونه معينا على البكاء على الحسين عليهالسلام فهو غير مسلّم ، فإنّه إنّما يكون باعتبار تذكّر أحواله ، ولا دخل للغناء فيه ، مع أنّ عموم رجحان الإعانة على الخير أو إطلاقه ولو بالحرام غير ثابت.
مردود بأنّ تخصيص علّة البكاء على الحسين بتذكّر أحواله فقط أمر مخالف للوجدان ، فإنّا نشاهد من أنفسنا تأثير الألفاظ والأصوات ، فنرى أنّه يعبّر عن واقعة واحدة بألفاظ مختلفة يحصل من بعضها البكاء الشديد ، ولا يؤثّر بعضها أصلا.
__________________
(١) منهم المفيد في المقنعة : ٥٨٨ ، الحلبي في الكافي في الفقه : ٢٨١ ، الديلمي في المراسم : ١٧٠ ، الحلي في السرائر ٢ : ٢١٥.
(٢) انظر صحيح البخاري ٧ : ٤٣ ، مسند أحمد ٣ : ١٧٢.
(٣) ورد معناه في ثواب الاعمال : ١١١ ، كامل الزيارات : ١٠٤ ، الوسائل ١٤ : ٥٩٤ أبواب المزار وما يناسبه ب ١٠٤ ح ٣.
ونرى أنّا نبكي من تعزية بعض الناس دون بعض ، بل نرى أنّه ربّما يذكر أحد واقعة ولا يؤثّر في قلب ، ويذكر غيره هذه الواقعة وتحصل منه الرقّة بحيث يشرف بعض الناس على الهلاكة ، بل ربّما يبقى التأثير بعد تمام تعزيته ، بحيث تسيل الدموع بمجرّد تذكّر ما ذكره من الوقائع بعد مدّة طويلة.
وبالجملة : إعانة الألفاظ والعبارات والألحان والأصوات على البكاء على شخص أمر مقطوع به ، وليس البكاء فيه على شيء غير وقائع هذا الشخص ، فإنّ المشاهد أنّ بتعزية بعض الناس وذكر بعض الألفاظ تحصل حرقة خاصّة للقلب على الحسين عليهالسلام وأصحابه ما لا يحصل بتعزية غيره ولا بلفظ آخر مرادف.
والتحقيق : أنّ الصوت واللفظ واللحن من الأمور المرقّقة للقلب ، المعدّة للتأثير ، وبترقيقها وإعدادها يحصل البكاء بتذكّر الأحوال ، فكون الصوت واللفظ معينا على البكاء ممّا لا يمكن إنكاره.
وأمّا قول المعترض ـ : مع أنّ عموم رجحانه ، إلى آخره ـ ففيه : أنّه ليس مراد المستدلّ تجويز إعانة البرّ بالحرام ، بل يمنع الحرمة حين كون الغناء معينا على البكاء ، استنادا إلى تعارض عمومات حرمة الغناء مع عمومات رجحان الإعانة بالبرّ وعدم المرجّح ، فيبقى محلّ التعارض على مقتضى الأصل.
ومنع عموم الإعانة على البرّ أو ترجيح عمومات الغناء بأظهريّة العموم أو الأكثريّة أو لأجل ترجيح الحرمة على الجواز مع التعارض ، ليس بشيء ، لأنّ عموم إعانة البرّ مطلقا أمر ثابت كتابا وسنّة.
مع أنّ الأحاديث الواردة في أنّ من أبكى أحدا على الحسين كان له
كذا وكذا بلغت حدّ الاستفاضة ، بل التواتر ، وكثير منها مذكور في ثواب الأعمال للصدوق (١) ، فمنع التعارض ضعيف جدّا ، كترجيح عمومات حرمة الغناء ، فإنّ عمومات الإعانة على البرّ وخصوص الإبكاء (٢) أكثر بكثير ، مذكورة في الكتاب والسنّة ، مجمع عليه بين الأصحاب.
وترجيح جانب الحرمة على الجواز لم يثبت عندنا ، إلاّ على وجه الأولويّة والاستحباب ، وهو أمر آخر ، بل لا يبعد ترجيح عمومات الإعانة بتضعيف حرمة الغناء دلالة أو سندا.
وأمّا ما يجاب عن التعارض بمنع كون الغناء معينا على البكاء مطلقا ، لأنّ المعين عليه هو الصوت ، وأمّا نفس الترجيع الذي يتحقّق به الغناء فلم يعلم كونه معينا عليه أصلا ، لا على الحسين عليهالسلام ولا مطلقا.
ففيه أولا : أنّ من البيّن أنّ لنفس الترجيع أيضا أثرا في القلب ، كما يدلّ عليه ما في كلام جماعة (٣) من توصيف الترجيع بالمطرب مع تفسيرهم الإطراب ، فإنّ حزن القلب من معدّات البكاء ، مع أنّه قيل : إنّ الغناء المحرّم هو الصوت (٤).
ومنها : قراءة القرآن ، وقد مرّ قول صاحب الكفاية : أنّ الظاهر من تفسير الطبرسي أنّ التغنّي في القرآن مستحبّ عنده ، وأنّ خلاف ذلك لم يكن معروفا بين القدماء (٥).
__________________
(١) ثواب الاعمال : ٨٣.
(٢) انظر الوسائل ١٤ : ٥٠٠ و ٥٩٣ أبواب المزار وما يناسبه ب ٦٦ و ١٠٤.
(٣) منهم المحقق في الشرائع ٤ : ١٢٨ ، الشهيد في الدروس ٢ : ١٢٦ ، الكركي في جامع المقاصد ٤ : ٢٣.
(٤) راجع ص : ١٢٤ و ١٢٥.
(٥) كفاية الأحكام : ٨٦.
وتوهّم أنّ الطبرسي لم يذكر إلاّ تحسين اللفظ وتزيين الصوت وتحزينه ، وكلّ ذلك غير الغناء.
مردود بأنّه ـ بعد ذكر الرواية الآتية الآمرة بالتغنّي بالقرآن ـ ذكر تأويل بعضهم بأنّ المراد منه : الاستغناء بالقرآن ، ثمَّ قال : وأكثر العلماء على أنّه تزيين الصوت وتحزينه (١).
ولا نعني أنّ المراد بالتغنّي هنا هو ما تحصل به زينة الصوت وتحزينه ، وهو في مقام بيان معنى التغنّي ليس إلاّ ما يحصل به الغناء.
ثمَّ إنّه يدلّ على استثنائها وجواز التغنّي فيها ما مرّ من الأصل ، مضافا إلى المعتبرة الآمرة بقراءته بالحزن وبالصوت الحسن ، والدالّة على جوازها ، بل رجحانها ، وعلى حسن الصوت الحسن مطلقا :
كمرسلة ابن أبي عمير ، وفيها : « إنّ القرآن نزل بالحزن فاقرءوه بالحزن » (٢).
والروايات الأربع لعبد الله بن سنان (٣) ، وروايتي أبي بصير (٤) ، وروايات حفص (٥) وعبد الله التميمي (٦) ودارم بن قبيصة (٧) وسماعة وموسى
__________________
(١) مجمع البيان ١ : ١٦.
(٢) الكافي ٢ : ٦١٤ ـ ٢ ، الوسائل ٦ : ٢٠٨ أبواب قراءة القرآن ب ٢٢ ح ١.
(٣) الكافي ٢ : ٦١٤ و ٦١٥ ـ ٣ و ٦ و ٧ و ٩ ، الوسائل ٦ : ٢٠٨ و ٢١٠ و ٢١١ أبواب قراءة القرآن ب ٢٢ و ٢٤ ح ٢ و ١ و ٣.
(٤) الكافي ٢ : ٦١٥ و ٦١٦ ـ ٨ و ١٣ ، الوسائل ٦ : ٢١١ أبواب قراءة القرآن ب ٢٤ ح ٥.
(٥) أمالي الطوسي : ٥٤٤ ، الوسائل ٦ : ٢١٠ أبواب قراءة القرآن ب ٢٢ ح ٣.
(٦) الوسائل ٦ : ٢١٢ أبواب قراءة القرآن ب ٢٤ ح ٦.
(٧) عيون أخبار الرضا عليهالسلام ٢ : ٦٨ ـ ٣٢٢ ، الوسائل ٦ : ٢١٢ أبواب قراءة القرآن ب ٢٤ ح ٧.
السمري ، وصحيحة معاوية بن عمّار (١) ، وغيرها.
نعم ، يمكن أن يقال : إنّ هذه الأخبار تعارض مع أدلّة المنع ، والتعارض بالعموم من وجه ، ولا ترجيح ، فيرجع إلى الأصل.
ومنع التعارض ، لأنّ الغناء هو الترجيع ، وهو وصف عارض للصوت الحسن ، يوجد بإيجاد آخر مغاير لإيجاد الصوت ، فلا يدلّ الترغيب فيه على الترغيب فيه أيضا.
مدفوع بعدم ثبوت كون الغناء هو الترجيع ، بل يقال : هو الصوت المشتمل على الترجيع ، كما في كلام جماعة من أهل اللغة (٢).
مع أنّ الوارد في بعض الأخبار المذكورة الأمر بالقراءة بالحزن أو بصوت حزين ، وفي بعضها تحسين الصوت ، ولا شكّ أنّ الترجيع أحد أفراد القراءة بالحزن والتحسين أيضا ، فيحصل التعارض على التقديرين ، ويرجع إلى الأصل المقتضي للجواز.
وتدلّ على الجواز أيضا رواية أبي بصير الصحيحة عن السرّاد ـ المجمع على تصحيح ما يصحّ عنه ـ وفيها : « ورجّع بالقرآن صوتك ، فإنّ الله يحبّ الصوت الحسن يرجّع به ترجيعا » (٣).
والعامي المرويّ في المجمع : « فإذا قرأتموه ـ أي القرآن ـ فابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا وتغنّوا به ، فمن لم يتغنّ بالقرآن فليس منّا » (٤).
وتردّ بمعارضتها لرواية عبد الله بن سنان « اقرءوا القرآن بألحان العرب
__________________
(١) مستطرفات السرائر : ٩٧ ، الوسائل ٦ : ٢٠٩ أبواب قراءة القرآن ب ٢٣ ح ٢.
(٢) راجع ص : ١٢٤ و ١٢٥.
(٣) الكافي ٢ : ٦١٦ ـ ١٣ ، الوسائل ٦ : ٢١١ أبواب قراءة القرآن ب ٢٤ ح ٥.
(٤) مجمع البيان ١ : ١٦.
وأصواتها ، وإيّاكم ولحون أهل الفسوق والكبائر ، فإنّه سيجيء بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانيّة ، لا يجوز تراقيهم ، قلوبهم مقلوبة ، وقلوب من يعجبه شأنهم ».
مضافا إلى عدم الدلالة ، أمّا الأول فلمنع كون مطلق الترجيع غناء.
فإن قلت : إذا ضمّ معه الحزن المأمور به في الروايات يحصل الغناء.
قلنا : المأمور به هو حزن القارئ ، والمعتبر في الغناء حزن المستمع ، وشتّان ما بينهما.
وأمّا الثاني ، فلجواز أن يكون المراد طلب الغناء ودفع الفقر.
وفيه : أنّ الرواية ليست معارضة لما ذكر ، بل مؤكّدة له ، للأمر بالقراءة بألحان العرب ، واللحن هو التطريب والترجيع.
قال في النهاية الأثيريّة : اللحون والألحان جمع لحن ، وهو التطريب ، وترجيع الصوت ، وتحسين القراءة ، والشعر والغناء (١).
وقال في الصحاح : ومنه الحديث : « اقرءوا القرآن بلحون العرب » ، وقد لحن في قراءته : إذا طرب وغرد ، وهو ألحن الناس إذا كان أحسنهم قراءة وغناء (٢). وقال أيضا : الغرد ـ بالتحريك ـ التطريب في الصوت ، والغناء (٣).
وأمّا النهي عن لحون أهل الفسوق والكبائر وذمّ أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانيّة ، فلا يدلّ إلاّ على النهي عن نوع خاصّ من الترجيع ، وهو ترجيع الغناء والنوح والرهبانيّة ، ولعدم معلوميّته يجب العمل
__________________
(١) النهاية ٤ : ٢٤٢.
(٢) الصحاح ٦ : ٢١٩٣.
(٣) الصحاح ٢ : ٥١٦.
في كلّ ما لا يعلم بالأصل.
ولا يتوهّم أنّه يلزم تخصيص العام بالمجمل إذا دلّت الرواية على أنّ الترجيع المجوّز هو ترجيع العرب ، والمنهيّ عنه هو ترجيع الغناء والنوح والرهبانيّة وترجيع أهل الفسوق والكبائر ، غاية الأمر أنّه لا يعلم تعيين أحدهما ، ومثل ذلك ليس تخصيصا بالمجمل.
وأمّا منع كون مطلق الترجيع غناء ففيه : أنّه بعد ضمّ حسن الصوت المرغّب فيه مع الترجيع لا يمكن الخلوّ عن نوع من الإطراب ، فيكون غناء. وتحزين القارئ يستلزم تحزين المستمع غالبا.
وأمّا تأويل قوله : « تغنّوا » بطلب الغناء فهو ما يستبعد عن سياق الكلام غاية الاستبعاد.
ومنها : مطلق الذكر والدعاء والفضائل والمناجاة وأمثالها. ويدلّ على استثنائها وجواز الغناء فيها ما ذكرنا من الأصل السالم عن المعارض بالمرّة.
مضافا إلى مرسلة الفقيه المتقدّمة ، المتضمّنة لتجويز شراء المغنّية لأن تذكّر بصوتها (١) ، فإنّ إطلاقها يشمل الغناء أيضا ، مع أنّ الظاهر أنّ السؤال كان عن غنائها إذا كان عدم حرمة غيره ظاهرا ، وفيها دلالة على تأثير الصوت ووصفه في رقّة القلب ، ولو لا دلالتها بخصوصها فلا شكّ في الدلالة بالعموم ، فيحصل التعارض المذكور على نحو ما مرّ في القرآن والمراثي.
وقد يورد على التعارض المذكور بما مرّ من أنّ الغناء هو الترجيع المطرب ، كما هو المستفاد من كلام الغزالي في الإحياء (٢) ، ومن كلام
__________________
(١) راجع ص : ١٣٢.
(٢) إحياء علوم الدين ٢ : ٢٧٠.
الجوهري في لغة التغريد ، حيث قال : التغريد : التطريب في الصوت والغناء (١).
وكذلك كلام جمع آخر فسّروه بالمعنى المصدري ، كمدّ الصوت وتحسين اللفظ وأمثاله (٢) ، وهو من أوصاف الصوت والقراءة والذكر وأمثالها الموجودة بإيجاد مغاير لإيجاد معروضاتها ، فلا تعارض بين النهي عنه والترغيب إليها.
نعم ، يصحّ التعارض لو قلنا بأنّ الغناء هو الصوت المشتمل على الترجيع ، كما هو المصرّح به في كلام طائفة أخرى ، كصاحب القاموس ، حيث قال : الغناء ككساء ، من الصوت ما طرّب به (٣).
وهو ظاهر النهاية الأثيريّة ، قال : وكلّ من رفع صوتا ووالاه فهو عند العرب غناء (٤).
وعن الصحاح أنّه قال : الغناء هو ما يسمّيه العجم : دو بيتي (٥).
بل قيل : إنّ الغناء فسّر في المشهور بالصوت المشتمل على الترجيع المطرب (٦).
بل هو الظاهر من الأخبار المفسّرة لقول الزور ولهو الحديث بالغناء ، لأنّهما غير الترجيع.
وفيه : أنّ مع هذا الاختلاف وعدم تعيّن المعنى يرجع الى مقتضى
__________________
(١) الصحاح ٢ : ٥١٦.
(٢) راجع ص : ١٢٤ و ١٢٥.
(٣) القاموس ٤ : ٣٧٤.
(٤) النهاية الأثيريّة ٣ : ٣٩١.
(٥) لم نعثر عليه في الصحاح.
(٦) انظر المفاتيح ٢ : ٢٠.
الأصل ، وهو الإباحة.
هذا ، ثمَّ إنّه كما يحرم الغناء مطلقا أو غير ما استثني ، يحرم استماعه أيضا بالإجماع والروايات المتقدّمة.
وكذا يحرم التكسّب بالمحرّم منه والأجرة عليه بلا خلاف أجده ، وظاهر المفيد أنّه إجماع المسلمين (١) ، وفي المنتهى : تعلّم الغناء والأجرة عليه حرام عندنا بلا خلاف (٢).
وتدلّ [ عليه ] (٣) روايات أبي بصير والطاطري وابن أبي البلاد المتقدّمة (٤).
ورواية نصر بن قابوس : « المغنّية ملعونة ، ملعون من أكل كسبها » (٥).
ومرسلة الفقيه : « أجر المغنّي والمغنّية سحت » (٦).
وقد يستدلّ عليه أيضا بالأصل ، إذ الأصل عدم صحّة المعاملة وعدم الانتقال.
وهو ضعيف غايته ، لأنّ غايته عدم اللزوم دون الحرمة لو رضى به المالك.
ومنها : معونة الظالمين في ظلمهم ، بل في مطلق الحرام ، بالثلاثة.
قال الله سبحانه ( وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) (٧).
__________________
(١) المقنعة : ٥٨٨.
(٢) المنتهى ٢ : ١٠١٢.
(٣) ما بين المعقوفين أضفناه لاستقامة العبارة.
(٤) راجع ص : ١٣٣ و ١٣٥.
(٥) الكافي ٥ : ١٢٠ ـ ٦ ، التهذيب ٦ : ٣٥٧ ـ ١٠٢٠ ، الاستبصار ٣ : ٦١ ـ ٢٠٣ ، الوسائل ١٥ : ١٢١ أبواب ما يكتسب به ب ١٥ ح ٤.
(٦) الفقيه ٣ : ١٠٥ ـ ٤٣٦ ، الوسائل ١٧ : ٣٠٧ أبواب ما يكتسب به ب ٩٩ ح ١٧.
(٧) المائدة : ٢.
وقال تعالى ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) (١) والركون المحرّم هو الميل القليل ، فكيف بالإعانة؟!
وفي حسنة أبي بصير : عن أعمالهم ، فقال : « لا ، ولا مدّة بقلم ، وإنّ أحدكم لا يصيب من دنياهم شيئا إلاّ أصابوا من دينه مثله » (٢).
وموثّقة يونس : « لا تعنهم على بناء مسجد » (٣).
وموثّقة عمّار : عن أعمال السلطان يخرج فيه الرجل ، قال : « لا ، إلاّ أن لا يقدر على شيء يأكل ولا يشرب ، ولا يقدر على حيلة » (٤).
ورواية عذافر : « ما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة؟! » (٥).
ورواية ابن أبي يعفور ، وفيها ـ بعد السؤال عن الرجل يدعى إلى البناء يبنيه أو النهر يكريه أو المسنّات يصلحها ـ : « ما أحب أنّي عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء وأنّ لي ما بين لابتيها ، لا ولا مدّة بقلم ، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار » (٦).
وصحيحة أبي حمزة : « إيّاكم وصحبة الظالمين ومعونة الظالمين » (٧).
ورواية طلحة بن زيد : « العامل بالظلم والمعين له والراضي به
__________________
(١) هود : ١١٣.
(٢) الكافي ٥ : ١٠٦ ـ ٥ ، التهذيب ٦ : ٣٣١ ـ ٩١٨ ، الوسائل ١٧ : ١٧٩ أبواب ما يكتسب به ب ٤٢ ح ٥.
(٣) التهذيب ٦ : ٣٣٨ ـ ٩٤١ ، الوسائل ١٧ : ١٨٠ أبواب ما يكتسب به ب ٤٢ ح ٨.
(٤) التهذيب ٦ : ٣٣٠ ـ ٩١٥ ، الوسائل ١٧ : ٢٠٢ أبواب ما يكتسب به ب ٤٨ ح ٣.
(٥) الكافي ٥ : ١٠٥ ـ ١ ، الوسائل ١٧ : ١٧٨ أبواب ما يكتسب به ب ٤٢ ح ٣.
(٦) الكافي ٥ : ١٠٧ ـ ٧ ، التهذيب ٦ : ٣٣١ ـ ٩١٩ ، الوسائل ١٧ : ١٧٩ أبواب ما يكتسب به ب ٤٢ ح ٦. والمسنّات : ضفيرة تبنى للسيل لتردّ الماء ، سمّيت مسنّاة لأنّ فيها مفاتح للماء بقدر ما تحتاج إليه ممّا لا يغلب ، انظر لسان العرب ١ : ٤٠٦.
(٧) الكافي ٨ : ١٤ ـ ٢ ، الوسائل ١٧ : ١٧٧ أبواب ما يكتسب به ب ٤٢ ح ١.
شركاء » (١).
وفي عقاب الأعمال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين أعوان الظلمة ، ومن لاق لهم دواة ، أو ربط لهم كيسا ، أو مدّ لهم مدّة قلم ، فاحشروهم معهم » (٢).
وفي تفسير العيّاشي عن الرضا عليهالسلام ـ بعد السؤال عن أعمال السلطان ـ « الدخول في أعمالهم والعون لهم والسعي في حوائجهم عديل الكفر ، والنظر إليهم على العمد من الكبائر التي يستحقّ بها النار » (٣).
وفي كتاب ورّام : قال عليهالسلام : « إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الظلمة وأعوان الظلمة وأشباه الظلمة حتى من برى لهم قلما أو لاق لهم دواة » قال : « فيجتمعون في تابوت من حديد ثمَّ يرمى بهم في جهنّم » (٤).
وفيه أيضا أنّه قال : « من مشى إلى ظالم ليعينه ، وهو يعلم أنّه ظالم ، فقد خرج من الإسلام » (٥) ، إلى غير ذلك.
والمستفاد من غير الآية الاولى من تلك الأدلّة وإن كان حرمة إعانة الظالمين ولو في المباحات والطاعات ـ ولذا يظهر الميل إليها من بعض أصحابنا (٦) ـ إلاّ أنّ ظاهر الأكثر (٧) ـ بل كما قيل : بغير خلاف يعرف (٨) ـ
__________________
(١) الكافي ٢ : ٣٣٣ ـ ١٦ ، الوسائل ١٧ : ١٧٧ أبواب ما يكتسب به ب ٤٢ ح ٢.
(٢) عقاب الأعمال : ٢٦٠ ، الوسائل ١٧ : ١٨٠ أبواب ما يكتسب به ب ٤٢ ح ١١.
(٣) تفسير العياشي ١ : ٢٣٨ ـ ١١٠ ، الوسائل ١٧ : ١٩١ أبواب ما يكتسب به ب ٤٥ ح ١٢.
(٤) تنبيه الخواطر ١ : ٥٤ ، الوسائل ١٧ : ١٨٢ أبواب ما يكتسب به ب ٤٢ ح ١٦.
(٥) تنبيه الخواطر ١ : ٥٤ ، الوسائل ١٧ : ١٨٢ أبواب ما يكتسب به ب ٤٢ ح ١٥.
(٦) انظر الحدائق ١٨ : ١١٩ والرياض ١ : ٥٠٤.
(٧) منهم الشهيد الثاني في الروضة ٣ : ٢١٣ ، السبزواري في الكفاية : ٨٦ ، صاحب الرياض ١ : ٥٠٥.
(٨) كما في الرياض ١ : ٥٠٥.
اختصاص التحريم بالإعانة في المحرّم.
وعلّل تارة بقصور الأخبار المطلقة سندا.
وأخرى بعدم صراحتها دلالة ، لاحتمال أن يكون المراد بالمباحات والطاعات ما عرضها التحريم بغصب ونحوه ، كما هو الأغلب في أحوالهم.
وثالثة بالحمل على الكراهة ، جمعا بينها وبين قوله عليهالسلام في رواية ابن أبي يعفور : « ما أحبّ » الذي هو ظاهر في الكراهة قطعا ، مع أنّ بعض تلك الأخبار ليس صريحا في التحريم ، كالأول والثالث ، إذ يجوز أن يكون المراد من قوله : « لا » إنّه لا يحسن ، أو لا أحبّ.
وفي الأول : المنع ، كيف؟! وفيها الصحيح والموثّق والحسن ، مع أنّ بعد إطلاق الآية الثانية لا يضرّ ضعف سند الخبر.
وفي الثاني : عدم الدليل على هذا التقييد البعيد ، والغلبة الموجبة للتقييد ممنوعة.
وفي الثالث : بأنّ قوله : « ما أحبّ » ، لا تنافيه الحرمة لغة ، وظهوره في الكراهة في زماننا لا يقتضيه في زمان الشارع ، والأصل تأخّره ، مع أنّ مقتضى التعليل المعقّب له الحرمة ، وعدم ظهور بعضها في الحرمة لا يوجب خروج الباقي عن الظهور.
فالأولى أن يعلّل بمعارضة تلك المطلقات مع الأخبار المتكثّرة ، الواردة في الموارد العديدة في الحثّ على إعانة المسلمين وقضاء حوائجهم ومودّتهم والاهتمام بأمورهم (١) ، المعاضدة بالكتاب (٢) وبعمل كافّة الأصحاب.
__________________
(١) الوسائل ١٢ : ٢٦ و ٢٠٣ أبواب أحكام العشرة ب ١٤ و ١٢٢.
(٢) المائدة : ٢.
وإذ لا مرجّح فالعمل على الأصل المقطوع به ، وهو جواز إعانة الظالم وقضاء حوائجه في غير المحرّم ، لخروج المحرّم عن مطلقات الإعانة بالإجماع وضرورة العقل .. ولكن مقتضى ذلك عدم رجحانه استحبابا أو وجوبا ، بل يختصّ الرجحان بغير الظالم ، وهو كذلك ، ويلزمه عدم رجحان إعانة العاصي لله ، بل من صدرت عنه معصية ولم [ يتب ] (١) ، لصدق الظالم عليه لغة وإطلاقه عليه في غير موضع من الكتاب العزيز.
واختصاص بعض الأخبار (٢) بالظالمين من خلفاء الجور لا يخصّص غيره ، ويؤكّده الحثّ على بغض الفسّاق ، والأمر بالبغض في الله ، والنهي عن مجالسة أهل المعصية في أخبار كثيرة (٣).
وأمّا من تاب عن ذنب فهو كمن لا ذنب له ، ضرورة إعانة النبيّ والأئمّة لمن سبق كفره وعصيانه بعد رجوعه ، ومحبّتهم له ومصادقتهم إيّاه ، فمثله خارج عن مطلقات النهي عن إعانة الظالم قطعا ، فيدخل في معارضها بلا معارض ، ومثله من لم يعلم صدور ظلم ومعصية منه ، لعدم العلم بصدق الظالم.
وهل يلحق بهما من لم يعلم بالقرائن ركونه إلى الذنب من أهل العصيان ، واحتملت في حقه التوبة؟
فيه إشكال من حيث دلالة الأخبار على وجوب عدم اتّهام المسلم في أمر دينه ، والتوبة أمر واجب من الدين ، ومن جهة أنّ ما يدلّ على خروج التائب عن الظالم ـ من معاملة المعصومين مع أصحابهم ـ لم تعلم دلالته
__________________
(١) في النسختين يثبت ، والظاهر ما أثبتناه.
(٢) الوسائل ١٧ : ١٧٧ أبواب ما يكتسب به ب ٤٢.
(٣) الوسائل ١٢ : ٢٧ أبواب أحكام العشرة ب ١٥.
على خروج مثله أيضا ، فتأمّل.
ومنها : حفظ كتب الضلال عن الاندراس ، ونسخها وتعليمها وتعلّمها ، على المعروف من مذهب الأصحاب ، بل بلا خلاف بينهم كما في المنتهى (١).
لرواية الحذّاء : « من علّم باب ضلال كان عليه مثل وزر من عمل به » (٢).
ولما رواه في تحف العقول ورسالة المحكم والمتشابه للسيّد ، عن الصادق عليهالسلام : « وكلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به لغير الله ويقوى به الكفر والشرك من جميع وجوه المعاصي أو باب يوهن به الحق ، فهو حرام بيعه وشراؤه وإمساكه وملكه وهبته وعاريته وجميع التقلّب فيه ، إلاّ في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك » (٣). وينجبر ضعفها بالعمل.
والتمسّك بحرمة المعاونة على الإثم غير مطّرد ، وبوجوب دفع الضرر المحتمل أو المظنون ضعيف ، لأنّه إنّما يفيد لو انحصر الدفع بذلك ، وليس كذلك ، لاندفاعه بعدم الرجوع ، أو المجاهدة في دفع الشبهة ، ولذا يتعلّق التكليف به.
ومقتضى الاستثناء في الأخيرة عدم الحرمة مع التقيّة ، وهو كذلك ، بل وكذا إذا كان الغرض النقض أو الحجّة على أهل الباطل ، وفاقا لصريح المشهور (٤) ، لما رواه الشيخ الحرّ في الفصول المهمة ، عن الصادق عليهالسلام ـ والظاهر أنّه أيضا من الكتاب المذكور ـ : « إنّ كلّ شيء يكون لهم فيه
__________________
(١) المنتهى ٢ : ١٠١٣.
(٢) الكافي ١ : ٣٥ ـ ٤ ، الوسائل ١٦ : ١٧٣ أبواب الأمر والنهي ب ١٦ ح ٢.
(٣) تحف العقول : ٢٤٥ ـ ٢٥٠ ، المحكم والمتشابه : ٤٦ ـ ٤٨ ، الوسائل ١٧ : ٨٣ أبواب ما يكتسب به ب ٢ ح ١.
(٤) كما في المسالك ١ : ١٦٦ ، والرياض ١ : ٥٠٣.
الصلاح من جهة من الجهات ، فهذا كلّه حلال بيعه وشراؤه وإمساكه واستعماله وهبته وعاريته » (١).
ومقتضى ذلك وإن كان استثناء كلّ ما إذا ترتّب عليه مقصد صحيح ـ كتحصيل البصيرة بالاطّلاع على الآراء والمذاهب ، وتمييز الصحيح من الفاسد ، والاستعانة على التحقيق ، وتحصيل ملكة البحث والنظر ، وغير ذلك ، كما ذكره المحقّق الثاني وصاحب الكفاية (٢) ـ إلاّ أنّ ضعف الرواية وعدم انجبارها إلاّ في النقض والاحتجاج يمنع من استثناء غيرهما.
ولو اشتمل الكتاب على الضلال وغيره جاز حفظ غير موضع الضلال بعد طرحه ، للأصل.
والمراد بالضلال : ما خالف الحق واقعا كما يخالف الضروري ، أو بحسب علم المكلف خاصّة ، وأمّا ما خالفه بحسب ظنّه فلا.
وهل تلحق بكتب الضلال كتب السحر والقيافة وأمثالهما من المحرّمات؟
الظاهر من رواية التحف ذلك ، ولكن لعدم تصريح الأصحاب به لم تعلم الشهرة الجابرة ، فالأصل ينفيه إلاّ مع قصد التوصّل إلى المحرّم.
فرع : مقتضى ما ذكر وجوب إتلاف ما فيه ضلال من الكتب وعدم لزوم غرامة على من أتلفه من غيره ، إلاّ إذا احتمل الغرض المستثنى في حقّه مع ادّعائه.
ومنها : هجاء المؤمنين : أي ذكر معايبهم بالشعر ، للإجماع ، وإيجابه الإيذاء.
__________________
(١) تحف العقول : ٢٤٥ ـ ٢٥٠.
(٢) المحقق الثاني في جامع المقاصد ٤ : ٢٦ ، الكفاية : ٨٦.
وقد قال الله سبحانه ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً ) (١).
وعن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « من آذى مؤمنا فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، فهو ملعون في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان » (٢) ، ومنه وممّا يأتي من جواز غيبة المخالف وسبّه يظهر وجه التخصيص.
وأمّا رواية السكوني : « من تمثّل ببيت شعر من الخنا لم تقبل منه صلاة ذلك اليوم ، ومن تمثّل بالليل لم تقبل منه الصلاة تلك الليلة » (٣) فعن إفادة الحرمة قاصرة.
والغيبة أعمّ من وجه منه ، وهي أن يذكر إنسان من خلفه بما هو فيه من السوء ، فلو لم يكن من خلفه لم يكن غيبته ، كما هو مقتضى مادّة اللفظ.
وفي رواية أبان : عن رجل لا يعلمه إلاّ يحيى الأزرق « من ذكر رجلا من خلفه بما هو فيه ممّا عرفه الناس لم يغتبه ، ومن ذكره من خلفه بما هو فيه ممّا لا يعرفه الناس فقد اغتابه ، ومن ذكره بما ليس فيه فقد بهته » (٤) ، ويستفاد منها وجه اشتراط كونه ممّا هو فيه أيضا.
مضافا إلى حسنة عبد الرحمن بن سيابة : « الغيبة : أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه ، وأمّا الأمر الظاهر فيه مثل الحدّة والعجلة فلا ، والبهتان :
__________________
(١) الأحزاب : ٥٨.
(٢) جامع الأخبار : ١٤٧ ، مستدرك الوسائل ٩ : ٩٩ أبواب أحكام العشرة ب ١٢٥ ح ١.
(٣) التهذيب ٢ : ٢٤٠ ـ ٩٥٢ ، الوسائل ٧ : ٤٠٣ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٥١ ح ٢ ، والخنا : الفحش من القول ـ مجمع البحرين ١ : ١٣٢.
(٤) الكافي ٢ : ٣٥٨ ـ ٦ ، الوسائل ١٢ : ٢٨٩ أبواب أحكام العشرة ب ١٥٤ ح ٣.
أن تقول فيه ما ليس فيه » (١).
وما رواه في مكارم الأخلاق : قلت : يا رسول الله ، وما الغيبة؟ قال : « ذكرك أخاك بما يكره » ، قلت : يا رسول الله ، فإن كان فيه ذلك الذي يذكر به؟ قال : « اعلم أنّك إذا ذكرته بما هو فيه فقد اغتبته ، وإذا ذكرته بما ليس هو فيه فقد بهته » (٢).
وما رواه في مجمع البيان : « إذا ذكرت الرجل بما فيه ممّا يكرهه الله فقد اغتبته » (٣).
ويظهر من ذلك وسابقة ـ مضافا إلى الإجماع ـ وجه اشتراط كونه مؤمنا ، فلو لم يكن كذلك لم يكن غيبة.
وهل يشترط فيه أن يكون ممّا يكره المغتاب ويغمّه لو سمعه؟
الأظهر : لا ، لإطلاق الأوليين ، وصحيحة داود بن سرحان : عن الغيبة ، قال : « هو أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل ، وتبثّ عليه أمرا قد ستره الله عليه لم يقم عليه فيه حدّ » (٤).
ولا تنافيه رواية المكارم ، لجواز أن يكون ما يكره بمعناه اللازم ، مع أنّا نرى كراهة بعض الناس ممّا ليس بسوء عرفا ، بل ممّا هو حسن شرعا ، وهو ليس بغيبة إجماعا.
ومنهم من أخذ فيها قصد الذمّ (٥) ، فإن أراد في صدق الغيبة فالإطلاق
__________________
(١) الكافي ٢ : ٣٥٨ ـ ٧ ، الوسائل ١٢ : ٢٨٨ أبواب أحكام العشرة ب ١٥٤ ح ٢.
(٢) مكارم الأخلاق ٢ : ٣٧٨.
(٣) مجمع البيان ٥ : ١٣٧.
(٤) الكافي ٢ : ٣٥٧ ـ ٣ ، الوسائل ١٢ : ٢٨٨ أبواب أحكام العشرة ب ١٥٤ ح ١.
(٥) قال في جامع المقاصد ٤ : ٢٧ : وضابط الغيبة كلّ فعل يقصد به هتك عرض المؤمن والتفكّه به.