الإمام عليّ الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

علي موسى الكعبي

الإمام عليّ الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-98-6
الصفحات: ٢٧٦

وكان من بين الشعراء الذين رثوه أحمد بن طاهر ، وعلي بن محمد العلوي الحماني رثاه بعدّة قصائد رائعة (١) ، وأبو الحسن علي بن العباس ، المعروف بابن الرومي ، رثاه بقصيدة جيمية تقع في ١١١ بيتا على ما في ديوانه ، يقول فيها :

أمامك فانظر أي نهجيك تنهج

طريقان شتى مستقيم وأعوجُ

أكلّ أوان للنبي محمد

قتيلٌ ذكيٌّ بالدماء مضرّجُ

أما فيهم راعٍ لحق نبيه

ولاخائف من ربه يتحرجُ

أبعد المكنى بالحسين شهيدكم

تضيء مصابيح السماء فتسرجُ

فإن لايكن حيّا لدنيا فانه

لدى اللّه حيّ في الجنان مزوّجُ

وكنا نرجّيه لكشف عماية

بأمثاله أمثالها تبلّجُ (٢)

وتساوى الناس في الجزع عليه ، يقول المسعودي : ولما قتل يحيى جزعت عليه نفوس الناس جزعا كثيرا ، ورثاه القريب والبعيد ، وحزن عليه الصغير والكبير ، وجزع لقتله المليّ والدني ، وفي ذلك يقول بعض شعراء عصره ، ومن جزع على فقده :

بكت الخيل شجوها بعد يحيى

وبكاه المهند المصقولُ

وبكته العراق شرقا وغربا

وبكاه الكتاب والتنزيلُ

__________________

(١) راجع : مروج الذهب ٤ : ٤٠٦ و ٤٠٨ ، مقاتل الطالبيين : ٤٢٩ ـ ٤٣٠.

(٢) الديوان ٢ : ٤٩٢ / ٣٦٥ ، بتحقيق د ـ حسين نصار ، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

٤١

وبنات النبي يندبن شجوا

موجعات دموعهن تسيلُ

قطعت وجهه سيوف الأعادي

بأبي وجهه الوسيم الجميلُ

إن يحيى أبقى بلقبي غليلاً

سوف يودي بالجسم ذاك الغليلُ

قَتْلُه مُذكرٌ لقتل علي

وحسين ويوم اُودي الرسولُ

فصلاة الإله وقفا عليهم

ما بكى موجع وحنّت ثكولُ (١)

د ـ الحسين بن محمد :

وهو الحسين بن محمد بن حمزة بن عبداللّه بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، ويعرف بالحرون ، خرج في الكوفة سنة ٢٥١ هـ بعد يحيى بن عمر ، وأجلى عنها عامل بني العباس ، فوجه إليه المستعين مزاحم بن خاقان في عسكر عظيم من بغداد ، فقاتله وانكشف جيش الحرون بعد أن أطبق ابن خاقان على أصحابه ، فلم يفلت منهم أحد ، واستطاع الحرون أن ينجو بنفسه ، ودخل مزاحم الكوفة فرماه أهلها بالحجارة ، فأحرقها بالنار ، قيل : أحرق ألف دار ، ونهب أموال الذين خرجوا مع الحرون (٢).

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٤٠٧ ، والقصيدة في الكامل في التاريخ ٦ : ١٥٨.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٤١٠ ، مقاتل الطالبيين : ٤٣١ ، الكامل في التاريخ ٦ : ١٨٠ ، البداية والنهاية ١١ : ٩.

٤٢

هـ ـ محمد بن جعفر :

وهو محمد بن جعفر بن الحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، كان خليفة الحسين بن محمد الحرون الآنف الذكر ، خرج بعده بالكوفة ، فكتب إليه عبد الله بن طاهر بتولية الكوفة وخدعه لذلك ، فلما تمكن بها أخذه خليفة أبي الساج ، فحمله إلى سرّ من رأى فحبس بها حتى مات (١).

و ـ الحسن بن زيد :

وهو الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبيطالب عليهم‌السلام ، كان عالما بالفقه والعربية ، حازما مهيبا مرهوب الجانب ، فاضل السيرة ، حسن التدبير جوادا متواضعا للّه. وهو من جملة من تفرق في النواحى والديار من آل أبي طالب منذ زمان المتوكل فتوطن الري ، وبدأ ثورته سنة ٢٥٠ هـ ، فحدثت فتنة بين صاحب خراسان وأهل طبرستان سنة ٢٥٠ هـ ، فكتبوا إليه يبايعونه ، فجاءهم وزحف بهم على آمد فاستولى عليها ، وكثر جمعه فقصد سارية وجرجان فغلب عليهما بعد قتال عنيف ، ووجه جيشا إلى الري فملكها في أيام المستعين ، وقاتله مفلح وموسى ابن بغا ومحمد بن طاهر من قبل السلطة العباسية ، ويعقوب بن الليث الصفار من المتغلبين فتغلّب عليهم جميعا.

وأسس الحسن بن زيد الدولة العلوية في طبرستان ونواحي الديلم ودامت أمرته عشرين عاما حيث توفي سنة ٢٧٠ هـ وخلفه أخوه محمد بن زيد عليها ، وكان هو وأخوه يدعوان إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذلك من طرأ

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٤٣٢.

٤٣

بعدهما ببلاد طبرستان (١).

ز ـ محمد بن جعفر :

وهو محمد بن جعفر بن الحسن بن عمر بن علي بن الحسين بن أحمد بن عيسى بن الحسين الصغير بن علي بن الحسين عليه‌السلام ، خرج في الري سنة ٢٥٠ هـ ، وكان يدعو إلى الحسن بن زيد صاحب طبرستان ، فحاربه عبد الله بن طاهر وأسره سنة ٢٥١ هـ ، فحبسه في نيسابور ، وبقي في حبسه إلى أن مات (٢).

حـ ـ إدريس بن موسى :

وهو ادريس بن عبداللّه بن موسى بن عبداللّه بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب عليهم‌السلام ، خرج في الري سنة ٢٥٠ ـ ٢٥١ هـ مع محمد بن جعفر المذكور آنفا (٣).

ط ـ أحمد بن عيسى :

وهو أحمد بن عيسى بن علي بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبيطالب عليهم‌السلام ، خرج بعد محمد بن جعفر المتقدم سنة ٢٥١ هـ ، ودعا إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ودعا الى الحسن بن زيد صاحب طبرستان ، واستولى على الري ، فحاربه محمد بن علي بن طاهر وقاتله أحمد بن عيسى ، فانهزم محمد بن

__________________

(١) تاريخ الطبري ٩ : ٢٧١ ، مروج الذهب ٤ : ٤١٠ و ٤٢٦ و ٤٣١ و ٥٤٢ ، الكامل في التاريخ ٦ : ١٥٨ و ٢٠٤ و ٢٢٧ و ٢٣٣ و ٢٣٨ و ٢٤٦ و ٣٣٦ ، البداية والنهاية ١١ : ٦ و ١٥ و ٢٤ و ٣٠ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٨ و ٥٤٣ ، الأعلام / للزركلي ٢ : ١٩٢ ـ بيروت ـ دار العلم للملايين.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٠٦.

(٣) مروج الذهب ٤ : ٤٢٩ ، الكامل في التاريخ ٦ : ١٨٠.

٤٤

علي بن طاهر وسار إلى قزوين ، ودخل أحمد بن عيسى الري (١).

ي ـ الحسين بن أحمد :

وهو الحسين بن أحمد بن إسماعيل بن محمد ، المعروف بالكوكبي ، من ولد الأرقط ، وقيل : إن اسم الكوكبي هو الحسين بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد ... ، خرج بعد أحمد بن عيسى في قزوين وزنجان سنة ٢٥١ هـ وطرد عامل بني العباس عنها ، وبقي عليها أميرا إلى سنة ٢٥٢ هـ ، فحاربه موسى بن بغا سنة ٢٥٣ هـ ودخل قزوين ، وصار الكوكبي إلى الديلم ، ثمّ وقع إلى الحسن بن زيد فمات قبله (٢).

ك ـ إسماعيل ومحمد ابنا يوسف :

وهو اسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن عبداللّه بن موسى بن عبداللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، نقلت أغلب المصادر أنه لم يكن محمود السيرة ، ولم يسر على نهج العلويين في نقاء الثورة ، خرج في مكة والمدينة سنة ٢٥١ ـ ٢٥٢ هـ فاستولى عليهما ، ونال أهل المدينة وغيرهم من أهل الحجاز في أيامه الجهد والضيق والبلاء ، ومات اسماعيل بالطاعون وخلفه بعد وفاته أخوه محمد بن يوسف ، وحاربه أبو الساج ولما انكشف من بين يديه سار إلى اليمامة والبحرين فغلب عليهما مؤسساً دولة بني الاخيضر العلوية التي بقيت الى

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٤١٠ ، الكامل في التاريخ ٦ : ١٦١ ، البداية والنهاية ١١ : ٦ ، مقاتل الطالبيين : ٤٠٦.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٤١٠ ، وفيه : الكركي ، مقاتل الطالبيين : ٤٠٦ ، الكامل في التاريخ ٦ : ١٨٠ و ١٩٢ ، البداية والنهاية ١١ : ٩ و ١٢ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٨.

٤٥

سنة ٣٠٥ حيث سقطت على يد القرامطة (١).

ل ـ أحد أولاد موسى بن عبد الله :

خرج بالمدينة بعدهما أحد أولاد موسى بن عبداللّه بن موسى بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبيطالب عليهم‌السلام (٢).

مـ ـ علي بن عبداللّه الطالبي ، المسمّى المرعشي ، خرج في آمل سنة ٢٥١ هـ ، وحاربه أسد بن جندان (٣).

ن ـ رجل علوي ، خرج في نينوى من أرض العراق سنة ٢٥١ هـ ، فحاربه هشام ابن أبي دلف ، فقتل جماعة من أصحابه ، وهرب فدخل الكوفة (٤).

* * *

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٤٢٩ ، الكامل في التاريخ ٦ : ١٨٠ ـ ١٨١ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٨ ، البداية والنهاية ١١ : ٩ ، مقاتل الطالبيين : ٤٥٠.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٤٢٩.

(٣) الكامل في التاريخ ٦ : ١٧٩.

(٤) الكامل في التاريخ ٦ : ١٨٠.

٤٦

الفصل الثّاني

موقف السلطة من الإمام عليه السلام

اتخذ الخلفاء العباسيون المعاصرون للامام الهادي عليه‌السلام عين المواقف التي اتخذها أسلافهم في التصدّي لمدرسة الأئمّة عليهم‌السلام وشيعتهم والنكاية بهم ؛ ذلك لأن علاقة الحاكم بالإمام تقوم على أساس ثابت ، وهو الخوف من نشاط الإمام ودوره الفاعل في الحياة الاسلامية ، فضلاً عن أن رجال السلطة كانوا يعيشون أوضاعا سلبية على مستوى الالتزام الديني ، فكانوا يضيقون ذرعا بأي إمام من معاصريهم ، لما يتمتع به من سمو المكارم ومن شخصية علمية وروحية فذّة وسيرة صالحة تجتذب مختلف أوساط الاُمّة ، من هنا حرصوا على ربط الإمام بالجهاز الحاكم وتقريبه بشتى الوسائل لدوام مراقبته وتحديد حركته وفصله عن أتباعه ومواليه ومحبّيه المؤمنين بمرجعيته الفكرية والروحية ، وأخيرا تآمروا على حياته.

وقد عمل رجال السلطة العباسية على استدعاء الامام الهادي عليه‌السلام من مدينة جده المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله الى عاصمة الدولة ليكون تحت مرآى ومسمع الخليفة وجهازه الحاكم وليتسنى لهم مراقبته والحيلولة دون أداء دوره القيادي تجاه قواعده المؤمنة به.

ولأجل استجلاء موقف السلطة من الإمام لابدّ من استعراض مواقف الحاكمين من بني العباس على انفراد حسب التسلسل التاريخي ، على أن الامام

٤٧

الهادي عليه‌السلام قد تسنم منصب الامامة الرفيع بعد شهادة أبيه الجواد سنة ٢٢٠ هـ فعاصر في سني إمامته ٢٢٠ ـ ٢٥٤ هـ سبع سنين من أيام المعتصم ٢١٨ ـ ٢٢٧ وأيام الواثق ٢٢٧ ـ ٢٣٢ والمتوكل ٢٣٢ ـ ٢٤٧ والمنتصر ٢٤٨ والمستعين ٢٤٨ ـ ٢٥١ ونحو ثلاث سنين من أيام المعتز ٢٥٢ ـ ٢٥٥.

ولم ينقل لنا التاريخ تفاصيل العلاقة بين الإمام عليه‌السلام وبين كل واحد من خلفاء عصره ، عدا أخبار اعتقاله وتنبؤاته بموت بعضهم أو قتله ، وموقف الخلفاء من الشيعة بشكل عام والطالبيين وأصحاب الامام بشكل خاص ، وهو يعكس موقف الحاكم من الامام عليه‌السلام ، وكما يلي.

١ ـ المعتصم :

وهو أبو إسحاق محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور ، ولد في شعبان سنة ١٨٠ ، وبويع له في رجب سنة ٢١٨ هـ ، وتوفي في الثامن عشر من ربيع الاول سنة ٢٢٧ ، وكان أمياً لا يحسن الكتابة ، قال الخطيب : كانت نهمته في الانفاق في الحرب لا في البناء ولا في غيره (١).

أولاً ـ موقفه من الامام الجواد عليه‌السلام :

أ ـ استدعاؤه الى بغداد :

أمر المعتصم العباسي بحمل الإمام أبي جعفر الجواد عليه‌السلام وزوجته أم الفضل بنت المأمون بكل إكرام وإجلال وعلى أحسن مركب إلى بغداد ، وذلك ضمن كتاب بعثه إلى واليه على المدينة محمد بن عبد الملك الزيّات في سنة ٢١٩ هـ.

__________________

(١) البداية والنهاية ١٠ : ٣٢٤ و ٣٢٥.

٤٨

قال ابن شهرآشوب : لما بويع المعتصم جعل يتفقد أحواله عليه‌السلام ، فكتب إلى عبد الملك الزيات أن ينفذ إليه التقي وأم الفضل (١).

وكان الامام الجواد عليه‌السلام يعلم بأن رحلته هذه هي الأخيرة التي لا عودة بعدها ، لذلك أخبر أحد أصحابه وهو إسماعيل بن مهران بأنّه غير عائد من رحلته هذه مرة اُخرى ، وأخبره أن الامام بعده ابنه علي عليه‌السلام (٢).

واستمهل المأمورين بحمله الى المعتصم لحين أداء الموسم ، وفعلاً مضى الإمام الجواد عليه‌السلام لاداء مراسم الحج مصطحباً ابنه أبا الحسن الهادي عليه‌السلام وكان عمره آنذاك نحو سبع سنين ، وترك مكّة فور أداء المناسك معرجا على مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومنها انصرف إلى العراق ومعه زوجته ابنة المأمون ، وخلف ابنه أبا الحسن الهادي عليه‌السلام في المدينة ، وسلم إليه المواريث والسلاح وأوصى اليه ونص عليه بمشهد ثقاته وأصحابه (٣) ، وأخيرا ينتهي به المسير إلى بغداد ويدخلها لليلتين بقيتا من المحرم سنة ٢٢٠ هـ (٤).

ب ـ شهادته عليه‌السلام :

لم يمهل الامام الجواد عليه‌السلام الا نحو عشرة أشهر في بغداد ، فقد استشهد في ذي القعدة سنة ٢٢٠ هـ (٥) ، ودفن في مقابر قريش ببغداد الى جنب جده أبي

__________________

(١) المناقب ٤ : ٣٨٤.

(٢) اُصول الكافي ١ : ٣٢٣ / ١ باب الاشارة والنص على أبي الحسن الثالث عليه‌السلام ، الثاقب في المناقب / ابن حمزة الطوسي : ٥١٦.

(٣) راجع : إثبات الوصية / المسعودي : ١٩٢ ، عيون المعجزات : ١٣١ ، دلائل الإمامة / الطبري : ٣٩٥ ـ مؤسسة البعثة ـ قم ـ ١٤١٣ هـ.

(٤) راجع : الإرشاد / الشيخ المفيد ٢ : ٢٩٥ ، روضة الواعظين ١ : ٢٤٣.

(٥) الإرشاد ٢ : ٢٩٥.

٤٩

الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، وكان له يوم قبض خمس وعشرون سنة وأشهر.

وعلى الرغم من اختلاف الروايات في كيفية شهادة الإمام أبي جعفر الجواد عليه‌السلام الا انه صرح أغلب محدثي الشيعة ومؤرخيهم بأنه عليه‌السلام قبض مسموماً وأن الذي باشر ذلك المعتصم أو أحد أعوانه (١).

وذكر المسعودي في تاريخه أن أم الفضل بنت المأمون لما قدمت معه من المدينة إلى المعتصم سمته (٢).

ويبدو مما ذكره المسعودي مفصلاً في اثبات الوصية وغيره من المؤرخين أن المشتركين بالتآمر على حياة الامام عليه‌السلام زوجته أم الفضل زينب بنت المأمون ، وهي أداة التنفيذ والمباشر الأول في هذا العمل الاجرامي ، ثم أخوها جعفر بن المأمون ، ومدبّر هذا الأمر عمّهم المعتصم بن هارون.

قال المسعودي وغيره من المؤرخين : لما انصرف أبو جعفر عليه‌السلام إلى العراق لم يزل المعتصم وجعفر بن المأمون يدبران ويعملان الحيلة في قتله ، فقال جعفر لاخته أم الفضل ـ وكانت لامه وأبيه ـ في ذلك لانه وقف على انحرافها عنه وغيرتها عليه ، لتفضيله أم أبي الحسن ابنه عليها مع شدة محبتها له ، ولانها لم ترزق منه ولدا ، فأجابت أخاها جعفراً ، وجعلوا سماً في شيء من عنب رازقي ، وكان يعجبه العنب الرازقي ، فلما أكل منه ندمت وجعلت تبكي ، فقال لها : « ما بكاؤك؟ والله ليضربنك الله بفقر لا ينجبر وبلاء لا ينستر » فبليت بعلة في

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٣٢٠ / ١٠٩ ، مروج الذهب ٣ : ٤٦٠ ، اثبات الوصية : ١٩٢ ، روضة الواعظين / الفتال : ٢٤٣ ، دلائل الإمامة / الطبري : ٣٩٥ ، مصباح الكفعمي : ٥٢٣ ، مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٣٨٤.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٥٢.

٥٠

أغمض المواضع من جوارحها صارت ناسوراً ينتقض في كل وقت ، فأنفقت مالها وجميع ملكها على تلك العلة حتى احتاجت إلى رفد الناس .... ويروى أنّه قد تردّى جعفر في بئر فأخرج ميتاً وكان سكراناً (١).

وذكر الطبري وابن شهر آشوب في رواية اخرى أنها سمّته بمنديل يمسح به عند الملامسة ، فلما أحس بذلك قال لها : « أبلاك الله بداء لا دواء له » ، فوقعت الأكلة في فرجها ، فكانت تنكشف للطبيب ، ينظر إليها ويشير عليها بالدواء ، فلا ينفع ذلك شيئاً حتى ماتت في علتها (٢).

وعلى الجملة ، فإنّ المعتصم هو السبب الأوّل لقتل الإمام عليه‌السلام ، هذا الرجل الذي وصفه المؤرخون بقولهم : كان ذا سطوة إذا غضب لا يبالي من قتل (٣).

وكان ممن قتلهم المعتصم سنة ٢٢٣ ابن أخيه العباس بن المأمون ، الذي قتله بمنبج فدفن هناك ، وكان طريقة قتله أنه أجاعه جوعاً شديداً ثم جيء بأكل كثير فأكل منه وطلب الماء فمنع حتى مات.

وقتل جماعة من ولد المأمون أيضاً ، وسجن مجموعة من الامراء ثم أخذهم بأنواع النقمات التي اقترحها لهم ، فقتل كل واحد منهم بنوع لم يقتل به الآخر (٤).

هذا ، وإنّ كثيراً من أصحابنا ذهب إلى أن جميع الأئمّة عليهم‌السلام خرجوا من الدنيا بالقتل ، واستدلوا على ذلك بما روي عن الصادق عليه‌السلام من قوله : « مامنا إلاّ

__________________

(١) اثبات الوصية : ١٩٢ ، دلائل الإمامة / الطبري : ٣٩٥ ، عيون المعجزات : ١٣١.

(٢) دلائل الامامة / الطبري : ٣٩٥ ، مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٣٩١.

(٣) سير أعلام النبلاء ١٠ : ٣٠٢ ، والبداية والنهاية ١٠ : ٣٢٥.

(٤) راجع : البداية والنهاية ١٠ : ٣١٦.

٥١

مقتول شهيد » (١). فليس فيهم عليهم‌السلام من يموت حتف أنفه ، وقاتلهم دائما هو الحاكم الذي يحذر نشاطهم ويتوجس منهم خيفة ، لأنّهم يمثلون جبهة المعارضة ضد الانحراف الذي يمثله الحاكم (٢).

ثانياً ـ موقفه من الامام الهادي عليه‌السلام :

ذكرنا أن الامام الجواد عليه‌السلام خلف ولده الامام الهادي عليه‌السلام في المدينة المنورة ، وبقي هناك حتى شهادة أبيه على ما تصرح به كثير من الروايات (٣).

وما أن استشهد الامام الجواد عليه‌السلام توجه رجال السلطة إلى ولده أبي الحسن عليه‌السلام رغم كونه صغيراً ولا يشكل أدنى خطر على مركز الخلافة العباسية وأجهزتها ، وأول بوادر ذلك هو أن المعتصم عهد إلى عمر بن الفرج الرخجي أن يشخص إلى المدينة فيختار مؤدباً لأبي الحسن الهادي عليه‌السلام وشرط أن يكون المؤدب معروفاً بالعداء لأهل البيت عليهم‌السلام ليغذيه بأفكار بعيدة عن نهجهم ، فاختار الرخجي أبا عبد الله الجنيدي ، وأوكل إليه مهمة تأديب الامام عليه‌السلام ، فعمل الرخجي على حبسه عن شيعته ومواليه ، ولاجل ذلك وضع عليه العيون ، وشرع بعمله ، إلا أنه ذهل من حدة ذكاء الامام عليه‌السلام وغزارة علمه ، الامر الذي جعله يذعن بأن الامام عليه‌السلام أعلم منه ، وأنه تعلم منه ضروباً من العلم ، وأنه خير أهل الارض ، وأفضل من برأه الله تعالى ، وأنه يحفظ القرآن من

__________________

(١) إعلام الورى ٢ : ١٣١.

(٢) راجع بحثا مفصلاً حول هذا الموضوع في تاريخ الغيبة الصغرى / للسيد الشهيد محمد محمدصادق الصدر : ٢٢٩.

(٣) راجع : دلائل الامامة : ٤١٥ / ٣٧٨ / ١١ ، بصائر الدرجات : ٤٨٧ / ٢ باب٢١ من الجزء التاسع ـ مؤسسة الأعلمي ـ طهران ، إثبات الوصية : ١٩٤.

٥٢

أوله إلى آخره ويعلم تأويله وتنزيله ، وأخيراً نزع الجنيدي نفسه عن النصب والعداء لاهل البيت عليهم‌السلام ودان بالولاء لهم واعتقد بالامامة واهتدى إلى سواء السبيل (١).

ويبدو أن المعتصم ظن أنه يستطيع بعمله هذا توجيه الامام عليه‌السلام وفقاً لأهوائه ، وأن يغذيه بالعلوم كما يريد ، متناسياً أن الأئمّة عليهم‌السلام يتميزون بالعلم الحضوري والنور الجلي والسر الخفي من لدن رب العالمين.

ثالثاً ـ موقفه من الشيعة :

في أيام المعتصم اشتدت المحنة على الاُمّة بصورة عامة وعلى الشيعة بوجه خاص ، فقد نقل المؤرخون أن الرجل منهم إذا تفوه بأدنى معارضة أو أمر بمعروف ونهى عن منكر فإن مصيره يؤول الى بركة السباع أوإراقة دمه بأبشع الطرق فضلاً عن الاغلال والسجون ومصادرة الاموال ، وكانوا في كل ما يتعرضون له من قمع الجهاز الحاكم يتوجهون الى الامام عليه‌السلام فيراسلونه ليرفدهم بالدعاء.

روى السيد ابن طاوس بالاسناد عن اليسع بن حمزة القمي ، قال : « أخبرني عمرو بن مسعدة وزير المعتصم الخليفة أنه جاء علي بالمكروه الفظيع حتى تخوفته على إراقة دمي وفقر عقبي ، فكتبت إلى سيدي أبي الحسن العسكري عليه‌السلام أشكو إليه ما حلّ بي ، فكتب إلي : لا روع إليك ولا بأس ، فادع الله بهذه الكلمات ، يخلصك الله وشيكاً مما وقعت فيه ، ويجعل لك فرجاً ، فإن آل محمد يدعون بها عند إشراف البلاء وظهور الأعداء ، وعند تخوف

__________________

(١) إثبات الوصية / المسعودي : ٢٢٢.

٥٣

الفقر وضيق الصدر.

قال اليسع بن حمزة : فدعوت الله بالكلمات التي كتب إلي سيدي بها في صدر النهار ، فوالله ما مضى شطره حتى جاءني رسول عمرو بن مسعدة فقال لي : أجب الوزير ، فنهضت ودخلت عليه ، فلما بصر بي تبسّم إلي ، وأمر بالحديد ففك عني وبالأغلال فحلّت مني ، وأمر لي بخلعة من فاخر ثيابه ، وأتحفني بطيب ، ثم أدناني وقربني ، وجعل يحدثني ويعتذر إلي ، وردّ علي جميع ما كان استخرجه مني ، وأحسن رفدي ، وردني إلى الناحية التي كنت أتقلدها ، وأضاف إليها الكورة التي تليها » .... الى آخر الحديث وفيه الدعاء المعروف بدعاء الفرج (١).

ونقل المسعودي في تاريخه عند ترجمته لبغا الكبير ما يدل على قتل بعض الموالين لأهل البيت عليهم‌السلام بالقائهم في بركة السباع ، فذكر أن بغا الكبير القائد التركي الذي كان من غلمان المعتصم قد نيف على التسعين سنة ، وقد كان باشر من الحروب ما لم يباشره أحد ، فما أصابته جراحة قط ، وأنه كان ديناً بين الاتراك ، وكان يقول : الأجل جوشن (٢). ولم يكن يلبس على بدنه شيئاً من الحديد ، فعذل في ذلك ، فقال : رأيت في نومي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه جماعة من أصحابه فقال لي : يا بغا ، أحسنت إلى رجل من أمتي فدعا لك بدعوات استجيبت له فيك. قال : فقلت : يا رسول الله ، ومن ذلك الرجل؟ قال : الذي خلصته من السباع. الى آخر الخبر وفيه : أن المعتصم أمره أن يلقى ذلك الرجل إلى السباع ، وحينما جاء ليلقيه سمعه يقول : اللهم إنك تعلم ما تكلمت إلا فيك ، ولم أرد بذلك

__________________

(١) مهج الدعوات : ٢٧١.

(٢) الجوشن هنا : الدرع.

٥٤

غيرك ، وتقرباً إليك بطاعتك وإقامة الحق على من خالفك ، أفتسلمني؟ قال بغا : فارتعدت وداخلتني له رقة ، وملئ قلبي له رعباً ، فجذبته عن طرف بركة السباع وقد كدت أن أزج به فيها ، وأتيت به حجرتي فأخفيته فيها .... (١).

رابعاً ـ موقفه من الطالبيين :

واصل الطالبيون قيادة حركة المعارضة المسلحة التي لم تهدأ منذ ثورة الشهيد السبط الامام الحسين عليه‌السلام ، وهي في هذا الوقت تمثّل ردّ فعل طبيعي لحالة التردي التي تعاني منها الاُمة عموماً والطالبيون خصوصاً ، من هنا فقد خرج من العلويين في أيام المعتصم بالطالقان محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، المعروف بالصوفي ، ودعا إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكانت له مع العباسيين عدة وقعات بناحية الطالقان وجبالها ، وشي به في آخرأمره فارسل المعتصم ، فحبسه في سرداب ضيق شبيه بالبئر طوله ثلاثة أذرع في ذراعين فكاد أن يموت فيه ، ثم أنه هرب من السجن وغاب عن الأنظار ، فطلبوه فلم يقدروا عليه (٢).

ومن وسائل الاستفزاز التي مارستها السلطة العباسية ضد خصومها سيما الطالبيون منهم ، هو اجبارهم على لبس السواد الذي يمثل شعار الدولة العباسية ، وفي حال الامتناع يتعرض الخصم لعقوبات قاسية ، ومما حدث من ذلك في زمان المعتصم ماذكره أبو الفرج أن عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٦٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧١ ، مقاتل الطالبيين : ٤٦٤ ـ ٤٧٢ ، تاريخ الطبري ٧ : ٢٢٣ ـ ٢٢٤ حوادث سنة ٢١٩ هـ ، مروج الذهب ٤ : ٦٠ ـ ٦١ ، عمدة الطالب / الداوودي : ٣٠٦ المطبعة الحيدرية ـ النجف ، البداية والنهاية ١٠ : ٣٠٨.

٥٥

إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب امتنع من لبس السواد ، وخرقه لما طولب بلبسه ، فحبس بسر من رأى حتى مات في حبسه رضي‌الله‌عنه (١).

٢ ـ الواثق :

هو أبو جعفر ، وأبو القاسم ، هارون بن المعتصم بالله بن هارون الرشيد ، بويع له لاحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الاول سنة ٢٢٧ (٢).

ولم يسجل لنا التاريخ موقف سوء من الواثق تجاه الامام عليه‌السلام وشيعته ، أما من حيث موقفه من الطالبيين فان المؤرخين اتفقوا على أنه كان محسناً اليهم.

قال يحيى بن أكثم : ما أحسن أحد إلى الطالبيين ما أحسن إليهم الواثق ، ما مات وفيهم فقير (٣).

وقال أبو الفرج : لا نعلم أحداً قتل في أيامه ، الا أن علي بن محمد بن حمزة ذكر أن عمرو بن منيع قتل علي بن محمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين ، ولم يذكر السبب في ذلك ، فحكيناه عنه على ما ذكره ، ... وكان آل أبي طالب مجتمعين بسر من رأى في أيامه تدرّ الأرزاق عليهم حتى تفرقوا في أيام المتوكل (٤).

هذا فضلاً عن أن الواثق كان يطلب من الامام عليه‌السلام أن يحضر مجلسه ويسأله الفقهاء ومنهم يحيى بن أكثم عن مسائل عويصة فيجيب عنها (٥).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٩٣.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٠ : ٣٠٦ ، البداية والنهاية ١٠ : ٣٢٥.

(٣) سير أعلام النبلاء ١٠ : ٣٠٧.

(٤) مقاتل الطالبيين : ٣٩٥.

(٥) راجع : تاريخ بغداد ١٢ : ٥٦ / ٦٤٤٠.

٥٦

وبقي الواثق على رأس السلطة العباسية الى ذي الحجة من سنة ٢٣٢ ، وقد أخبر الامام الهادي عليه‌السلام وهو في المدينة أحد أصحابه القادمين من العراق ـ وهو خيران الاسباطي ـ عن موت الواثق وتسنم جعفر المتوكل مقاليد السلطة العباسية قبل اعلان السلطة ذلك (١).

٣ ـ المتوكل :

هو جعفر بن المعتصم بالله بن هارون الرشيد ، بويع له بعد وفاة أخيه الواثق في ذي الحجة سنة ٢٣٢ ، حيث اجتمع في دار الخلافة عند وفاة الواثق أحمد بن أبي دؤاد وإيتاخ ووصيف وعمر بن الفرج وابن الزيات ، وأرادوا البيعة لمحمد بن الواثق ، وهو غلام أمرد ، فقال وصيف : أما تتقون الله ، تولون الخلافة مثل هذا؟!ثم تناظروا فيما يولونه ، فأحضروا المتوكل فألبسه ابن أبي دؤاد وعممه وسلم عليه بإمارة المؤمنين ولقبه المتوكل ، وبقي على رأس السلطة الى سنة ٢٤٧.

وكان الإمام الهادي عليه‌السلام مقيماً في المدينة ، وقد مضى على امامته نحو ١٢ عاماً ، وكان عليه‌السلام مرجعاً لرواد العلم من مختلف البلاد وشتى الديار ، ومبلغاً لرسالة جده المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله وسنته وكتاب ربه.

ويظهر من روايات التاريخ أن هذه الفترة من أشد الظروف التي مرت بالامام عليه‌السلام وأكثرها ضراوةً وعنتاً ، لأن السمة الغالبة على المتوكل هي النصب والتجاهر بالعداء لآل البيت عليهم‌السلام والحقد السافر عليهم وعلى من يمتّ لهم بصلة نسب أو ولاء ، وقد أجمع على هذا الأمر غالبية المؤرخين.

__________________

(١) أصول الكافي١ : ٤٩٨ / ١ باب مولد أبي الحسن علي بن محمد عليهما‌السلام من كتاب الحجة ، الفصول المهمة : ٢٧٩.

٥٧

قال السيوطي : « كان المتوكل معروفا بالتعصب » (١).

وقال الذهبي : « كان المتوكل فيه نصب وانحراف » (٢).

ويساعده على ذلك زمرة من النواصب المبغضين لعلي عليه‌السلام من أمثال وزيره عبيد الله بن يحيى بن خاقان ، وعلي بن الجهم الشاعر ، وعمرو بن الفرج الرخجي ، وأبي السمط مروان بن أبي حفصة ، وعبداللّه بن داود الهاشمي.

من هنا فقد أمعن المتوكل في التنكيل بالامام عليه‌السلام وشيعته وأسرف في القتل والحبس والحصار والتشريد وصنوف الأذى والعنت ، وفيما يلى استجلاء لبعض مواقفه في هذا الإتجاه :

أولاً ـ موقفه من أهل البيت عليهم‌السلام :

ينطلق المتوكل في جميع المواقف التي اتخذها من أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم مما يعتمل في كوامن نفسه من البغض والعداء لهم ولمن يتعلق بهم ، لذلك عمل على ابعادهم والاساءة اليهم ، وأنفق المزيد في سبيل اشاعة ثقافة النصب في أوساط الناس عن طريق بعض المرتزقة من المحدّثين والشعراء وغيرهم ، ومصاديق هذا في الواقع العملي كثيرة ولعل أبرزها :

١ ـ بغضه (لعنه اللّه ) عليّا عليه‌السلام :

قال ابن خلكان : إن المتوكل كان كثير التحامل على علي بن أبي طالب وابنيه الحسن والحسين (٣).

ونقل سبط ابن الجوزي عن علماء السير قولهم : إن المتوكل كان يبغض

__________________

(١) تاريخ الخلفاء : ٢٦٨.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٣٥.

(٣) وفيات الاعيان ٦ : ٤٠٠ عند ترجمة يعقوب بن السكيت.

٥٨

عليا عليه‌السلام وذريته (١).

وقال ابن الأثير : « كان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبيطالب ولأهل بيته ، وكان يقصد من يبلغه عنه أنه يتولى عليا وأهله بأخذ المال والدم ، وكان من جملة ندمائه عبادة المخنّث ، وكان يشدّ على بطنه تحت ثيابه مخدّة ويكشف رأسه وهو أصلع ويرقص بين يدي المتوكل ، والمغنون يغنّون : قد أقبل الأصلع البطين خليفة المسلمين ، يحكي بذلك عليا عليه‌السلام والمتوكل يشرب ويضحك.

وإنّما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعلي ، منهم : علي بن الجهم الشاعر الشامي من بني شامة بن لؤي ، وعمرو بن الفرج الرخجي ، وأبو السمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالي بني اُمية ، وعبداللّه بن داود الهاشمي المعروف بابن اُترجة ، وكانوا يخوّفونه من العلويين ، ويشيرون عليه بإبعادهم والإعراض عنهم والإساءة إليهم ، ثم حسّنوا له الوقيعة في أسلافهم الذين يعتقد الناس علوّ منزلتهم في الدين ، ولم يبرحوا به حتى ظهر منه ما كان ... (٢).

ولا يمكن أن يجرأ أحد من هؤلاء الذين ذكرهم ابن الأثير على النيل من أمير المؤمنين عليه‌السلام وعموم أهل البيت عليهم‌السلام أمام أحد الخلفاء العباسيين ، الا مع علمه المسبق بعداء ذلك الخليفة السافر لأهل البيت عليهم‌السلام وحقده المقيت عليهم ، وحرصه على تشجيع ثقافة النصب والبغض.

__________________

(١) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي ٣٢٢ ـ مؤسسة أهل البيت ـ بيروت ـ ١٤٠١ هـ.

(٢) الكامل في التاريخ ٦ : ١٠٨ ـ ١٠٩ ، ونحوه في تاريخ ابن الوردي ١ : ٣٠٩ ـالمطبعة الحيدرية ـ النجف.

٥٩

روي أنّ أبا السمط مروان بن أبي الجنوب قال : « أنشدت المتوكل شعرا ذكرت فيه الرافضة ، فعقد لي على البحرين واليمامة ، وخلع عليّ أربع خلع ، وخلع عليّ المنتصر ، وأمر لي المتوكل بثلاثة آلاف دينار فنثرت عليّ ، وأمر ابنه المنتصر وسعد الايتاخي أن يلتقطاها لي ففعلا ، والشعر الذي قلته :

يرجوا التراث بنو البنا

ت وما لهم فيها قُلامه

والصهر ليس بوارثٍ

والبنت لاترث الامامه

ماللذين تنحّلوا

ميراثكم إلاّ الندامه

ليس التراث لغيركم

لا والاله ولا كرامه

قال : ثمّ نثر عليّ بعد ذلك لشعرٍ قلته في هذا المعنى عشرة آلاف درهم » (١). لا يخفى أنّه قد سبقه هارون في ذلك.

٢ ـ هدم قبر الحسين عليه‌السلام :

والموقف الآخر الذي ينمّ عن ماهية نفس المتوكل الحاقدة ، هو أنه أمر في سنة ٢٣٦ بهدم قبر الإمام السبط الشهيد الحسين عليه‌السلام ، ظناً منه أنه يميت ذكره ويعدم أثره ، وقد بعث رجلاً من أصحابه يقال له الديزج ـ وكان يهوديا فأسلم ـ إلى قبر الحسين عليه‌السلام ، وأمره بكرب القبر ومحوه وإخراب كل ما حوله ، فمضى لذلك ، وخرب ما حوله ، وهدم البناء وكرب ما حوله نحو مائتي جريب ، فلما بلغ إلى قبره لم يتقدم إليه أحد ، فأحضر قوماً من اليهود فكربوه ، ثم أمر أن يبذر ويزرع ، ووكلّ به مسالح بين كل مسلحتين ميل ، فلا يزوره زائر إلا أخذوه ووجّهوا به إليه ، فقُتِل عدد كبير من زواره أو اُنهكوا عقوبة ، ونودي بالناس في

__________________

(١) تاريخ الطبري ٩ : ٢٣٠ ، الكامل في التاريخ ٦ : ١٤٠.

٦٠