الإمام عليّ الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

علي موسى الكعبي

الإمام عليّ الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-98-6
الصفحات: ٢٧٦

قال الشاعر :

أنزله في أشنع المنازل

وفخر كل منزل بالنازل

من هو عند ربه مكين

فلا عليه أينما يكون

له رياض القدس مأوى ومقر

خان الصعاليك غطاء للبصر (١)

وقال آخر :

ما رعت للنبي فيه بنو العم

ذماماً ولم يحوطوا ذمارا

أشخصوه مع البريد لسامرا

فلم يلق في سواها قرارا

أنزلوه خان الصعاليك عمداً

مذ أرادوا ذلاً به واحتقارا

ما دروا أنه بدار عليها الله

أرخى دون العيون ستارا (٢)

ثمّ تقدّم المتوكل بافراد دارٍ للامام عليه‌السلام فانتقل إليها ، والظاهر أن المتوكل أمر أولاً بحجز الإمام عليه‌السلام وفرض الاقامة عليه في مكان غير لائق ، ثمّ أنه لما سمع الاطراء من قادة الجند الموكلين به والذين فتشوا داره ، صار مضطرا إلى إكرامه. نقل سبط ابن الجوزي عن علماء السير عن يحيى بن هرثمة أنه قال : « لمّا دخلت على المتوكل سألني عنه فأخبرته بحسن سيرته وسلامة طريقته وورعه وزهادته ، وأني فتّشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم ، وأن أهل المدينة خافوا عليه ، فأكرمه المتوكل وأحسن جائزته وأجزل برّه ، وأنزله معه

__________________

كتاب الحجة ، بصائر الدرجات / الصفار : ٤٢٦ / ٧ و ٤٢٧ / ١١ ، الارشاد / الشيخ المفيد ٢ : ٣١١ ، مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٤١١ ، الخرائج والجرائح / القطب الراوندي ٢ : ٦٨٠ / ١٠ ، عيون المعجزات : ١٣٧ ، الثاقب في المناقب : ٥٤٢

(١) الأنوار القدسية / الشيخ محمد حسين الاصفهاني : ١٠١. (٢) الذخائر / الشيخ محمد علي اليعقوبي : ٦٣.

٨١

سر من رأى » (١).

ثم أن المؤرخون ذكروا أن أبا الحسن عليه‌السلام أقام مدة مقامه بسرّ من رأى مكرما معظما مبجلاً في ظاهر حاله ، والمتوكل يبغي له الغوائل في باطن الأمر ، ويجتهد في ايقاع حيلة به ، ويعمل على الوضع من قدره في عيون الناس ، فلا يتمكن من ذلك ولم يقدره اللّه عليه (٢).

قال الشاعر :

يا بن النبي المصطفى ووصيه

وابن الهداة السادة الامناء

أناؤوك بغياً عن مرابع طيبة

وقلوبهم ملأى من الشحناء

براً وتعظيماً أروك وفي الخف

يسعون في التحقير والايذاء

كم حاولوا إنقاص قدرك فاعتلى

رغماً لأعلى قنة العلياء

فقضيت بينهم غريباً نائياً

بأبي فديتك من غريب نائي

قاسيت ما قاسيت فيهم صابراً

لعظيم داهية وطول بلاء

__________________

(١) تذكرة الخواص : ٣٢٢ ، ونحوه في مروج الذهب ٤ : ٤٢٢.

(٢) الإرشاد ٢ : ٣١١ ، الفصول المهمة ٢ : ١٠٧٠ ، إعلام الورى ٢ : ١٢٦.

٨٢

فلابكينك ما تطاول بي المدى

ولامزجن مدامعي بدمائي (١)

٢ ـ تفتيش دار الامام :

يصدر المتوكل بين فترة وأخرى أوامره بالتفتيش المفاجئ لدار الإمام عليه‌السلام في سامراء بسبب الخوف والشك والحقد الذي اشتمل على كيانه وأحاط جوانبه ، ويتخذ من الوشايات التي ترتفع إليه من النواصب المحيطين به ذريعة لاصدار تلك الأوامر ، وقد انتهت جميع محاولات الدهم بالخيبة والفشل الذريع ، لأنّهم لم يجدوا شيئا سوى الإمام عليه‌السلام وهو يتلو القرآن أو يتهجد والناس نيام.

عن إبراهيم بن محمد الطاهري ـ في حديث طويل ـ قال : « سعى البطحاني (٢) بأبي الحسن عليه‌السلام إلى المتوكل ، وقال : عنده سلاح وأموال ، فتقدم المتوكل إلى سعيد الحاجب أن يهجم ليلاً عليه ، ويأخذ ما يجده عنده من الأموال والسلاح ويحمله إليه. قال إبراهيم : فقال لي سعيد الحاجب : صرت إلى دار أبي الحسن بالليل ، ومعي سُلّم ، فصعدت منه إلى السطح ، ونزلت من الدرجة إلى بعضها في الظلمة ، فلم أدر كيف أصل إلى الدار ، فناداني أبو الحسن من الدار : يا سعيد ، مكانك حتى يأتوك بشمعة ، فلم ألبث أن أتوني بشمعة ، فنزلت فوجدت عليه جبّة صوف وقلنسوة منها ، وسجادته على حصير بين يديه ، وهو مقبل على القبلة. فقال لي : دونك البيوت ، فدخلتها وفتشتها فلم

__________________

(١) المجالس السنية / السيد محسن الأمين العاملي ٥ : ٦٥٥.

(٢) في الكافي : البطحائي العلوي.

٨٣

أجد فيها شيئا ... » (١).

وبالنظر لكثرة اجراءات الكبس والدهم لبيت الامام اضطر عليه‌السلام في أحد المرات الى طرد المأمور الذي قال بامامته تأثراً بشخصيته وهيبته وصدقه.

عن الحسن بن محمد بن جمهور العمي ، قال : « سمعت من سعيد الصغير الحاجب قال : بعثني المتوكل وأمرني أن أكبس على علي بن محمد بن الرضا فأنظر ما فعل ، ففعلت ذلك ، فوجدته يصلي ، فبقيت قائماً حتى فرغ ، فلما انفتل من صلاته أقبل علي وقال : يا سعيد ، لا يكف عني جعفر ـ أي المتوكل ـ حتى يقطع إرباً! اذهب واعزب ، وأشار بيده الشريفة ، فخرجت مرعوباً ، ودخلني من هيبته ما لا أحسن أن أصفه ، فلما رجعت إلى المتوكل سمعت الصيحة والواعية ، فسألت عنه فقيل : قتل المتوكل ... » (٢).

٣ ـ موارد من الاساءة :

تعرض الامام الهادي عليه‌السلام طيلة مقامه في سرمن رأى لموارد من الاساءة الموجهة اليه من قبل رجال البلاط سيما في زمان المتوكل وأزلام دولته.

وكان أول ذلك أن منعه المتوكل من الخروج ومن لقاء أصحابه ، وفرض عليه ملازمة بيته ، كما في حديث يوسف بن يعقوب النصراني الذي صار إلى سر من رأى ، ليوصل مئة دينار كان نذرها إلى الامام عليه‌السلام قال : عرفت أن المتوكل قد منعه من الركوب وأنه ملازم لداره (٣).

__________________

(١) اصول الكافي ١ : ٤٩٩ / ٤ باب مولد أبي الحسن علي بن محمد عليه‌السلام من كتاب الحجة ، الارشاد ٢ : ٣٠٣ ، الخرائج والجرائح ١ : ٦٧٦ / ٨.

(٢) الثاقب في المناقب : ٥٣٩.

(٣) راجع : الخرائج والجرائح ١ : ٣٩٦ / ٣ ، بحار الأنوار ٥٠ : ١٤٤ / ٢٨.

٨٤

وتعرض أيضاً للحبس ، فبقي رهن الاعتقال عند علي بن كركر كما في رواية الحسن بن محمد بن جمهور (١) ، وسجنه المتوكل عند حاجبه ، وزاره في سجنه هذا الصقر بن أبي دلف لتعاطف حاجب المتوكل معه (٢).

يقول الشاعر :

قاسى الامام من بني العباس

ما ليس في الوهم وفي القياس

كم مرة من بعد مرة حبس

وهو بما يراه منهم محتبس (٣)

ومن ذلك تجد الامام المعصوم حجة الله في الأرض يتهم بالرياء في صلاته في دار المتوكل (٤). وينازع من قبل ابن الخصيب على داره التي كان يسكنها ، ويطالبه بالانتقال منها وتسليمها إليه (٥) مع أن تلك الدار كان الامام عليه‌السلام قد ابتاعها من دليل بن يعقوب النصراني كاتب بغا الشرابي ، ودفن فيها عليه‌السلام (٦).

ويصرح المتوكل بأنه يريد أن يخجل الامام عليه‌السلام في مواقف عدة منها حادثة الرجل الهندي الذي وقع من ناحية الهند إلى المتوكل وكان يلعب لعبة

__________________

(١) راجع : المناقب لابن شهرآشوب ٤ : ٤٣٩ ، الثاقب في المناقب : ٥٣٦ ، اعلام الورى ٢ : ١٢٣.

(٢) راجع : معاني الأخبار : ١٢٣ ، الخصال : ٣٩٤ / ١٠٢ ، إكمال الدين : ٣٨٢ / ٩ ، كفاية الأثر : ٢٨٥.

(٣) الأنوار القدسية / الشيخ محمد حسين الاصفهاني : ١٠١.

(٤) اثبات الوصية : ٢٣٠.

(٥) الارشاد / الشيخ المفيد١ : ٣٠٦ ، الخرائج والجرائح / القطب الراوندي ٢ : ٦٨١ / ١١ ، ونحوه في أصول الكافي١ : ٥٠١ / ذيل الحديث ٦ ـ باب مولد أبي الحسن علي بن محمد عليهما‌السلام من كتاب الحجة.

(٦) راجع : تاريخ بغداد ١٢ : ٥٧ / ٦٤٤٠.

٨٥

الحقّة (١). واقترح أحد الأشرار يوماً على المتوكل أن لا يُخدم الامام عليه‌السلام عند دخوله في دار الملك المأمور بالركوب اليها مرتين في الاسبوع ، وأن لا يتبع برفع ستر ولا فتح باب ولا شيء من هذا القبيل ، وقال له : ان هذا إذا علمه الناس قالوا : لو لم يعلم استحقاقه للأمر ما فعل به هذا ، دعه إذا دخل يشيل لنفسه ويمشي كما يمشي غيره ، فتمسه بعض الجفوة ، فتقدم المتوكل أن لا يخدم ولا يشال بين يديه ستر (٢). وفي كل هذه الموارد وغيرها يتخلص الامام عليه‌السلام منها بفضل كرامته عند الله سبحانه.

ومن محاولات المتوكل الرامية الى الاستخفاف بالامام عليه‌السلام ، هو أنه أمره بالترجل والمشي بين يديه يوم الفطر من السنة التي قتل فيها المتوكل ٢٤٧ ، فمشى الامام عليه‌السلام مع عامة الناس حتى تفصد وجهه عرقاً وكان الجو صيفاً والامام عليه‌السلام لا يستطيع السير إلا متكأ لمرض ألمّ به (٣).

ويصرح المتوكل أن الأمر الذي أعياه هو أن الامام لم يجالسه على مائدة الشراب التي لم يفارقها المتوكّل ، فقد روي بالاسناد عن أبي الطيب يعقوب بن ياسر ، قال ، كان المتوكل يقول ، ويحكم قد أعياني أمر ابن الرضا ، وجهدت أن يشرب معي وأن ينادمني فامتنع ، وجهدت أن أجد منه فرصة في هذا فلم أجدها (٤). وهذا يكشف عن سقوط الحاكم على المستوى الأخلاقي ، وسعيه الى

__________________

(١) الثاقب في المناقب : ٥٥٥ ، كشف الغمة ٣ : ١٨٣.

(٢) مناقب ابن شهرآشوب ٤ : ٤٠٦ ، بحار الانوار ٥٠ : ١٢٨ / ٦.

(٣) إثبات الوصية : ٢٤٠ ، الخرائج والجرائح ١ : ٤٠٢ / ٨ ، مهج الدعوات : ٣٣٠.

(٤) أصول الكافي١ : ٥٠١ / ٨ ـ باب مولد أبي الحسن علي بن محمد عليهما‌السلام من كتاب الحجة ، الارشاد / الشيخ المفيد ٢ : ٣٠٧ ، المناقب / ابن شهر آشوب ٤ : ٤٠٩.

٨٦

جرّ أشراف الناس الى الرذيلة التي يعيشها.

من هنا كان المتوكل يشهر بالامام عليه‌السلام ويتهمه ويتهم بعض محبيه ، فقد روى شيخ الطائفة الطوسيبالاسناد عن المنصوري ، عن عم أبيه أبي موسى ، قال : دخلت يوماً على المتوكل وهو يشرب فدعاني إلى الشرب ، فقلت : يا سيدي ، ما شربته قط ، قال : أنت تشرب مع علي بن محمد. قال : فقلت له : ليس تعرف من في يدك ، إنما يضرك ولا يضره ... الحديث (١).

ومرة اُخرى عزم المتوكل على الاستخفاف بالإمام عليه‌السلام أمام ندمائه عن طريق تقديم الشراب اليه واستنشاده الشعر ، فأرسل الأتراك على حين غرّة إلى دار الإمام ، وقد أمرهم بحمله عليه‌السلام إليه حتى وإن لم يجدوا مايثير الريبة والاستغراب.

روى المسعودي وغيره بالاسناد عن محمد بن يزيد المبرد ، قال : « قد كان سعي بأبي الحسن علي بن محمد إلى المتوكل ، وقيل له : إن في منزله سلاحا وكتبا وغيرها من شيعته ، فوجّه إليه ليلاً من الاتراك وغيرهم من هجم عليه في منزله على غفلة ممن في داره ، فوجده في بيت وحده مغلق عليه ، وعليه مدرعة من شعر ، ولابساط في البيت إلا الرمل والحصى ، وعلى رأسه ملحفة من الصوف متوجها إلى ربه ، يترنّم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد ، فأخذ على ما هو عليه ، وحمل إلى المتوكل في جوف الليل ، فمثل بين يديه والمتوكل يشرب وفي يده كأس ، فلمّا رآه أعظمه وأجلسه إلى جنبه ، ولم يكن في منزله شيء ممّا قيل

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٤١٣ و ٤١٧.

٨٧

فيه ولا حالة يتعلل عليه بها ، فناوله المتوكل الكأس الذي في يده ، فأبى واعتذر قائلاً : ما خامر لحمي ودمي قطّ فاعفني منه ، فعفاه ، وقال : أنشدني شعرا أستحسنه ، فقال : إني قليل الرواية للأشعار. فقال : لابد أن تنشدني. فأنشده :

باتوا على قُلل الأجبال تحرسهم

غلب الرجال فما أغنتهم القللُ

واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم

وأسكنوا حفرا يا بئس ما نزلوا

ناداهم صارخ من بعد ما قبروا

أين الأسرةُ والتيجانُ والحللُ

أين الوجوه التي كانت منعّمة

من دونها تضرب الأستار والكللُ

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم

تلك الوجوه عليها الدود يقتتلُ

قد طالما أكلوا دهرا وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الإكل قد اُكلوا

وطالما عمّروا دورا لتحصنهم

ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا

وطالما كنزوا الأموال وادّخروا

فخلّفوها على الأعداء وارتحلوا

أضحت منازلهم قفرا معطّلة

وساكنوها إلى الأجداث قد نزلوا

قال : فأشفق كلّ من حضر على عليّ ، وظن أن بادرة تبدر منه إليه ، قال : واللّه لقد بكى المتوكل بكاءً طويلاً حتى بلّت دموعه لحيته ، وبكى من حضره ، ثمّ أمر برفع الشراب ، ثم قال له : يا أبا الحسن ، أعليك دين؟ قال : نعم ، أربعة آلاف دينار ، فأمر بدفعها إليه وردّه إلى منزله من ساعته مكرما » (١).

وهكذا لم يكن المتوكل وبطانته يتوقعون أن الإمام عليه‌السلام سوف يصفعهم بمثل

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٣٦٧ ـ ٣٦٨ ، وراجع أيضا : تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي ٣٢٢ ، البداية والنهاية ١١ : ١٥ ، وفيات الأعيان / ابن خلكان ٣ : ٢٧٢ ، الأئمّة الاثنا عشر / ابن طولون : ١٠٧ ـ منشورات الرضي ـ قم.

٨٨

هذه العظات التي نزلت كالصاعقة على أسماعه وأسماع ندمائه ، لأنها تصور ما سيؤول إليه أمره وأمر أمثاله من الطغاة عبيد الأهواء والشهوات.

قال الشاعر :

وكم أساء المتوكل الأدب

أحضره عند الشراب والطرب

وهو من السنة والكتاب

منزلة اللب من اللباب

أهذه القبائح الشنيعه

بمحضر من صاحب الشريعه

أيطلب الشرب من الامام

وهو ولي عصمة الأحكام

أيطلب الغناء بالأشعار

من معدن الحكمة والأنوار (١)

ولم يكن ذلك اول مواجهة بالشعر من قبل الامام عليه‌السلام امام جبروت المتوكل ، فقد روى ابن شهرآشوب عن أبي محمد الفحام ، قال : « سأل المتوكل ابن الجهم : من أشعر الناس؟ فذكر شعراء الجاهلية والاسلام ، ثم إنه سأل أبا الحسن عليه‌السلام ، فقال عليه‌السلام : الحمّاني حيث يقول :

لقد فاخرتنا من قريش عصابة

بمد خدود وامتداد أصابع

فلما تنازعنا المقال قضى لنا

عليهم بما نهوى نداء الصوامع

ترانا سكوتاً والشهيد بفضلنا

عليهم جهير الصوت في كل جامع

فإن رسول الله أحمد جدنا

ونحن بنوه كالنجوم الطوالع

قال : وما نداء الصوامع ، يا أبا الحسن؟ قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله ، جدي أم جدك؟ فضحك المتوكل ثم قال : هو جدك لا ندفعك عنه » (٢).

__________________

(١) الأنوار القدسية / الشيخ محمد حسين الاصفهاني : ١٠٠.

(٢) المناقب ٤ : ٤٠٦.

٨٩

٤ ـ امتحانه بمسائل عويصة :

كان المتوكل يعمد الى الطلب من بعض الفقهاء والعلماء أن يمتحنوا أبا الحسن عليه‌السلام بمسائل غامضة صعبة لعلّه لا يهتدي الى جوابها ، فيكون ذلك ذريعة للتشهير به وسبباً في الحط من شأنه أمام أولئك العلماء.

ذكر ابن شهرآشوب أن المتوكل قال لابن السكيت : اسأل ابن الرضا مسألة عوصاء بحضرتي ، فسأله ابن السكيت وأملى الامام عليه‌السلام عليه جواب تلك المسائل جواباً شافياً فوت به الفرصة على المتوكل من أن ينال منه ، وأظهر طاقاته العلمية الهائلة التي هي إحدى العناصر البارزة في معالم شخصيته العظيمة.

ثم أن يحيى بن أكثم ندد بابن السكيت وبإمكانيته في المناظرة ، قائلاً : ما لابن السكيت ومناظراته ، وإنما هو صاحب نحو وشعر ولغة ، ورفع قرطاساً فيه مسائل عديدة ، فأملى أبا الحسن عليه‌السلام على ابن أكثم جوابها جميعاً.

وصرح الامام عليه‌السلام في أول الجواب بغرض ابن أكثم من تلك المسائل قائلاً : « بسم الله الرحمن الرحيم ، وأنت ـ فألهمك الله الرشد ـ أتاني كتابك ، فامتحنتنا به من تعنتك لتجد إلى الطعن سبيلاً إن قصرنا فيها ، والله يكافيك على نيتك ، وقد شرحنا مسائلك ، فأصغ إليها سمعك ، وذلل لها فهمك ، واشغل بها قلبك ، فقد لزمتك الحجة والسلام » (١). فهو عليه‌السلام على احاطة تامة بمحاولات رجال السلطة وفقهاء البلاط وأغراضهم المبيتة.

__________________

(١) الاختصاص / الشيخ المفيد : ٩١ ، تحف العقول / الحراني : ٤٧٦ ، المناقب / ابن شهر آشوب ٤ : ٤٠٤.

٩٠

٥ ـ محاولة تصفية الامام عليه‌السلام :

يبدو من بعض الأخبار التي أرخت لسيرة الامام عليه‌السلام أن المتوكل ذهب إلى أبعد مما ذكرنا حيث أراد الاعتداء على حياة الامام عليه‌السلام في أكثر من محاولة ، ولكن باءت محاولاته بالخيبة وبقي الامام عليه‌السلام محاطاً بعناية الله وحفظه.

ومن تلك المحاولات ما كان قبل مقتل المتوكل بيومين ، كما رواه ابن أرومة حيث قال : « خرجت إلى سر من رأى أيام المتوكل فدخلت إلى سعيد الحاجب ، ودفع المتوكل أبا الحسن عليه‌السلام إليه ليقتله فقال لي : أتحب أن تنظر إلى إلهك! فقلت : سبحان الله ، إلهي لا تدركه الأبصار! فقال : الذي تزعمون أنه إمامكم؟ قلت : ما أكره ذلك. قال : قد أُمرت بقتله ، وأنا فاعله غداً ، فإذا خرج صاحب البريد فادخل عليه ، فخرج ودخلت وهو جالس وهناك قبر يحفر ، فسلمت عليه وبكيت بكاء شديداً ، فقال : ما يبكيك؟ قلت : ما أرى. قال : لا تبك إنه لا يتم لهم ذلك ، وإنه لا يلبث أكثر من يومين حتى يسفك الله دمه ودم صاحبه ، فوالله ما مضى غير يومين حتى قتل » (١).

ومنها ما روي عن الصقر بن أبي دلف ، قال « لما حمل المتوكل سيدنا أبا الحسن عليه‌السلام جئت أسأل عن خبره ، قال : فنظر إلي حاجب المتوكل ، فأمر أن أدخل عليه فقال : يا صقر ، ما شأنك؟ فقلت : خير أيها الاستاذ. فقال : اقعد. قال الصقر : فأخذني ما تقدم وما تأخر ، فقلت : أخطأت في المجيء. قال : فوحّى الناس (٢) عنه ، ثم قال : ما شأنك وفيم جئت؟ قلت : لخبر ما. فقال : لعلك جئت تسأل عن خبر مولاك؟ فقلت له : ومن مولاي؟ مولاي أمير المؤمنين. فقال : اسكت مولاك هو الحق فلا تحتشمني فإني على مذهبك. فقلت : الحمد لله.

__________________

(١) كشف الغمة ٣ : ١٨٤.

(٢) أي عجلوا الخروج.

٩١

فقال : تحب أن تراه؟ قلت : نعم. قال : اجلس حتى يخرج صاحب البريد. قال : فجلست فلما خرج قال لغلامه : خذ بيد الصقر فأدخله إلى الحجرة التي فيها العلوي المحبوس وخلّ بينه وبينه. قال : فأدخلني إلى الحجرة ، وأومأ إلى بيت ، فدخلت فإذا هو عليه‌السلام جالس على صدر حصير وبحذاه قبر محفور. قال : فسلمت فرد علي السلام ثم أمرني بالجلوس فجلست ، ثم قال : يا صقر ، ما أتى بك؟ قلت : سيدي جئت أتعرف خبرك. قال : ثم نظرت إلى القبر فبكيت ، فنظر إلي فقال : يا صقر لا عليك ، لن يصلوا إلينا بسوء. فقلت : الحمد لله » (١).

ومنها ما رواه أبو العباس الفضل بن أحمد بن إسرائيل الكاتب ، وكان أبوه كاتباً للمعتز ، في حديث ذكر فيه أن المتوكل أمر الفتح بن خاقان أن يأتيه بأربعة من الخزر أجلاف لا يفقهون ويدفع إليهم أربعة أسياف ، وأمرهم أن يرطنوا بألسنتهم إذا دخل أبو الحسن عليه‌السلام ، وأن يقبلوا عليه بأسيافهم فيخبطوه ويقتلوه ، وأرسل الى أبي الحسن عليه‌السلام وهو يقول : والله لأحرقنه بعد القتل. ودخل أبو الحسن عليه‌السلام غير مكترث ولا جازع ، فلما بصر به الخزر خروا سجداً مذعنين ، ورمى المتوكل بنفسه من السرير إليه ، وانكب عليه يقبّل بين عينيه ، وهو يقول : ما جاء بك يا سيدي في هذا الوقت؟ قال : جاءني رسولك. فقال المتوكل : كذب ابن الفاعلة ، ارجع يا سيدي من حيث جئت. فلما خرج أبو الحسن عليه‌السلام دعا المتوكل الخزر ، ثم أمر الترجمان أن يخبره بما يقولون ، ثم قال لهم : لِمَ لا تفعلوا ما أمرتكم به؟ قالوا : لشدة هيبته ، ورأينا حوله أكثر من مائة سيف

__________________

(١) معاني الأخبار : ١٢٣ ، الخصال : ٣٩٤ / ١٠٢ ، إكمال الدين : ٣٨٢ / ٩ ، كفاية الأثر : ٢٨٥.

٩٢

لم نقدر أن ننالهم ، فمنعنا ذلك عما أمرنا به ، وامتلات قلوبنا رعباً من ذلك (١).

دعاء المظلوم على الظالم :

كل مواقف المتوكل المتقدمة دعت الامام عليه‌السلام في آخر المطاف الى التوسل بسهام السحر وسلاح الأنبياء ، فتوجه الى قاصم الجبارين منقطعاً إليه متضرعاً داعياً على رأس السلطة وأزلامه ، بالدعاء المعروف بدعاء المظلوم على الظالم ، وهو من الكنوز التي توارثها أهل البيت عليهم‌السلام ، ولم يلبث المتوكل بعد هذا الدعاء سوى ثلاثة أيام حتى أهلكه اللّه تعالى ، لأن دلالة الامام من آل البيت عليهم‌السلام العلم واستجابة الدعوة فضلاً عن النص عليه من آبائه.

روى المسعودي والقطب الراوندي والسيد ابن طاوس في أكثر من طريق بالاسناد عن أبي القاسم البغدادي ، عن زرافة ، قال : « أنه لما كان يوم الفطر في السنة التي قُتل فيها المتوكل ، أمر بني هاشم بالترجّل والمشي بين يديه ، وإنّما أراد بذلك أن يترجّل له أبوالحسن عليه‌السلام ، فترجّل بنوهاشم ، وترجّل عليه‌السلام فاتكأ على رجلٍ من مواليه ، فأقبل عليه الهاشميون ، فقالوا له : يا سيدنا ، ما في هذا العالم أحد يستجاب دعاؤه فيكفينا اللّه! فقال لهم أبو الحسن عليه‌السلام : في هذا العالم مَن قلامة ظفره أكرم على اللّه من ناقة ثمود ، لمّا عقرت وضجّ الفصيل إلى اللّه ، فقال اللّه : ( تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ) (٢) ، فقتل المتوكل في اليوم الثالث.

وروي أنه عليه‌السلام قال وقد أجهده المشي : أما إنه قد قطع رحمي ، قطع اللّه

__________________

(١) الثاقب في المناقب : ٥٥٦ ، الخرائج والجرائح ١ : ٤١٧ / ٢١ ، كشف الغمة ٣ : ١٨٥.

(٢) سورة هود : ١١ / ٦٥.

٩٣

أجله » (١) ، وهذا يوافق ماجاء في التاريخ ، فقد كان ترجّل الامام يوم الفطر ومقتل المتوكل في الرابع من شوال سنة ٢٤٧ هـ.

وتضمنت رواية قطب الدين الراوندي والسيد ابن طاوس الدعاء الطويل الذي سمّـاه الإمام عليه‌السلام (دعاء المظلوم على الظالم) قال عليه‌السلام في أوله : « لمّا بلغ مني الجهد رجعت إلى كنوزٍ نتوارثها من آبائنا ، وهي أعزّ من الحصون والسلاح والجنن ، وهو دعاء المظلوم على الظالم ، فدعوت به عليه فأهلكه اللّه ».

والدعاء طويل يكشف عمّا يعانيه الامام عليه‌السلام وشيعته من ظلم المتوكل وعدوانه وطغيانه ، وعن عمق إحساسه عليه‌السلام بمعاناة الاُمّة من الحيرة والضياع والحدود المعطلة والأحكام المهملة وغيرها من مظاهر التردّي.

وفيما يلي مقطع منه قال عليه‌السلام : « ... اللّهم إنّه قد كان في سابق علمك وقضائك ، وماضي حكمك ونافذ مشيئتك في خلقك أجمعين ، سعيدهم وشقيهم ، وفاجرهم وبرّهم ، أن جعلت لفلان بن فلان عليَّ قدرة فظلمني بها ، وبغى عليّ لمكانها ، وتعزّز عليّ بسلطانه الذي خوّلته إياه ، وتجبّر عليّ بعلوّ حاله التي جعلتها له ، وغرّه إملاؤك له ، وأطغاه حلمك عنه ، فقصدني بمكروهٍ عجزتُ عن الصبر عليه ، وتعمدني بشرّ ضعفت على احتماله ، ولم أقدر على الانتصار لضعفي ، والانتصاف منه لذلّي ، فوكلته إليك ، وتوكّلت في أمره عليك ، وتواعدته بعقوبتك ، وحذرته سطوتك ، وخوفته نقمتك ، فظنّ أن حلمك عنه من ضعف ، وحسب أن إملاءك له من عجز ، ولم تنهه واحدة عن اُخرى ، ولا انزجر عن ثانية باُولى ، ولكنه تمادى في غيّه ، وتتابع

__________________

(١) إثبات الوصية : ٢٤٠ ، الخرائج ١ : ٤٠٢ / ٨ ، ونحوه مهج الدعوات : ٣٣٠.

٩٤

في ظلمه ، ولجّ في عدوانه ، واستشرى في طغيانه ، جرأةً عليك ياسيدي ، وتعرضا لسخطك الذي لاتردّه عن القوم الظالمين ، وقلّة اكتراث ببأسك الذي لاتحبسه عن الباغين.

فها أنا يا سيدي مستضعف في يديه ، مستضام تحت سلطانه ، مستذلّ بعقابه ، مغلوب مبغيّ عليّ ، مقصود وجلٌ خائف مروّع مقهور ، قد قلّ صبري ، وضاقت حيلتي ، وانغلقت عليّ المذاهب إلاّ إليك ، وانسدّت عليّ الجهات إلاّ جهتك ، والتبست علي اُموري في رفع مكروهه عني ، واشتبهت عليّ الآراء في إزالة ظلمه ، وخذلني من استنصرته من عبادك ، وأسلمني من تعلّقت به من خلقك طرّا ، واستشرت نصيحي فأشار عليّ بالرغبة إليك ، واسترشدت دليلي فلم يدلّني إلا عليك ، فرجعت إليك يا مولاي صاغراً راغماً مستكيناً عالماً أنه لا فرج لي إلا عندك ، ولا خلاص لي إلا بك ، أنتجز وعدك في نصرتي ، وإجابة دعائي ، فانك قلت وقولك الحق الذي لا يردّ ولا يبدل : « ثم بغي عليه لينصرنه الله » (١) وقلت جل جلالك وتقدست أسماؤك : « ادعوني أستجب لكم » (٢) وأنا فاعل ما أمرتني فاستجب لي كما وعدتني ، وإني لأعلم يا سيدي أن لك يوماً تنتقم فيه من الظالم للمظلوم ، وأتيقن أن لك وقتاً تأخذ فيه من الغاضب للمغضوب ، لأنك لا يسبقك معاند ولا يخرج عن قبضتك منابذ ، ولا تخاف فوت فائت ، ولكن جزعي وهلعي لا يبلغان بي الصبر على أناتك ، وانتظار حلمك ، فقدرتك يا مولاي فوق كل قدرة ، وسلطانك غالب كل سلطان ، ومعاد كل أحد إليك وإن

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٦٠.

(٢) غافر : ٤٠ / ٦٠.

٩٥

أمهلته ، ورجوع كل ظالم إليك وإن أنظرته ، وقد أضرني يا رب حلمك عن فلان بن فلان ، وطول أناتك له وإمهالك إياه ، وكاد القنوط يستولي علي لولا الثقة بك ، واليقين بوعدك.

فان كان في قضائك النافذ وقدرتك الماضية أن ينيب أو يتوب ، أو يرجع عن ظلمي أو يكف مكروهه عني ، وينتقل عن عظيم ما ركب مني ، فصل على محمد وآل محمد ، وأوقع ذلك في قلبه الساعة الساعة قبل إزالته نعمتك التي أنعمت بها علي ، وتكديره معروفك الذي صنعته عندي.

وإن كان في علمك به غير ذلك ، من مقامٍ على ظلمي ، فأسألك يا ناصر المظلوم المبغى عليه إجابة دعوتي ، فصل على محمد وآل محمد وخذه من مأمنه أخذ عزيز مقتدر ، وأفجئه في غفلته مفاجاة مليك منتصر ، واسلبه نعمته وسلطانه ، وافضض عنه جموعه وأعوانه (١) ، ومزق ملكه كل ممزق ، وفرق أنصاره كل مفرق ، وأعره من نعمتك التي لم يقابلها بالشكر ، وانزع عنه سربال عزه الذي لم يجازه بالاحسان ، واقصمه يا قاصم الجبابرة ، وأهلكه يا مهلك القرون الخالية ، وأبره يا مبير الامم الظالمة ، واخذله يا خاذل الفئات الباغية ، وابتره عمره وابتزه ملكه ، وعفّ أثره ، واقطع خبره ، وأطفئ ناره ، وأظلم نهاره ، وكور شمسه ، وأهشم سوقه ، وجذّ سنامه ، وأرغم أنفه ، ولا تدع له جنة إلا هتكتها ، ولا دعامة إلا قصمتها ، ولا كلمة مجتمعة إلا فرقتها ، ولا قائمة علوّ إلا وضعتها ، ولا ركناً إلا وهنته ، ولا سبباً إلا قطعته ، وأره أنصاره وجنده عباديد بعد الالفة ، وشتى بعد اجتماع الكلمة ، ومقنعي الرؤوس بعد الظهور على الاُمّة.

__________________

(١) في البحار : وفلّ عنه جنوده وأعوانه.

٩٦

واشف بزوال أمره القلوب المنقلبة الوجلة والافئدة اللهفة ، والاُمّة المتحيرة ، والبرية الضائعة ، وأدل ببواره الحدود المعطلة ، والأحكام المهملة ، والسنن الدائرة ، والمعالم المغيرة ، والآيات المحرفة ، والمدارس المهجورة ، والمحاريب المجفوة ، والمساجد المهدومة ، وأشبع به الخماص الساغبة ، وأرو به اللهوات اللاغبة ، والأكباد الظامئة ، وأرح به الأقدام المتعبة ، واطرقه بليلة لا اخت لها ، وساعة لا شفاء منها ، وبنكبة لا انتعاش معها ، وبعثرة لا إقالة منها ، وأبح حريمه ، ونغص نعمته ، وأره بطشتك الكبرى ، ونقمتك المثلى ، وقدرتك التي هي فوق كلّ قدرة ، وسلطانك الذي هو أعزّ من سلطانه ، واغلبه لي بقوتك القوية ، ومحالك الشديد ، وامنعني بمنعتك التي كل خلق فيها ذليل ، وابتله بفقر لا تجبره ، وبسوء لا تستره ، وكله إلى نفسه فيما يريد ، إنك فعال لما تريد ... » (١).

مقتل المتوكل :

كان المتوكل قد بايع بولاية العهد لابنه المنتصر ثمّ المعتز ثمّ المؤيد ، ثمّ انه أراد تقديم المعتز لمحبته لاُمه قبيحة ، فسأل المنتصر أن ينزل عن العهد فأبى ، فكان يُحضره مجلس العامة ويحطّ من منزلته ويهدده ويشتمه ويتوعده ، واتفق أن انحرف الترك عن المتوكل لاُمور ، فاتفق الأتراك مع المنتصر على قتل أبيه ، فدخل عليه خمسة في جوف الليل وهو سكران ثمل في مجلس لهوه ، فقتلوه هو ووزيره الفتح بن خاقان ، ثم بايعوا المنتصر بالخلافة ، وأشاعوا أن الفتح قد قتل المتوكل فقتلناه به ، ثم أخذوا البيعة من سائر بني العباس وسائر أمراء الجيش وذلك لأربع خلون من شوال سنة ٢٤٧ هـ.

__________________

(١) مهج الدعوات : ٣٣٠ ، بحار الأنوار ٩٥ : ٢٣٤ / ٣٠.

٩٧

وجاء في رواية ابن الأثير : أن المتوكل شرب في تلك الليلة أربعة عشر رطلاً ، وهو مستمر في لهوه وسروره إلى الليل بين الندماء والمغنين والجواري (١) ، وانتهت بمقتل المتوكل صفحة سوادء من تاريخ الظلم والجور ، وكان قتله خزيا له في الدنيا « ولعذاب الآخرة أشقُّ وما لهم من اللّه من واق » (٢).

قال الشاعر :

فانتصر الله له بالمنتصر

وهكذا أخذ عزيز مقتدر

عاجله المنتقم القهار

بضربة تقدح منها النار

فانهار في نار الجحيم الموصده

مخلداً في عمد ممدده (٣)

٤ ـ المنتصر :

هو محمد بن المتوكل بن المعتصم ، بويع له بعد قتل أبيه في شوال سنة ٢٤٧ هـ ، واعدّ كتابا قرأه أحمد بن الخصيب أن الفتح بن خاقان قد قتل المتوكل فقتلته به ، فبايعه الناس ، واستمرت خلافته ستة أشهر ويومين ، ولم تشر هذه الفترة القليلة إلى أي بادرة سوء من المنتصر تجاه الإمام عليه‌السلام وشيعته.

كان المنتصر يخالف أباه في الموقف من أهل البيت عليهم‌السلام ، ومن جملة مخالفاته أنه حينما كان عبادة المخنث ينتقص أمير المؤمنين عليه‌السلام بحضور المتوكل وجملة من النواصب كعلي بن الجهم الشاسي وأبي السمط الشاعر ، قال له المنتصر يوماً : يا

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٦ : ١٣٦ ، تاريخ الخلفاء / للسيوطي : ٢٧١ ، البداية والنهاية ١٠ : ٣٤٩.

(٢) سورة الرعد : ١٣ / ٣٤.

(٣) الأنوار القدسية : ١٠١.

٩٨

أمير المؤمنين ، إن علياً ابن عمك ، فكل أنت لحمه إذا شئت ، ولا تخل مثل هذا الكلب وأمثاله يطمع فيه ، فقال المتوكل للمغنين : غنّوا :

غار الفتى لابن عمه

رأس الفتى في حرّ أمّه (١)

وحينما تغير عليه أبوه بتقديم المعتز عليه في ولاية العهد ، والانتقاص منه والحط من منزلته بمحضر العامة ، بدأ المنتصر يخالفه في كلّ شيء ، فقد قتل أباه وخلع أخويه المعتز والمؤيد من ولاية العهد الذي عقده لهما المتوكل بعده (٢) ، كما أحسن إلى الطالبيين بشكل عام والعلويين بشكل خاص ، وكان أبوه قد أفرط في الاساءة اليهم.

قال أبو الفرج : كان المنتصر يظهر الميل إلى أهل هذا البيت ، ويخالف أباه في أفعاله ، فلم يجرِ منه على أحد منهم قتل أو حبس ولا مكروه فيما بلغنا ، واللّه أعلم (٣).

وقال في موضع آخر ذكر فيه حصار المتوكل للطالبيين ، ثم قال : إلى أن قُتل المتوكل ، فعطف المنتصر على العلويين ووجه بمال فرّقه فيهم ، وكان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادة مذهبه طعنا عليه ، ونصرة لفعله (٤).

وذكر المؤرخون كثيرا من إجراءاته المخالفة لأبيه في الموقف من الطالبيين والعلويين ؛ قال ابن الأثير : أمر الناس بزيارة قبر علي والحسين عليهما‌السلام ، وآمن

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي١ : ٣٠٩.

(٢) راجع : الكامل في التاريخ ٦ : ١٤٦ حوادث سنة ٢٤٨ ، تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٧٧.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٤١٩.

(٤) مقاتل الطالبيين : ٣٩٦.

٩٩

العلويين وكانوا خائفين أيام أبيه ، وأطلق وقوفهم ، وأمر بردّ فدك إلى ولد الحسن والحسين ابني علي بن أبيطالب عليه‌السلام.

وذكر أن المنتصر لمّا ولي الخلافة كان أول ما أحدث أن عزل والي المدينة صالح بن علي ، واستعمل عليها علي بن الحسن (١) بن إسماعيل بن العباس بن محمد ، قال علي : فلما دخلت أودّعه قال لي : يا علي ، إنّي اُوجّهك إلى لحمي ، ودمي ـ ومدّ جلد ساعده ـ وقال : إلى هذا اُوجهك ، فانظر كيف تكون للقوم ، وكيف تعاملهم ـ يعني آل أبي طالب ـ فقال : أرجو أن أمتثل أمر أمير المؤمنين إن شاء اللّه ، فقال : إذن تسعد عندي (٢).

ومات المنتصر رحمه‌الله في ربيع الآخر سنة ٢٤٨ لعلّة لم تمهله طويلاً ، وقيل : بل فصده الطبيب بمبضع مسموم فمات منه (٣).

٥ ـ المستعين :

وهو أحمد بن المعتصم ، أخو الواثق والمتوكل ، بويع سنة ٢٤٨ هـ ، وقتل سنة ٢٥٢ هـ ، وكان مستضعفا في رأيه وعقله وتدبيره ، وكانت أيامه كثيرة الفتن ، ودولته شديدة الاضطراب حتى خلع ثمّ قتل (٤).

وكانت البيعة له بعد أن خلع المنتصر أخويه المؤيد والمعتز من ولاية العهد ، بتدبير من أحمد بن الخصيب والاتراك ، خوفاً من أن يلي أحدهما فيقتلهم

__________________

(١) في تاريخ الطبري ٩ : ٢٥٤ (علي بن الحسين).

(٢) الكامل في التاريخ ٦ : ١٤٩ حوادث سنة ٢٤٨ ، وراجع أيضا : تاريخ ابن الوردي ١ : ٣١٥ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٢ ، تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٧٦.

(٣) الكامل في التاريخ ٦ : ١٤٨.

(٤) الفخري في الآداب السلطانية : ٢٤١.

١٠٠