مستند الشّيعة - ج ١٣

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٣

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-073-0
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٣٦٣

ولا يضرّ اختصاص السؤال بالمفرد ، لعموم قوله : « إنّما » إلى آخره ، مضافا إلى عدم القول بالفصل.

وأمّا رواية الحسن بن عليّ ، عن أبيه : « لا بأس بتعجيل طواف الحجّ وطواف النساء قبل الحجّ يوم التروية قبل خروجه إلى منى » (١).

فلشذوذها بالإطلاق لا تعارض ما مرّ.

وكذا لا يجوز تقديمه على السعي بالإجماع.

له ، ولمرسلة أحمد : متمتّع زار البيت ، فطاف طواف الحجّ ، ثمَّ طاف طواف النساء ، ثمَّ سعى ، قال : « لا يكون السعي إلاّ قبل طواف النساء » ، فقلت : عليه شي‌ء؟ قال : « لا يكون السعي إلاّ قبل طواف النساء » (٢).

وصحيحة ابن عمّار في زيارة البيت يوم النحر ، إلى أن قال : « ثمَّ طف بالبيت سبعة أشواط كما وصفت لك يوم قدمت مكّة ، ثمَّ صلّ عند مقام إبراهيم » إلى أن قال : « ثمَّ اخرج إلى الصفا فاصعد عليه » إلى أن قال : « فإذا فعلت ذلك فقد أحللت من كلّ شي‌ء أحرمت منه إلاّ النساء ، ثمَّ ارجع إلى البيت فطف به أسبوعا ، ثمَّ صلّ ركعتين عند مقام إبراهيم عليه‌السلام ، ثمَّ قد أحللت من كلّ شي‌ء وفرغت من حجّك كلّه وكلّ شي‌ء أحرمت [ منه ] (٣) ».

ولا يعارضهما إطلاق موثّقة سماعة : عن رجل طاف طواف الحجّ وطواف النساء قبل أن يسعى بين الصفا والمروة ، قال : « لا يضرّه ، يطوف‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ١٣٣ ـ ٤٣٧ ، الاستبصار ٢ : ٢٣٠ ـ ٧٩٨ ، الوسائل ١٣ : ٤١٥ أبواب الطواف ب ٦٤ ح ١.

(٢) الكافي ٤ : ٥١٢ ـ ٥ ، التهذيب ٥ : ١٣٣ ـ ٤٣٨ ، الاستبصار ٢ : ٢٣١ ـ ٧٩٩ ، الوسائل ١٣ : ٤١٧ أبواب الطواف ب ٦٥ ح ١.

(٣) الكافي ٤ : ٥١١ ـ ٤ ، التهذيب ٥ : ٢٥١ ـ ٨٥٣ ، الوسائل ١٤ : ٢٤٩ أبواب زيارة البيت ب ٤ ح ١ ، بدل ما بين المعقوفين في النسخ : به ، وما أثبتناه من المصادر.

٢١

بين الصفا والمروة ، وقد فرغ من حجّه » (١).

للشذوذ ، ومخالفة الإجماع.

ولو قدّمه عليه أو على الوقوفين نسيانا لم يعده وأجزأه ، للموثّقة المذكورة.

وصحيحة جميل : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتاه أناس يوم النحر ، فقال بعضهم : يا رسول الله ، حلقت قبل أن أذبح ، وقال بعضهم : حلقت قبل أن أرمي ، فلم يتركوا شيئا كان ينبغي لهم أن يقدّموه إلاّ أخّروه ، ولا شيئا كان ينبغي لهم أن يؤخّروه إلاّ قدموه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا حرج » (٢).

وبمضمونها رواية البزنطي ، وفيها : « لا حرج لا حرج » (٣).

وهما وإن كانتا شاملتين للعامد أيضا ، إلاّ أنّه خرج بالإجماع ، وكذا وإن كانتا معارضتين للمرسلة المذكورة ، إلاّ أنّ الموجب لترجيحها ـ وهو الإجماع ـ هنا مفقود ، بل لو كان إجماع فعلى ترجيحهما ، ولولاه أيضا يجب الرجوع إلى الأصل.

ومنه يعلم أنّ مقتضى الدليل : كون الجاهل أيضا كالناسي ، ولكن قيل : إنّ حكمه عند أكثر الأصحاب كالعامد (٤).

ولا يخفى أنّ بمجرد ذلك لا يمكن رفع اليد عن الدليل ، فإلحاقه‌

__________________

(١) الكافي ٤ : ٥١٤ ـ ٧ ، الفقيه ٢ : ٢٤٤ ـ ١١٦٦ ، التهذيب ٥ : ١٣٣ ـ ٤٣٩ ، الاستبصار ٢ : ٢٣١ ـ ٨٠٠ ، الوسائل ١٣ : ٤١٨ أبواب الطواف ب ٦٥ ح ٢.

(٢) الكافي ٤ : ٥٠٤ ـ ١ ، الفقيه ٢ : ٣٠١ ـ ١٤٩٦ ، التهذيب ٥ : ٢٣٦ ـ ٧٩٧ ، الاستبصار ٢ : ٢٨٥ ـ ١٠٠٩ ، الوسائل ١٤ : ١٥٥ أبواب الذبح ب ٣٩ ح ٤. بتفاوت.

(٣) الكافي ٤ : ٥٠٤ ـ ٢ ، التهذيب ٥ : ٢٣٦ ـ ٧٩٦ ، الاستبصار ٢ : ٢٨٤ ـ ١٠٠٨ ، الوسائل ١٤ : ١٥٦ أبواب الذبح ب ٣٩ ح ٦.

(٤) انظر الرياض ١ : ٤٢٠.

٢٢

بالناسي أقوى.

ويجوز تقديمه على الوقوفين والسعي مع العذر والضرورة ، ومنها : مخافة الحيض.

لإطلاق ( رواية الحسن بن علي (١) و) (٢) الموثّقة الثانية (٣) وما بعدها ، ولا يضرّها إطلاق الموثّقة الاولى (٤) والمرسلة (٥) بالتقريب المتقدّم.

وقال نادر بعدم جواز التقديم حينئذ أيضا (٦) ، ولا دليل يعتدّ به ، وبعض الأخبار الظاهرة فيه مع خوف الحيض معارض بمثله وغيره ، فالأصل هو المرجع.

المسألة الثانية عشرة : قد مرّت أحكام ترك طواف العمرة والحجّ.

وأمّا طواف النساء فلا يبطل الحجّ بتركه ولو عمدا أو جهلا ، من غير خلاف ، كما عن السرائر وفي المفاتيح (٧) ، بل بالاتفاق ، كما في شرحه ، بل بالإجماع ، كما في المسالك (٨).

لأصالة عدم ربطه بالنسك ربط الجزئيّة ، وخروجه عن حقيقته.

ومنه يظهر ضعف ما في الذخيرة ، من أنّ مقتضى ما مرّ في ترك طواف الفريضة من عدم الإتيان بالمأمور به على وجهه : بطلان الحجّ هنا أيضا (٩).

__________________

(١) المتقدمة في ص ٢١.

(٢) ما بين القوسين ليس في « ق » و « س ».

(٣) وهي موثقة سماعة ، المتقدمة في ص : ٢١.

(٤) وهي موثقة إسحاق المتقدمة في ص : ٢٠.

(٥) وهي مرسلة أحمد المتقدمة في ص : ٢١.

(٦) السرائر ١ : ٥٧٥.

(٧) السرائر ١ : ٦١٧ ، المفاتيح ١ : ٣٦٤.

(٨) المسالك ١ : ١٢٣.

(٩) الذخيرة : ٦٢٥.

٢٣

وتدلّ على خروجه عن الحقيقة أيضا الصحاح المستفيضة : كصحيحة ابن عمّار في القارن ، حيث قال في بيان نسكه : « وطواف بعد الحجّ ، وهو طواف النساء » (١) ، ونحوها صحيحة أخرى له (٢) ، وصحيحة الحلبي (٣) أيضا.

وصحيحة الخزّاز : امرأة معنا حائض ولم تطف طواف النساء ، ويأبى الجمّال أن يقيم عليها ، فأطرق وهو يقول « لا تستطيع أن تتخلف عن أصحابها ولا يقيم عليها جمّالها » ، ثمَّ رفع رأسه فقال : « تمضي ، فقد تمَّ حجّها » (٤).

ولا يضرّ اختصاص هذه الأخبار بالحجّ وعدم جريانها في العمرة بعد عدم القول بالفصل وما مرّ من الأصل.

نعم ، يمكن الخدش في الأخيرة أنّها تدلّ على تمام الحجّ حال الاضطرار لا مطلقا.

والجواب ـ بأنّ موردها وإن اختصّ بها لكن العبرة بعموم الجواب ـ ضعيف في الغاية ، إذ لا عموم في الجواب أصلا.

وليس في قوله عليه‌السلام في بعض الأخبار ، كصحيحة ابن عمّار : « على المتمتّع بالعمرة إلى الحجّ ثلاثة أطواف » إلى أن قال : « وعليه للحجّ طوافان » (٥) دلالة على دخول الطوافين في حقيقة الحجّ ، إذ وجوبه للحجّ‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٤١ ـ ١٢٢ ، الوسائل ١١ : ٢١٢ أبواب أقسام الحجّ ب ٢ ح ١.

(٢) الكافي ٤ : ٢٩٦ ـ ٢ ، الوسائل ١١ : ٢٢١ أبواب أقسام الحجّ ب ٢ ح ١٢.

(٣) التهذيب ٥ : ٤٢ ـ ١٢٤ ، الوسائل ١١ : ٢١٨ أبواب أقسام الحجّ ب ٢ ح ٦.

(٤) الكافي ٤ : ٤٥١ ـ ٥ ، الفقيه ٢ : ٢٤٥ ـ ١١٧٦ ، الوسائل ١٣ : ٤٥٢ أبواب الطواف ب ٨٤ ح ١٣ ، بتفاوت.

(٥) الكافي ٤ : ٢٩٥ ـ ١ ، التهذيب ٥ : ٣٥ ـ ١٠٤ ، الوسائل ١١ : ٢٢٠ أبواب أقسام الحجّ ب ٢ ح ٨.

٢٤

لا يدلّ على كونه جزءا منه ، كما يقال : وعلى المكلّف الوضوء للصلاة.

نعم ، يجب عليه الإتيان به حينئذ متى كان بالإجماع ، لاشتغال ذمّته به ، ولفحوى ما دلّ على وجوب الإتيان به للناسي متى تذكّر ، وكذلك في صورة النسيان من غير خلاف فيه ، ولا في جواز الاستنابة فيه ، وتدلّ عليهما الأخبار الآتية.

وإنّما الخلاف في أنّه هل تجب المباشرة فيه بنفسه إلاّ مع تعذّره أو تعسّره فيستنيب ، أو تجوز الاستنابة فيه مطلقا؟

الأول : ـ وهو الأظهر ـ للشيخ قدس‌سره في التهذيب والفاضل في المنتهى (١) ، لأصالة بقاء حرمة النساء وعدم الانتقال إلى الغير.

وصحيحة ابن عمّار المتقدّمة في المسألة السابقة ، فإنّ لفظة : « لا يصلح » تدلّ على عدم الجواز ، كما بيّناه مفصّلا في كتاب عوائد الأيّام ، بل في قوله فيها : « لا تحلّ له النساء حتى يزور البيت » أيضا دلالة واضحة عليه ، لتعليقه الحلّية على زيارته (٢) في مباشرته بنفسه.

وعلى هذا ، فتدلّ عليه أيضا صحيحة أخرى له : رجل نسي طواف النساء حتى دخل أهله ، قال : « لا تحلّ له النساء حتى يزور البيت » ، وقال : « يأمر من يقضي عنه إن لم يحجّ ، فإن توفّي قبل أن يطاف عنه فليقض عنه وليّه أو غيره » (٣).

وثالثة : في رجل نسي طواف النساء حتى أتى الكوفة ، قال : « لا تحلّ‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ١٢٨ ، المنتهى ٢ : ٧٠٣.

(٢) في « ق » و « س » زيادة : الحقيقة.

(٣) الكافي ٤ : ٥١٣ ـ ٥ ، التهذيب ٥ : ١٢٨ ـ ٤٢٢ ، الاستبصار ٢ : ٢٢٨ ـ ٧٨٩ ، الوسائل ١٣ : ٤٠٧ أبواب الطواف ب ٥٨ ح ٦.

٢٥

له النساء حتى يطوف بالبيت » ، قلت : فإن لم يقدر؟ قال : « يأمر من يطوف عنه » (١).

دلّت على عدم حصول الحلّية إلاّ بطوافه بنفسه ، خرجت صورة عدم القدرة ، بل التعسّر ـ بالإجماع ، ونفي العسر والحرج ، والصحيحة الأخيرة ، بل المتقدّمة عليها ، حيث جوّز الأمر بالقضاء في صورة عدم رجوعه بنفسه ، المشتملة على التعسّر غالبا ـ فيبقى الباقي.

والثاني : للأكثر ، كما صرّح به جمع (٢) ، لإطلاق صحيحة رابعة لابن عمّار : عن رجل نسي طواف النساء حتى رجع إلى أهله ، قال : « يرسل فيطاف عنه ، فإن توفّي قبل أن يطاف عنه فليطف عنه وليّه » (٣) ، وقريب من صدرها المرويّ في مستطرفات السرائر (٤) ، بل بعمومهما الحاصل من ترك الاستفصال.

وكذا خامسة له أيضا يأتي ذكرها.

بل يدلّ عليه إطلاق الصحيحة الثانية له أو عمومها أيضا ، لاشتمالها على الأمر بالقضاء ـ في صورة عدم حجّه بنفسه ـ مطلقا ، سواء تعذّر حجّه أم لا ، بل هو قرينة على أنّ المراد من قوله : « حتى يزور البيت » في صدرها : حتى تحصل زيارته بنفسه أو بغيره.

بل عليه قرينة أخرى أيضا ، وهي صحيحة خامسة لابن عمّار : رجل‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٥٦ ـ ٨٦٧ ، الاستبصار ٢ : ٢٣٣ ـ ٨٠٩ ، الوسائل ١٣ : ٤٠٧ أبواب الطواف ب ٥٨ ح ٤.

(٢) المفاتيح ١ : ٣٦٥ ، الرياض ١ : ٤١٨.

(٣) التهذيب ٥ : ٤٨٨ ـ ١٧٤٦ ، الاستبصار ٢ : ٢٣٣ ـ ٨٠٨ ، الوسائل ١٣ : ٤٠٧ أبواب الطواف ب ٥٨ ح ٣.

(٤) مستطرفات السرائر : ٣٥ ـ ٤٩ ، الوسائل ١٣ : ٤٠٩ أبواب الطواف ب ٥٨ ح ١١.

٢٦

نسي طواف النساء حتى رجع إلى أهله ، قال : « يأمر من يقضي عنه إن لم يحجّ ، فإنّه لا تحلّ له النساء حتى يطوف بالبيت » (١).

فإنّ تعليل الأمر بالاستنابة بهذه العلّة قرينة على أن المراد بطوافه بالبيت أعمّ من طوافه بنفسه أو بنائبه.

وعلى هذا ، فيكون قوله : « حتى يزور البيت » أو : « يطوف » دليلا آخر على المطلوب أيضا.

بل استدلّ بعضهم (٢) بالصحيحة الاولى له أيضا ، لظهور نفي الصلاحيّة في الكراهة ، ولو منع فلا أقلّ من عمومه لها وللحرمة ، فلا يكون ذلك للقول المخالف بحجّة.

أقول : أمّا الاستدلال بالصحيحة الأولى ، ففاسد ، لما أشرنا إليه من دلالة نفي الصلاحيّة على الفساد.

وأمّا الاستدلال بقوله : « حتى يزور » أو : « يطوف » بالتقريب المتقدّم ، فكذلك أيضا ، لكونه حقيقة في مباشرته بنفسه وعدم صلاحيّة ما ذكره قرينة للتجوّز فيه.

وأمّا الصحيحة الخامسة ، فلأنّه إنّما تصلح قرينة لو كان المستتر في « يطوف » راجعا إلى المقضيّ عنه ، وأمّا إذا رجع إلى القاضي فلا تكون قرينة أصلا ، سيّما إذا كان قوله : « فإنّه لا تحلّ له النساء » إلى آخره ، تفريعا لا تعليلا.

وأمّا قوله : « يأمر من يقضي عنه » فظاهر ، لأنّ تجويز الأمر بالقضاء في صورة عدم حجّه بنفسه لا يدلّ على أن المراد بقوله : « يزور » هو المعنى‌

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٢٤٥ ـ ١١٧٥ ، الوسائل ١٣ : ٤٠٨ أبواب الطواف ب ٥٨ ح ٨.

(٢) انظر التهذيب ٥ : ١٢٨.

٢٧

الأعمّ.

فلم تبق إلاّ الإطلاقات المعارضة لمثلها من الصحيحة الاولى والثالثة ، الموجب لتركهما والرجوع إلى الأصلين المتقدّمين ، لو لا ترجيح الصحيحة الثالثة بالأخصيّة المطلقة ، حيث إنّ ذيلها قرينة على أنّ معنى قوله : « حتى يطوف بالبيت » أنّه مع القدرة ، ومرجوحيّة الإطلاقات الأخيرة باحتمال ورودها مورد الغالب ، وهو صورة التعسّر أو التعذّر في العود.

فرع : لو مات ولم يطف ولو استنابة قضاه عنه الوليّ أو غيره ، لما مرّ من الروايات المتكثّرة.

٢٨

الفصل السادس

في العود من مكّة إلى منى‌

للإتيان بمنسكيه الواجبين وسائر مستحبّاته.

اعلم أنّه إذا قضى الحاجّ مناسكه بمكّة من الطوافين والسعي بينهما وجب عليه العود إلى منى إجماعا لما بقي عليه من المناسك ، وهي أمران واجبان : البيتوتة بمنى ، ورمي الجمار الثلاث ، وبعض المستحبّات ، فهاهنا أبحاث ثلاثة‌ :

٢٩

البحث الأول

في بيان البيتوتة‌

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : يجب على الحاجّ البيتوتة بمنى ، إجماعا محقّقا ، ومنقولا في المنتهى والتذكرة والمفاتيح (١) وشرحه وغيرها (٢) ، وهو مذهب أكثر العامّة كما حكاه جماعة (٣).

والإجماع هو الحجّة فيه ، مضافا إلى صحيحة ابن عمّار : « لا تبت ليالي التشريق إلاّ بمنى ، فإن بتّ بغيرها فعليك دم ، فإن خرجت أول الليل فلا ينتصف لك الليل إلاّ وأنت بمنى ، إلاّ أن يكون شغلك بنسكك أو قد خرجت من مكّة ، وإن خرجت بعد نصف الليل فلا يضرّك أن تصبح بغيرها » (٤).

والأخرى : « إذا فرغت من طوافك للحجّ وطوافك للنساء فلا تبت إلاّ بمنى ، إلاّ أن يكون شغلك في نسكك ، وإن خرجت بعد نصف الليل فلا يضرّك أن تبيت بغير منى » (٥).

وصحيحة العيص : عن الزيارة من منى ، قال : « إن زار بالنهار أو‌

__________________

(١) المنتهى ٢ : ٧٦٩ ، التذكرة ١ : ٣٩٢ ، المفاتيح ١ : ٣٧٧.

(٢) كالرياض ١ : ٤٢٥.

(٣) انظر المنتهى ٢ : ٧٦٩ ، والرياض ١ : ٤٢٥.

(٤) الكافي ٤ : ٥١٤ ـ ١ ، التهذيب ٥ : ٢٥٨ ـ ٨٧٨ ، الاستبصار ٢ : ٢٩٣ ـ ١٠٤٥ ، الوسائل ١٤ : ٢٥٤ أبواب العود إلى منى ب ١ ح ٨ ، بتفاوت.

(٥) التهذيب ٥ : ٢٥٦ ـ ٨٦٨ ، الوسائل ١٤ : ٢٥١ أبواب العود إلى منى ب ١ ح ١.

٣٠

عشاء فلا ينفجر الفجر إلاّ وهو بمنى ، وإن زار بعد نصف الليل أو السحر فلا بأس أن ينفجر الفجر وهو بمكّة » (١).

ورواية جعفر بن ناجية : « إذا خرج الرجل من منى أول الليل فلا ينتصف له الليل إلاّ وهو بمنى ، وإذا خرج بعد نصف الليل فلا بأس أن يصبح بغيرها » (٢).

ودلالة الثلاثة الأخيرة على الوجوب من جهة دلالة مفاهيمها على ثبوت الضرر أو البأس مع الترك.

ومرسلة الفقيه الواردة في علل المناسك ، وهي طويلة ، وفيها : « وأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للعبّاس أن يبيت بمكّة ليالي منى من أجل سقاية الحاجّ » (٣).

إلى غير ذلك من الأخبار المتكثّرة (٤) ، إلاّ أنّ كثيرا منها قاصرة عن إفادة الوجوب ، حتى المثبتة للدم على تارك البيتوتة ، لما ذكرنا مرارا من عدم الملازمة. وفيما ذكرنا للمطلوب كفاية.

وعن الشيخ في التبيان : استحبابها (٥).

وهو شاذّ مخالف للإجماع ، وبعض الأخبار الظاهر فيه محمول على بعض الصور ، الذي يجوز فيه الترك ، كما يأتي.

__________________

(١) الكافي ٤ : ٥١٤ ـ ٢ ، التهذيب ٥ : ٢٥٦ ـ ٨٧٠ ، الوسائل ١٤ : ٢٥٢ أبواب العود إلى منى ب ١ ح ٤ ، بتفاوت.

(٢) الفقيه ٢ : ٢٨٧ ـ ١٤٠٩ ، الوسائل ١٤ : ٢٥٧ أبواب العود إلى منى ب ١ ح ٢٠.

(٣) الفقيه ٢ : ١٢٩ ، الوسائل ١٤ : ٢٥٨ أبواب العود إلى منى ب ١ ح ٢١ ، ورواها فيه عن العلل. بتفاوت يسير.

(٤) انظر الوسائل ١٤ : ٢٥١ أبواب العود إلى منى ب ١.

(٥) التبيان ٢ : ١٥٤.

٣١

وأمّا ما في بعض الكتب من جعلها من السنّة ، أو حصر واجبات الحجّ في غيرها ، أو الحكم بأنّه إذا طاف النساء تمّت مناسكه (١).

فلا ينافي ما مرّ ، لجواز أن يراد بالسنّة مقابل الفرض ، وخروجها عن الحجّ وإن وجبت.

ويجب أن تكون البيتوتة المذكورة في ليلتين من ليالي التشريق : الليلة الحادية عشرة والثانية عشرة مطلقا ، والثالثة عشرة في بعض الصور الآتي ذكره إن شاء الله ، بالإجماعين أيضا (٢) ، وهو الدليل عليه.

مضافا إلى صحيحة ابن عمّار الأولى المتقدّمة ، وصحيحته الأخرى الواردة في حجّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطويلة ، وفيها : « وحلق ، وزار البيت ، ورجع إلى منى ، فأقام بها حتى كان اليوم الثالث من آخر أيّام التشريق ، ثمَّ رمى الجمار ، ونفر حتى انتهى إلى الأبطح » (٣).

وفعله ذلك ـ لكونه بيانا لمجمل أمر يؤخذ بيانه عنه بقوله : « خذوا عنّي مناسككم » ـ حجّة.

ولم أعثر على خبر آخر يتضمّن تفصيل زمان البيتوتة ، إلاّ أنّ ما ذكرناه كاف في المطلوب ، والصحيحة الاولى وإن تضمّنت الليلة الثالثة أيضا بالإطلاق ، إلاّ أنّها خرجت في بعض صورها بالأدلّة الآتية.

وتجب النيّة في البيتوتة مقارنة لأول الليل بعد تحقّق الغروب ، والواجب فيها قصد الفعل ـ وهو المبيت تلك الليلة ـ والقربة ، وسائر ما لا‌

__________________

(١) انظر كشف اللثام ١ : ٣٧٧.

(٢) راجع ص ٣٠.

(٣) الكافي ٤ : ٢٤٥ ـ ٤ ، التهذيب ٥ : ٤٥٤ ـ ١٥٨٨ ، مستطرفات السرائر ٢٣ ـ ٤ ، الوسائل ١١ : ٢١٣ أبواب أقسام الحجّ ب ٢ ح ٤.

٣٢

يتعيّن إلاّ بالنيّة على ما مرّ غير مرّة.

ولو بات وأخلّ بالنيّة عمدا أثم ، كذا قيل (١) ، ولعلّ المراد : الإثم لقصد المخالفة أو الاستخفاف ، لا لترك البيتوتة ، لحصولها قطعا. وعلى هذا فلا يلزم عليه فداء ، لأنّه مرتّب على ترك البيتوتة ، وهي غير متحقّقة.

المسألة الثانية : لو ترك البيتوتة بمنى كان عليه الفداء دم شاة ، بالإجماع المحكيّ عن الخلاف والغنية والمنتهى وفي المفاتيح وشرحه (٢) ، للمستفيضة من النصوص ، كصحيحة ابن عمّار المتقدّمة.

وصفوان : قال : قال أبو الحسن عليه‌السلام : « سألني بعضهم عن رجل بات ليلة من ليالي منى بمكّة ، فقلت : لا أدري » ، فقلت له : جعلت فداك ، ما تقول فيها؟ قال : « عليه دم إذا بات » ، فقلت : إن كان حبسه شأنه الذي كان فيه من طوافه وسعيه لم يكن لنوم ولا لذّة ، أعليه مثل ما على هذا؟ قال : « ليس هذا بمنزلة هذا ، وما أحبّ له أن ينشقّ الفجر إلاّ وهو بمنى » (٣).

وعلي : عن رجل بات بمكّة في ليالي منى حتى أصبح ، قال : « إن كان أتاها نهارا فبات فيها حتى أصبح فعليه دم يهريقه » (٤).

وجميل : « من زار فنام في الطريق ، فإن بات بمكّة فعليه دم ، وإن كان‌

__________________

(١) كما في كشف اللثام ١ : ٣٧٧.

(٢) الخلاف ٢ : ٣٥٨ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٨١ ، المنتهى ٢ : ٧٧٠ ، المفاتيح ١ : ٣٧٧.

(٣) التهذيب ٥ : ٢٥٧ ـ ٨٧١ ، الاستبصار ٢ : ٢٩٢ ـ ١٠٣٨ ، الوسائل ١٤ : ٢٥٢ أبواب العود إلى منى ب ١ ح ٥ ، بتفاوت.

(٤) التهذيب ٥ : ٢٥٧ ـ ٨٧٣ ، الاستبصار ٢ : ٢٩٢ ـ ١٠٤٠ ، الوسائل ١٤ : ٢٥١ أبواب العود إلى منى ب ١ ح ٢.

٣٣

قد خرج منها فليس عليه شي‌ء وإن أصبح دون منى » (١).

وخبر جعفر بن ناجية : عمّن بات ليالي منى بمكّة ، فقال : « عليه ثلاثة من الغنم يذبحهن » (٢).

فروع :

أ : صريح الأكثر : أنّ الدم الواجب هو الشاة ، ولعلّه بقرينة الرواية الأخيرة ، وإلاّ فالدم في أكثر الروايات مطلق مقتضاه التخيير ، ولكن يجب تقييده بالخبر الأخير مع الإجماع المركّب.

ب : اختلفت تعبيراتهم في الفداء :

فمنهم من صرّح بأنّ لكلّ ليلة شاة (٣) ، فلليلة واحدة شاة ، ولليلتين شاتان ، وللثلاث ثلاث.

ومنهم من قال ـ بعد ذكر الوجوب في الليلتين الأوليين ابتداء ـ : إنّ لكلّ ليلة شاة (٤) ، مدّعيا بعضهم الإجماع عليه (٥).

وهذا محتمل لاختصاص الكفّارة بالليلتين ، ومحتمل لأن يكون حكم الكفّارة للّيالي الثلاث.

ومنهم من صرّح باختصاص الكفّارة بالليلتين ، إلاّ مع وجوب الليلة‌

__________________

(١) الكافي ٤ : ٥١٤ ـ ٣ ، التهذيب ٥ : ٢٥٩ ـ ٨٨١ ، الاستبصار ٢ : ٢٩٤ ـ ١٠٤٨ ، الوسائل ١٤ : ٢٥٦ أبواب العود إلى منى ب ١ ح ١٦.

(٢) الفقيه ٢ : ٢٨٦ ـ ١٤٠٦ ، التهذيب ٥ : ٤٨٩ ـ ١٧٥١ ، الاستبصار ٢ : ٢٩٢ ـ ١٠٣٩ ، الوسائل ١٤ : ٢٥٣ أبواب العود إلى منى ب ١ ح ٦.

(٣) كما في المفاتيح ١ : ٣٧٧ ، والمدارك ٨ : ٢٢٣.

(٤) كما في المنتهى ٢ : ٧٧٠ ، وكشف اللثام ١ : ٣٧٧.

(٥) الخلاف ٢ : ٣٥٨ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٨١.

٣٤

الثالثة ، كما في الشرائع والنافع (١)

ومنهم من قال بوجوب الثلاث في الليالي الثلاث ، من غير ذكر حكم الليلة الواحدة أو الليلتين ، كالشيخ في النهاية والإسكافي والحلّي والمختلف (٢) ، وإن أطلق بعض هؤلاء أولا بوجوب الدم بالبيتوتة في غير منى (٣).

ومنهم من قال بوجوب البيتوتة في ليالي التشريق ووجوب الدم مع البيتوتة في غيره ، كالعماني والمقنعة والهداية والمراسم والكافي وجمل العلم والعمل (٤).

وهذا محتمل للأول ، وللبيتوتة بين الليلة والليلتين والثلاث ، ولعدم وجوب الكفّارة إلاّ بالثلاث ، حيث عبّروا بلفظ الجمع في الليالي.

ولا يخفى أنّ المستفاد من صحيحتي ابن عمّار وعليّ : وجوب الدم ببيتوتة الليالي في غير منى ، ولا يستفاد منهما حكم الليلة والليلتين ، ولا قدر الدم.

ومن خبر جعفر : وجوب الثلاث في الثلاث ، فإذا حمل المجمل على المبيّن ثبتت الثلاث في الثلاث.

ومن صحيحة صفوان صريحا ومن صحيحة جميل إطلاقا : وجوب‌

__________________

(١) الشرائع ١ : ٢٧٥ ، المختصر النافع : ٩٦.

(٢) النهاية : ٢٦٦ ، حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٣١٠ ، الحلي في السرائر ١ : ٦٠٤ ، المختلف : ٣١٠.

(٣) كالحلّي في السرائر ١ : ٦٠٤ ، والإسكافي على ما حكاه عنه في المختلف : ٣١٠.

(٤) حكاه عن العماني في المختلف : ٣١٠ ، المقنعة : ٤٢١ ، الهداية : ٦٤ ، المراسم : ١١٥ ، الكافي : ١٩٨ ، جمل العلم والعمل ( رسائل الشريف المرتضى ٣ ) : ٦٩.

٣٥

الدم في الليلة والليلتين أيضا من غير تعيين قدر الدم ، ولا تنافي بينهما وبين الأخبار الأول ، ومقتضاهما بضميمة الأصل : وجوب دم شاة في غير الثلاث ، وذلك أحد محتملات قول الإسكافي والحلّي ومن قال بمقالتهما ، فهو الأقوى وعليه الفتوى.

وأمّا صحيحة العيص : عن رجل فاتته ليلة من ليالي منى ، قال : « ليس عليه شي‌ء وقد أساء » (١).

فحملها بعضهم على الجاهل ، أو الليلة الثالثة ، أو بعد انتصاف الليل ، أو الاشتغال بالطاعة (٢).

والكلّ خلاف الظاهر ، بل ظاهرها نفي الوجوب عن الليلة الواحدة ، كما هو أحد احتمالات قول الإسكافي وتابعيه ، والعماني وموافقيه.

وبها يمكن صرف صحيحة صفوان عن ظاهرها ـ الذي هو الوجوب ـ إلاّ أنّ تعارضهما مع موافقة صحيحة العيص للتقيّة ـ كما يستفاد من صحيحة صفوان ، ونسب إلى أبي حنيفة (٣) ـ يوجب ترجيح صحيحة صفوان.

ولا تعارضها أيضا صحيحة سعيد : فاتتني ليلة المبيت بمنى من شغل ، فقال : « لا بأس » (٤).

لأنّ نفي البأس لا ينفي الدم ، مع إمكان استثناء الشغل ، وسيأتي.

ج : إطلاق النصوص والفتاوى في الفداء يشمل العالم والجاهل‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٥٧ ـ ٨٧٤ ، الاستبصار ٢ : ٢٩٢ ـ ١٠٤١ ، الوسائل ١٤ : ٢٥٣ أبواب العود إلى منى ب ١ ح ٧.

(٢) انظر الرياض ١ : ٤٢٦.

(٣) نسبه إليه في بدائع الصنائع ٢ : ١٥٩ ، ونقله عنه في المنتهى ٢ : ٧٧٠.

(٤) التهذيب ٥ : ٢٥٧ ـ ٨٧٥ ، الاستبصار ٢ : ٢٩٣ ـ ١٠٤٢ ، الوسائل ١٤ : ٢٥٥ أبواب العود إلى منى ب ١ ح ١٢.

٣٦

والمضطرّ والناسي ، فيجب عليهم أيضا ، ويكون جبرانا لا كفّارة.

وعن الشهيد في بعض الحواشي : استثناء الجاهل (١). ووجهه غير معلوم.

د : يختصّ غير صحيحة ابن عمّار من أخبار الدم بما إذا كان المبيت بمكّة ، بل تصرّح صحيحة جميل بالاختصاص والنفي في غيرها ، وتوافقها صحيحة هشام : « إذا زار الحاجّ من منى ، فخرج من مكّة ، فجاوز بيوت مكّة ، فنام ثمَّ أصبح قبل أن يأتي منى ، فلا شي‌ء عليه » (٢).

وأمّا صحيحة ابن عمّار فعامّة ، ولا تعارض بينها وبين غير صحيحتي جميل وهشام ، ولكنّهما تعارضانها بالعموم المطلق ، لظهورهما في البيتوتة في طريق منى خاصّة ، ومقتضى الاستدلال بها : تخصيص استثناء الفداء بذلك ، كما احتمله بعض مشايخنا ، قال : ويحتمل تقييد الطريق بطريق بحدود مكّة لا خارجها ، ولا بعد فيه (٣). انتهى.

إلاّ أنّه تعارضهما رواية عليّ : عن رجل زار البيت وطاف بالبيت وبالصفا والمروة ، ثمَّ رجع فغلبته عينه في الطريق ، فنام حتى أصبح ، قال : « عليه شاة » (٤).

ولا يضرّ ضعف سند الرواية كما مرّ غير مرّة ، سيّما مع انجبارها بالشهرة ، بل ظاهر بعض مشايخنا مظنّة انعقاد الإجماع على تحقّق الفداء‌

__________________

(١) انظر الرياض ١ : ٤٢٥.

(٢) الكافي ٤ : ٥١٥ ـ ٤ ، الفقيه ٢ : ٢٨٧ ـ ١٤١١ ، الوسائل ١٤ : ٢٥٧ أبواب العود إلى منى ب ١ ح ١٧.

(٣) الرياض ١ : ٤٢٦.

(٤) التهذيب ٥ : ٢٥٩ ـ ٨٧٩ ، الاستبصار ٢ : ٢٩٤ ـ ١٠٤٦ ، الوسائل ١٤ : ٢٥٤ أبواب العود إلى منى ب ١ ح ١٠.

٣٧

في النوم في الطريق أيضا (١).

وعلى هذا ، فيبقى عموم صحيحة ابن عمّار خاليا عن المعارض المعلوم ، لخروج المعارضتين عن الحجّية ، فالعمل على العموم.

هـ : يسقط الدم عمّن بات بمكّة متشاغلا بالعبادة ، بل عليه عامّة المتأخّرين ، لصحيحتي ابن عمّار وصحيحة صفوان المتقدّمة (٢).

وصحيحة أخرى لابن عمّار : عن رجل زار البيت فلم يزل في طوافه ودعائه والسعي بين الصفا والمروة حتى يطلع الفجر ، قال : « ليس عليه شي‌ء ، كان في طاعة الله » (٣).

ومقتضى التعليل في الأخيرة ـ بكونه في طاعة الله ـ عموم الحكم لكلّ عبادة واجبة أو مندوبة.

ولا يعارضها مفهوم الاستثناء في الصحيحتين الأوليين ، لأنّ النسك يعمّ كلّ طاعة.

وظاهر الصحاح المذكورة اشتراط استيعاب الليل بها ، ولا أقلّ من اختصاص موردها أو احتماله بالمستوعب ، فيقتصر فيما يخالف أصل لزوم الدم على القدر الثابت.

وقد يستثنى قدر ما يضطرّ إليه من غذاء أو شراب أو نوم غالب.

وتنظّر بعضهم في الأخير ، لعدم دليل على استثناء النوم ، واستند في‌

__________________

(١) كما في الرياض ١ : ٤٢٦.

(٢) في ص : ٣٠ و ٣٣.

(٣) الفقيه ٢ : ٢٨٦ ـ ١٤٠٧ ، التهذيب ٥ : ٢٥٨ ـ ٨٧٦ ، الاستبصار ٢ : ٢٩٣ ـ ١٠٤٣ ، الوسائل ١٤ : ٢٥٥ أبواب العود إلى منى ب ١ ح ١٣ ، بتفاوت يسير.

٣٨

استثناء الأولين إلى حمل النصّ على الغالب (١).

وفيه : منع تلك الغلبة بحيث توجب انصراف المطلق إليه.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ هذا القدر من الاشتغال لا ينافي الاستيعاب العرفي بالعبادة ، ولو نوى بالأكل والشرب التقوّي على العبادة يرتفع الإشكال.

وقيل : اللازم استيعاب القدر الذي يجب عليه المبيت بمنى ، وهو أن يتجاوز نصف الليل (٢).

وهو مصير إلى خلاف الأصل بلا دليل.

نعم ، ذكر جماعة من المتأخرين : أنّه يسقط الدم المضيّ إلى منى بعد الفراغ من العبادة وإن علم أنّه لا يدركها قبل انتصاف الليل (٣).

لصحاح جميل وهشام وعيص المتقدّمة (٤).

وقوله في صحيحة ابن عمّار الأولى : « أو قد خرجت من مكّة » (٥).

وصحيحة محمّد بن إسماعيل : في الرجل يزور فينام دون منى ، قال : « إذا جاز عقبة المدنيّين فلا بأس أن ينام » (٦).

أقول : وإن دلّت الأخبار المذكورة على ذلك ، إلاّ أنّه تعارضها رواية‌

__________________

(١) انظر الرياض ١ : ٤٢٦.

(٢) كما في المسالك ١ : ١٢٥.

(٣) كما في الدروس ١ : ٤٥٩.

(٤) راجع ص : ٣٣ و ٣٧ و ٣٠.

(٥) الكافي ٤ : ٥١٤ ـ ١ ، التهذيب ٥ : ٢٥٨ ـ ٨٧٨ ، الاستبصار ٢ : ٢٩٣ ـ ١٠٤٥ ، الوسائل ١٤ : ٢٥٤ أبواب العود إلى منى ب ١ ح ٨.

(٦) الكافي ٤ : ٥١٥ ـ ٣ ، التهذيب ٥ : ٢٥٩ ـ ٨٨٠ ، الاستبصار ٢ : ٢٩٤ ـ ١٠٤٧ ، الوسائل ١٤ : ٢٥٦ أبواب العود إلى منى ب ١ ح ١٥.

٣٩

عليّ المتقدّمة ، فيرجع إلى عمومات وجوب الدم ، مع أنّه لو تمّت دلالة تلك الصحاح لما اختصّت بمن اشتغل في مكّة بالعبادة ، كما مرّت إليه الإشارة.

وهل الساقط ـ بالمبيت بمكّة مشتغلا بالطاعة ـ هو الدم خاصّة وإن كان آثما؟

أو يسقط الإثم أيضا ، فيجوز له ذلك أيضا ، ويكون أحد فردي الواجب المخيّر؟

المذكور في كلام الأكثر : سقوط الدم ، وصرّح في المدارك بجواز البيتوتة بمكّة كذلك (١). وهو كذلك ، للأخبار المذكورة ، ولا يبعد أن يكون ذلك مراد الأكثر أيضا ، فتأمّل.

المسألة الثالثة : قد ظهر ممّا ذكرنا في المسألة السابقة أنّ وجوب البيات بمنى إنّما هو لغير من بات بمكّة مشتغلا بالطاعة ، بمعنى التخيير بينهما وإن كان البيات بمنى أفضل وأولى ، لصحيحة صفوان السالفة.

وهل الاشتغال بشغل آخر غير الطاعة في مكّة أو غيرها أيضا كذلك ، كما تدلّ عليه صحيحة سعيد المتقدّمة؟

أم لا ، كما هو ظاهر الأصحاب كافّة؟

الظاهر : الثاني ، لضعف الرواية بالشذوذ ، مع أنّ حمل الفوات على النسيان ونفي البأس على العذاب ـ الذي هو منفيّ عن الناسي قطعا ـ ممكن ، ويمكن حمل الشغل على ما يضطرّه ، كما يأتي.

وكذا يظهر من الصحاح الخمس ـ لجميل وهشام وابن عمّار الاولى‌

__________________

(١) المدارك ٨ : ٢٢٥.

٤٠