الإمام عليّ الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

علي موسى الكعبي

الإمام عليّ الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-98-6
الصفحات: ٢٧٦

١
٢

٣
٤

كلمة المركز

الحمد للّه ربّ العالمين والصلاة والسلام على نبيّنا محمد وآله الطاهرين ، وبعد ..

في أدبيات الإسلام وأخلاقه بيان شاف للأسس الروحية والفكرية والعملية القويمة في بناء حياة الفرد والمجتمع ، ويأتي في طليعة تلك الأسس اختيار القدوة الحسنة ، والتأسي بها ، والتأثّر بمنهجها ، والتحلي بمكارم أخلاقها ، واستلهام العبر والدروس من رحاب سيرتها ، والانغماس في طهر تجليّاتها ، والتواصل معها ، مع ضرورة تحويل معطياتها إلى واقع عملي ملموس.

ولا خلاف بأنّ سيرة أهل البيت عليهم‌السلام هي الامتداد الحقيقي لسيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ونهجه الوضّاء ، لأنّهم الحماة الأمناء لمفاهيم الرسالة وعقائدها وأحكامها من حالات التردّي والإنحراف والضلال ، الأمر الذي أكّده القرآن الكريم بتطهيرهم ، والسنّة المطهّرة بجعل التمسّك بحبلهم عاصما من الضلالة إلى يوم القيامة.

إنّنا بحاجة إلى دراسة متأملة وقراءة متأنية تلمّ بأطراف تلك السيرة المشرقة بالعطاء ، لنجعلها نصب أعيننا ، فنستجلي مواطن العبرة فيها ،

٥

ونستلهم دروس العظمة منها ، ونتعاطى مع دلالاتها المتناغمة مع مسيرة الحياة بما تحمله من متطلبات ومستجدات على جميع مستويات الفكر والمنهج والسلوك.

ولعلّ في تنوّع أدوار تلك السيرة بحسب طبيعة واختلاف المرحلة والظروف السياسية المحيطة بقادتنا المعصومين عليهم‌السلام ما يزيل الرتابة عنها ، ويجعلها تتواصل مع مختلف المواقف والظروف نحو هدفٍ أسمى وهمّ مشترك ، وذلك هو حفظ الكتاب الكريم وسنة النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وطلب الاصلاح والهداية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهذا الكتاب قراءة في سيرة أحد عظماء أهل البيت عليهم‌السلام ، ذلك هو إمامنا العاشر أبو الحسن علي الهادي عليه‌السلام الذي طفحت كتب الحديث بمناقبه ، وفضائله ، ودوره العظيم في إحياء معالم الحقّ بعد أن حاولت السلطات العباسية الغاشمة إماتتها ، فضلاً عمّا في سيرته من صفحات مشرقة ملأى بالعطاء نتركها للقارى ء الكريم وهو يتحرّاها في فصول هذا الكتاب الذي استطاع مؤلفه أن يوقفنا عند المحطات الرئيسية في سيرة هذا الإمام العظيم ، ضمن دراسة جادّة موثقة بالمصادر المعتبرة.

ومنه تعالى نستمد العون والتوفيق

مركز الرسالة

٦

المقدمة

الحمد للّه ربّ العالمين ، وسلامه على عباده المصطفين محمد وآله الهداة الميامين.

وبعد : إنّ البحث في سيرة أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وتاريخهم يسهم في تأصيل الوعي الرسالي في ضمير الاُمّة ، وتصحيح مسار الرسالة من حالات الانحراف الفكري ؛ لأنهم قادة الرسالة والقدوة الحسنة المتميزة بخصائص العظمة والاستقامة ، وهم الامتداد الواقعي لنهج النبوة وسيرتها المعطاء ، وهم الحُماة الاُمناء لمفاهيم الرسالة وعقائدها من حالة التردي والتحريف والضلال.

وعلى الرغم من إقصاء وتغييب رموز القدوة الحسنة عن التواصل مع حياة الاُمّة السياسية والاجتماعية وملاحقتها وعزلها عن قواعدها ، فقد تمسكت بهم غالبية الاُمّة ومنحتهم مظاهر الودّ والثقة ، لما لمسته من سيرتهم الغنية بالعطاء ودورهم المشرف في جميع المستويات.

وفي عهد الامام الهادي عليه‌السلام تصدى الخلفاء العباسيون ـ كالعادة ـ لمدرسة الأئمّة عليهم‌السلام وشيعتهم ، فطوقوا الإمام بحصار شديد ورقابة صارمة ، وتربصوا به وبأصحابه ، حتى انه يمكن القول إن هذه الفترة من أشد فترات التاريخ وأكثرها ضراوةً وعنتاً على الامام الهادي عليه‌السلام وأصحابه ، بسبب الحقد السافر الذي يكنّه المتوكل لأهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو الذي حرث قبر الامام الحسين عليه‌السلام وعفاه ، ووضع المسالح حوله ليمنع من زيارته ، وقرّب في بلاطه الحاقدين ممن يدينون بالنصب ، وفرض على الامام عليه‌السلام أقصى حالات العزل والاقصاء ، حيث استدعاه إلى عاصمة بلاطه في رحلة مضنية من المدينة المنورة إلى سامراء ،

٧

ليكون محجوزا ومراقبا ومعزولاً عن قاعدته العريضة في المدينة المنورة وعن أداء دوره الرسالي في أوساط الاُمّة.

ورغم ضيق هامش الحرية المتاحة للامام الهادي عليه‌السلام وفي حدود فسحة ضيقة محكومة بالرقابة والقسوة ، سجّل عليه‌السلام رصيداً علمياً وعطاءً معرفياً واسعاً ، وأسهم في أداء دوره الرسالي ، وقدّم عطاءات جادة على طريق الدفاع عن أصول الدين ونشر فروعه ، وإيصال سنن جده المصطفى وآبائه الكرام عليهم‌السلام إلى قطاعات واسعة من الاُمّة ، فضلاً عن مقاومة مظاهر البدع والانحراف ، فكان علماً للحق ومرجعاً للدين تهرع إليه الاُمّة حيثما أشكلت مسألة وكلما استجدت أخرى فيوجهها نحو الاصول الحقيقية للشريعة المقدسة.

ولعل أهم ما يستوقف الباحث في حياة الإمام الهادي هو أنه أُسند إليه منصب الامامة بكل ما يتطلبه من احاطة تامة بعلم الشريعة وأحكامهابعد شهادة أبيه عليه‌السلام وهو في سن الثامنة من عمره الشريف ، وتلك ظاهرة نجدها لأول مرّة في تاريخ أهل البيت عليهم‌السلام متمثلة بأبيه الامام الجواد وثانياً بالامام الهادي وثالثاً بالامام الحجة المهدي المذخور لاقامة دولة الحق عليهم‌السلام ، وهو أمر لا يصدق على سائر الناس ، ولا يقع في دائرة الإمكان الا لمن كان محاطاً بعناية إلهية خاصة ، وواقعاً ضمن دائرة الاصطفاء الالهي التي جعلت عيسى بن مريم يتكلم وهو في المهد ويتولى مهام النبوة وهو في السابعة من عمره ، وجعلت يحيى بن زكريا نبياً وهو في بواكير الصبا ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان اللّه وتعالى عما يشركون ) (١).

ولقد ثبت من سيرته أنه كان أعلم أهل زمانه وأرجحهم كفة بلا خلاف ،

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٦٨.

٨

شأنه في ذلك شأن سائر الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، وتسالم العلماء والفقهاء على الرجوع إلى رأيه في المسائل المعقدة والغامضة من أحكام الشريعة والعقيدة الاسلامية ، حتى إن المتوكل العباسي وهو ألدّ أعدائه كان يرجع إلى رأيه في المسائل التي اختلف فيها علماء عصره ، فيقدّم رأيه على آرائهم ، وكانوا يرجعون إليه في كل معضلة ، ويلجأون إليه في كل مأزق ، وأذعن سائر من ناظره من العلماء المعاصرين له بتفوقه العلمى.

ومن عطاءاته العلمية أنه واصل نشاط مدرسة الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام من حيث المنهج والمادة ، ومهّد لمدرسة الفقهاء والمحدثين من أصحابه التي سارت على خطاها حتى اكتملت في زمان ولده الامام العسكري عليه‌السلام ، فكان للإمام الهادي عليه‌السلام دورٌ بارزٌ في إغناء تلك المدرسة وتغذيتها بروح الشريعة الغراء ، وسنة المصطفى السمحاء ، ورفدها بالمادة العلمية اللازمة لديمومتها واستمرار عطائها.

كما أعدّ جيلاً من رواد الفكر الاصيل الثقات فكانوا رواة وطلاباً وفقهاء ومؤلفين ووكلاء منتشرين في طول البلاد وعرضها ، يحرصون على تبليغ رسالته عليه‌السلام وإيصال كتبه ورسائله وهي تحمل أحكام الشريعة والعقيدة إلى قواعده في مختلف أطراف البلاد الشاسعة ، وتمكّن بالاشراف عليهم عن طريق التواقيع والمراسلات أن يكون له امتدادات واسعة في المواقع الاسلامية تؤمّن له الاتصال والتواصل مع قواعده الشعبية في ظلّ تلك الظروف العصيبة ، فيخطط لسلوكها ويحمي وجودها وينمي وعيها ، ويمدها بكل الأساليب التي تساعد على صمودها وارتقائها إلى مستوى الحاجة الاسلامية.

ونسبت إلى الإمام الهادي عليه‌السلام عدّة كتب ورسائل ومسائل في مجال

٩

الأحكام والشرائع والتفسير والأدعية والحكم والمواعظ والوصايا التربوية والبيانات المفصلة في تفسير القرآن وغيرها ، وقد وصلنا العديد منها مدونة في مصادر الحديث والرجال.

وكان له عليه‌السلام دور بارز في ترسيخ مبادى ء العقيدة ، وترك في هذا الاتجاه بحوثاً كلامية وعقائدية عديدة انبرى فيها لخدمة مبادئ الاسلام الحقة والدفاع عن أصوله ونشر فروعه ، ولعل أهمّ تلك البحوث رسالته المطولة إلى أهل الاهواز التي تعرّض فيها للردّ على فكرة الجبر والتفويض باعتبارها من المسائل التي أُثيرت بقوة في ذلك الوقت بحيث كانت سبباً للاختلاف بين أصحابه الى حدّ الفرقة والتقاطع والعداوة ، فوضع الامام عليه‌السلام النقاط على الحروف في هذه المسالة الحساسة. كما تعتبر زيارة الأئمّة عليهم‌السلام الموسومة بالزيارة الجامعة والمروية عنه ، مدرسة سيارة لتعليم العقيدة الإسلامية والانفتاح على جميع مفرداتها.

ومن جملة القضايا المطروحة بقوة أيضاً في ذلك الوقت ، مسألة خلق القرآن التي أثارها الحكم العباسي في زمان المأمون والمعتصم والواثق لأسباب سياسية واعتقادية ، فأحدثت فتنة ومحنة بين صفوف الناس على مختلف طبقاتهم وذهب ضحيتها الكثيرون ، وأثارت الفرقة والاحقاد والضغائن بين المسلمين. وكان جواب الامام الهادي عليه‌السلام لاصحابه واضحا ، يقوم على اعتبار الجدال في القرآن بدعة ، مع التفريق بين كلام اللّه تعالى وبين علمه ، فكلامه تعالى محدث وليس بقديم ، قال تعالى : ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ) (١) ، وأما علمه فقديم قدم ذاته المقدسة ، وهو من الصفات التي هي عين ذاته.

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢.

١٠

وتصدى الإمام عليه‌السلام لبعض الفرق التي كانت تموج بها الساحة الاسلامية آنذاك والتي رفعت راية الدعوات المنحرفة والشبهات الباطلة ، مبيناً زيفها وبطلانها ، فكان له موقف حازم تجاه بعض الفرق التي توقفت على بعض الأئمّة عليهم‌السلام كالواقفة والفطحية ، كما حذر أصحابه من الاختلاط بالصوفية الذين يظهرون التقشف والزهد لإغراء عامة الناس وبسطائهم وغوايتهم.

وانطلاقاً من مسؤوليته الرسالية في الدفاع عن العقيدة الاسلامية المقدسة ومبادئها السامية ومكافحة الكفر والالحاد ، اتخذ الامام عليه‌السلام مواقف صارمة من الغلو والغلاة الذين استفحلوا في زمانه ، فكانوا من المعاول الهدامة التي أرادت الاجهاز على الاسلام وعقائده الحقة بجملة مقالات باطلة خرجوا بها عن الجادة ؛ كوصفهم الامام عليه‌السلام بالألوهية ، واستهتارهم بالسنن الالهية ، وإسقاطهم الفرائض عمن دان بمذهبهم ، وإباحتهم كل ما حرم الله ونهى عنه كنكاح المحارم واللواط وقولهم بالتناسخ وما إلى ذلك من المفتريات ، فأعلن الامام عليه‌السلام عن كفرهم وضلالهم ، وصرح بلعنهم والبراءة منهم ، ودعا إلى نبذ أتباعهم ومقاطعتهم والاستخفاف بهم وتكذيب مقالاتهم الباطلة ، وحذر شيعته وسائر المسلمين من الاتصال بهم أو الانخداع بمفترياتهم ، حرصاً منه على تنزيه تعاليم الاسلام من التشويه والتحريف والافتراء وتصحيحاً للمسار الاسلامي بكل ما حوى من علوم ومعارف.

وكان عليه‌السلام علماً للهداية والاصلاح والارشاد بما يتحلى به من صفات الكمال وحسن السيرة والتفوق العلمي واسماع الموعظة وما ظهر على يده من كرامات حباها الله له ، فاستطاع أن ينقذ جماعة ممن أغرتهم الدنيا فانحرفوا عن جادة الطريق فاهتدوا ببركته عليه‌السلام إلى ساحل الامان ، وخرجوا من ظلمات

١١

الجهل والضلال إلى نور العلم وصراط الهداية.

وواصل عليه‌السلام هذه العطاءات ولم تلن له قناة في أداء رسالة جدّه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهداية أمته ، متحملاً الأهوال صامداً صابراً كالطود الشامخ حتى مضى شهيداً وهو من أنصح خلق الله لخلقه ، وأحرصهم على دينه وشريعته ، وأصبرهم على بلائه ، وأخوفهم من سخطه وعقابه.

ونحن أمام سيرة هذا الإمام العظيم المشرقة بالعطاء ، لا يسعنا الا أن نجعلها نصب أعيننا ونعتبر بمواطن العبرة فيها ، ونستلهم دروس العظمة منها ، ونتواصل مع دلالتها على كافة مستويات الفكر والمنهج والسلوك ، وهناك صفحات أخرى مشرقة تستوقف الباحث في سيرة هذا الإمام العظيم الملأى بالعطاء ، نتركها للقارئ الكريم وهو يتحرّاها في فصول كتابنا.

ومنه تعالى نستمد العون والتوفيق ، وهو من وراء القصد.

* * *

١٢

الفصل الأوّل

الحياة السياسية

في عصر الإمام الهادي عليه السلام ٢١٢ ـ ٢٥٤ هـ

انّ دراسة الحالة السياسية في عصرٍ ما تعتبر بمثابة العجلة التي تتحرك على محورها مجمل الأوضاع الفكرية والاجتماعية والاقتصادية ، ذلك لأن الجهاز الحاكم يمتلك أسباب القدرة على إحداث التغيير الاجتماعي والاقتصادي في أوساط الاُمّة ، إلاّ أنّ كيفيّة ذلك مرتبطة بنوع الجهاز الحاكم وطبيعة أداء أجهزتة التنفيذية ، من هنا سنقدم قراءة تاريخية تتضمّن أهم سمات العصر الذي عاش فيه الامام أبو الحسن الهادي عليه‌السلام وملوك بني العباس الذين عاصرهم الإمام عليه‌السلام لأهمية ذلك في معرفة تاريخه عليه‌السلام.

من عاصره الإمام من بني العباس :

ولد الإمام الهادي عليه‌السلام سنة ٢١٢ هـ على القول المشهور في ولادته ، وتولى الإمامة وهو في الثامنة من عمره وذلك بعد وفاة أبيه الجواد عليه‌السلام سنة ٢٢٠ هـ ، واستشهد عليه‌السلام سنة ٢٥٤ هـ عن إثنين وأربعين عاما ، عاصر فيها عليه‌السلام سبعة من ملوك بني العباس وهم بحسب الترتيب كالآتي :

١ ـ المأمون (١٩٨ ـ ٢١٨ هـ ).

٢ ـ المعتصم بن هارون (٢١٨ ـ ٢٢٧ هـ ).

١٣

٣ ـ الواثق بن المعتصم (٢٢٧ ـ ٢٣٢ هـ ).

٤ ـ المتوكّل جعفر بن المعتصم (٢٣٢ ـ ٢٤٧ هـ ).

٥ ـ المنتصر (٢٤٧ ـ ٢٤٨ هـ ).

٦ ـ المستعين بن المعتصم (٢٤٨ ـ ٢٥١ هـ ).

٧ ـ المعتز بن المتوكّل (٢٥٢ ـ ٢٥٥ هـ ).

أهم سمات هذا العصر :

امتازت هذه الفترة من حكم بني العباس بضعف سلطة الدولة وسقوط هيبتها وانحلال أجهزتها ، بسبب استيلاء الأتراك وغيرهم من الجند الأجانب في زمان المعتصم والملوك الذين بعده على زمام الملك في سامراء ، وتدخلهم في مقاليد الحكم ، وضعف ثغور الدولة وغزوها من قبل بعض الطامعين الذين يتربصون بها ، واستقلال بعض الأطراف ، وكثرة المتغلبين من العمال والولاة وغيرهم ، وازدياد أعمال التمرد والشغب ، وانصراف غالبية العباسيين عن شؤون الحكم إلى الاستحواذ على الأموال العامة وإنفاقها في وسائل اللهو والترف والبذخ والمجون ، مما كان له إفرازات وخيمة أبرزها تردي مجمل الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، وارتفاع وتيرة الثورات الداخلية والحركات المتطرفة ، وفيما يلي أهم خصائص هذا العصر :

أوّلاً ـ ميل رجال السلطة إلى البذخ واللهو :

كانت الصفة الغالبة على رجال الدولة وعلى رأسهم الخليفة ، هي انفاق الأموال الطائلة العائدة الى بيت المال لأغراضهم الخاصة وغير المشروعية في الأغلب كاقتناء الجواري والسراري والقيان والمغنين والمخنثين وشتى وسائل اللهو والمجون المتاحة في ذلك العصر ، وكانوا يسرفون في الانفاق على الشعراء

١٤

وبناء القصور ، بينما تعيش الأكثرية الساحقة من الناس على الكفاف ، وينهكها الجوع والفقر ، وتفتك بها الأمراض والأوبئة.

فقد كان المأمون ينفق على طعامه يومياً ستة آلاف دينار (١) ، وكان المتوكل كثير الانفاق على الشعراء ، حتى قيل : ما أعطى خليفة شاعرا ما أعطى المتوكل (٢) ، فأجاز مروان بن أبي الجنوب على قصيدة في مدحه بمائة وعشرين ألف درهم ، وأعطاه حتى أثرى كثيرا فقال :

فأمسك ندى كفيك عني ولاتزد

فقد خفت أن أطغى وأن أتجبرا

فقال : لا أمسك حتى يغرقك جودي (٣).

وقرّب المتوكل أبا شبل عاصم بن وهب البرجمي ، وكان شاعرا ماجنا ، وأنفق عليه حتى أثرى ، قال أبو الفرج : نَفَق عند المتوكل بايثاره العبث وخدمه وخُصّ به فأثرى ، وأمر له بثلاثين ألف درهم على قصيدة من ثلاثين بيتا (٤).

وأجاز عبيداللّه بن يحيى بن خاقان أباشبل البرجمي أيضا على قصيدة في مدحه خمسة آلاف درهم ودابة وخلع عليه (٥).

وعن أحمد بن المكي ، قال : غنيت المتوكل صوتا شعره لأبي شبل البرجمي ، فأمر لي بعشرين ألف درهم ، فقلت : يا سيدي أسأل اللّه أن يبلّغك الهُنيدة. فسأل عنها الفتح ، فقال : يعني مائة سنة ، فأمر لي بعشرة آلاف

__________________

(١) الفخري في الآداب السلطانية / ابن الطقطقا : ٢٠٧ ، نشر الشريف الرضي ، قم.

(٢) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٧٠.

(٣) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٧٠.

(٤) الأغاني / ابوالفرج الاصفهاني ١٤ : ١٩٣ ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.

(٥) الأغاني ١٤ : ١٩٩.

١٥

اُخرى (١).

وأجاز المتوكل الحسين بن الضحاك الخليع على أربعة أبيات أربعة آلاف دينار (٢).

وكان المتوكل مغرما بالجواري اللاتي يجلبن من أنحاء البلاد بأموال طائلة ، فقد روي عن المسعودي أنه قال : كان المتوكل منهمكا في اللذات والشراب ، وكان له أربعة آلاف سُرّية ووطئ الجميع (٣).

أما اُعطيات الخلفاء لذوي المناصب والمهام السياسية ولبعض المقربين فالحديث عنه ذو شجون ، فالمأمون في سنة ٢١٣ ولى أخاه المعتصم الشام ، وابنه العباس الجزيرة والثغور والعواصم ، ومنح لكل واحد منهما ولعبدالله بن طاهر ألف ألف دينار وخمس مائة ألف دينار (٤) ، وفي سنة ٢١٨ منح المأمون لمحمد بن عباد بن المهلب ثلاثة آلاف ألف درهم ، وأعطى جنده وحاشيته في دمشق عشرين ألف ألف درهم ، وأعطى وزيره الحسن بن سهل عشرة آلاف ألف درهم ، وأعطى المعتصم للافشين قائده بعد ما هزم بابك الخرمي عشرين ألف ألف درهم ، وأعطى الواثق وصيفاً التركي سنة ٢٣١ خمسة وسبعين ألف درهم بعد قضائه على ثورة الأكراد في الجزيرة (٥).

وكان أغلب حكام هذه الفترة يميلون إلى التأنّق في تشييد القصور الفخمة

__________________

(١) الأغاني ١٤ : ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٢) مروج الذهب / المسعودي ٤ : ٣٨٨ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٠.

(٣) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٧١ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٠.

(٤) البداية والنهاية ١٠ : ٢٩١.

(٥) البداية والنهاية ١٠ : ٣٣٧ ، وراجع أحداث السنوات المذكورة في تاريخ الطبري ، والكامل في التاريخ ، وتاريخ ابن كثير.

١٦

التي تعجّ بألوانٍ من مظاهر الترف والبذخ واللهو والمجون ، وقد أنفقوا عليها أموالاً طائلة ، فقد بنى المعتصم قصوراً عدة بعشرات الملايين من الدراهم ، وحينما آلت الخلافة الى الواثق انتقل من قصور المعتصم وبنى له قصراً على شط دجلة يقال له الهاروني ، وجعل له دكتين : دكة غربية ودكة شرقية ، وكان من أحسن القصور (١).

وبالغ المتوكل في بناء القصور الى حد الهوس وكان منها : العروس وقد أنفق عليه ثلاثين ألف ألف درهم ، والشِّبنداز عشرة آلاف ألف درهم ، والغريب عشرة آلاف ألف درهم ، والبرج ألف ألف وسبعمائة ألف دينار ، والقصر المختار خمسة آلاف ألف درهم ، والوحيد ألفي ألف درهم ، الجعفري المحدث عشرة آلاف ألف درهم ، والبرج عشرة آلاف ألف درهم ، والصبح خمسة آلاف ألف درهم ، والمليح خمسة آلاف ألف درهم ، وقصر بستان الايتاخية عشرة آلاف ألف درهم ، والتل علوة وسفلة خمسة آلاف ألف درهم ، والجوسق في ميدان الصخر خمس مئة ألف درهم ، وبركوان للمعتز عشرين ألف ألف درهم ، والقلائد خمسين ألف دينار ، وجعل فيها أبنية بمائة ألف دينار ، والغرد في دجلة ألف ألف درهم ، والقصر بالمتوكلية وهو الذي يقال له الماحوزة خمسين ألف ألف درهم ، والبهو خمسة وعشرين ألف ألف درهم ، واللؤلؤة خمسة آلاف ألف درهم ، وغيرها كثير.

وقيل : أنفق على الجوسق والجعفري والهاروني أكثر من مئتي ألف ألف درهم (٢).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٣.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٠ ، وراجع : معجم البلدان / ياقوت ٢ : ٦٠ ـ دار إحياء التراث العربي عند ذكر الجعفري وسامراء ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩١ ـ ٤٩٢ ، والبداية والنهاية ١٠ : ٣٤٦ ، والكامل في التاريخ ٦ : ١٣٠.

١٧

وبنى قصراً في سفينة وصفه البحتري بقوله :

غنينا على قصر يسير بفتية

قعود على أرجائه وقيام

تظل البزاة البيض تخطف حولنا

جآجئ طير في السماء سوام (١)

وإلى جانب صور البذخ تعاني الأكثرية من عامة الناس الحرمان والفقر وصعوبة العيش ، وفرض المتوكل حصاراً قاسياً على خصوص العلويين وعموم الطالبيين (٢).

أما الإسراف في مراسم البلاط الخاصة بأولاد الخلفاء والامراء وغيرهم فمما يطول به الحديث ، ومن شواهد ذلك ما نقله ابن كثير عن مراسم تزوج الحسن بن الافشين باترجة بنت أشناس سنة ٢٢٤ ودخل بها في قصر المعتصم بسامراء ، وكان عرساً حافلاً وليه المعتصم بنفسه ، حتى قيل إنهم كانوا يخضبون لحا العامة بالغالية (٣).

ومن ذلك مراسم تسليم المعتز على أبيه بالخلافة ، فقد ذكر المؤرخون أنه لما جلس المعتز وهو صبي على المنبر وسلم على أبيه بالخلافة ، وخطب الناس ، نثرت الجواهر والذهب والدراهم على الخواص والعوام بدار الخلافة ، وكان قيمة ما نثر من الجواهر يساوي مئة ألف دينار ، ومثلها ذهبا ، وألف ألف درهم غير ما كان من خلع وأسمطة وأقمشة مما يفوت الحصر ... (٤).

__________________

(١) ديوان البحتري ٣ : ٢٠٢ ـ دار المعارف ـ ١٩٦٣.

(٢) راجع : مقاتل الطالبيين : ٣٩٦.

(٣) البداية والنهاية ١٠ : ٣١٧.

(٤) البداية والنهاية ١١ : ١٧.

١٨

ولم يشذّ عن هذه السيرة أغلب خلفاء هذا العصر ، فقد ذكر المؤرخون عن المستعين : انه كان متلافا للمال مبذرا ، فرّق الجواهر وفاخر الثياب ، واختلّت الخلافة بولايته واضطربت الاُمور (١).

وذكروا أنّ اُمّ المهتدي محمد بن الواثق ، التي ماتت قبل استخلافه ، أنّها كانت تحت المستعين ، فلمّا قُتل المستعين صيّرها المعتزّ في قصر الرصافة الذي فيه الحرم ، فلمّا ولي المهتدي الخلافة قال يوما لجماعة من الموالي : أمّا أنا فليس لي اُمّ أحتاج لها إلى غلّة عشرة آلاف ألف في كلّ سنة لجواريها وخدمها والمتصلين بها ... (٢).

وسرى الترف في البلاط الى الملبس والزينة والتجميل ، وطغى هذا اللون من الترف على النساء والمخنثين ، سيما نساء وجواري الخلفاء ومواليهم ، والأمثلة على ذلك يطول بذكرها المقام ، وهي تحكي عن حجم التبذير في بيوت الأموال والإسراف في النفقات الخاصة على حساب الأغلبية المحرومة ، وكان من نتائج ذلك أن ابتعد الخليفة عن الرعية وأهمل شؤونهم فكرهه غالبية الناس.

قال ابن كثير في حوادث سنة ٢٤٩ ـ خلافة المستعين ـ : قد ضعف جانب الخلافة ، واشتغلوا بالقيان والملاهي ، فعند ذلك غضبت العوام من ذلك (٣).

ثانيا ـ استحواذ رجال السلطة على الأموال العامة :

السمة الغالبة في حياة سلاطين هذا العصر ومن سار في ركابهم من القادة والولاة والامراء والقضاة هي الاستئثار ببيت المال وتسخير الأموال العامة

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٦.

(٢) تاريخ الطبري ٩ : ٣٩٦ ، الكامل في التاريخ ٦ : ٢٠٣ ، البداية والنهاية ١١ : ١٨.

(٣) البداية والنهاية ١١ : ٣.

١٩

لخدمة مصالحهم الخاصة وحرمان الأغلبية الساحقة منه.

ولم يحدثنا التاريخ عن خلفاء أثروا كبني العباس والمحيطين بهم من ابناء البلاط والوزراء والكتاب الذين سجلوا أرقاماً فائقة في الثراء خلال القرنين الثاني والثالث.

فقد روي أن المعتصم خلف من الذهب ثمانية آلاف ألف دينار ، وثمانية عشر ألف ألف درهم ، وثمانين ألف فرس ، وثمانية آلاف مملوك ، وثمانية آلاف جارية ، وبنى ثمانية قصور. وقيل : بلغ مماليكه ثمانية عشر ألفاً (١).

ومن مظاهر استئثار رجال البلاط أن اُمّ شجاع والدة المتوكل حينما ماتت قبله بسنة خلفت أموالاً لاتُحصر ، من ذلك خمسة آلاف ألف دينار من العين وحده (٢).

وفي أحداث سنة ٢٤٩ ذكروا أن المستعين أطلق يد والدته ويد أتامش وشاهك الخادم في بيوت الأموال ، وأباحهم فعل ما أرادوا ، فكانت الأموال التي ترد من الآفاق يصير معظمها إلى هؤلاء الثلاثة ... وما يفضل من هؤلاء الثلاثة يأخذه أتامش للعباس بن المستعين فيصرفه في نفقاته (٣).

وذكروا أنه حينما خرج المستعين من سامراء وبويع للمعتز سنة ٢٥٢ هـ خلّف في بيت المال بسامراء نحو خمس مئة ألف دينار ، وفي بيت مال أم المستعين ألف ألف دينار ، وفي بيت مال العباس ابنه ستمائة ألف دينار (٤).

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٠ : ٣٠٢.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤١.

(٣) الكامل في التاريخ / ابن الأثير ٦ : ١٥٤ ـ دار الكتب العلمية ـ ١٤١٥ هـ ، البداية والنهاية / ابن كثير ١١ : ٣ ـ مكتبة المعارف ـ ١٤١٤ هـ.

(٤) الكامل في التاريخ ٦ : ١٦٦ ، البداية والنهاية ١١ : ٧.

٢٠