بحوث في الملل والنّحل - ج ٤

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤١٦

إلاّ وتسمع من الجماعة المتسمين بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يصرخون في وجهك « يا حاج! هذا شرك » وهم لم يحددوا للعبادة حداً منطقياً حتّى يميزوا في ضوئه العبادة عن التعظيم ، فعادوا يسمّون كل تعظيم شركاً ، ولو كان تعظيم وخضوع عبادة ، للزم كفر المملوك والزوجة ، والولد والخادم ، والأجير ، والرعية ، والجنود ، بإطاعتهم وخضوعهم للمولى والزوج والأب والمخدوم والمستأجر والملك والأمراء ، وجميع الخلق لإطاعتهم بعضهم بعضاً ، بل كفر الأنبياء لإطاعتهم آباءهم وخضوعهم لهم ، وقد أوجب اللّه طاعة أوامر الأبوين ، وخفض جناح الذل لهما ، وقال لرسوله : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَن اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤمِنِيِنَ ) (١) ، وأمر بتعزير (٢) النبي وتوقيره ، وأمر بإِطاعة الزوجة لزوجها ، وأوجب إطاعة العبيد لمواليهم وسمّاهم عبيداً (٣).

وقد عرفناك على أنّ العنصر المقوم لكون التعظيم عبادة ، هو الاعتقاد بألوهية المعظَّم له ، أو ربوبيته ، أو كونه مالكاً لمصير المعظّم ، وأنّ بيده عاجله وآجله ، ومنافعه ومضارّه ، ولا اقل مغفرته وشفاعته ، وأمّا إذا خلا التعظيم عن هذه العناصر ، وقام بالاحتفال بذكرى رجل ضحّى بنفسه ونفيسه من أجل استقلال أُمته وإخراجها عن نير الاستعباد ، وهيّأ لهم أسباب الاستقلال ، فلا يعد ذلك عبادة له ، وإن كان هناك احتفال أو احتفالات ، وأُلقي فيها عشرات القصائد والخطب فلا صلة لهذابالعبادة. نعم يدور أمر كل ذلك بين الحلال والحرام ، وهل الشارع رخص ذلك أو لم يرخص ، وسيوافيك أنّ باذر هذه الشكوك ابن تمية ، يرى أن الأصل في العادات عدم الخطر ، إلا ما حظره اللّه (٤). نعم ، الاحتفال بمولد النبي ليس من العادات ، ولا يقام بما أنه أمر عادي بل بما هو أمر قربي له أصل في الكتاب والسنة كما مرّ وسيأتي أيضاً.

____________

١ ـ سورة الشعراء : الآية ٢١٥.

٢ ـ إشارة إلى قوله سبحانه : ( فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتّبعوه النور الّذي أُنزل معه ) سورة الأعراف : الآية ١٥٧

٣ ـ كشف الارتياب ، ص ١٠٣ وللكلام صلة مفيدة جداً فمن أراد فليرجع إليه.

٤ ـ المجموع من فتاوى ابن تيمية : ج ٤ ص ١٩٥.

٣٢١

ب ـ هل الاحتفال بالمواليد بدعة؟

إنّ القوم يعدّون الاحتفال شركاً تارة ، وبدعة ثانياً ، وقد عرفت أنه ليس بشرك لفقدان العنصر المقوم للشرك فيه ، وأمّا كونه بدعة فقد عرفت بطلانه عند البحث عن أنه عبارة عن إحداث أمر باسم الدين ، وليس له فيه نصّ أو أصل ، والاحتفال ، وإن لم يكن فيه نص ، لكن له أصلا في الكتاب والسنة ، وهو حبّ النبي ومودته وإظهاره; فليست هذه الاحتفالات إلاّ تجسيداً للحب لا للعداء والنصب والبغضاء ، نعم ، المنع عنه إظهار للضغينة الكامنة في القلوب.

هلمّ معنا ندرس دليلهم الثالث :

ج ـ لو كان خيراً لأقامة السلف

هذا هو الدليل الثالث الّذي يركن إليه المانع ، وهو من أعجب الدلائل ، فكأنّ السلف مقياس الحق والباطل في الفعل والترك معاً ، فلو تركوا شيئاً دل ذلك على أنه باطل يجب تركه ، نحن نفترض أنّ السلف لم يقيموه ولم يحوموا حوله ، ولكن الخلف أبناء الدليل ، فلو كان له أصل في القرآن والسنة لا يعبأ بترك السلف. على أنّ هذا ما يقوله القائل ، ونحن إذا رجعنا إلى التاريخ نجد أنّ السلف أقامه عبر القرون والأجيال قبل أن يتولد باذر هذه الشكوك.

هذا مؤلف تاريخ الخميس يقول : ولا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده ، ويعملون الولائم ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ، يظهرون السرور ، ويزيدون في المبرّات ، يعتنون بقراءة مولده الشريف ، ويظهر عليهم من كراماته كل فضل عميم (١).

وقال القسطلاني : ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولدهعليه‌السلام ، ويعملون الولائم ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ،

__________________

١ ـ تاريخ الخميس ، ج ١ ص ٣٢٣ للديار بكري.

٣٢٢

ويظهرون السرور ، ويزيدون في المبرات ويعتنون بقراءة مولده الكريم. ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم ... فرحم اللّه امرأً اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً ليكون أشدّ علّةً على من في قلبه مرض وأعياه داء.

ولقد أطنب ابن الحاج في « المدخل » في الإنكار على ما أحدثه الناس من البدع والأهواء ، والغناء بالآلات المحرمة في العمل بالمولد الشريف ، واللّه تعالى يثيبه على قصده الجميل (١).

وقال ابن عباد في رسائله الكبرى : « وأمّا المولد فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين ، وموسم من مواسمهم ، وكل ما يفعل فيه مما يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك ... أمر مباح لا منكر » (٢).

كلمة أخيرة

إنّ المانعين عن الاحتفال بمولد النبي يقولون : إنّ أول من احتفل بمولد النبي هو الأمير أبو سعيد مظفر الدين الاربلي عام ٦٣٠ هـ ، وربما يقال : أول من أحدثه بالقاهرة ، الخلفاء الفاطميون ، أولهم المعز لدين اللّه ، توجه من المغرب إلى مصر في شوال ٣٦١ هـ ، وقيل في ذلك غيره (٣) وعلى أي تقدير فقد احتفل المسلمون حقباً وأعواماً من دون أن يعترض عليهم أىّ ابن أُنثى ، وعلى أىّ حال فقد تحقق الإجماع على جوازه وتسويغه واستحبابه قبل أن يتولد باذر هذه الشكوك ، فلماذا لم يكن هذا الإجماع حجة؟ مع أن اتّفاق الأُمة بنفسه أحد الأدلة ، وكانت السيرة على تبجيل مولد النبي إلى أن جاء ابن تيمية ، والعز بن عبد السلام ، وابن رجب ، والشاطبي فناقشوا فيه ووصفوه بالبدعة ، مع أنّ الإجماع انعقد قبل هؤلاء بقرون ، أو ليس انعقاد الإجماع في عصر من العصور حجة بنفسه ؟

__________________

١ ـ المواهب اللدنية : ج ١ ص ٢٧.

٢ ـ لاحظ المواسم والمراسم ، نقلا عن القول الفصل في الاحتفال بمولد خير الرسل ص ١٧٥.

٣ ـ المواسم والمراسم : ص ٢٠.

٣٢٣

الدليل الأخير « لا تجعل قبري وثناً يعبد »

آخر ما في كنانة القوم من نبال مرشوقة إلى المؤمنين المحتفلين بمولد النبي الأكرم ، ما روى أبو هريرة ، قال : قال رسول اللّه : « لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، ولا تجعلوا قبري عيداً ، وصلّوا علىّ فإنّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم ».

وفي الاستدلال بالحديث مجال للنظر :

أولا : إنّ إمام الحنابلة رواه في مسنده عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة. عن النبي أنه قال : « اللّهمّ لا تجعل قبري وثناً. لعن اللّه قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » (١).

ورواه في كنز العمال بالنحو التالي :

« اللّهمّ لا تجعل قبري وثناً يصلّى إليه ، فإنّه اشتدّ غضب اللّه على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » (٢).

وفي الوقت نفسه رواه إمام الحنابلة عن أبي هريرة : قال رسول اللّه : « لا تتخذوا قبري عيداً ، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، وحيثما كنتم فصلّوا علّي فإنّ صلاتكم تبلغني » (٣).

وروى أبو داود في صحيحه عن أبي هريرة نفس هذا المتن (٤).

ومن المتحمل جداً طروء التصحيف على الرواية ، فبدل « وثناً » إلى « عيداً » ويؤيد ذلك ذيل الرواية ، أعني قوله : « ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً » فإنه يناسب قوله : « لا تجعل قبري وثناً ».

وثانياً : إنّ العيد في اللغة هو الموسم ، وهو كل يوم فيه اجتماع أو تذكار

__________________

١ ـ مسند أحمد : ج ٢ ص ٢٤٦.

٢ ـ كنز العمال : ج ٢ برقم ٣٨٠٢.

٣ ـ مسند أحمد : ج ٢ ص ٣٦٧.

٤ ـ سنن أبي داود : ج ٢ ص ٢١٨ ، طبع دار إحياء التراث العربي.

٣٢٤

لذي فضل ، أو حادثة مهمة ، سمّي عيداً لأنه يعود كل سنة بفرح مجدد.

فعلى هذا لا يصحّ أن يقع خبراً لقوله : « قبراً » إذا لا معنى لجعل القبر عيداً ، فإنما يصحّ جعل موسم أو يوم مشخّص عيداً ، فهو يقع خبراً أو صفة للزمان لا للمكان ، ولو صحّ جعله صفة للمكان فإنما هو باعتبار اليوم الّذي يجتمع الناس فيه في ذلك المكان ، فالتعبير الوارد في الحديث لا يوافق الذوق العربي السليم ، فكيف يمكن نسبته إلى أشرف من نطق بالضاد ، ولو أُريد منه ما يحاول المستدل أن يثبته كان الأولى أن يقول : لا تتخذوا مولدي عيداً ، لا قبري عيداً ، أو يقول : لا تتخذوا مولدي حول قبري عيداً.

وحصيلة الكلام أنّ يوم العيد هو يوم الفرح ويوم الزينة ، ولا يمكن تطبيق هذا المعنى على القبر ، إلاّ بارتكاب مجاز متكلف فيه.

وثالثاً : إنّ الرواية لم يعمل بها الصحابة حيث جعلوا بيت النبي قبوراً ، إذ دفن فيه النبي الأكرم ، وبعده أبو بكر وعمر ، فصار بيته قبوراً.

وأمّا الاعتذار بأنّ للأنبياء خصوصية ليست لغيرهم وهي أنهم يدفنون حيث يقبضون ، لا يدفع الإشكال ، إذ ليست هذه الخصوصية في غيرهم كصاحبيه « أبي بكر وعمر » فلماذا جعل بيت النبي قبوراً.

ورابعاً : إنّ الحديث يحتمل معاني مختلفة وراء ما يرتئيه المستدل.

١ ـ منها ما ذكره الحافظ المنذري من أنه يحتمل أن يكون المراد به الحث على كثرة زيارة قبر النبي ، وأن لا يهمل حتّى يكون بمثابة العيد (١).

٢ ـ ومنها ما ذكره السبكي حيث قال : « ويحتمل أن يكون المراد : لا تتخذوا وقتاً مخصوصاً لا تكون الزيارة إلاّ فيه ، كماترى أنّ كثيراً من المشاهد ، لزيارته يوم معين كالعيد ، وزيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس لها يوم بعينه ، بل أي يوم كان (٢)

__________________

١ ـ شفاء السقام : ص ٦٧ ، نقلا عن زكي الدين المنذري ( أي : يزار بين المدة الطويلة كالعيد الّذي لا يكون في كل عام إلاّ يوماً واحداً أو يومين ).

٢ ـ المصدر نفسه.

٣٢٥

٣ ـ ومنها ما ذكره أيضاً من أنه يحتمل أن يراد أن يجعل كالعيد في العكوف عليه ، وإظهار الزينة والاجتماع وغير ذلك مما يعمل في الأعياد ، بل لا يؤتى إلاّ للزيارة والسلام والدعاء ثم ينصرف عنه.

وقال العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي : « يحتمل قوياً أن يكون المراد أنّ اجتماعهم عند قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينبغي أن يكون مصحوباً بالخشوع والتأمل والاعتبار ، حسبما يناسب حرمته واحترامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ حرمته ميتاً كحرمته حياً ، فلا يكون ذلك مصحوباً باللهو واللعب والغفلة والمزاح وغير ذلك مما اعتادوه في أعيادهم ، ثم عقبه بقوله : ولعل هذا مراد السبكي » (١).

وخامساً : إنّ الحديث بكلتا صورتيه ( وثناً ـ عيداً ) ضعيف.

أمّا الصورة الأُولى فقد وقع في السند « سهيل بن أبي صالح » وهو ليس بالقوي في الحديث ، والحديث ليس بحجة; قال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به ، وقد كان اعتلّ بعلّة فنسي بعض حديثه ، وقال ابن المديني : مات أخ لسهيل ووجد عليه فنسي كثيراً من الحديث ، وقال ابن أبي خيثمة : ابن معين يقول : لم يزل أصحاب الحديث يثقون بحديثه ، وقال مرة : ضعيف (٢).

وأمّا الصورة الثانية فقد وردت في مسند الإمام أحمد وأبي داود « عبداللّه بن نافع » قال البخاري : يعرف حفظه وينكر ، وقال أحمد بن حنبل : لم يكن صاحب حديث ، وكان ضعيفاً فيه ، ولم يكن في الحديث بذاك ، وقال أبو حاتم الرازي : ليس بالحافظ ، هو لين يعرف حفظه وينكر ، ووثّقه يحيى بن معين ، وقال أبو زرعة : لا بأس به ، وقال ابن عدي : روى عن مالك غرائب ، وهو في رواياته مستقيم الحديث (٣).

هذا هو حال الحديث الّذي يحتج به ابن تيمية ومن يلعق قصعته من

__________________

١ ـ المواسم والمراسم : ص ٧١.

٢ ـ ميزان الاعتدال : ص ٢٤٣ ـ ٢٤٤ ، ونقل أقوال الآخرين في توثيقه ، فالرجل مختلف فيه جداً.

٣ ـ شفاء السقام : ص ٦٦.

٣٢٦

الوهابية ، وبذلك أفتوا بحرمة الاحتفال بذكرى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهذه هي أدلة المانعين وشواهدهم ، وقد عرفت ضعفها وعدم دلالتها على ما يرتأون ، ولنختم البحث بذكر أُمور :

الأول : إنّ الاحتفال بالمواليد يجب أن يكون بعنوان أنّه تطبيق للأصل القرآني من لزوم تكريم النبي وتوقيره وتعظيمه ، ولأجل ذلك يصحّ إيقاعه في كل شهر وأُسبوع ويوم ، وعند ما يقام الاحتفال بمولده فإنما يقام بما أنّه جزئي لذلك بالتكريم بالخصوص ، حتّى يكون الاحتفال تجسيداً لهذا الأمر ، فهو بدعة لا يصار إليها ، ولا أرى أحداً يدّعي أنّه ورد الأمر بالخصوص بمولده.

الثاني : يجب أن يكون الاحتفال مطابقاً للسنن الإسلامية ، خالياً عما يستقبح فعله في الشريعة ، كعزف المعازف ، واتخاذ القيان ، واختلاط الرجال بالنساء ، فلو فرض أنه اقترنت بعض هذه الاحتفالات بالمحرمات ، فلا يكون دليلا على حرمة نفس الاحتفال ، ولا يكون سبباً للمنع عنه ، فالنّ بعض الفرائص ربما تكون ذريعة لما هو أعظم من هذه المحرمات.

الثالث : ليست لإقامة الاحتفال كيفية خاصة ، بل ينبغي أن يكون الكل في إطار الشريعة الغراء ، ويكون في طريق تكريم النبي وتعظيمه ، وإظهار الحب ، وأحسن الطرق هو تلاوة الآيات الواردة في حقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم الإيعاز إلى الجهود الّتي بذلها الرسول في طريق إنقاذ البشر ، وبلغ بهم إلى أعلى مراتب العز والعظمة ، ثم دعوة المسلمين عن طريق إلقاء الخطب بالتمسك بالكتاب والسنة ، والسعي لتطبيق وتجسيد مبادئها في الحياة ، ودعم الصحوة الإسلامية للنهوض والوقوف في وجه القوى الكبرى الّتي تتربص بهم الدوائر ، إلى غير ذلك من الاُمور الّتي فيها خير وسعادة المسلمين كافة ، في عاجلهم وآجلهم.

يقول العالم الجليل السيد محمد علوي بن عباس المالكي المكي الحسني :

٣٢٧

« إنّنا نرى أنّ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ليست له كيفية مخصوصة لا بد من الالتزام وإلزام الناس بها ، بل إنّ كل ما يدعو إلى الخير ويجمع الناس على الهدى ويرشدهم إلى ما فيه منفعتهم في دينهم ودنياهم ، يحصل به تحقيق المقصود من المولد النبوي ، ولذلك فلو اجتمعنا على شيء من المدائح الّتي فيها ذكر الحبيب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفضله ، وجهاده ، وخصائصه ، ولم نقرأ قصة المولد النبوي الّتي تعارف الناس على قراءتها ، واصطلحوا عليها حتّى ظن بعضهم أن المولد النبوي لا يتم إلاّ بها ، ثم استمعنا إلى ما يلقيه المتحدثون من مواعظ وإرشادات ، وإلى ما يتلوه القارىء من آيات; أقول : لو فعلناه فإنّ ذلك داخل تحت المولد النبوي الشريف ، ويتحقق به معنى الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، وأظنّ أنّ هذا المعنى لا يختلف فيه اثنان ، ولا ينتطح فيه عنزان » انتهى (١).

ومن المؤسف جداً أنّ الوهابية قامت بشن حملة شعواء على هذا الكتاب ، ولم تراع أدب الكتابة والمناظرة إلى حد اعتراف الكاتب بأسولبه القاسي في المحاورة ، وينتهي في خاتمة كتابه إلى قوله : « ونكرر أسفنا وتأثرنا من القسوة الّتي آثرنا أن يشتمل عليها أسلوبنا في رد ترهاته ، وأباطيله ، ويعلم اللّه أن الباعث لهذا الأسلوب القاسي ، الغيرة لحق اللّه (٢).

ويؤاخذ عليه أن الغيرة لحق اللّه يجب أن تكون في إطار الأدب الّذي ندب إليه الذكر الحكيم وقال : ( ادْعُ إلى سبِيلِ رَبِّكِ بِالحِكْمِةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِىَ أَحْسَنُ ) (٣).

وكان الإمام أميرالمؤمنين علىّ عليه‌السلام يؤدب أصحابه عند مقابلة الشاتمين من الشاميين ، من أصحاب معاوية القاسطين بقوله : إنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَن تَكُونُوا سَبَّبابِينَ ، وَلَكِنَّكُمْ لَو وَصَفْتُم أعْمَالَهُم وَذَكَرتُم حَالَهُمْ ، كَانَ أصْوَبَ في القَولِ ، وأبلَغَ فِي العُذْرِ ، وَقُلتُم مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ : اللّهُمّ احْقِن دِمَاءَنَا

__________________

١ ـ حوار مع المالكي ، تأليف عبداللّه بن سليمان بن منيع ، ص ١٦٨.

٢ ـ حوار مع المالكي ، ص ١٩٠.

٣ ـ سورة النحل : الآية ١٢٥.

٣٢٨

وَدِمَاءَهُمْ ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِم وَاهْدِهِم مِنْ ضَلاَلَتِهِمْ حَتّى يَعْرِفَ الحَقُّ مَنْ جَهِلَهُ ، وَيَرعَوِيَ عَنِ الغَىِّ وَالعُدُوانِ مِن لهج به (١).

الرابع : روى أهل السنة عن الإمام علىّ بن الحسينعليه‌السلام أنّ رجلا كان يأتي كل غداة فيزور قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويصلّي عليه ، ويصنع من ذلك ما انتهره عليه علىّ بن الحسين عليه‌السلام فقال له : ما يحملك على هذا؟ قال : حبّ التسليم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال علىّ بن الحسين عليه‌السلام : هل لك أن أُحدّثك حديثاً عن أبي؟

قال : نعم ، فقال له علىّ بن الحسين عليه‌السلام : أخبرني أبي عن جدي أنه قال : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تجعلوا قبري عيداً ، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، وصلّوا علىّ وسلّموا حيثما كنتم فسيبلغني سلامكم وصلاتكم (٢).

ولو صحّ الحديث فلعل انتهاره كان لأجل أنّ الرجل زاد في الحدّ وخرج عن الحد الأوسط ، ولا صلة له بنفي الزيارة بتاتاً ، كما لا صلة له بإقامة الاحتفال والذكريات.

إنّ هذه الرواية ظاهرة في أنه عليه الصلاة والسلام قد لاحظ أنّ ذلك الرجل قد ألزم نفسه بأمر شاق ، وهو المجي ، يومياً للصلاة عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزيارته ، فأرادعليه‌السلام التخفيف عنه وإفهامه أنّ بإمكانه الصلاة والتسليم عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيثما كان ، فسيبلغه ذلك ، فلا داعي لإلزام نفسه بما فيه كلفة ومشقّة ، ولم ينهه عن الصلاة والدعاء عند قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

* * *

__________________

١ ـ نهج البلاغه ، الخطبة : ٢٠٦.

٢ ـ رواه السبكي عن عبدالرزاق عن القاضي إسماعيل في كتاب فضل الصلاة على النبي ، بسنده إلى علي بن الحسين عليه‌السلام ورواه عبدالرزاق في مصنفه بسنده إلى الحسن بن علي; لاحظ شفاء السقام ، ص ٢٨٠ ـ ٢٨١.

٣ ـ المواسم والمراسم : ص ٧٣.

٣٢٩

إلى هنا تمّ تبيين عقائد ابن تيمية ومحيي مسلكه ابن عبدالوهاب فبقي الإلماع إلى حياة المحيي وناصره ، وهو ما سيوافيك في البحث التالي.

« والحمد لله رب العالمين »

٣٣٠

محمد بن عبدالوهاب

مؤسس الحركة الوهابية

نشأته ووفاته

استشفاف بوادر الضلال من كلماته

اتفاق الشيخ ومحمد بن سعود

بدء الدعوة ونشرها

صِدام بين ابن عبدالوهاب وأمير عيينة

تكفير محمد بن عبدالوهاب جميع المسلمين

حروبه مع المسلمين

٣٣١
٣٣٢

تاريخ الوهابية

مؤسسها ، ناصرها وتطورها

قد وقفت في الفصول السابقة على العقائد الوهابية عن كثب ، وأنها لم تكن شيئاً جديداً سوى ما ابتدعه أحمد بن تيمية في القرن الثامن الهجري وقد كاد أن يصير نسياً منسياً ، ويذهب أدراج الرياح ، غير أنّ بذورها لما كانت تقبع في طيات كتبه ورسائله ، قام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي بتجديد العهد بها ، وإحيائها مرة أُخرى بفضل سيف آل سعود في الشطر الثاني من القرن الثاني عشر إلى أوليات القرن الثالث عشر الهجري ، أي من سنة ١١٦٠ إلى سنة ١٢٠٧ هـ الّتي وافاه الأجل فيها ، ثم تعاهد أبناؤه من بعده مع أبناء بيت قبيلة آل سعود فترة بعد فترة ، على أن تكون الدعوة والإرشاد والتخطيط على أبنائه ، والتطبيق والتنفيذ والسلطة على كاهل آل سعود ، فلم تزل هذه المعاهدة باقية إلى يومنا هذا ، غير أنها اتخذت في هذه الآونة لنفسها شكلا آخر ، وهو أن القوة والسلطة كانت في بدء التأسيس آلة طيّعة بيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ولكنه في عصرنا هذا تبدلت رأساً على عقب ، فأصبحت السلطة الدينية أداة طيعة في يد آل سعود ، يأتمرون بكل ما يلقى إليهم من البلاط السعودي والملك الحاكم من قبلهم على شبه الجزيرة العربية.

وهذه إحدى الصور الّتي تحكي لنا عن تراجع الوهابية عن مبادئها الأولية الّتي قامت على أعتابها يوم تأسيسها ، وسنوافيك بما يحكي لك المزيد من ذلك.

٣٣٣

نشأته ووفاته

اختلف المؤرخون في عام ولادته ووفاته ، فمن قائل (١) بأنه ولد سنة ١١١١ هـ وتوفي عام ١٢٠٧ هـ فيكون عمره ستاً وتسعين; إلى آخر (٢) بانه ولد عام ١١١٥ هـ وتوفي ١٢٠٧ هـ فيكون قد ناهز إحدى وتسعين ، نشأ وترعرع في بلده « العيينة » في نجد ، وتلقى دروسه بها على رجال الدين من الحنابلة ، ثم غادر موطنه ونزل المدينة المنورة ليكمل دروسه ، يقول أحمد أمين المصري : « سافر الشيخ إلى المدينة ليتم تعلمه ، ثم طاف في كثير من بلاد العالم الإسلامي ، فأقام نحو أربع سنين في البصرة ، وخمس سنين في بغدادن وسنة في كردستان ، وسنتين في همدان ، ثم رحل إلى إصفهان ، ودرس هناك فلسفة الإشراق والتصوّف ، ثم رحل إلى « قم » ثم عاد إلى بلده ، واعتكف عن الناس نحو ثمانية أشهر ، ثم خرج عليهم بدعوته الجديدة » (٣).

وقد ذكر كثير من المؤرخين تجواله وترحاله في هذه البلاد ، منهم عبد الرزاق الدنبيلي في كتابه « مآثر سلطانية » (٤) ، والشيخ أبو طالب الإصفهاني الّذي كان معاصراً للشيخ محمد بن عبدالوهاب ، فقد ذكر سفر الشيخ إلى إصبهان وإلى أكثر بلاد العراق وإيران ، حتّى إلى « غزنين » الّذي هو بلد في أفغانستان (٥).

استشفاف بوادر الضلال من كلماته

إنّ الإنسان مهما كان ذكياً مواظباً على ستر عقيدته لا يتمكن من إخفائها في الفترة الّتي يكون فيها الوعي غائباً والذهن خاملا ، وعند ذلك يبدو على صفحات وجهه وفلتات لسانه ما يكتمه ويخفيه في الأوعية ، قال أميرالمؤمنين

__________________

١ ـ زيني دحلان : الدرر السنية : ص ٤٢ طبع الآستانة وغيره.

٢ ـ أحمد أمين : زعماء الإصلاح في العصر الحديث ، ص ١٠ بيروت ، وقد أرّخ الآلوسي ولادته بـ ١١١١ هـ لكنه أرّخ وفاته بـ ١٢٠٦ هـ.

٣ ـ نفس المصدر السابق : ص ١٠.

٤ ـ مآثر سلطانية : ص ٨٢ و ...

٥ ـ ميرزا أبو طالب سفرنامه : ص ٤٠٩ و ...

٣٣٤

عليه‌السلام : « ما أضمر أحد شيئاً إلاّ في ظهر فلتات لسانه وصفحات وجهه » (١) وقد كان محمد بن عبدالوهاب ممن يتفرّس مشايخه وأساتذته فيه الضلال ، حيث كان عندما يتردد إلى مكة والمدينة لأخذ العلم من علمائهما ، وعندما كان يدرس على الشيخ محمد بن سليمان الكردي ، والشيخ محمد حيات السندي كانا يتفرسان فيه الغواية والإلحاد ، بل يتفرس غيرهما فيه مثل ذلك ، وكان ينطق الكل بأنه سيضل اللّه تعالى هذا ، ويضل به من أشقاه من عباده ، حتّى أنّ والده عبدالوهاب ـ وهو من العلماء الصالحين ـ كان يتفرس فيه الإلحاد ويحذّر الناس منه ، حتّى أنّ أخاه الشيخ سليمان ألف كتاباً في الرد على ما أحدثه من البدع والعقائد الزائفة ، وكان محمد بن عبدالوهاب بادىء بدء كما ذكره بعض المؤلفين مولعاً بمطالعة أخبار من ادّعى النبوة كاذباً كمسيلمة الكذاب وسجاح ، والأسود العنسي ، وطليحة الأسدي وأضرابهم (٢).

يكتب ميرزا أبو طالب الإصفهاني وهو معاصره ويقول : أخذ في أول أمره عن كثير من علماء مكة والمدينة ، وكانوا يتفرسون فيه الضلال والإضلال ، وكان والده عبدالوهاب من العلماءالصالحين ، وكان يتفرس فيه ذلك ويذمه كثيراً ، يحذر الناس منه ، وكذا أخوه سليمان بن عبد الوهاب أنكر عليه ما أحدثه ، وألف كتاباً في الرد عليه ، وكان في أول أمره مولعاً بمطالعة أخبار مدّعي النبوة كمسيلمة و ... » (٣).

لو صحّ هذا فهو يعرب عن أنّ محمد بن عبدالوهاب كان يضمر في مكامن ذهنه شيئاً يشاكل فعل هؤلاء المتنبئين ، فصبّ ما أضمره في الدعوة الجديدة إلى التوحيد ، وعاد يكفّر رجال الدين عامة في كافة العصور ، وينسبهم إلى الجهل والضلال ، وهذه سمة المبتدعين عامة.

انتقال عبد الوهاب إلى « حريملة »

ترك أبوه « العيينة » ونزل بلدة « حريملة » وبقي فيها إلى أن وافته المنيّة

__________________

١ ـ نهج البلاغه ، قسم الحكم ٢٦٠.

٢ ـ صدقي الزهاوي : الفجر الصادق ص ١٧ والسيد أحمد زيني دحلان : فتنة الوهابية ص ٦٦.

٣ ـ ميزرا أبو طالب : سفرنامه ، ص ٤٠٩.

٣٣٥

سنة ١١٤٣ (١) ولم يكن راضياً عن ابنه ، وطالما زجره ونهاه ، ولمّا توفّي الوالد تجرّأ عليه أهل « حريملة » وهمّموا بقتله ، فلم يجد بداً من الهرب إلى « العيينة » وهي مسقط راسه ودار نشأته ، وقد تعاهد هو وأميرها « عثمان بن معمر » على أن يشد كلُّ أزر الآخر ، فيترك الأمير للشيخ الحرية في إظهار الدعوة والعمل على نشرها ، لقاء أن يقوم محمد بن عبد الوهاب بدوره بشتى الوسائل لسيطرة الأمير على نجد بكاملها ، وكانت يومذاك موزعة إلى ست أو سبع إمارات منها إمارة العيينة (٢) ولكن لكي تقوى الروابط بين الاثنين زوّج الأمير أُخته « جوهرة » من الشيخ ، فقال له الشيخ : « إنى لآمل أن يهبك اللّه نجداً وعربانها » (٣).

هكذا بدأ التآلف بين الشيخ والأمير ، واحدة بواحدة ... مساومة ثم أخذ وعطاء ، والثمن هو الدين والشعب ، أمّا زواج الشيخ من « جوهرة » فتثبيت للتحالف ، وضمان للوفاء ... لقد سخر محمد بن عبد الوهاب الدين لأجل الدنيا ، وتطوع لتعزيز حكمه دون أن يكون على يقين من عدله ، أو يأخذ منه موثقاً لتحسين الأوضاع وراحة الناس ، والعمل للصالح العام ، بل على العكس ، فقد وعده بملك نجد وعربانها ... ولكن لا بالاقتراح وحرية تقرير المصير ، بل بالحرب والغزو وبأشلاء الضحايا (٤).

أبعد ذلك يصحّ أن يعدّ الشيخ من المصلحين المجددين ، وممّن له رسالة إنسانية كما عدّه نفر منهم أحمد أمين في كتابه زعماء الإصلاح في العصر الحديث ، ومهما كان فإنّ التحالف بين الشيخ والأمير لم يطل عمره ولم يتم أمره ، وما تمخّص إلاّ عن زواج الشيخ بجوهرة ، وهدم قبر زيد بن الخطاب ، وإثارة الفتن والقلاقل فقط ـ لم يطل عمر التحالف بين ابن عبد الوهاب والأمير ابن معمر ـ لأنّ سليمان الحميدي صاحب الأحساء والقطيف أمر عثمان بن معمر ـ وكان أقوى منه ـ أن يقتل الشيخ.

__________________

١ ـ محمد جواد مغنية : هذه هي الوهابية ص ١١١.

٢ ـ الآلوسي ـ السيد محمود : تاريخ نجد ، ص ١١.

٣ ـ فيلبي ـ عبداللّه : تاريخ نجد ، ص ٣٦.

٤ ـ مغنية ـ محمد جواد : هذه هي الوهابية ص ١١٢.

٣٣٦

يقول عبداللّه فيلبي في تاريخ نجد : « قرر عثمان أن يتخلص من ضيفه ، فطلب منه أن يختار المكان الّذي يريد الذهاب إليه ، فاختار « الدرعية » ، فأرسل عثمان معه رجلا اسمه فريد : وكلفه أن يقتل ابن عبد الوهاب في الطريق ، ولكن فريداً خذلته إرادته ، وترك الشيخ وقفل راجعاً دون أن يمسه بسوء (١).

ويذكر السيد محمود شكري الآلوسي انتقال الشيخ من « عينية » إلى « حريملة » نحو ما مرّ ويزيد : خرج إلى « الدرعية » سنة : ١١٦٠ هـ وهي بلاد مسيلمة الكذاب (٢).

اتفاق الشيخ ومحمد بن سعود

ورد الشيخ إلى الدرعية في العام الّذي عرفت ، وكان أميرها آنذاك محمد بن سعود جد السعوديين ، وتمّ الاتفاق بين الأمير والشيخ على غرار ما كان قد تمّ بينه وبين ابن معمر في « العيينة » ، فقد وهب الشيخ نجد وعربانها لابن سعود ، كما وهبهما من قبل لابن معمر ، ووعده أن تكثر الغنائم عليه والأسلاب الحربية الّتي تفوق ما يتقاضاه من الضرائب (٣) على أن يدع الأمير للشيخ ما يشاء من وضع الخطط لتنفيذ دعوته.

وتقول الرواة : إنّ الأمير سعود بايع محمد بن عبد الوهاب على القتال في سبيل اللّه ... ومعلوم انهما لم يفتحا بلداً غير مسلم في الشرق أو في الغرب ، وإنما كانا يغزوان ويحاربان المسلمين الذين لم يدخلوا في طاعة ابن سعود ، ولأجل ذلك قال الأمير لابن عبدالوهاب : « أبشر بالنصر لك ولما أمرت به ، والجهاد لمن خالف التوحيد ، لكن أُريد أن اشترط عليك اثنين :

أولا : إذا قمنا بنصرتك وفتح اللّه لنا ولك ، أخشى أن ترحل عنّا وتستبدل بنا غيرنا فعاهده الشيخ أن لا يفعل.

__________________

١ ـ فيلبي ـ عبداللّه : تاريخ نجد ، ص ٣٩٠ ط المكتبة الأهلية بيروت.

٢ ـ كشف الارتياب ص ١٣ ـ ١٤ نقلا عن كتاب تاريخ نجد لمحمود شكري الآلوسي.

٣ ـ فيلبي : تاريخ نجد ص ٣٩.

٣٣٧

ثانياً : إنّي أتقاضى من أهل « الدرعية » مالا وقت الثمار ، وأخاف أن تمنع ذلك ، فقال الشيخ : لعل اللّه يفتح الفتوحات فيعوضك اللّه من الغنائم ما هو أعظم منها » (١).

وعلى هذا تم الاتفاق بين أمير « الدرعية » والشيخ.

إنّ بعض المستشرقين مثل « فيليب حتّى » (٢) و « جولد تسيهر » (٣) وغيرهما يذكرون أنه قد تقوّت الروابط بين الاثنين بمثل ما تقوّت بينه وبين أمير « عيينة » وزوّج محمد بن سعود ابنه عبدالعزيز من إحدى بنات محمد بن عبد الوهاب ، ولا يزال العهد بين آل سعود وعائلة عبد الوهاب مستمراً إلى يومنا هذا ، وإن اختلف مضمومنه مع استمرار التزاوج على نطاق وسيع (٤).

بدء الدعوة نشرها

شعر محمد بن عبد الوهاب بقوته عن طريق هذا التحالف الجديد ، وأن الامارة السعودية اصبحت تناصره وتؤازره ، فلأجل ذلك جمع الشيخ أنصاره وأتباعه وحثهم على الجهاد ، وكتب إلى البلدان المجاورة المسلمة أن تقبل دعوته ، وتدخل في طاعته ، وكان يأخذ ممن يطيعه عشر المواشي والنقود والعروض ، ومن أبى غزاه بانصاره ، وقتل الأنفس ونهب الأموال ، وسبى الذراري ، وكان شعارهم : « ادخل في الوهابية وإلاّ فالقتل لك ، والترمّل لنسائك ، واليتم لأطفالك » هذا هو بالذات مبدأ الوهابية الّذي لا تتنازل عنه لأية مصلحة ، ومن أجله تحالف مع ابن معمر في « العيينة » ، ثم مع ابن سعود في « الدرعية » ، وكان على أتم استعداد أن يتحالف مع أية قوة يستعين بها على ذلك (٥).

__________________

١ ـ أبو علية ـ عبد الفتاح : محاضرات في تاريخ الدولة السعودية الأولى ص ١٣ ـ ١٤.

٢ ـ فيليب حتّى : تاريخ العرب ج ٢ ص ٩٢٦ المترجم إلى الفارسية.

٣ ـ العقيدة والشريعة في الإسلام ص ٢٦٧ ط مصر الطبعة الثانية.

٤ ـ جبران شامية : آل سعود ماضيهم ومستقبلهم ، ط الرياض ص ٢٣.

٥ ـ محمد جواد مغنية : هذه هي الوهابية ، ص ١١٤.

٣٣٨

كان الشيخ يغزو بأنصاره وأتباعه عربان نجد ، يسلبونهم مصدر حياتهم ، ثم ينتقلون إلى الدرعية بعد أن يتركوا وراءهم أشلاء الضحايا ، والخرائب والأرامل والأيتام ، ويوزع الشيخ عليه أربعة أخماس الغنائم والأسلاب من المسلمين الآمنين ، ويخص الخمس بالخزينة الّتي يشرفون عليها هو والأمير السعودي.

يقول عبداللّه فيلبي في تاريخ نجد : « وقد أدخل الإمام في عقول طلابه مبادىء فريضة الجهاد المقدس ، فوجد الكثير منهم في الجهاد أقدس تعاليمه ، إذ أنه يتفق مع ما اعتاد عليه العرب ـ يريد أنّ العرب قد اعتادوا على السلب والنهب ـ ، كما خصص الشيخ خمس الأسلاب لخزينته المركزية الّتي كان الأمير والإمام يتقاضيان منها ما يقوم بأودهما ... وهكذا كان سلطان الشيخ في تصرف شؤون البلاد بعد مرور سنة أو سنتين ، وقد أصبح شريكاً مؤسساً.

الوهابية أو السيف

ربما يستغرب القارىء عند ما يسمع أنّ الوهابية تحصنت في بدء دعوتها بهذا الشعار ، وطبقته في حياتها سنين ، ولكنه لعمر اللّه حقيقة لامرية فيها ، فقد ارتفع صرح الإمارة السعودية يوم انتشارها إلى العصر الحاضر على هذا الأصل ، فإن السعودية آنذاك ويوم تعاهدها مع محمد بن عبدالوهاب تعيش حياة البؤس ، ولم يكن ابن سعود متمكناً حتّى من تأمين الأغذية لأعز تلاميذ محمد بن عبد الوهاب ، الّذي يمارس تأثيره بقوة الإقناع فقط (١).

وبعد أُولى غزوات الدرعيين على جيرانهم ، وزعت الغنائم بالعدل طبقاً لأحكام الوهابية : الخمس لابن سعود ، والباقي للجند; ثلث للمشاة ، وثلثان للخيالة; وكان التمسك بالوهابية يكافأ مادياً ، وإذا كان الغزو في السابق مجرد حملة شجاعة ، فقد تحول الآن إلى انتزاع أموال المشركين! وإحالتها إلى المسلمين الحقيقيين!

__________________

١ ـ ابن بشر : عنوان المجد ، ج ١ ص ١٣.

٣٣٩

صِدام بين ابن عبد الوهاب وأمير « العيينة »

قد تعرفت أنّ التحالف بين الشيخ وأمير « العيينة » لم يلبث إلاّ برهة قليلة ، وأنه اعتذر عن ضيفه وسمح له أن يغادر الامارة ويذهب إلى أية نقطة شاء ، ولما التحق محمد بن عبدالوهاب بأمير « الدرعية » وبزغ نجمه ، أحسّ عثمان بن معمر أمير « العيينة » بتمخض خطر من جانب السعوديين ، فلم يجد مناصاً من إظهار التودد والمداراة معهم ، إلى أن انتهى به الأمر إلى تزويج ابنته من ابن عبد العزيز بن محمد بن سعود ، الّذي بلغ الوهابيون في عهده أوج قوتهم (١). إلاّ أنّ العداء حتّى الموت بين الأقارب ظاهرة عادية تماماً في الجزيرة العربية ، فلا داعي للدهشة من تطور الأحداث لاحقاً ، وكان لموقف محمد بن عبد الوهاب ـ الّذي لم ينس أنّ أمير « العيينة » نفاه منها ـ أهمية حاسمة في التنافس بين حكام « الدرعية » و « العيينة » ، فلم يلبث إلاّ يسيراً حتّى اتّهم أمير « العيينة » بأنه أجرى مراسلات سرية مع حاكم الأحساء « محمد بن عفالق » وأعد العدة للخيانة (٢).

ـ ولأجل ذلك ـ أرسلوا بعض المرتزقة ، ومنهم حمد بن راشد ، وإبراهيم بن زيد إلى عثمان بن معمر حاكم « العيينة » فاغتالوه أثناء أدائه لصلاة الجمعة.

ومما جاء في كتاب أصدره آل سعود وآل الشيخ تحت عنوان : تاريخ نجد ، ونقله عن رسائل محمد بن عبدالوهاب ، الشيخ حسين بن غنا ، وأشرف على طباعته عبدالعزيز بن باز مفتي الديار السعودية ، العبارة التالية :

إنّ عثمان بن معمر مشرك كافر ، فلمّا تحقق أهل الاسلام من ذلك تعاهدوا على قلته بعد انتهائه من صلاة الجمعة ، وقتلوه وهو في مصلاه بالمسجد في رجب سنة ١١٦٣ هـ وفي اليوم الثالث من مقتله جاء محمد بن عبدالوهاب إلى « العيينة » وعين عليهم مشاري بن معمر ، وهو من أتباع محمد بن عبد

__________________

١ ـ ابن بشر : عنوان المجد ، ج ١ ص ٢٣.

٢ ـ فاسيليف : فصول من تاريخ العربية السعودية ـ ص ٢٨.

٣٤٠