الإمام عليّ الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

علي موسى الكعبي

الإمام عليّ الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-98-6
الصفحات: ٢٧٦

وفي أحداث سنة ٢٥٥ هـ ذكروا أنه ظُفِر لقبيحة اُمّ المعتز وزوجة المتوكل بعد خلع المعتز وقتله ، بخزائن تحت الأرض فيها أموال كثيرة ، ومن جملتها دار تحت الأرض وجدوا فيها ألف ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار ، ووجدوا في سفط قدر مكوك زمرد لم ير الناس مثله ، وفي سفط آخر مقدار مكوك من اللؤلؤ الكبار ، وفي سفط آخر مقدار كليجة من الياقوت الأحمر الذي لم يوجد مثله ، فقُوّمت الأسفاط بألفي ألف دينار (١).

أما استعراض تفاصيل أموال وضياع الامراء والولاة والقضاة وكتاب الدواوين والجواري والمغنين والشعراء وغيرهم من المقربين إلى البلاط ، فمما يخرج بنا عن الغرض ، ويكفي مثالاً على ذلك ما نقله المؤرخون في أحداث سنة ٢٢٦ أن الافشين حينما مات في الحبس واحتيط على أمواله وحواصله وجدوا فيها أصناماً مكللة بذهب وجواهر (٢) ، وأن بغا الكبير حينما مات سنة ٢٤٨ ترك من المتاع والضياع ما قيمته عشرة آلاف ألف دينار ، وترك عشر حبّات جوهر قيمتها ثلاثة آلاف ألف دينار (٣).

وكانت مؤونة أحمد بن طولون ألف دينار في اليوم ... وحينما مات خلّف من العين عشرة آلاف ألف دينار ، وأربعة وعشرين ألف مملوك (٤).

ويحدثنا التاريخ عن الاموال الطائلة التي يصادرها الخلفاء من كبار العمال

__________________

(١) تاريخ الطبري ٩ : ٣٩٥ بتحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم ـ بيروت ، الكامل في التاريخ ٦ : ٢٠٢ ، البداية والنهاية ١١ : ١٧ ، تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٨٠.

(٢) البداية والنهاية ١٠ : ٣٢٢.

(٣) البداية والنهاية ١١ : ٢.

(٤) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٩٤ ـ ٩٥.

٢١

والكتاب حينما يتعرضون للاقالة ، فحينما سخط المعتصم على وزيره أبي العباس الفضل بن مروان وبطش بجماعة من أصحابه ، استصفى أموالهم ، فأخرجوا من داره مالاً عظيماً (١).

وسار الواثق على هذه السياسة ، ففي سنة ٢٢٩ بطش بالكتاب وأخذ منهم أموالاً عظيمة جداً ، وأمر بعقوبة أصحاب الدواوين وضربهم واستخلاص الأموال منهم ، لظهور خياناتهم وإسرافهم في أمورهم ، فمنهم من ضرب ألف سوط وأكثر من ذلك وأقل ، ومنهم من أخذ منه ألف ألف دينار ، وضرب أحمد ابن أبي إسرائيل ، وأخذ منه ثمان مئة ألف دينار ، ومن سليمان بن وهب أربع مئة ألف دينار ، وأخذ من أحمد بن الخصيب ألف ألف دينار (٢). وكل ذلك وغيره يحكي عن مدى الاستئثار والفساد الذي تعاني منه السلطة وجهازها الاداري.

ثالثا ـ تدخل الأتراك في مقاليد الحكم :

السمة الغالبة في هذا العصر هي ازدياد تحكم الاتراك والفراغنة والمغاربة وغيرهم من الموالي في تسيير شؤون الدولة والحرب وتدخّلهم في مقاليد الحكم ، وازداد مع ذلك الظلم والتعسف ، وكان أول ذلك في عصر المعتصم الذي اهتم منذ توليه الحكم سنة ٢١٨ هـ باقتناء الترك ، فبعث إلى سمرقند وفرغانة والنواحي في شرائهم وبذل فيهم الأموال ، وألبسهم أنواع الديباج ومناطق الذهب ، فلما كثر عسكره ضاقت عليه بغداد ، وتأذى بهم الناس حيث كانوا

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧٢.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٠ : ٣١٢ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨١ ، البداية والنهاية ١٠ : ٣٣٠.

٢٢

يطردون بخيلهم في بغداد ، وضاقت بهم البلد ، فاجتمع إليه أهل بغداد وقالوا : إما أن تخرج من بغداد ، فإن الناس قد تأذوا بعسكرك ، أو نحاربك ، فكان سبب خروج المعتصم إلى القاطول في سنة ٢٢٠ فاختطّ موضع المدينة التي بناها هناك ، ثم ارتحل من القاطول إلى سر من رأى ، وكان ابتداء ذلك في سنة ٢٢١ هـ (١).

وقد استخدم المعتصم من المماليك الترك قريب من عشرين ألفا (٢) ، ثم في عصر الواثق والمتوكل ومن جاء بعدهم ازداد نفوذ الأتراك في عاصمة العسكر سامراء ، حيث توصلوا الى نقاط حساسة في الدولة كولاة وعمال وقادة جيش ، ومنهم الافشين وأشناس ومنكجور الاشروسني وايتاخ وبغا الكبير ، وابناه موسى ومحمد ، وبابكيال ، وياركوج ، واذكوتكين ، وبغا الصغير الشرابي ، ووصيف بن باغر وغيرهم. وكانت لهم قيادة الجيش وتدبير شؤون الخليفة والدولة ، بل كان عزل ونصب القواد والامراء والولاة والقضاة بيد هؤلاء ، حتى أنهم كانوا سبباً في إثارة الفتن والفساد في الدولة وانتهاك مصالح الاُمّة ومقدراتها ، بالخروج عن الطاعة وإثارة الحروب لسلب الأموال العامة وهتك الاعراض وإذلال الناس بمختلف طبقاتهم.

هذا مع كون بعضهم لا يدين بالإسلام مثل الافشين الذي عقد له المعتصم مجلساً سنة ٢٢٥ فظهر أنه باق على دين أجداده من الفرس ، وأنه يريد أن ينصر

__________________

(١) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٥٩ ، معجم البلدان / ياقوت الحموي ـ المجلد الثالث : ١٠ ـ ١٣ ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ـ ١٤١٧ هـ ، الانساب / السمعاني ٤ : ١٩٣ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧٢.

(٢) البداية والنهاية ١٠ : ٣٢٥.

٢٣

دين المجوس ويظهره على دين العرب (١) ، وحينما مات سنة ٢٢٦ في الحبس وجد في تراثه كتباً في فضل دين المجوس وأشياء كثيرة كان يتهم بها ، تدل على كفره وزندقته ، وتحقق بسببها ما ذكر عنه من الانتماء إلى دين آبائه المجوس (٢).

وبمرور الزمن ازدادت سيطرة الترك على مقاليد الحكم ، فأهانوا الخلفاء العباسيين وسلبوا إرادتهم ، وصار الخلفاء العباسيون ألعوبة بأيديهم ، فقتلوا المتوكل ، وخلعوا المعتز والمؤيد ابني المتوكل من ولاية العهد ، واستخلفوا للمستعين ، واستولوا على الأموال في عهده ، وقاتلوه حين غضب عليهم ، فاعتصم ببغداد وبايعوا للمعتز من بعده.

قال ابن طقطقا : كان الأتراك قد استولوا منذ قتل المتوكل على المملكة ، واستضعفوا الخلفاء ، فكان الخليفة في يدهم كالأسير إن شاءوا أبقوه ، وإن شاءوا خلعوه ، وإن شاءوا قتلوه (٣).

وقد وصف بعض الشعراء الحالة التي انتهت إليها الخلافة العباسية في زمن المستعين الذي ليس له حول ولا قوة مع اُمراء الجند الأتراك ومنهم وصيف وبغا بقوله :

خليفة في قفصٍ

بين وصيفٍ وبغا

يقول ما قال لهُ

كما تقول الببغا (٤)

ومن مظاهر سيطرة مقدم اُمراء الأتراك صالح بن وصيف على جميع أفراد

__________________

(١) البداية والنهاية ١٠ : ٣٢٠.

(٢) البداية والنهاية ١٠ : ٣٢٢.

(٣) الفخري في الآداب السلطانية / ابن الطقطقا : ٢٤٣.

(٤) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٧٨.

٢٤

الدولة بمن فيهم الخليفة في زمان المعتزّ باللّه ، ما ذكره اليعقوبي في حوادث سنة ٢٥٥ هـ من تاريخه ، قال : وثب صالح بن وصيف التركي على أحمد بن اسرائيل الكاتب وزير المعتز ، وعلى الحسن بن مخلد صاحب ديوان الضياع ، وعلى عيسى بن إبراهيم بن نوح وعلي بن نوح ، فحبسهم وأخذ أموالهم وضياعهم وعذّبهم بأنواع العذاب ، وغلب على الأمر ، فهمّ المعتزّ بجمع الأتراك ، ثمّ دخل إليه فأزاله من مجلسه ، وصُيّر في بيت ، وأخذ رقعته بخلع نفسه ، وتوفي بعد يومين (١).

رابعا ـ تردي الحالة الاقتصادية والاجتماعية :

كان من افرازات الاستئثار بالاموال العامة وكثرة الحروب الداخلية واضطراب السلطة وضعفها وسوء إدارتها أن تركّزت الثروات بيد قلّة من أبناء الاُسرة الحاكمة والمحيطين بها ، فتفشّى التفاوت الطبقي بين أبناء الاُمّة تبعا للولاء والقرب والبعد من البلاط وحاشيته ، فهناك قلّة متخمة تستأثر برأس المال والثراء الفاحش وتبدّده في حياة البذخ والترف لاشباع شهواتهم وملاذّهم ، وغالبية مسحوقة تعيش حياة البؤس والفقر والحرمان ، وتنهكها النزاعات والحروب ، وتئن تحت وطأة البطالة وغلاء الاسعار وفتك الأوبئة ومختلف الامراض ، مما ترك آثارا وخيمة على بنية المجتمع وسلوك أفراده.

فذكر المؤرخون في حوادث سنة ٢٢٨ هـ أنه غلا السعر على الناس في طريق مكة جداً (٢).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٤ ، سير أعلام النبلاء / الذهبي ١٢ : ٥٣٥ ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ١٤١٩ هـ.

(٢) البداية والنهاية ١٠ : ٣٢٨.

٢٥

وذكروا في حوادث سنة ٢٥١ هـ أنه بلغ سعر الخبز في مكة ثلاثة أواقٍ بدرهم ، واللحم رطل بأربعة دراهم ، وشربة الماء بثلاثة دراهم (١).

وفي حوادث سنة ٢٥١ و ٢٥٢ هـ نتيجة الحرب التي دارت رحاها بين المعتز والمستعين على كرسي الخلافة ، شمل أهل بغداد الحصار وغلاء الأسعار ، واجتمع على الناس الخوف والجوع (٢).

قال اليعقوبي في حوادث سنة ٢٥٢ هـ : غلت الأسعار ببغداد وسرّ من رأى حتى كان القفيز بمائة درهم ، ودامت الحروب ، وانقطعت الميرة ، وقلّت الأموال (٣).

وكان من نتائج الفقر والبطالة أن تفشّت الكثير من المفاسد الاجتماعية ، فكثر الشطّار والعيارين الذين ألجأهم الفقر والعوز الى التجوال في الأسواق للحصول على لقمة العيش ولو عن طريق النهب والسلب والاعتداء ، وقد فشا أمر هؤلاء فشكلوا ظاهرة متميزة في بغداد عند أواخر القرن الثاني الهجري وبداية القرن الثالث.

كما انتشرت الكثير من مظاهر الانحرف في المجتمع مثل تعاطي القمار ومعاقرة الخمور حيث فتحت حانات عديدة في بغداد وباقي الأمصار ، وكثر المغنون والجواري والغلمان الذين أصبحوا مادة للغزل عند شعراء ذلك العصر ، وتفشت ظاهرة الخنوثة والميوعة والفساد سيما في قصور الخلفاء والامراء والقضاة وسواهم من رجال الدولة.

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٦ : ١٨١ ، البداية والنهاية ١١ : ١٠.

(٢) البداية والنهاية ١١ : ٩.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٩.

٢٦

خامسا ـ عدم الاستقرار :

سادت الكثير من مظاهر الفوضى والشغب والاضطراب في هذا المقطع التاريخي من عمر الدولة العباسية ، تتمثل في انتقاض أطرافها ، واستقلال بعض ولاياتها ، والعدوان الأجنبي على بعض أعمالها ، وكثرة الثورات الداخلية ، إلى غير ذلك من مظاهر عدم الاستقرار السياسي والأمني الناجمة عن ضعف القدرة المركزية للسلطة وتلاشي هيبتها وتعدد الارادات السياسية فيها ، لتدخل قادة الجند الأتراك والمغاربة والفراغنة في شؤونها وإشاعتهم الظلم والقهر والاستبداد. وفيما يلي نعرض لأهم تلك المظاهر ، ونذكر بعض الأمثلة من المصادر التي أرّخت لهذا العصر :

١ ـ أعمال التمرد والشغب :

شهدت الدولة العباسية ـ للفترة التي نؤرّخ لها ـ فتنا متصلة وأعمال قتل وحرق وسلب ونهب لم تسلم منها حتى العاصمة سامراء.

ففي زمان المعتصم خرجت المحمرة بالجبل فقتلوا وقطعوا الطريق وأخافوا السبيل وتعرضوا للحاج (١) ، وفي سنة ٢١٩ هجم الزط على البصرة وعاثوا فيها الفساد وخرّبوا البلاد (٢) ، وخرج محمد بن عبيدالله الورثاني بورثان (٣).

وفي زمان الواثق انتقضت أرمينية ، وتغلب ملوك الجبال على ما يليهم ، وضعف أمر السلطان (٤).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧١.

(٢) البداية والنهاية ١٠ : ٣٠٨ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧٢.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧٥.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨١.

٢٧

وخرج ابن بيهس الكلابي بدمشق في جمع كثير من بطون قيس ، وفي سنة ٢٢٧ خرج رجل من أهل الثغور بالشام يقال له تميم اللخمي أبو حرب المبرقع اليماني ، فخلع الطاعة ودعا إلى نفسه ، واتبعه نحو مائة ألف مقاتل ، واستفحل أمره جداً ، وخرج قوم من البربر ببرقة ومعهم قوم من قريش من بني أسيد بن أبي العيص على عاملهم محمد بن عبدويه بن جبلة (١).

وكانت بطون قيس قد عاثت في طريق الحجاز وقطعوا الطريق حتى تخلف الناس عن الحج ، ونصبوا رجلاً من سليم يقال له عزيزة الخفافي ، وسلموا عليه بالخلافة ، وخرج بنو سليم حول المدينة النبوية فعاثوا في الارض فساداً وأخافوا السبيل ، وقاتلهم أهل المدينة فهزموا أهلها واستحوذوا على ما بين المدينة ومكة من المناهل والقرى ، فوجه الواثق بغا الكبير سنة ٢٣٠ وأمره أن يقتل كل من وجده من الاعراب ، فلقيهم بغا فقاتلوه ، فقتل منهم خلقاً عظيماً ، وصلبهم على الشجر ، وأسر منهم جمعاً غفيراً وحبسهم ، وحمل الباقين في الاغلال (٢).

وفي زمان المتوكل سنة ٢٣٢ هـ عاثت بنو نمير باليمامة فسادا ، فقاتلهم بغا الكبير ، فقتل منهم نيفا وخمسين رجلاً وأسر أربعين رجلاً (٣).

وفي سنة ٢٣٧ هـ خرج أهل أرمينية على عاملهم يوسف بن محمد فقتلوه (٤).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٠ ، البداية والنهاية ١٠ : ٢٢٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٠ ، البداية والنهاية ١٠ : ٣٣٢.

(٣) الكامل في التاريخ ٦ : ٩٠ ، البداية والنهاية ١٠ : ٣٠٨.

(٤) الكامل في التاريخ ٦ : ١١١ ، البداية والنهاية ١٠ : ٣١٥.

٢٨

وكانت حمص مسرحا للقتل والصلب والحرق لسوء تصرف عمالها وثورة الأهالي عليهم ، ففي سنة ٢٤٠ هـ ثاروا على عاملهم أبي المغيث الرافقي ، فقتلوا جماعة من أصحابه ، وأخرجوه وأخرجوا عامل الخراج (١).

وفي زمان المستعين سنة ٢٤٨ هـ ثاروا على عاملهم كيدر بن عبداللّه الإشروسيني ، فأخرجوه ، فوجه إليهم المستعين الفضل بن قارن الطبري فقتل منهم خلقا كثيرا وحمل مائة من أعيانهم إلى سامراء وأمر بهدم سور المدينة (٢).

ثم وثبوا على الفضل بن قارن سنة ٢٥٠ هـ فقتلوه ، فوجه المستعين إليهم موسى بن بغا فقاتلهم وهزمهم ، وقتل من أهل حمص مقتلة عظيمة وأحرقهاوأسر جماعة من أعيان أهلها (٣).

وفي سنة ٢٤٨ هـ بويع المستعين بالخلافة من قبل قادة الأتراك ، وجرت فتن منتشرة وكثيرة جدا ، ثم استقر الأمر للمستعين (٤).

وفي سنة ٢٤٩ هـ هجم نفرٌ من الناس لايُدرى من هم على سامراء ، ففتحوا السجن وأخرجوا من فيه (٥).

وكانت بغداد مسرحا لأعمال الشغب والفتن الكثيرة المتصلة ، ففي سنة ٢٤٩ هـ وقعت فتنة عظيمة في بغداد ، لأن العامة كرهوا جماعة من الاُمراء الأتراك لتغلبهم على أمر الخلافة واستيلائهم على اُمور المسلمين ، فنادوا بالنفير ، وانضمّ إليهم جماعة من الجند والشاكرية ، وفتحوا السجون وأخرجوا

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٦ : ١٢٠ ، البداية والنهاية ١٠ : ٣١٩.

(٢) الكامل في التاريخ ٦ : ١٥١ ، البداية والنهاية ١١ : ٢ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٥.

(٣) الكامل في التاريخ ٦ : ١٦١ ، البداية والنهاية ١١ : ٦ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٥.

(٤) الكامل في التاريخ ٦ : ١٥٠ ، البداية والنهاية ١١ : ٢.

(٥) الكامل في التاريخ ٦ : ١٥٤.

٢٩

من فيها ، وأحرقوا أحد الجسرين وقطعوا الآخر ، ونهبوا أماكن متعددة (١).

وفي سنة ٢٥١ ـ ٢٥٢ هـ جرت فتنة شنعاء في بغداد ، وذلك لأن المستعين هرب إلى بغداد بعد أن شغب عليه القادة الترك ، فأخرج المشغبون المعتزّ من سجن الجوسق وبايعوه بالخلافة ، فكانت الحروب سجالاً بينهما ، وقد انتهت بحصار جيش المعتز بقيادة أخيه الموفق وكلباتكين التركي لبغداد ، ودام الحصار أشهرا اشتدّ فيها البلاء وكثر القتل والحرق والسلب ، وجهد أهل بغداد من غلاء الأسعار وانتشار الأمراض حتى انتهى الأمر بتنازل المستعين عن الخلافة وخلعه نفسه وبيعته للمعتز (٢).

وتعرضت الموصل لفتن كثيرة ، ففي سنة ٢٥٣ هـ حدثت فيها أعمال النهب والقتل ... ثم تكرر المشهد في السنوات التالية بسبب تعسف العامل عليها ـ وهو اذكوتكين التركي ـ الذي أساء السيرة في الناس ، وأظهر الفسوق ، وفعل المنكرات ، وأخذ الأموال ، فقاتلوه وأخرجوه من الموصل ونهبوا داره (٣).

٢ ـ استقلال الأطراف وكثرة المتغلّبين :

نتيجة لتدهو الأوضاع السياسية وضعف الدولة العباسية كثيرا في هذا العصر فقد استقلت بعض أطراف الدولة وكثر المتغلّبون عليها.

ففي سنة ٢٥٤ ، استقلت مصر بسيطرة الأسرة الطولونية ، وكان أولهم أحمد ابن طولون وهو من الأتراك ، واستغنى مدّة ملكه على مصر عن الارتباط

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٦ : ١٥٣ ، البداية والنهاية ١١ : ٣.

(٢) الكامل في التاريخ ٦ : ١٦٤ ـ١٧٠ ، البداية والنهاية ١١ : ٧.

(٣) الكامل في التاريخ ٦ : ١٩١ و ٢٤٧.

٣٠

بالخلافة (١).

وانفصلت السواحل الشمالية من أفريقيا عن الدولة العباسية ، وخرجت من قبضة العباسيين على يد آل الأغلب منذ سنة ١٨٤ ، واستمر حكم هذه الاسرة الى سنة ٢٩٢ ، بعد أن توسع نفوذها في سواحل البحر المتوسط (٢).

وقامت الدولة الرستمية الاباضية في الجزائر ، وبقيت الى سنة ٢٦٩ حيث سقطت باستيلاء الحاكم الفاطمي عبد الله المهدي عليها.

ومنذ النصف الثاني من القرن الثاني الهجري قامت دولة الادارسة في المغرب ، وكان مؤسسها إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي عليه‌السلام وبقيت هذه الدولة تحكم بلاد المغرب الى سنة ٣٧٥ (٣).

وفي سنة ٢٣٨ هـ تغلّب على تفليس إسحاق بن إسماعيل مولى بني اُمية (٤).

وفي سنة ٢٣٧ هـ اضطرب أمر أرمينية ، وتحرك فيها جماعة من البطارقة وغيرهم وتغلّبوا على نواحيهم (٥).

وقامت الدولة الزيادية سنة ٢٠٤ في بلدة زبيد بتهامة ، واستمر حكم الزياديين نحو قرنين من الزمان ، واستطاعوا خلال هذه المدة توسيع رقعة دولتهم باحتلال المناطق المتاخمة لهم.

__________________

(١) راجع : الكامل في التاريخ ٦ : ١٩٥ و ٢١٣ و ٢٢٧ و ٢٣٨ ، سير أعلام النبلاء ١٣ : ٩٤ / ٥٣.

(٢) الكامل في التاريخ ٦ : ٦٦ و ٨٩ و ١٠٢ و ١٢٦ و ١٣٢ و ١٥٥.

(٣) راجع : تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٥ ، مقاتل الطالبيين : ٤٨٧ ، عمدة الطالب : ١٥٩.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٩ ، الكامل في التاريخ ٦ : ١١٦.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٩.

٣١

وفي سنة ٢٥١ أسس بنو الاخيضر العلويين دولتهم في مكة واليمامة ، ومؤسسها الاول إسماعيل بن يوسف الاخيضر الذي ينتهى نسبه الى الامام الحسن عليه‌السلام ، وكان خروجه أيام المستعين بالله ، وامتد نفوذ هذه الدولة الى الحجاز وما جاورها ، واستمر ملكه الى سنة ٣٠٥ حيث استولى عليهم القرامطة (١).

وتشكلت عدة دول في شرق البلاد ، فتغلّب الحسن بن زيد العلوي على طبرستان ، وأسس الدولة العلوية هناك ، ودامت إمرته عليها عشرين عاما ٢٥٠ ـ ٢٧٠ هـ ثم خلفه أخوه محمد بن زيد (٢).

وفي سنة ٢٣٤ هـ خرج محمد بن البعيث عن طاعة الخلافة في آذربيجان ، ولجأ إلى مدينة مرند فحصّنها (٣).

وتغلّب يعقوب بن الليث الصفار على خراسان ونيسابور ، واستمرت حروبه من سنة ٢٥٣ هـ حتى وفاته سنة ٢٦٥ هـ ، وأسس دولته الصفارية (٤).

وتأسست دولة العجليين في سنة ٢١٠ في الكرج والبرج ، وكان مؤسسها أبو دلف القاسم العجلي (٥) ، وتوسع نفوذ هذه الدولة سنة ٢٧١ بضم إصفهان ونهاوند.

__________________

(١) راجع : مروج الذهب ٤ : ٤٢٩ ، الكامل في التاريخ ٦ : ١٨٠ ـ ١٨١ ، مقاتل الطالبيين : ٤٥٠ ، عمدة الطالب / ابن عنبة : ١١٢ ، المجدي / العلوي : ٤٩.

(٢) راجع : تاريخ الطبري ٩ : ٢٧١ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٨ و ٥٤٣.

(٣) الكامل في التاريخ ٦ : ١٠٠ و ١٠٤ ، البداية والنهاية ١٠ : ٣١٢.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٤ ، الكامل في التاريخ ٦ : ١١٤ و ١٥١ و ١٩٣ و ١٩٧ و ٢٣٢ و ٢٤٢ و ٢٤٦ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٥١٣ / ١٩١.

(٥) راجع ترجمته في تاريخ بغداد ١٢ : ٤١٢ / ٦٨٦٩.

٣٢

٣ ـ غزو الثغور الإسلامية :

تعرضت أطراف الدولة الى عدة غزوات راح ضحيتها آلاف الابرياء من المسلمين ونهبت أموالهم وانتهكت أعراضهم ، نتيجة اهمال المتصدين لقيادة الدولة الثغور الاسلامية اهمالاً كبيراً ، فكانت الروم تهاجم وبشكل مستمر ثغور المسلمين من جهة البر والبحر ، ففي سنة ٢١٦ عدا ملك الروم وهو توفيل بن ميخائيل على جماعة من المسلمين فقتلهم في أرض طرسوس وكانوا نحواً من ألف وست مئة إنسان (١).

وفى سنة ٢٢٣ أوقع ملك الروم توفيل بن ميخائيل بأهل ملطية من المسلمين وما والاها ملحمة عظيمة قتل فيها خلقاً كثيراً من المسلمين ، وأسر ما لا يحصون كثرة ، وكان من جملة من أسر ألف امرأة من نساء المسلمين ، ومثل بمن وقع في أسره من المسلمين فقطع آذانهم وأنوفهم وسمل أعينهم (٢).

وفي سنة ٢٣٨ هـ غزت الافرنج مصر في ثلاث مئة مركب من جهة دمياط ، فدخلوها فجأة ، فقتلوا من أهلها خلقا ، وأحرقوا المسجد الجامع والمنبر ، وأسروا من النساء نحوا من ست مئة امرأة ، وأخذوا من الأمتعة والمال والأسلحة شيئا كثيرا جدا ، وفرّ الناس منهم في كل وجه ، وكان من غرق في بحيرة تنيس أكثر ممن أسروه ، ... ولم يعرض لهم أحد حتى رجعوا إلى بلادهم (٣).

__________________

(١) البداية والنهاية ١٠ : ٣٠٧.

(٢) البداية والنهاية ١٠ : ٣١٢.

(٣) الكامل في التاريخ ٦ : ١١٧ ، البداية والنهاية ١٠ : ٣١٧ ، تاريخ الخلفاء / للسيوطي : ٢٦٩ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٨ مع شيءمن الاختلاف عن باقي المصادر.

٣٣

وفي سنة ٢٤١ هـ أغارت البجة على جيش من أرض مصر ، وهم طائفة من سودان بلاد المغرب ، وقد كانت البجة لايغزون المسلمين قبل ذلك لهدنة كانت لهم مع المسلمين ، فنقضوا الهدنة واعلنوا بالخلاف (١).

وفي سنة ٢٤٢ هـ أغارت الروم على بلاد الجزيرة ، فانتهبوا شيئا كثيرا ، وأسروا نحوا من عشرة آلاف من الذراري (٢).

وفي سنة ٢٤٥ هـ أغارت الروم على سُمَيساط ، فقتلوا وسبوا وأسروا خلقا كثيرا (٣).

٤ ـ الحركات المتطرّفة والثورات الشعبية :

أ ـ الحركات المتطرفة :

يجد الباحث في تاريخ هذه الفترة نشاطا ملحوظا للخرمية المجوسية متمثلة بحروب بابك الخرمي (٤) والمازيار (٥) في زمان المأمون والمعتصم ، كماكان للخوارج الشراة جولة في هذا العصر أيضا ، فشنوا حرباً شعواء على كل من خالفهم الرأي سواء كان عباسياً أو غيره ، فكانوا نسخة مختصرة من أسلافهم

__________________

(١) البداية والنهاية ١٠ : ٣٢٤.

(٢) البداية والنهاية ١٠ : ٣٤٢.

(٣) الكامل في التاريخ ٦ : ١٣١.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧٣ ، تاريخ دمشق / ابن عساكر ٩٤ : ١٣٠ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ٢٩٣ و ١١ : ٢٥٧ ، البداية والنهاية ١٠ : ٣١٠ و ٣١٢ ، البدء والتاريخ / المقدسي ٣ : ٣٠ و ٥ : ١٣٤.

(٥) معجم البلدان ٤ : ١٥ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ٣٠١ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧٦ ، البداية والنهاية ١٠ : ٣١٧ و ٣٢٠.

٣٤

الذين مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية (١).

ب ـ الثورات الشعبية :

حدثت في هذا العصر عدة ثورات ضدّ الحكم العباسي ، قادها الطالبيون ، وهي من إفرازات تردّي الأحوال العامة والقهر والقمع والجور التي عمّت آثارها على الاُمّة بشكل عام وعلى الطالبيين بشكل خاص؛ لأنهم كانوا يعانون من شدة الوضع العام ، ومن السياسة العباسية القاضية باضطهادهم ومطاردتهم واتباع شتى وسائل الضغط عليهم ، فكانت واعزا يحفّز الثوار منهم على الخروج المسلّح من حين الى آخر.

وقد تعرضوا في زمان المتوكل لاضطهاد وارهاب وحصار لايوصف واُنزلت فيهم أقصى العقوبات ، فتفرّق كثير منهم في النواحي كي يتواروا عن الأنظار أو يعلنوا الثورة المسلحة ضدالدولة (٢) ، وشُرّد بعضهم قسراً من المدينة إلى سامراء ، وأودع بعضهم السجون حتى ماتوا فيها أو سُمّوا ، هذا فضلاً عمن قُتِلوا على أيدي قادة العباسيين ورجال دولتهم كالافشين وموسى بن بغا وعلي ابن أوتامش وصالح بن وصيف وسعيد الحاجب وغيرهم.

وقد تضمّنت كتب التاريخ أسماء نحو أربعة عشر ثائرا من الطالبيين خلال حياة الامام الهادي عليه‌السلام ٢١٢ ـ ٢٥٤ مما يشير إلى حجم معاناة الطالبيين ومدى الحيف والظلم الذي لحقهم على أيدي العباسيين.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٣ و ٤٩٧ و ٥٠٢ ، البداية والنهاية ١٠ : ٣٣٧ ، و ١١ : ٢٢ و ٣٠ ، والكامل في التاريخ ٦ : ١٨٦ و ١٩٠ و ١٩٥ و ٢٠٥ و ٢١٢ و ٢١٩ و ٢٧٢ و ٣٣٤ و ٣٤٥ و ٣٤٦.

(٢) راجع : مقاتل الطالبيين : ٣٩٦ و ٤٠٤.

٣٥

والغالب على تلك الثورات هو الدعوة إلى إقامة حكم اللّه في الأرض ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والدفاع عن حقوق المظلومين ، وبعضها دعا إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كثورة محمد بن القاسم العلوي ويحيى بن عمر وأحمد بن عيسى والحسن بن زيد وأخيه محمد بن زيد وغيرهم؛ ولأهميّة تلك سنذكر أهم الثوار الذين حملوا السلاح بوجه السلطة العباسية في هذه الفترة ، وهم :

أ ـ محمد بن القاسم العلوي :

وهو محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، وأمه صفية بنت موسى بن عمر بن علي بن الحسين. ويكنى أبا جعفر. ويلقب بالصوفي للبسه ثياب الصوف البيض ، وكان من أهل العلم والفقه والدين والزهد وحسن السيرة.

وخرج في الطالقان من خراسان في أيام المعتصم ، داعياً إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان معه جماعة من وجوه الزيدية ، منهم : يحيى بن الحسن بن الفرات ، وعباد بن يعقوب الرواجني ، وتبعه في مدة يسيرة خلق كثير ، وتمت سيطرته على الطالقان مدة أربعة أشهر ، فلما بلغ خبره عبداللّه بن طاهر وجّه إليه الجيوش تلو الجيوش ، فكانت له معها وقعات بناحية الطالقان وجبالها ، أحرز فيها الغلبة أولاً ، وتغلب ابن طاهر أخيراً على جيش ابن القاسم ، فتفرق أصحابه في النواحي والآكام ، واستتر ابن القاسم في نسا مدة طويلة ، واستمر أصحابه في الدعوة اليه ، ثم أنه وشي به الى ابن طاهر ، فأُلقي عليه القبض وسيّر مقيداً بالحديد ، فأدخل إلى عبداللّه بن طاهر.

قال إبراهيم بن غسان : ما رأيت قط أشد اجتهاداً منه ، ولا أعفّ ، ولا أكثر

٣٦

ذكراً لله تعالى مع شدة نفس ، واجتماع قلب ، وما ظهر منه جزع ولا انكسار ولا خضوع في الشدائد التي مرت به ، وأنهم ما رأوه قطّ مازحاً ولا هازلاً.

ثم ان ابن طاهر أقامه بنيسابور ثلاثة أشهر ، يريد بذلك أن يعمّي خبره على الناس كيلا يغلب عليه لكثرة من بايعه بكور خراسان ، ثم أرسله إلى المعتصم سراً في جوف الليل ، حتى أخرجه من الري ولم يعلم به أحد ، ثم ورد على المعتصم في بغداد حاسراً كما أمر المعتصم ، فأُدخل عليه يوم ١٥ ربيع الثاني سنة ٢١٩ هـ ، وكان يوم النوروز ، والمعتصم جالس يشرب وبين يديه الجواري الفرغانيات يرقصن والغلمان الفراغنة يلعبون ، فأوقفه المعتصم والناس ينظرون إليه ، وكانت أكؤس الشراب تُدار في المجلس أمام ناظري محمد بن القاسم ، فلما رأى هذا الوضع بكى ثم قال : اللهم إنّك تعلم أني لم أزل حريصا على تغيير هذا وإنكاره. وأخذ يسبح ويستغفر الله ويحرك شفتيه يدعو عليهم.

ولم يزل محمد واقفاً حتى فرغ المعتصم من لهوه ولعبه ، فمروا بمحمد بن القاسم عليه ، فأمر بدفعه إلى مسرور الكبير ، فحبس في سرداب ضيق شبيه بالبئر طوله ثلاثة أذرع في ذراعين فكاد أن يتلف ويموت فيه ، وانتهى ذلك إلى المعتصم ، فأمر باخراجه منه ، وحبس في قبة في بستان موسى مع المعتصم في داره ، ووكل به مسرور عدة من غلمانه وثقاته ، فلم يزل محبوساً فيها ، فلما كان ليلة عيد الفطر في سنة ٢١٩ وقد مضى أغلب الموكلون به إلى منازلهم ، احتال محمد وهرب من السجن وغاب عن الأنظار ، فطلبوه فلم يقدروا عليه ، واختلفت الأخبار في مصيره بعد ذلك ، فقيل : إنّه رجع إلى الطالقان فمات بها. وقيل : بل إنّه اختفى ببغداد مدة ثم انحدر إلى واسط فمكث بها حتى مات. وقال أحمد بن الحارث الخزاز : انه مضى فاستتر مدة المعتصم والواثق ثم وجد في أيام

٣٧

المتوكل فحمل إليه فحبسه حتى مات في محبسه ، ويقال : انه دسّ إليه سماً فمات منه (١).

ب ـ محمد بن صالح :

وهو محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي عليه‌السلام ، وكان من فتيان آل أبي طالب وشجعانهم وظرفائهم وشعرائهم ، خرج في أيام المتوكل بسويقة واجتمع له الناس ، وحج بالناس أبو الساج فقصده وخاف عمه موسى بن عبد الله بن موسى أبا الساج على نفسه وولده وأهله ، فضمن لأبي الساج تسليمه ، وتوثق له بالايمان والامان ، وجاء عمه إليه فأعلمه ذلك ، وأقسم عليه ليلقين سلاحه ففعل ، وخرج إلى أبي الساج فقيّده وحمله إلى سر من رأى مع جماعة من أهله ، فحبسه المتوكل ولم يزل محبوساً بها ثلاث سنين ثم أطلق ، وأقام بها إلى أن مات وكان شاعراً محسناً ، وقد أسهب أبو الفرج في ترجمته ... (٢).

جـ ـ يحيى بن عمر :

وهو يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب عليهم‌السلام ، أبو الحسين. وأمه أم الحسن بنت عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، كان ذا زهد وورع ونسك وعلم.

خرج سنة ٢٣٥ هـ في بعض نواحي خراسان ، فردّه عبداللّه بن طاهر ، فأمر

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧١ ، مقاتل الطالبيين : ٤٦٤ ـ ٤٧٢ ، تاريخ الطبري ٧ : ٢٢٣ ـ ٢٢٤ حوادث سنة ٢١٩ هـ ، مروج الذهب ٤ : ٦٠ ـ ٦١ ، عمدة الطالب / الداوودي : ٣٠٦ المطبعة الحيدرية ـ النجف ، البداية والنهاية ١٠ : ٣٠٨.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٩٧.

٣٨

المتوكل بتسليمه إلى عمر بن الفرج الرخّجي ، فكلمه يحيى في صلته ، وكان في ضائقة وعليه دين ، فأغلظ عمر بن الفرج له القول ، فردّ عليه يحيى ، فشكا عمر إلى المتوكل ، فأمر به فضرب دررا ثم حبسه في دار الفتح بن خاقان مدّة ، ثم كفله أهله فاُطلق ، وأقام في بغداد على حال سيئة من الفقر بعد قطع صلته.

ثمّ خرج ثانية سنة ٢٥٠ هـ وقيل : ٢٤٨ أو ٢٤٩ هـ ، وقد بدأ خروجه في هذه المرة بزيارة قبر الامام الحسين عليه‌السلام وأظهر للزوار ما أراد ، فاجتمعت إليه جماعة من الأعراب ، ثم مضى قاصدا شاهي ، فأقام بها إلى الليل ، ثم دخل الكوفة ليلاً ، وجعل أصحابه ينادون : أيها الناس ، أجيبوا داعي اللّه. حتى اجتمع إليه خلق كثير.

فلمّا كان من غد مضى إلى بيت المال فأخذ ما فيه وفرّقه على أصحابه ، فبدأ يعدّ العدّة ويصلح السلاح ، وفتح السجون وأخرج من فيها وأخرج العمال عنها ، ودعا إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأظهر العدل وحسن السيرة والانصاف والكفّ عن الدماء ، فاجتمع الناس إليه وأحبوه وبايعوه.

فندب له محمد بن عبداللّه بن طاهر ابن عمه الحسين بن إسماعيل بن طاهر ، وضمّ إليه جماعة من القواد ، فمضى الحسين إلى الكوفة وأقام بشاهي ، وأشار بعض أهل الكوفة من الزيدية على يحيى بمعاجلة الحسين ، ولم يكن لهم خبرة بالحرب ولاشجاعة ، وألحوا عليه ، فزحف إليه في رجب من السنة المذكورة ، فساروا ليلهم فصبّحوا الحسين وهو مستريح ، فثار بهم في الغلس ، وحمل عليهم أصحاب الحسين فانهزموا ووضعوا فيهم السيف ، وانهزم رجالة أهل الكوفة ، وانكشف العسكر عن يحيى ، ولم يزل يقاتل مكانه حتى قتل ، وكان فارسا شجاعا شديد البدن مجتمع القلب ، واحتزوا رأسه ، وسيره الحسين بن إسماعيل

٣٩

مع رؤوس من قُتِل والأسرى إلى محمد بن عبداللّه بن طاهر ، فحُبِسوا في بغداد.

وسير محمد رأس يحيى إلى المستعين ، فنصبه في سامراء لحظة ثمّ حطّه ، وردّه إلى بغداد لينصب بها ، فلم يقدر ابن طاهر على ذلك لكثرة من اجتمع من الناس المنكرين لذلك ، لما في قلوبهم من المحبة ليحيى ، فخاف ابن طاهر أن يأخذوه ، فلم ينصبه وجعله في صندوق في بيت السلاح.

ودخل بعضهم إلى محمد بن عبداللّه بن طاهر يهنّئه بالنصر ، ودخل في من دخل عليه أبوهاشم داود بن القاسم الجعفري من أصحاب الامام الهادي عليه‌السلام ، وكان ذا عارضة ولسان ، لايبالي ما استقبل الكبراء وأصحاب السلطان به ، فقال : أيها الأمير ، إنك لتُهنّأ بقتل رجل لو كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حيا لعُزّي به. فلم يجبه محمد عن هذا بشيء ، وخرج داود من داره وهو يقول :

يابني طاهر كلوه وبيّا

إنّ لحم النبي غير مريّ

إن وترا يكون طالبه اللّـ

ـه لوترٌ بالفوت غير حريّ (١)

ولهج الشعراء برثاء يحيى فأكثروا ، قال أبو الفرج الأصفهاني : ما بلغني أن أحدا ممن قتل في الدولة العباسية من آل أبي طالب رُثي بأكثر مما رثي به يحيى ، ولا قيل فيه الشعر بأكثر مما قيل فيه (٢).

وعلّل ابن الأثير ذلك قائلاً : أكثر الشعراء مراثي يحيى لما كان عليه من حسن السيرة والديانة في مراثٍ يطول عرضها (٣).

__________________

(١) راجع سيرته وأخبار ثورته في : مروج الذهب ٤ : ٤٠٦ ـ ٤٠٩ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٧ ، مقاتل الطالبيين : ٤١٩ ـ ٤٢٤ ، الفخري في الآداب السلطانية : ٢٤٠ ، الكامل في التاريخ ٦ : ١٠٧ و ١٥٦ ـ ١٥٨ ، البداية والنهاية ١٠ : ٣١٤ و ١١ : ٥.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٢٤.

(٣) الكامل في التاريخ ٦ : ١٥٨.

٤٠