مستند الشّيعة - ج ١٤

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٤

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-040-4
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٤٥٨

بمفلّكه وخالقه.

وفيه أيضا بسنده عن السجّاد : أنّه قال : « نهى رسول الله عن خصال » إلى أن قال : « وعن النظر في النجوم » (١).

وعن الصادق عليه‌السلام : يقول : « سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الساعة ، قال : عند إيمان بالنجوم وتكذيب بالقدر » (٢).

ورواية هشام بن الحكم المرويّة في الاحتجاج : إنّ زنديقا قال للصادق عليه‌السلام : ما تقول في علم النجوم؟ قال : « هو علم قلّت منافعه ، وكثرت مضارّه » إلى أن قال : « والمنجّم يضادّ الله في علمه بزعمه أنّه يردّ قضاء الله عن خلقه » (٣).

ورواية الكابلي المرويّة في معاني الأخبار : « الذنوب التي تظلم الهواء : السحر والكهانة والإيمان بالنجوم » (٤).

وقال الفاضلان والشهيدان : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من صدّق كاهنا أو منجّما فهو كافر بما أنزل الله على محمّد » (٥).

وفي دعاء الاستخارة المرويّة عن الصادق عليه‌السلام : « اللهمّ إنّك خلقت أقواما يلجئون إلى مطالع النجوم لأوقات حركاتهم وسكونهم وتصرّفهم وعقدهم ، وخلقتني أبوء إليك من اللجإ إليها ومن طلب الاختيارات بها ،

__________________

(١) الخصال : ٤١٧ ـ ١٠ وفيه : عن الباقر عن آبائه عليهم‌السلام ، الوسائل ١٧ : ١٤٣ أبواب ما يكتسب به ب ١٢ ح ٩.

(٢) الخصال : ٦٢ ـ ٨٧ ، الوسائل ١٧ : ١٤٣ أبواب ما يكتسب به ب ٢٤ ح ٦.

(٣) الاحتجاج : ٣٤٨ ، الوسائل ١٧ : ١٤٣ أبواب ما يكتسب به ب ٢٤ ح ١٠.

(٤) معاني الأخبار : ٢٧٠ ـ ٢ ، الوسائل ١١ : ٣٧٢ أبواب آداب السفر ب ١٤ ح ٦.

(٥) المحقّق في المعتبر ٢ : ٦٨٨ ، العلامة في التذكرة ١ : ٢٧١ ، الشهيد الثاني في المسالك ١ : ٧٦. وهو في الوسائل ١٧ : ١٤٤ أبواب ما يكتسب به ب ٢٤ ح ١١.

١٢١

وأتيقّن أنّك لم تطلع أحدا على غيبك في مواقعها ولم تسهّل له السبيل إلى تحصيل أفاعيلها ، وأنّك قادر على نقلها في مداراتها عن السعود العامّة والخاصّة إلى النحوس ، وعن النحوس الشاملة والمفردة إلى السعود » إلى أن قال : « وما أسعدت من اعتمد على مخلوق مثله وأستمدّ الاختيار لنفسه (١) » (٢) إلى آخر الدعاء ، إلى غير ذلك.

ولكن تلك الأخبار مع ضعف دلالة أكثرها ـ لأنّ الإيمان بالنجوم غير التنجيم ، والأمر بإحراق الكتب لعلّه لما أجاب من أنّه يقضي بذلك الظاهر في القطع ، وكثرة مضارّه يمكن أن يكون لأجل عدم إمكان التحرّز عمّا ظنّ مساءته وتعويق الحاجات وغيرهما ، ومضادّة المنجّم بزعمه ردّ قضاء الله مسلّم إذا زعم ذلك ، فالمحرّم هذا الزعم ـ معارضة بمثلها ، بل أصرح منها من النصوص : كرواية عبد الرحمن بن سيابة : قال : قلت لأبي عبد الله : جعلت فداك ، إنّ الناس يقولون : إنّ النجوم لا يحلّ النظر فيها وهي تعجبني ، فإن كانت تضرّ بديني فلا حاجة لي في شي‌ء يضرّ بديني ، وإن كانت لا تضرّ بديني فو الله إنّي لأشتهيها وأشتهي النظر فيها ، فقال : « ليس كما يقولون ، لا تضرّ بدينك » ثمَّ قال : « إنّكم تنظرون في شي‌ء منها كثيره لا يدرك وقليله لا ينتفع به ، تحسبون على طالع القمر » الحديث (٣).

قال ابن طاوس : روى هذا الحديث أصحابنا في الأصول (٤).

والمرويّ في كتاب التجمّل : إنّ الصادق عليه‌السلام قال : « يحلّ النظر في‌

__________________

(١) فتح الأبواب : ١٩٨ ، الوسائل ١٧ : ١٤٤ أبواب ما يكتسب به ب ٢٤ ح ١٢.

(٢) في النسخ زيادة : وهم أولئك. وهي ليست في الوسائل.

(٣) الكافي ٨ : ١٩٥ ـ ٢٣٣ ، الوسائل ١٧ : ١٤١ أبواب ما يكتسب به ب ٢٤ ح ١.

(٤) فرج المهموم : ٨٦.

١٢٢

النجوم » (١).

وفي كتاب نزهة الكرام وبستان العوام تأليف محمّد بن الحسين الرازي : إنّ الكاظم عليه‌السلام قال لهارون ـ بعد قوله : إنّ الناس ينسبونكم يا بني فاطمة إلى علم النجوم وفقهاء العامّة يروون ذمّه ـ : « هذا حديث ضعيف وإسناده مطعون فيه ، والله تبارك وتعالى قد مدح النجوم ، ولو لا أنّ النجوم صحيحة ما مدحها الله عزّ وجلّ ، والأنبياء عليهم‌السلام كانوا عالمين بها » إلى أن قال : « وبعد علم القرآن ما يكون أشرف من علم النجوم ، وهو علم الأنبياء والأوصياء وورثة الأنبياء » الحديث (٢).

وفي فقه الرضا عليه‌السلام : اعلم يرحمك الله إنّ كلّ ما يتعلّمه العباد من أنواع الصنائع ، مثل : « الكتاب والحساب والتجارة والنجوم والطب » إلى أن قال : « فحلال تعليمه والعمل به وأخذ الأجرة عليه » (٣).

وفي الرسالة الذهبيّة للرضا عليه‌السلام : « اعلم أنّ الجماع والقمر في برج الحمل أو الدلو من البروج أفضل ، وخير من ذلك أن يكون في برج الثور ، لكونه شرف القمر » (٤)

وتؤيّدها الروايات الدالّة على أنّه علم الأنبياء وأهل بيت بالهند وأهل بيت في العرب ، وأنّ عليّا عليه‌السلام أعلم الناس به ، وأنّه حق ، كروايات الخفّاف (٥) والمعلّى (٦) وجميل بن صالح (٧) ، وما رواه ابن طاوس عن‌

__________________

(١) راجع البحار ٥٥ : ٢٥٠ ـ ٣٥.

(٢) البحار ٥٥ : ٢٥٢ ـ ٣٦.

(٣) فقه الرضا عليه‌السلام : ٣٠١ ، مستدرك الوسائل ١٣ : ٦٤ أبواب ما يكتسب به ب ٢ ح ١.

(٤) البحار ٥٥ : ٢٦٨ ـ ٥٢.

(٥) الكافي ٨ : ٣٥١ ـ ٥٤٩ ، الوسائل ١٧ : ١٤١ أبواب ما يكتسب به ب ٢٤ ح ٢.

(٦) الكافي ٨ : ٣٣٠ ـ ٥٠٧ ، الوسائل ١٧ : ١٤٢ أبواب ما يكتسب به ب ٢٤ ح ٣.

(٧) الكافي ٨ : ٣٣٠ ـ ٥٠٨ ، الوسائل ١٧ : ١٤٢ أبواب ما يكتسب به ب ٢٤ ح ٤.

١٢٣

يونس بن عبد الرحمن (١) ، وما رواه ابن شهرآشوب في مناقبه (٢) ، وغيرها.

وتقرير الكاظم عليه‌السلام ابن أبي عمير عليه ، كما في مرسلته المرويّة في الفقيه : كنت أنظر في النجوم وأعرفها وأعرف الطالع ، فيدخلني من ذلك شي‌ء ، فشكوت ذلك إلى أبي الحسن عليه‌السلام ، فقال : « إذا وقع في نفسك شي‌ء فتصدّق على أول مسكين ثمَّ امض ، فإنّ الله تعالى يدفع عنك » (٣) إلى غير ذلك.

وحمل الأخبار المانعة على اعتقاد التأثير أو الحكم بالبتّ والعمل في غيرهما بمقتضى الأصل متعيّن.

ومنها : الغناء‌ ، والكلام إمّا في مهيّته أو حكمه.

أمّا الأول : فبيانه : أنّ كلمات العلماء من اللغويين والأدباء والفقهاء مختلفة في تفسير الغناء.

ففسّره بعضهم بالصوت المطرب.

وآخر بالصوت المشتمل على الترجيع.

وثالث بالصوت المشتمل على الترجيع والإطراب معا.

ورابع بالترجيع.

وخامس بالتطريب.

وسادس بالترجيع مع التطريب.

وسابع برفع الصوت مع الترجيع.

وثامن بمدّ الصوت.

__________________

(١) البحار ٥٥ : ٢٣٥ ـ ١٥.

(٢) البحار ٥٥ : ٢٤٩ ـ ٣٢.

(٣) الفقيه ٢ : ١٧٥ ـ ٧٨٣ ، الوسائل ١١ : ٣٧٦ أبواب آداب السفر ب ١٥ ح ٣.

١٢٤

وتاسع بمدّه مع أحد الوصفين أو كليهما.

وعاشر بتحسين الصوت.

وحادي عشر بمدّ الصوت وموالاته.

وثاني عشر ـ وهو الغزالي ـ بالصوت الموزون المفهم المحرّك للقلب (١).

ولا دليل تامّا على تعيين أحد هذه المعاني أصلا.

نعم ، يكون القدر المتيقّن من الجميع المتّفق عليه في الصدق ـ وهو : مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب الأعمّ عن السارّ والمحزن المفهم لمعنى ـ غناء قطعا عند جميع أرباب هذه الأقوال ، فلو لم يكن هنا قول آخر يكون هذا القدر المتّفق عليه غناء قطعا.

إلاّ أنّ بعض أهل اللغة فسّره بما يقال له بالفارسية : سرود ، أيضا.

وحكي عن الصحاح أنّه قال : الغناء هو ما يسمّيه العجم بـ : « دو بيتي ».

وقال بعض الفقهاء (٢) : إنّه يجب الرجوع في تعيين معناه إلى العرف.

ولا يخفى ما في معنى الأولين من الخفاء ، فإنّ « سرود » و « دو بيتي » ليس بذلك الاشتهار في هذه الأعصار بحيث يتّضح المراد منها ، ويمكن أن يكون هذا متّحدا مع أحد المعاني المتقدّمة.

ويحتمل قريبا أن يكون للّحن وكيفيّة الترجيع مدخليّة في صدقهما ، ويشعر به ما في رواية عبد الله بن سنان الآتية (٣) الفارقة بين لحن العرب‌

__________________

(١) إحياء علوم الدين ٢ : ٢٧٠.

(٢) منهم الفاضل المقداد في التنقيح ٢ : ١١ ، الشهيد الثاني في الروضة ٣ : ٢١٢ ، صاحب الرياض ١ : ٥٠٢.

(٣) في ص ١٤٨ و ١٤٩.

١٢٥

ولحن أرباب الفسوق والكبائر.

ويؤيّده أيضا ما قد يفسّر به « سرود » من أنّه ما يقال له بالفارسية « خوانندگى » ، وقد يفسّر الغناء بذلك أيضا ، فإنّ التعبير بـ : « خوانندگى » في الأغلب إنّما يكون بواسطة الألحان والنغمات.

وكذا الثالث ، فإنّ فيه خفاء أيضا ، فإنّه لا عرف لأهل العجم في لفظ الغناء ، ومرادفه من لغة الفرس غير معلوم ، وعرف العرب فيه غير منضبط ، وقد يعبّر عنه أيضا بـ : « خوانندگى » ، وهو غير ثابت أيضا.

ولأجل هذه الاختلافات يحصل الإجمال غايته في معنى الغناء ، ولكنّ الظاهر أنّ القدر المتيقّن المذكور من المعاني الاثنى عشريّة ـ سيّما إذا ضمّ معه اللحن الخاصّ المعهود الذي يستعمله أرباب الملاهي ويتداول عندهم ويعبّر عنه الآن عند العوام بـ : « خوانندگى » ـ يكون غناء قطعا ، سواء كان في القرآن والدعاء والمراثي أو في غيرها.

ولعلّ إلى اعتبار هذا اللحن في مفهومه قال صاحب الوافي : لا وجه لتخصيص الجواز بزفّ العرائس ولا سيّما وقد وردت الرخصة في غيره ، إلاّ أن يقال : إنّ بعض الأفعال لا يليق بذوي المروّات وإن كان مباحا (١).

فإنّ غير اللائق للمروّة هو هذه الألحان المعهودة.

وأمّا الثاني ، فلا خلاف في حرمة ما ذكرنا أنّه غناء قطعا ـ وهو : مدّ الصوت المفهم المشتمل على الترجيع والإطراب ، سيّما مع الضميمة المذكورة ـ في الجملة ، ولعلّ عدم الخلاف بل الإجماع عليه مستفيض ، بل هو إجماع محقّق قطعا ، بل ضرورة دينيّة.

__________________

(١) الوافي ١٧ : ٢٢٠.

١٢٦

وإنّما الكلام في أنّه هل هو حرام مطلقا من غير استثناء فرد منه ، أو يحرم في الجملة ـ يعني : أنّه يحرم بعض أفراده ـ إمّا لاستثناء بعض آخر بدليل أو لاختصاص تحريم الغناء ببعض أفراده؟

فالمستفاد من كلام الشيخ في الاستبصار : الثاني ، حيث قال ـ بعد نقل أخبار حرمة الغناء وكسب المغنّية ـ : الوجه في هذه الأخبار الرخصة فيمن لا يتكلّم بالأباطيل ، ولا يلعب بالملاهي والعيدان وأشباهها ، ولا بالقصب وغيره ، بل كان ممّن يزفّ العروس ويتكلّم عندها بإنشاد الشعر ، والقول البعيد عن الفحش والأباطيل .. وأمّا ما عدا هؤلاء ـ ممّن يتعيّن لسائر أنواع الملاهي ـ فلا يجوز على حال ، سواء كان في العرائس أو غيرها (١). انتهى.

وهو ظاهر الكليني ، حيث ذكر كثيرا من أخبار الغناء في أبواب الأشربة (٢) ، لاشتماله على الملاهي وشرب المسكر. ويظهر من كلام صاحب الكفاية أيضا أنّ صاحب الكافي لا يحرّم الغناء في القرآن (٣).

ومحتمل الصدوق ، كما يظهر من تفسيره للمرسلة الآتية (٤) ، بل والده في الرسالة (٥) ، حيث عبّر فيها بمثل ما عبّر في الرضويّ الآتي بيانه.

بل ذكر صاحب الكفاية في كتاب التجارة ـ بعد نقل كلام عن الشيخ أبي عليّ الطبرسي في مجمع البيان ـ : إلاّ أنّ هذا يدلّ على أنّ تحسين الصوت بالقرآن والتغنّي به مستحبّ عنده ، وأنّ خلاف ذلك لم يكن معروفا‌

__________________

(١) الاستبصار ٣ : ٦٢.

(٢) الكافي ٦ : ٤٣١.

(٣) الكفاية : ٨٦.

(٤) الفقيه ٤ : ٤٢ ـ ١٣٩.

(٥) حكاه عنه في المقنع : ١٥٤.

١٢٧

عند القدماء ، قال : وكلام السيّد المرتضى في الدرر والغرر لا يخلو عن إشعار واضح بذلك (١).

ويشعر به كلام الفاضل في المنتهى أيضا (٢) ، حيث يذكر في أثناء ذكر المسألة عبارة الاستبصار المتقدّمة الظاهرة في التخصيص شاهدا لحكمه بحرمة الغناء.

وكذا هو المستفاد من كلام طائفة من متأخّري أصحابنا ، منهم المحقّق الأردبيلي (٣) ، حيث جعل في باب الشهادات من شرح الإرشاد الاجتناب عن الغناء في مراثي الحسين عليه‌السلام أحوط.

ومنهم صاحب الكفاية ، حيث قال في كتاب التجارة : وفي عدّة من الأخبار الدالّة على حرمة الغناء إشعار بكونه لهوا باطلا ، وصدق ذلك في القرآن والدعوات والأذكار المقروءة بالأصوات الطيّبة المذكّرة للآخرة المهيّجة للأشواق في العالم الأعلى محلّ تأمّل.

إلى أن قال : فإذن لا ريب في تحريم الغناء على سبيل اللهو والاقتران بالملاهي ونحوها ، ثمَّ إن ثبت إجماع في غيره كان متّبعا ، وإلاّ بقي حكمه على أصل الإباحة (٤).

وقال في كتاب الشهادات : واستثنى بعضهم مراثي الحسين عليه‌السلام ، إلى أن قال : وهو غير بعيد (٥).

ومنهم صاحب الوافي ، قال في باب ترتيل القرآن : ولعلّه كان نحوا‌

__________________

(١) الكفاية : ٨٦ ، وفيه : لا يخلو عن إشكال .. ، وهو في مجمع البيان ١ : ١٦.

(٢) المنتهى ٢ : ١٠١٢.

(٣) مجمع الفائدة ١٢ : ٣٣٨.

(٤) الكفاية : ٨٦.

(٥) الكفاية : ٢٨١.

١٢٨

من التغنّي مذموما في شرعنا (١).

وقال في باب كسب المغنّية وشرائها : لا بأس بسماع التغنّي بالأشعار المتضمّنة ذكر الجنّة والنار ، والتشويق إلى دار القرار ، ووصف نعم الله الملك الجبار ، وذكر العبادات ، والترغيب في الخيرات والزهد في الفانيات ، ونحو ذلك (٢). انتهى.

وقال في المفاتيح ما ملخّصه : والذي يظهر لي ـ من مجموع الأخبار الواردة في الغناء ويقتضيه التوفيق بينهما ـ اختصاص حرمته وحرمة ما يتعلّق به بما كان على النحو المتعارف في زمن بني أميّة ، من دخول الرجال عليهنّ ، واستماعهم لقولهنّ ، وتكلّمهنّ بالأباطيل ، ولعبهنّ بالملاهي ، وبالجملة : ما اشتمل على فعل محرّم دون ما سوى ذلك. انتهى (٣).

والمشهور بين المتأخّرين ـ كما قال في الكفاية (٤) ـ الأول ، ولا بدّ أولا من بيان أدلّة حرمة الغناء ، ثمَّ بيان ما يستفاد من المجموع ، ثمَّ ملاحظة أنّه هل استثني منه شي‌ء يثبت من أدلّة الغناء حرمته.

فنقول : الدليل عليها هو الإجماع القطعي ـ بل الضرورة الدينيّة ـ والكتاب ، والسنّة ، أمّا الإجماع فظاهر ، وأمّا الكتاب فأربع آيات بضميمة الأخبار المفسّرة لها :

الاولى : قوله سبحانه ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) (٥).

__________________

(١) الوافي ٩ : ١٧٤٣.

(٢) الوافي ١٧ : ٢٢١.

(٣) المفاتيح ٢ : ٢١.

(٤) الكفاية : ٨٥.

(٥) الحج : ٢٢.

١٢٩

بضميمة رواية أبي بصير : عن قول الله تعالى ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) ، قال : « هو الغناء » (١).

ورواية الشحّام ومرسلة ابن أبي عمير ، وفيهما ـ بعد السؤال عن الآية : « وقول الزور : الغناء » (٢).

والثانية : قوله سبحانه ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ) (٣).

بضميمة ما في تفسير عليّ القمّي عن الباقر عليه‌السلام : « إنّه الغناء وشرب الخمر وجميع الملاهي » (٤).

والمرويّ في معاني الأخبار عن جعفر بن محمّد عليهما‌السلام : عن قول الله عزّ وجلّ ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ) ، قال : « منه الغناء » (٥).

وفي صحيحة محمّد : « الغناء ممّا قال الله تعالى ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ) ـ الآية ـ » (٦).

وقريبة منها رواية مهران بن محمّد (٧).

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٣١ ـ ١ ، الوسائل ١٧ : ٣٠٥ أبواب ما يكتسب به ب ٩٩ ح ٩.

(٢) رواية الشحّام في : الكافي ٦ : ٤٣٥ ـ ٢ ، الوسائل ١٧ : ٣٠٣ أبواب ما يكتسب به ب ٩٩ ح ٢.

مرسلة ابن أبي عمير في : الكافي ٦ : ٤٣٦ ـ ٧ ، الوسائل ١٧ : ٣٠٥ أبواب ما يكتسب به ب ٩٩ ح ٨.

(٣) لقمان : ٦.

(٤) تفسير القمي ٢ : ١٦١.

(٥) معاني الأخبار : ٣٤٩ ـ ١ ، الوسائل ١٧ : ٣٠٨ أبواب ما يكتسب به ب ٩٩ ح ٢٠.

(٦) الكافي ٦ : ٤٣١ ـ ٤ ، الوسائل ١٧ : ٣٠٤ أبواب ما يكتسب به ب ٩٩ ح ٦.

(٧) الكافي ٦ : ٤٣١ ـ ٥ ، الوسائل ١٧ : ٣٠٥ أبواب ما يكتسب به ب ٩٩ ح ٧.

١٣٠

ورواية الوشّاء : عن الغناء ، قال : « هو قول الله عزّ وجلّ ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ) » (١).

ورواية الحسن بن هارون : « الغناء مجلس لا ينظر الله إلى أهله ، وهو ممّا قال الله عزّ وجلّ ( وَمِنَ النّاسِ ) ـ الآية ـ » (٢).

وفي الصافي عن الكافي ، عن الباقر عليه‌السلام : « الغناء ممّا أوعد الله عليه النار » وتلا هذه الآية (٣).

وفي الرضويّ : « إنّ الغناء ممّا قد وعد الله عليه النار في قوله ( وَمِنَ النّاسِ ) ـ الآية ـ » (٤).

والثالثة : قوله سبحانه ( وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) (٥).

بضميمة ما في تفسير القمّي عن الصادق عليه‌السلام ( وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) : « الغناء والملاهي » (٦).

والرابعة : قال الله سبحانه ( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) (٧).

بضميمة صحيحة محمّد والكناني في قول الله عزّ وجلّ ( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) ، قال : « هو الغناء » (٨).

وأمّا السنّة فكثيرة جدّا :

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٣٢ ـ ٨ ، الوسائل ١٧ : ٣٠٦ أبواب ما يكتسب به ب ٩٩ ح ١١.

(٢) الكافي ٦ : ٤٣٣ ـ ١٦ ، الوسائل ١٧ : ٣٠٧ أبواب ما يكتسب به ب ٩٩ ح ١٦.

(٣) الكافي ٦ : ٤٣١ ـ ٤ ، تفسير الصافي ٤ : ١٤٠ ، الوسائل ١٧ : ٣٠٤ أبواب ما يكتسب به ب ٩٩ ح ٦.

(٤) فقه الرضا عليه‌السلام : ٢٨١ ، مستدرك الوسائل ١٣ : ٢١٣ أبواب ما يكتسب به ب ٧٨ ح ٩.

(٥) المؤمنون : ٣.

(٦) تفسير القمي ٢ : ٨٨.

(٧) الفرقان : ٧٢.

(٨) الكافي ٦ : ٤٣٣ ـ ١٣ ، الوسائل ١٧ : ٣٠٤ أبواب ما يكتسب به ب ٩٩ ح ٥.

١٣١

ففي صحيحة الشحّام : « بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة ، ولا تجاب فيه الدعوة ، ولا يدخله الملك » (١).

وروايته : « الغناء عشّ النفاق » (٢).

ورواية يونس : إنّ العبّاسي ذكر أنّك ترخّص في الغناء ، فقال : « كذب الزنديق ما هكذا قلت له ، سألني عن الغناء ، فقلت له : إنّ رجلا أتى أبا جعفر عليه‌السلام فسأله عن الغناء ، فقال : يا فلان إذا ميّز الله بين الحقّ والباطل فأين يكون الغناء؟ فقال : مع الباطل ، فقال : قد حكمت » (٣).

وفي جامع الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يحشر صاحب الغناء من قبره أعمى وأخرس وأبكم » (٤).

وفيه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما رفع أحد صوته بغناء إلاّ بعث الله شيطانين على منكبه يضربون بأعقابهما على صدره حتى يمسك » (٥).

وفي الخصال عن الصادق عليه‌السلام : « الغناء يورث النفاق ويعقب الفقر » (٦).

ومرسلة الفقيه : سأل رجل عليّ بن الحسين عليه‌السلام عن شراء جارية لها صوت ، فقال : ما عليك لو اشتريتها فذكّرتك الجنّة ـ يعني بقراءة القرآن ـ والزهد والفضائل التي ليست بغناء ، وأمّا الغناء فمحظور » (٧).

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٣٣ ـ ١٥ ، الوسائل ١٧ : ٣٠٣ أبواب ما يكتسب به ب ٩٩ ح ١.

(٢) الكافي ٦ : ٤٣١ ـ ٢ ، الوسائل ١٧ : ٣٠٥ أبواب ما يكتسب به ب ٩٩ ح ١٠.

(٣) الكافي ٦ : ٤٣٥ ـ ٢٥ ، الوسائل ١٧ : ٣٠٦ أبواب ما يكتسب به ب ٩٩ ح ١٣.

(٤) جامع الأخبار : ١٥٤ ، مستدرك الوسائل ١٣ : ٢١٩ أبواب ما يكتسب به ب ٧٩ ح ١٧.

(٥) جامع الأخبار : ١٥٤ ، مستدرك الوسائل ١٣ : ٢١٤ أبواب ما يكتسب به ب ٧٨ ح ١٥ ، وفيهما : « منكبيه » بدل : « منكبه ».

(٦) الخصال ١ : ٢٤ ـ ٨٤ ، الوسائل ١٧ : ٣٠٩ أبواب ما يكتسب به ب ٩٩ ح ٢٣.

(٧) الفقيه ٤ : ٤٢ ـ ١٣٩ ، الوسائل ١٧ : ١٢٢ أبواب ما يكتسب به ب ١٦ ح ٢.

١٣٢

وتدلّ عليه المستفيضة المانعة عن بيع المغنّيات وشرائهنّ وتعليمهنّ :

كرواية الطاطري : عن بيع الجواري المغنّيات ، فقال : « شراؤهنّ وبيعهنّ حرام ، وتعليمهنّ كفر ، واستماعهنّ نفاق » (١).

ورواية ابن أبي البلاد ، وفيها : « وتعليمهنّ كفر ، والاستماع منهنّ نفاق ، وثمنهنّ سحت » (٢).

ويستفاد من الأخيرتين حرمة استماع الغناء أيضا ، كما هو مجمع عليه قطعا.

وإطلاق المنع عن الاستماع منهنّ ـ حتى من المحارم ـ يأبى عن كون المنع لحرمة استماع صوت الأجانب ، مضافا إلى ظهور العطف على تعليمهنّ والتعليق بالوصف في إرادة استماع الغناء.

ويدلّ على حرمة الغناء واستماعه أيضا المرويّ في المجمع عن طريق العامّة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من ملأ مسامعه من غناء لم يؤذن له أن يسمع صوت الروحانيّين يوم القيامة » قيل : وما الروحانيّون يا رسول الله؟ قال : « قرّاء أهل الجنّة » (٣).

ورواية عنبسة : « استماع الغناء واللهو ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع » (٤).

ومرسلة إبراهيم بن محمّد المدني : سئل عن الغناء وأنا حاضر ،

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٢٠ ـ ٥ ، التهذيب ٦ : ٣٥٦ ـ ١٠١٨ ، الاستبصار ٣ : ٦١ ـ ٢٠١ ، الوسائل ١٧ : ١٢٤ أبواب ما يكتسب به ب ١٦ ح ٧.

(٢) الكافي ٥ : ١٢٠ ـ ٧ ، التهذيب ٦ : ٣٥٧ ـ ١٠٢١ ، الاستبصار ٣ : ٦١ ـ ٢٠٤ ، الوسائل ١٧ : ١٢٣ أبواب ما يكتسب به ب ١٦ ح ٥.

(٣) مجمع البيان ٤ : ٣١٤.

(٤) الكافي ٦ : ٤٣٤ ـ ٢٣ ، الوسائل ١٧ : ٣١٦ أبواب ما يكتسب به ب ١٠١ ح ١.

١٣٣

فقال : « لا تدخلوا بيوتا الله معرض عن أهلها » (١).

وقد يستدلّ عليها برواية مسعدة بن زياد : إنّي أدخل كنيفا لي ، ولي جيران عندهم جوار يتغنّين ويضربن بالعود ، فربّما أطلت الجلوس استماعا لهنّ ، فقال : « لا تفعل » ، فقال الرجل : والله ما آتيهنّ ، وإنّما هو سماع أسمعه بأذني ، فقال : « لله أنت ، أمّا سمعت الله يقول ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) (٢) » فقال : بلى والله لكأنّي لم أسمع بهذه الآية ، إلى أن قال : « قم فاغتسل وصلّ ما بدا لك ، فإنّك كنت مقيما على أمر عظيم ، ما كان أسوأ حالك لو متّ على ذلك » الحديث (٣).

أقول : أمّا الإجماع فظاهر أنّ الثابت منه ليس إلاّ حرمة الغناء في الجملة ، ولا يفيد شيئا في موضع الخلاف.

وأمّا الكتاب فظاهر أنّه لا دلالة للآيتين الأخيرتين على الحرمة أصلا ، مضافا إلى ما يظهر من بعض الأخبار المعتبرة من تفسير اللغو بغير الغناء ممّا يباينه أو يعمّه.

وأمّا الآية الثانية ، فلا شكّ أنّه لا دلالة للأخبار المفسّرة لها بنفسها على الحرمة ، بل الدالّ عليها هو الآية بضميمة التفسير ، فيكون معنى الآية : ومن الناس من يشتري الغناء ليضلّ عن سبيل الله ويتّخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين. فمدلولها حرمة الغناء الذي يشترى ليضلّ عن سبيل الله ويتّخذها هزوا ، وهو ممّا لا شكّ فيه ، ولا تدلّ على حرمة غير ذلك ممّا‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٣٤ ـ ١٨ ، الوسائل ١٧ : ٣٠٦ أبواب ما يكتسب به ب ٩٩ ح ١٢.

(٢) الإسراء : ٣٦.

(٣) الكافي ٦ : ٤٣٢ : ١٠ ، الفقيه ١ : ٤٥ ـ ١٧٧ ، التهذيب ١ : ١١٦ ـ ٣٠٤ ، الوسائل ٣ : ٣٣١ أبواب الأغسال المندوبة ب ١٨ ح ١.

١٣٤

يتّخذ الرقيق القلب لذكر الجنّة ، ويهيج الشوق إلى العالم الأعلى ، وتأثير القرآن والدعاء في القلوب ، بل في قوله ( لَهْوَ الْحَدِيثِ ) إشعار بذلك أيضا.

مع أنّ رواية الوشّاء محتملة لأن تكون تفسيرا للغناء بلهو الحديث ، لا بيانا لحكمه ، فلا تكون شاملة لما لا يصدق عليه لهو الحديث لغة وعرفا.

مضافا إلى معارضة هذه الأخبار مع ما روي في مجمع البيان عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ لهو الحديث في هذه الآية : الطعن في الحقّ والاستهزاء به » (١).

ورواية أبي بصير : عن كسب المغنّيات ، فقال : « التي يدخل عليها الرجال حرام ، والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس ، وهو قول الله عزّ وجلّ ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي ) (٢) ـ الآية ـ » ، فإنّها تدلّ على أنّ لهو الحديث هو غناء المغنّيات التي يدخل عليهنّ الرجال ، لا مطلقا.

وإلى أنّ الظاهر من رواية الحسن بن هارون (٣) : أنّ الغناء ـ الذي أريد من لهو الحديث ـ مجلس ، وهو ظاهر في محافل المغنّيات.

وإلى أنّ مدلول سائر الأخبار المفسّرة أنّ الغناء فرد من لهو الحديث ، وأنّه بعض ما قال الله سبحانه ، فيشعر بأنّ المراد من لهو الحديث معناه اللغوي والعرفي الذي فرد منه الغناء ، وهو لا يصدق إلاّ على الأقوال الباطلة الملهية لا مطلقا.

__________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٣١٣.

(٢) الكافي ٥ : ١١٩ ـ ١ ، التهذيب ٦ : ٣٥٨ ـ ١٠٢٤ ، الاستبصار ٣ : ٦٢ ـ ٢٠٧ ، الوسائل ١٧ : ١٢٠ أبواب ما يكتسب به ب ١٥ ح ١.

(٣) المتقدّمة في ص : ١٣١.

١٣٥

فلم تبق من الآيات الكريمة إلاّ الآية الاولى ، وسيجي‌ء الكلام فيها.

وأمّا الأخبار ، فظاهر أنّ الروايات المانعة عن بيع المغنّيات وشرائهنّ والاستماع لهنّ لا دلالة لها على حرمة المطلق ، إذ لا شكّ انّ المراد منهنّ ليس من من شأنه أن يتغنّى ويقدر على الغناء ، لعدم حرمة بيعه وشرائه قطعا. بل المراد : الجواري اللاّتي أخذن ذلك كسبا وحرفة ، كما هو ظاهر الأخبار المانعة عن كسبهنّ وأجرهنّ.

وعلى هذا ، فتكون إرادتهنّ من المغنّيات ـ الموضوعة لغة لمن يغنّي مطلقا إمّا مع بقاء المبدأ أو مطلقا ـ مجازا ، فيمكن أن يكون المراد بهنّ اللاّتي كنّ في تلك الأزمنة ، وهنّ اللاّتي أخذنها كسبا وحرفة في محافل الرجال والأعراس ، بل الظاهر أنّه لم يكن يكسب بغيرهما ، وفي رواية أبي بصير المتقدّمة ـ المقسّمة لهنّ إلى اللاّتي يدخل عليهن الرجال واللاّتي تزفّ العرائس ـ دلالة على ذلك.

وأمّا سائر الروايات ، فبكثرتها وتعدّدها خالية عن الدلالة على الحرمة أصلا ، إذ لا دلالة ـ لعدم الأمن من الفجيعة ، وعدم إجابة الدعوة ، وعدم دخول الملك ، وكونه عشّ النفاق أو مورثه أو منبته ، أو كونه مع الباطل ، أو الحشر أعمى وأصمّ وأبكم ، أو بعث الشيطان للضرب على الصدر ، أو تعقيب الفقر ، أو عدم سماع صوت الروحانيّين ، أو أعراض الله عن أهله ـ على إثبات الحرمة ، لورود أمثال ذلك في المكروهات كثيرا.

مع أنّ روايتي جامع الأخبار ورواية المجمع (١) عن طريق العامّة لا حجّية فيها أصلا.

__________________

(١) المتقدّمة جميعا في ص : ١٣٢ و ١٣٣.

١٣٦

وأمّا مرسلة الفقيه (١) ، فإنّما تفيد الحرمة لو كان التفسير من الإمام ، وهو غير معلوم ، بل خلاف الظاهر ، لأنّ الظاهر أنّه من الصدوق ، مع أنّه لو كان من الإمام أيضا إنّما يفيد حرمة المطلق لو كان قوله : « التي ليست بغناء » وصفا احترازيّا للقراءة ، وهو أيضا غير معلوم.

وأمّا رواية مسعدة (٢) ، فمع اختصاصها بغناء الجواري المغنّية ، مشتملة على ضرب العود أيضا ، فلعلّ المعصية كانت لأجله.

فإن قيل : إنّ تكذيبه عليه‌السلام لمن نسب إليه الرخصة في الغناء يدلّ على انتفاء الرخصة ، فيكون حراما.

قلنا : التكذيب في نسبة الرخصة لا يستلزم المنع ، لأنّ عدم ترخيص الإمام أعمّ من المنع ، بل كلامه عليه‌السلام : ما هكذا قلت ، بل قلت كذا ، صريح في أنّ التكذيب ليس للمنع ، بل لذكره خلاف الواقع ، مع أنّه يمكن أن يكون التكذيب لأجل أنّه نسب الرخصة في المطلق ، وهو كذب صريح.

ولا يتوهّم دلالة كونه مع الباطل على الحرمة ، إذ لا يفيد ذلك أزيد من الكراهة ، لعدم معلوميّة أنّ المراد بالباطل ما يختصّ بالحرام ، ولذا يصحّ أن يقال : التكلّم بما لا يعني يكون من الباطل.

مضافا إلى أنّ [ في ] (٣) تصريح السائل بكونه مع الباطل ـ بحيث يدلّ على شدّة ظهور كونه معه عنده ـ إشعارا ظاهرا بأنّ المراد منه ما كان مع التكلّم بالأباطيل.

فإن قيل : هذه الأخبار وإن لم تثبت التحريم ، إلاّ أنّ الروايتين‌

__________________

(١) المتقدّمة في ص : ١٣٢.

(٢) المتقدّمة في ص : ١٣٤.

(٣) أضفناه لاستقامة العبارة.

١٣٧

المذكورتين في تفسير الآية الثانية المتضمّنتين لقوله : « إنّ الغناء ممّا أوعد الله عليه النار » (١) تدلاّن على حرمته ، بل كونه من الكبائر.

قلنا : لا دلالة لهما إلاّ على حرمة بعض أفراد الغناء ، وهو الذي يشترى ليضلّ به عن سبيل الله ويتّخذها هزوا ، ألا ترى أنّه لو قال أحد : أمر الأمير بضرب البصري ، في قوله : اضرب زيد البصري ، يفهم أنّه مراده من البصري دون المطلق ، ولو أبيت الفهم فلا شكّ أنّه ممّا يصلح قرينة لإرادة هذا الفرد من المطلق ، ومعه لا تجري فيه أصالة إرادة الحقيقة ، التي هي الإطلاق.

فلم يبق دليل على حرمة مطلق الغناء سوى قوله سبحانه ( وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) (٢) بضميمة تفسيره في الأخبار المتقدّمة (٣) بالغناء.

إلاّ أنّه يخدشه : أنّه يعارض تلك الأخبار المفسّرة ما رواه الصدوق في معاني الأخبار عن الصادق عليه‌السلام : قال : سألته عن قول الزور ، قال : « منه قول الرجل للذي يغنّي : أحسنت » (٤) ، فإنّ الأخبار الأولة باعتبار الحمل تدلّ على أنّ معناه الغناء ، وذلك يدلّ على أنّه غيره أو ما هو أعمّ منه ، بل فيه إشعار بأنّ المراد من الزور هو معناه اللغوي والعرفي ـ أي الباطل والكذب والتهمة ـ كما في النهاية الأثيريّة (٥). وعدم صدق شي‌ء من ذلك على مثل القرآن والأدعية والمواعظ والمراثي واضح وإن ضمّ معه نوع ترجيع.

بل يعارضها ما رواه في الصافي عن المجمع ، قال : « وعن‌

__________________

(١) راجع ص ١٣١.

(٢) الحج : ٣٠.

(٣) في ص : ١٣٠.

(٤) معاني الأخبار : ٣٤٩ ـ ٢ ، الوسائل ١٧ : ٣٠٩ أبواب ما يكتسب به ب ٩٩ ح ٢١.

(٥) النهاية ٢ : ٣١٨.

١٣٨

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه عدلت شهادة الزور بالشرك بالله » ثمَّ قرأ هذه الآية (١). فإنّه يدلّ على أنّ المراد بقول الزور : شهادة الزور.

وبملاحظة هذين المتعارضين ـ المعتضدين بظاهر اللفظ ، وباشتهار تفسيره بين المفسّرين بشهادة الزور أو مطلق القول الباطل ـ يوهن دلالة تلك الآية أيضا على حرمة المطلق.

مضافا إلى معارضتها مع ما دلّ على أنّ الغناء على قسمين : حرام وحلال.

كالمرويّ في قرب الإسناد للحميري بإسناد لا يبعد إلحاقه بالصحاح ـ كما في الكفاية (٢) ـ عن عليّ بن جعفر ، عن أخيه : قال : سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر والأضحى والفرح يكون؟ قال : « لا بأس ما لم يعص به » (٣).

والمرويّ في تفسير الإمام عليه‌السلام ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في حديث طويل ، فيه ذكر شجرة طوبى وشجرة الزقّوم والمتعلّقين بأغصان كلّ واحدة منهما ـ: « ومن تغنّى بغناء حرام يبعث فيه على المعاصي فقد تعلّق بغصن منه » (٤) أي من الزقّوم.

فإنّ الأول صريح في أنّ من الغناء ما لا يعصى به ، والثاني ظاهر في أنّ الغناء على قسمين : حرام وحلال.

وصحيحة أبي بصير : « أجر المغنّية التي تزف العرائس ليس به بأس ،

__________________

(١) تفسير الصافي ٣ : ٣٧٧.

(٢) الكفاية : ٨٦.

(٣) قرب الإسناد : ٢٩٤ ـ ١١٥٨ ، الوسائل ١٧ : ١٢٢ أبواب ما يكتسب به ب ١٥ ح ٥.

(٤) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٦٤٨.

١٣٩

ليست بالتي يدخل عليها الرجال » (١) ، فإنّها ظاهرة في أنّه لا حرمة في غناء المغنّية التي لا يدخل عليها الرجال.

المؤيّدة بروايته الأخرى المتقدّمة (٢) المقسّمة للمغنّيات على قسمين : ما يدخل عليهنّ الرجال وما يزفّ العرائس ، والحكم بحرمة الاولى ونفي البأس عن الثانية ، وبأنّ الظاهر اشتهار هذا التقسيم عند أهل الصدر الأول ، كما يظهر من كلام الطبرسي.

وعلى هذا فنقول : إنّ المراد بما يعصى به من الغناء أو عمل الحرام منه [ إمّا ] (٣) هو ما يتكلّم بالباطل ويقترن بالملاهي ونحوهما ، وحينئذ فعدم حرمة المطلق واضح.

أو يكون غيره ويكون المراد غناء نهى عنه الشارع ، ولعدم كونه معلوما يحصل فيه الإجمال ، وتكون الآية مخصّصة بالمجمل ، والعام المخصّص أو المطلق المقيّد بالمجمل ليس بحجّة.

ويؤكّد اختصاص الغناء المحرّم بنوع خاصّ ما يتضمّنه كثير من الأخبار المذكورة ، من نحو قوله : « الغناء مجلس » كما في رواية الحسن بن هارون (٤) ، أو : « بيت الغناء » كما في صحيحة الشحّام (٥) ، أو : « صاحب الغناء » كما في رواية جامع الأخبار (٦) ، أو : « لا تدخلوا بيوتا » بعد السؤال‌

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٢٠ ـ ٣ ، الفقيه ٣ : ٩٨ ـ ٣٧٦ ، التهذيب ٦ : ٣٥٧ ـ ١٠٢٢ ، الوسائل ١٧ : ١٢١ أبواب ما يكتسب به ب ١٥ ح ٣.

(٢) في ص : ١٣٥.

(٣) في النسخ : ما ، والأنسب ما أثبتناه.

(٤) الكافي ٦ : ٤٣٣ ـ ١٦ ، الوسائل ١٧ : ٣٠٧ أبواب ما يكتسب به ب ٩٩ ح ١٦.

(٥) الكافي ٦ : ٤٣٣ ـ ١٥ ، الوسائل ١٧ : ٣٠٣ أبواب ما يكتسب به ب ٩٩ ح ١.

(٦) جامع الأخبار : ١٥٤.

١٤٠