الإمام عليّ الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

علي موسى الكعبي

الإمام عليّ الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-98-6
الصفحات: ٢٧٦

الفصل السادس

عطاؤه العلمي

سجل الإمام الهادي عليه‌السلام رصيداً علمياً وعطاءً معرفياً واسعاً ، حيث واصل نشاط مدرسة آبائه المعصومين عليهم‌السلام من حيث المنهج والمصدر والمادة ، ومهّد لمدرسة الفقهاء والمحدثين من أصحابه التي سارت على خطاها حتى اكتملت في زمان ولده الامام العسكري عليه‌السلام ، فكان للإمام الهادي عليه‌السلام دور كبير في إغناء تلك المدرسة ورفدها بروح الشريعة الغراء وسنة المصطفى السمحاء ، فقد نسبت إليه كثيراً من الآثار في هذا الاتجاه ، كما أعدّ جيلاً من الجماعة الصالحة أسهموا في رفد المكتبة الشيعية بمصادر يستقى منها العلم ومناهل تؤخذ منها المعرفة ، وتصدى الإمام عليه‌السلام لبعض الفرق التي رفعت راية الدعوات المنحرفة والشبهات الباطلة التي تموج بها الساحة الاسلامية آنذاك وبيّن زيفها وبطلانها ، فأسهم في إنقاذ الفكر الاسلامي من حالة الضلال والانحراف. وفيما يلي نقف عند بعض العطاءات العلمية للإمام الهادي عليه‌السلام في المباحث التالية :

المبحث الأول : دوره عليه‌السلام في ترسيخ مبادئ العقيدة :

ترك الامام الهادي عليه‌السلام بحوثاً كلامية وعقائدية عديدة انبرى فيهالخدمة مبادئ الاسلام الحقة والدفاع عن أصوله ونشر فروعه ودفع شبهات المخالفين وأهل البدع والأهواء ، انطلاقاً من مسؤوليته الرسالية في الدفاع عن العقيدة

١٨١

الإسلامية المقدسة ومبادئها السامية ومكافحة الكفر والالحاد ، ونحاول هنا إثارة بعض الكلمات التي وردت عن الإمام الهادي عليه‌السلام في شؤون العقيدة والكلام ، وما يتصل بذلك من ردود على بعض الفرق الضالة والأفكار المنحرفة ، وكما يلي :

أولاًـ كلماته في التوحيد والصفات :

١ ـ تنزيه اللّه تعالى عن التجسيم :

يختلف الرأي في الذات الإلهية بين طائفتين من المسلمين وهم المشبهة والمعطلة ، فيضفي المُشبّهة أو المجسمة الصفات البشرية على الذات الإلهية ، ويعتقدون أن له تعالى ما للإنسان من لحم ودم وعظم وشعر ورأس وعين ، وأنه ينتقل من مكان إلى مكان ، وما الى ذلك من صفات الانسان.

ويذهب المُعطّلة إلى استحالة معرفة اللّه تعالى على العقول وإلى تعطيل العقول عن المعرفة إلاّ بقدر ما يظهر من النصوص الشرعية.

والاتجاه المقابل لهذين الاتجاهين المتعاكسين ، هو ما دعا إليه أهل البيت عليهم‌السلام ويقوم على أساس نفي التشبيه والتجسيم والتعطيل جميعاً ، والقول إن الله تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شيء ، خارج عن الحدين ؛ حد الابطال ، وحد التشبيه ، وإنه ليس بجسم ولا صورة ، ولا عرض ولا جوهر ، بل هو مجسم الأجسام ومصور الصور وخالق الاعراض والجواهر ، رب كل شيء ومالكه وجاعله ومحدثه ، وفيما يلي نستعرض بعض الروايات الواردة عن الإمام الهادي عليه‌السلام في هذا الاتجاه :

عن حمزة بن محمد ، قال : « كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام أسأله عن الجسم

١٨٢

والصورة ، فكتب عليه‌السلام : سبحان من ليس كمثله شيء ، لا جسم ولا صورة » (١).

وعن إبراهيم بن محمد الهمداني ، قال : كتبت إلى الرجل عليه‌السلام : ان من قبلنا من مواليك قد اختلفوا في التوحيد ، فمنهم من يقول جسم ، ومنهم من يقول صورة؟ فكتب عليه‌السلام بخطه : سبحان من لا يحدّ ولا يوصف ، ليس كمثله شيء وهو السميع العليم » (٢).

وعن محمد بن الفرج الرخجي ، قال : كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام أسأله عما قال هشام بن الحكم في الجسم ، وهشام بن سالم في الصورة ، فكتب عليه‌السلام : دع عنك حيرة الحيران ، واستعذ بالله من الشيطان ، ليس القول ما قال الهشامان » (٣).

وعن الصقر بن أبي دلف ، قال : « سألت أبا الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا عليهم‌السلام عن التوحيد ، وقلت له : إني أقول بقول هشام بن الحكم ، فغضب ثم قال عليه‌السلام : ما لكم ولقول هشام ، إنه ليس منا من زعم أن الله جسم ، نحن منه براء في الدنيا والآخرة. يا بن دلف ، إن الجسم محدث ، والله محدثه ومجسمه » (٤).

وعن الفتح بن يزيد الجرجاني ، عن أبي الحسن الهادي عليه‌السلام ، قال : « سألته عن أدنى المعرفة ، فقال عليه‌السلام : الاقرار بأنه لا إله غيره ، ولا شبه له ولا نظير ، وأنه قديم مثبت موجود غير فقيد ، وأنه ليس كمثله شيء » (٥).

__________________

(١) التوحيد / الصدوق : ١٠٢ / ١٦.

(٢) التوحيد / الصدوق : ١٠٠ / ٩.

(٣) الأمالي / الصدوق : ٣٥١ / ٤٢٤ / ١ المجلس ٤٧.

(٤) الأمالي / الصدوق : ٣٥١ / ٤٢٥ / ١ المجلس ٤٧.

(٥) التوحيد / الصدوق : ٢٨٣ / ١.

١٨٣

وعن محمد بن عيسى ، قال : « كتبت إلى أبي الحسن علي بن محمد عليهما‌السلام : جعلني الله فداك يا سيدي ، قد روي لنا أن الله في موضع دون موضع على العرش استوى ، وأنه ينزل كل ليلة في النصف الأخير من الليل إلى السماء الدنيا ، وروي أنه ينزل عشية عرفة ثم يرجع إلى موضعه. فقال بعض مواليك في ذلك : إذا كان في موضع دون موضع ، فقد يلاقيه الهواء ، ويتكنف عليه ، والهواء جسم رقيق يتكنف علي كل شيء بقدره ، فكيف يتكنف عليه جل ثناؤه على هذا المثال؟

فوقع عليه‌السلام : « علم ذلك عنده ، وهو المقدر له بما هو أحسن تقديراً ، واعلم أنه إذا كان في السماء الدنيا فهو كما هو على العرش ، والأشياء كلها له سواء علماً وقدرة وملكاً وإحاطة » (١).

وعن عبد العظيم بن عبد الله الحسني ، قال : « دخلت على سيدي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، فلما بصر بي قال لي : مرحبا بك يا أبا القاسم ، أنت ولينا حقاً. قال : فقلت له : يا بن رسول الله ، إني أريد أن أعرض عليك ديني ، فإن كان مرضياً أثبت عليه حتى ألقى الله عز وجل. فقال عليه‌السلام : هات يا أبا القاسم. فقلت : إني أقول : إن الله تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شيء ، خارج عن الحدين ؛ حد الابطال ، وحد التشبيه ، وإنه ليس بجسم ولا صورة ، ولا عرض ولا جوهر ، بل هو مجسم الأجسام ومصور الصور وخالق الاعراض والجواهر ، رب كل شيء ومالكه وجاعله ومحدثه ... إلى أن قال : فقال علي بن محمد عليه‌السلام : يا أبا القاسم ، هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده ، فاثبت عليه ، ثبتك الله

__________________

(١) اصول الكافي ١ : ١٢٦ / ٤ كتاب التوحيد باب ١٩.

١٨٤

بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة » (١).

وعن الفتح بن يزيد الجرجاني ، عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : سمعته يقول : وهو اللطيف الخبير ، السميع البصير ، الواحد الأحد الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، لو كان كما يقول المشبهة لم يعرف الخالق من المخلوق ، ولا المنشئ من المنشأ ، لكنه المنشئ ، فرق بين من جسمه وصوره وأنشأه ، إذ كان لا يشبهه شيء ، ولا يشبه هو شيئاً.

قلت : أجل جعلني الله فداك ، لكنك قلت : الأحد الصمد ، وقلت : لا يشبهه شيء ، والله واحد ، والانسان واحد ، أليس قد تشابهت الوحدانية؟

قال : يا فتح ، أحلت ثبتك الله ، إنما التشبيه في المعاني ، فأما في الأسماء فهي واحدة ، وهي دالة على المسمى ، وذلك أن الانسان وإن قيل واحد فإنه يخبر أنه جثة واحدة ، وليس باثنين ، والانسان نفسه ليس بواحد ، لأن أعضاءه مختلفة ، وألوانه مختلفة غير واحدة ، وهو أجزاء مجزأة ليست بسواء ، دمه غير لحمه ، ولحمه غير دمه ، وعصبه غير عروقه ، وشعره غير بشره ، وسواده غير بياضه ، وكذلك سائر جميع الخلق ، فالانسان واحد في الاسم لا واحد في المعنى ، والله جل جلاله هو واحد في المعنى لا واحد غيره ، لا اختلاف فيه ولا تفاوت ولا زيادة ولا نقصان ، فأما الانسان المخلوق المصنوع المؤلف من أجزاء مختلفة وجواهر شتى ففيه اختلاف وتفاوت وزيادة ونقصان غير أنه بالاجتماع شيء واحد.

قلت : جعلت فداك ، فرجت عني فرج الله عنك ، فقولك اللطيف الخبير فسّره لي كما فسرت الواحد ، فإني أعلم أن لطفه على خلاف لطف خلقه

__________________

(١) إكمال الدين : ٣٧٩ / ١ ـ باب ٣٧ ، التوحيد : ٨١ / ٣٧.

١٨٥

المفصل ، غير أني أحب أن تشرح ذلك لي.

فقال : يا فتح ، إنما قلنا اللطيف للخلق اللطيف ، ولعلمه بالشيء اللطيف ، أو لا ترى ـ وفقك الله وثبتك ـ إلى أثر صنعه في النبات اللطيف وغير اللطيف؟ ومن الخلق اللطيف ، ومن الحيوان الصغار ، ومن البعوض والجرجس ، وما هو أصغر منها ، ما لا يكاد تستبينه العيون ، بل لا يكاد يستبان لصغره ؛ الذكر من الانثى ، والحدث المولود من القديم ، فلما رأينا صغر ذلك في لطفه واهتدائه للسفاد ، والهرب من الموت ، والجمع لما يصلحه ، وما في لجج البحار ، وما في لحاء الأشجار والمفاوز والقفار ، وإفهام بعضها عن بعض منطقها ، وما تفهم به أولادها عنها ، ونقلها الغذاء إليها ، ثم تأليف ألوانها حمرة مع صفرة ، وبياض مع حمرة ، وإنه ما لا تكاد عيوننا تستبينه لدمامة خلقها ، لا تراه عيوننا ، ولا تلمسه أيدينا ، علمنا أن خالق هذا الخلق لطيف ، لطف بخلق ما سميناه بلا علاج ولا أداة ولا آلة ، وأن كل صانع شيء فمن شيء صنع ، والله الخالق اللطيف الجليل خلق وصنع لا من شيء » (١).

وأمر الامام الهادي عليه‌السلام شيعته بمقاطعة المجسمة وعدم الصلاة خلفهم ، روى الشيخ الصدوق بالاسناد عن علي بن محمد الهادي ومحمد بن علي الجواد عليهما‌السلام ، قالا : « من قال بالجسم فلا تعطوه شيئاً من الزكاة ، ولا تصلوا خلفه » (٢).

٢ ـ استحالة الرؤية :

يذهب أهل الحديث والأشاعرة إلى إمكان روءية اللّه تعالى في الآخرة

__________________

(١) التوحيد / الصدوق : ١٨٥ / ١.

(٢) من لايحضره الفقيه / الصدوق١ : ٣٧٩ / ١١١١ ، التوحيد / الصدوق : ١٠١ / ١١.

١٨٦

بالأبصار ، ويرون أنّ اللّه تعالى يظهر للناس يوم القيامة كما يظهر البدر ليلة تمامه ، واستظهروا ذلك من طائفة من آيات القرآن الكريم والروايات (١).

وفي مقابل هذا الاتجاه يرى أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام استحالة روءية اللّه تعالى ، وفسّروا الروايات والآيات التي استظهر منها أهل الحديث والأشاعرة إمكانية الروءية بمعانٍ مناسبة لفهم الآيات والروايات.

وفي هذا الاتجاه روى الشيخ الصدوق وثقة الاسلام الشيخ الكليني بالاسناد عن أحمد بن إسحاق ، قال : « كتبت إلى أبي الحسن الثالث عليه‌السلام أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس؟ فكتب : لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر ، فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي لم تصح الرؤية ، وكان في ذلك الاشتباه ، لأن الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه ، وكان في ذلك التشبيه ، لأن الأسباب لا بد من اتصالها بالمسببات » (٢).

٣ ـ لا يوصف الا بما وصف به نفسه :

عن الفتح بن يزيد الجرجاني ، قال : « ضمني وأبا الحسن الهادي عليه‌السلام الطريق حين منصرفي من مكة إلى خراسان ، وهو صائر إلى العراق ، فسمعته وهو يقول : من اتقى الله يتقى ، ومن أطاع الله يطاع.

قال : فتلطفت في الوصول إليه ، فسلمت عليه ، فرد علي السلام ، وأمرني بالجلوس ، وأول ما ابتدأني به أن قال : يا فتح ، من أطاع الخالق لم يبال بسخط المخلوق ، ومن أسخط الخالق ، فأيقن أن يحل به الخالق سخط

__________________

(١) راجع الإبانة / الأشعري : ٢١ ، شرح التجريد / القوشجي : ٣٣٤.

(٢) التوحيد : ١٠٩ / ٧ ، أصول الكافي ١ : ٩٧ / ٤ كتاب التوحيد باب ٩.

١٨٧

المخلوق ، وإن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه ، وأنى يوصف الخالق الذي تعجز الحواس أن تدركه ، والأوهام أن تناله ، والخطرات أن تحده ، والأبصار عن الاحاطة به ، جل عما يصفه الواصفون ، وتعالى عما ينعته الناعتون ، نأى في قربه ، وقرب في نأيه ، فهو في نأيه قريب ، وفي قربه بعيد ، كيّف الكيف فلا يقال كيف ، وأين الأين فلا يقال أين ، إذ هو منقطع الكيفية والأينية ، هو الواحد الأحد الصمد ، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، فجل جلاله ... الحديث » (١).

وعن سهل بن زياد ، عن أبي الحسن علي بن محمد عليهم‌السلام أنه قال : « إلهي تاهت أوهام المتوهمين ، وقصر طرف الطارفين ، وتلاشت أوصاف الواصفين ، واضمحلت أقاويل المبطلين عن الدرك لعجيب شأنك ، أو الوقوع بالبلوغ إلى علوك ، فأنت في المكان الذي لا يتناهى ، ولم تقع عليك عيون بإشارة ولا عبارة ، هيهات ثم هيهات ، يا أولي ، يا وحداني ، يا فرداني ، شمخت في العلو بعز الكبر ، وارتفعت من وراء كل غورة ونهاية بجبروت الفخر » (٢).

وعن أبي منصور الطبرسي ، قال : « سئل أبو الحسن الهادي عليه‌السلام عن التوحيد ، فقيل له : لم يزل الله وحده لا شيء معه ، ثم خلق الأشياء بديعاً ، واختار لنفسه الأسماء ، ولم تزل الأسماء والحروف له معه قديمة؟

فكتب عليه‌السلام : لم يزل الله موجوداً ، ثم كوّن ما أراد ، لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، تاهت أوهام المتوهمين ، وقصر طرف الطارفين ، وتلاشت

__________________

(١) كشف الغمة ٣ : ١٧٩.

(٢) التوحيد : ٦٦ / ١٩.

١٨٨

أوصاف الواصفين ، واضمحلت أقاويل المبطلين عن الدرك لعجيب شأنه ، أو الوقوع بالبلوغ على علو مكانه ، فهو بالموضع الذي لا يتناهى ، وبالمكان الذي لم يقع عليه عيون بإشارة ولا عبارة ، هيهات هيهات! » (١).

٤ ـ الارادة والمشيئة :

عن أيوب بن نوح ، قال : قال لي أبو الحسن العسكري عليه‌السلام وأنا واقف بين يديه بالمدينة ابتداءً من غير مسألة : يا أيوب ، إنه ما نبأ الله من نبي إلا بعد أن يأخذ عليه ثلاث خصال : شهادة أن لا إله إلا الله ، وخلع الأنداد من دون الله ، وأن لله المشيئة يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء ، أما إنه إذا جرى الاختلاف بينهم لم يزل الاختلاف بينهم إلى أن يقوم صاحب هذا الأمر » (٢).

عن الفتح بن يزيد الجرجاني ، عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : إن لله إرادتين ومشيئتين ؛ إرادة حتم ، وإرادة عزم ، ينهى وهو يشاء ، ويأمر وهو لا يشاء. أما رأيت أنه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة ، وشاء ذلك ، ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى ، وأمر إبراهيم أن يذبح إسحاق ، ولم يشأ أن يذبحه ، ولو شاء لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى » (٣).

٥ ـ علمه سبحانه :

عن معلى بن محمد ، قال : « سئل عليه‌السلام كيف علم الله تعالى؟

__________________

(١) الاحتجاج : ٤٤٩.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ٣٩٤ / ٢٢٣٥.

(٣) اصول الكافي ١ : ١٥١ / ٤.

١٨٩

قال عليه‌السلام : علم وشاء وأراد وقدر وقضى ، وأبدى فأمضى ما قضى ، وقضى ما قدر ، وقدر ما أراد ، فبعلمه كانت المشية ، وبمشيته كانت الارادة ، وبإرادته كان التقدير ، وبتقديره كان القضاء ، وبقضائه كان الامضاء ، فالعلم متقدم المشية ، والمشية ثانية ، والارادة ثالثة ، والتقدير واقع على القضاء بالامضاء ، فلله تبارك وتعالى البداء في ما علم متى شاء ، وفي ما أراد لتقدير الأشياء ، فإذا وقع القضاء بالامضاء فلا بداء ، فالعلم بالمعلوم قبل كونه ، والمشية في المنشأ قبل عينه ، والارادة في المراد قبل قيامه ، والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها عياناً وقياماً ، والقضاء بالامضاء هو المبرم من المفعولات ذوات الأجسام المدركات بالحواس من ذي لون وريح ووزن وكيل ، وما دبّ ودرج من إنس وجن وطير وسباع وغير ذلك مما يدرك بالحواس ، فلله تبارك وتعالى فيه البداء مما لا عين له ، فإذا وقع العين المفهوم المدرك فلا بداء ، والله يفعل ما يشاء ، وبالعلم علم الأشياء قبل كونها ، وبالمشية عرف صفاتها وحدودها وأنشأها قبل إظهارها ، وبالارادة ميز أنفسها في ألوانها وصفاتها وحدودها ، وبالتقدير قدر أوقاتها وعرف أولها وآخرها ، وبالقضاء أبان للناس أماكنها ، ودلهم عليها ، وبالامضاء شرح عللها ، وأبان أمرها ، وذلك تقدير العزيز العليم » (١).

وعن أيوب بن نوح : « أنه كتب إلى أبي الحسن عليه‌السلام يسأله عن الله عز وجل ، أكان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكونها ، أو لم يعلم ذلك حتى خلقها وأراد خلقها وتكوينها ، فعلم ما خلق عندما خلق ، وما كون عندما كون؟ فوقع عليه‌السلام بخطه : لم يزل الله عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء ،

__________________

(١) التوحيد / الصدوق : ٣٣٤ / ٩.

١٩٠

كعلمه بالأشياء بعدما خلق الأشياء » (١).

٦ ـ حقيقة الايمان :

روى المسعودي بالاسناد عن أبي دعامة ، قال : « أتيت علي بن محمد بن علي بن موسى عائداً في علته التي كانت وفاته منها في هذه السنة ـ وهي سنة ٢٥٤ ـ فلما هممت بالانصراف قال لي : يا أبا دعامة ، قد وجب حقك ، أفلا أحدثك بحديث تسرّ به؟قال : فقلت له : ما أحوجني إلى ذلك يا بن رسول الله!

قال عليه‌السلام : حدثني أبي محمد بن علي ، قال : حدثني أبي علي بن موسى ابن جعفر ، قال : حدثني أبي جعفر بن محمد ، قال : حدثني محمد بن علي ، قال : حدثني علي بن الحسين ، قال : حدثني أبي الحسين بن علي ، قال : حدثني أبي علي بن أبي طالب عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اكتب ، قال : قلت : وما أكتب؟ قال : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، الايمان ما وقرته القلوب ، وصدقته الأعمال ، والاسلام ما جرى به اللسان ، وحلت به المناكحة.

قال أبو دعامة : فقلت : يا بن رسول الله ، ما أدري والله أيهما أحسن ، الحديث أم الاسناد؟ فقال عليه‌السلام : إنها لصحيفة بخط علي بن أبي طالب عليه‌السلام بإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نتوارثها صاغراً عن كابر » (٢).

٧ ـ الجبر والتفويض :

الجبر هو الاعتقاد بنسبة أفعال العباد إلى الله تعالى ، ويقول المجبرة : ليس

__________________

(١) التوحيد / الصدوق : ١٤٥ / ١٣.

(٢) مروج الذهب / المسعودي ٤ : ٨٥.

١٩١

لنا صنع ، أي لسنا مخيرين في أفعالنا التي نفعلها ، بل إننا مجبورون بإرادته ومشيئته تعالى ، ويتبنى هذا الرأي الأشاعرة. والمفوضة يعتقدون أن الله سبحانه لا صنع له ولا دخل في أفعال العباد ، سوى أنه خلقهم وأقدرهم ، ثم فوض أمر أفعالهم إلى سلطانهم وإرادتهم ، ولا دخل لأي إرادة أو سلطان عليهم ، ويتبنى هذا الرأي المعتزلة. ويذهب أهل البيت عليهم‌السلام مذهباً وسطاً بين الجبر والتفويض لا يتّصل بالجبر ولا بالتفويض ، وهو الأمر بين الأمرين ، أو المنزلة بين منزلتين.

قال الشيخ المفيد : « روي عن أبي الحسن الثالث عليه‌السلام أنه سئل عن أفعال العباد ، فقيل له : هل هي مخلوقة لله تعالى؟ فقال عليه‌السلام : لو كان خالقاً لها لما تبرأ منها ، وقد قال سبحانه : ( إن الله برئ من المشركين ورسوله ) (١) ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم ، وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم » (٢).

رسالته الى أهل الأهواز :

لعل أهم ما ورد عن الامام أبي الحسن الهادي عليه‌السلام في هذا السياق رسالته عليه‌السلام إلى أهل الأهواز التي تعرض فيها للرد على فكرة الجبر والتفويض ، باعتبارها من المسائل التي اُثيرت بقوة في ذلك الوقت ، بحيث كانت سبباً للاختلاف بين أصحابه عليه‌السلام الى حدّ الفرقة والتقاطع والعداوة ، فوضع الامام عليه‌السلام النقاط على الحروف في هذه المسألة الحساسة ، والرسالة طويلة نأخذ منهافيما يلي بعض ما يتعلق بالموضوع.

بيّن أولاً السبب الباعث لارسالها ، فكتب : « بسم الله الرحمن الرحيم.

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٣.

(٢) تصحيح الأعتقاد : ٢٩.

١٩٢

من علي بن محمد : سلام عليكم وعلى من اتّبع الهدى ورحمة الله وبركاته ، فإنه ورد على كتابكم ، وفهمت ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم ، وخوضكم في القدر ، ومقالة من يقول منكم بالجبر ، ومن يقول بالتفويض ، وتفرقكم في ذلك وتقاطعكم ، وما ظهر من العداوة بينكم ، ثم سألتموني عنه وبيانه لكم ، وفهمت ذلك كله ».

استشهادته بحديث الصادق :

ثم أنه عليه‌السلام بيّن أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع فرق المسلمين ، ولا اختلاف بينهم في تنزيله وتصديقه ، وذكر شرط تلقي الأحاديث والأخبار بالقبول ، وهو أنه إذا شهد القرآن بتصديق خبر وتحقيقه ، لزم أفراد الاُمّة الاقرار به ضرورة لأنهم اجتمعوا في الأصل على تصديق الكتاب ، فإن هم جحدوا وأنكروا لزمهم الخروج من الملة.

ثم ذكر حديث الثقلين باعتباره أول خبر ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يعرف تحقيقه وتصديقه والتماس الشهادة عليه من الكتاب والسنة ، لذلك صار الاقتداء بمثل هذه الأخبار فرضاً واجباً على كل مؤمن ومؤمنة ، وبدلالة صحة حديث الثقلين وتلقيه بالقبول ، يكون التصديق بالأخبار الواردة عن الصادقين عليهم‌السلام ونقلها قوم ثقات معروفون فرضاً واجباً أيضاً.

ثم كتب عليه‌السلام : « وإنما قدمنا هذا الشرح والبيان دليلاً على ما أردنا ، وقوة لما نحن مبينوه من أمر الجبر والتفويض والمنزلة بين المنزلتين ، وبالله العون والقوة ، وعليه نتوكل في جميع أمورنا.

فإنا نبدأ من ذلك بقول الصادق عليه‌السلام : لا جبر ولا تفويض ، ولكن منزلة بين المنزلتين ، وهي صحة الخلقة ، وتخلية السرب ، والمهلة في الوقت ،

١٩٣

والزاد مثل الراحلة ، والسبب المهيج للفاعل على فعله.

فهذه خمسة أشياء جمع بها الصادق عليه‌السلام جوامع الفضل ، فإذا نقص العبد منها خلة كان العمل عنه مطروحاً بحسبه ، فأخبر الصادق عليه‌السلام بأصل ما يجب على الناس من طلب معرفته ، ونطق الكتاب بتصديقه ، فشهد بذلك محكمات آيات رسوله ، لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله عليهم‌السلام لا يعدون شيئاً من قوله وأقاويلهم حدود القرآن ، فإذا وردت حقائق الأخبار والتمست شواهدها من التنزيل ، فوجد لها موافقاً وعليها دليلاً ، كان الاقتداء بها فرضاً لا يتعداه إلا أهل العناد ، كما ذكرنا في أول الكتاب.

ولما التمسنا تحقيق ما قاله الصادق عليه‌السلام من المنزلة بين المنزلتين ، وإنكاره الجبر والتفويض ، وجدنا الكتاب قد شهد له ، وصدق مقالته في هذا ، وخبر عنه أيضاً موافق لهذا ، أن الصادق عليه‌السلام سئل : هل أجبر الله العباد على المعاصي؟ فقال الصادق عليه‌السلام : هو أعدل من ذلك. فقيل له : فهل فوض إليهم؟ فقال عليه‌السلام : هو أعز وأقهر لهم من ذلك.

وروي عنه أنه قال : الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل يزعم أن الأمر مفوض إليه ، فقد وهن الله في سلطانه فهو هالك ، ورجل يزعم أن الله جل وعز أجبر العباد على المعاصي وكلفهم ما لا يطيقون ، فقد ظلم الله في حكمه فهو هالك ، ورجل يزعم أن الله كلف العباد ما يطيقون ولم يكلفهم ما لا يطيقون ، فإذا أحسن حمد الله ، وإذا أساء استغفر الله ، فهذا مسلم بالغ.

فأخبر عليه‌السلام أن من تقلد الجبر والتفويض ودان بهما ، فهو على خلاف الحق. فقد شرحت الجبر الذي من دان به يلزمه الخطأ ، وأن الذي يتقلد التفويض يلزمه الباطل ، فصارت المنزلة بين المنزلتين بينهما.

١٩٤

ثم قال عليه‌السلام : وأضرب لكل باب من هذه الأبواب مثلاً يقرب المعنى للطالب ، ويسهل له البحث عن شرحه ، تشهد به محكمات آيات الكتاب ، وتحقق تصديقه عند ذوي الألباب ، وبالله التوفيق والعصمة.

ابطال الجبر :

فأما الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ ، فهو قول من زعم أن الله جل وعز أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها ، ومن قال بهذا القول فقد ظلم الله في حكمه وكذبه ورد عليه قوله : ( ولا يظلم ربك أحداً ) (١) ، وقوله : ( ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد ) (٢) ، وقوله : ( إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون ) (٣) مع آي كثيرة في ذكر هذا.

فمن زعم أنه مجبر على المعاصي ، فقد أحال بذنبه على الله ، وقد ظلمه في عقوبته ، ومن ظلم الله فقد كذب كتابه ، ومن كذب كتابه فقد لزمه الكفر باجتماع الاُمّة.

مثال على الجبر :

ومثل ذلك مثل رجل ملك عبداً مملوكاً ، لا يملك نفسه ، ولا يملك عرضاً من عرض الدنيا ، ويعلم مولاه ذلك منه ، فأمره على علم منه بالمصير إلى السوق لحاجة يأتيه بها ، ولم يملكه ثمن ما يأتيه به من حاجته ، وعلم

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٤٩.

(٢) سورة الحج : ٢٢ / ١٠.

(٣) سورة يونس : ١٠ / ٤٤.

١٩٥

المالك أن على الحاجة رقيباً لا يطمع أحد في أخذها منه إلا بما يرضى به من الثمن ، وقد وصف مالك هذا العبد نفسه بالعدل والنصفة وإظهار الحكمة ونفي الجور ، وأوعد عبده إن لم يأته بحاجته أن يعاقبه على علم منه بالرقيب الذي على حاجته أنه سيمنعه ، وعلم أن المملوك لا يملك ثمنها ولم يملكه ذلك ، فلما صار العبد إلى السوق ، وجاء ليأخذ حاجته التي بعثه المولى لها ، وجد عليها مانعاً يمنع منها إلا بشراء ، وليس يملك العبد ثمنها ، فانصرف إلى مولاه خائباً بغير قضاء حاجته ، فاغتاظ مولاه من ذلك وعاقبه عليه ، أليس يجب في عدله وحكمه أن لا يعاقبه ، وهو يعلم أن عبده لا يملك عرضاً من عروض الدنيا ، ولم يملكه ثمن حاجته ، فإن عاقبه عاقبه ظالماً متعدياً عليه مبطلاً لما وصف من عدله وحكمته ونصفته ، وإن لم يعاقبه كذب نفسه في وعيده إياه حين أوعده بالكذب والظلم اللذين ينفيان العدل والحكمة ، تعالى عما يقولون علواً كبيراً.

فمن دان بالجبر أو بما يدعو إلى الجبر فقد ظلم الله ، ونسبه إلى الجور والعدوان ، إذ أوجب على من أجبره العقوبة ، ومن زعم أن الله أجبر العباد فقد أوجب على قياس قوله إن الله يدفع عنهم العقوبة ، ومن زعم أن الله يدفع عن أهل المعاصي العذاب ، فقد كذب الله في وعيده حيث يقول : ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) (١) ، وقوله : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً ) (٢) ، وقوله : ( إن الذين كفروا بآياتنا سوف

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٨١.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٠.

١٩٦

نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً ) (١) مع آي كثيرة في هذا الفن ممن كذب وعيد الله. ويلزمه في تكذيبه آية من كتاب الله الكفر ، وهو ممن قال الله : « أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون » (٢).

بل نقول : إن الله جل وعز جازى العباد على أعمالهم ، ويعاقبهم على أفعالهم بالاستطاعة التي ملكهم إياها ، فأمرهم ونهاهم بذلك ونطق كتابه : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ) (٣) ، وقال جل ذكره ( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه ) (٤) ، وقال : ( اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم ) (٥) فهذه آيات محكمات تنفي الجبر ومن دان به ، ومثلها في القرآن كثير ، اختصرنا ذلك لئلا يطول الكتاب ، وبالله التوفيق.

ابطال التفويض :

وأما التفويض الذي أبطله الصادق عليه‌السلام وخطأ من دان به وتقلده ، فهو قول القائل : إن الله جل ذكره فوض إلى العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم ،

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٥٦.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٨٥.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ١٦٠.

(٤) سورة آل عمران : ٣ / ٣٠.

(٥) سورة غافر : ٤٠ / ١٧.

١٩٧

وفي هذا كلام دقيق لمن يذهب إلى تحريره ودقته ، وإلى هذا ذهبت الأئمّة المهتدية من عترة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنهم قالوا : لو فوض إليهم على جهة الاهمال لكان لازماً له رضا ما اختاروه ، واستوجبوا منه الثواب ولم يكن عليهم فيما جنوه العقاب إذا كان الاهمال واقعاً.

وتنصرف هذه المقالة على معنيين : إما أن يكون العباد تظاهروا عليه فألزموه قبول اختيارهم بآرائهم ضرورة ، كره ذلك أم أحب ، فقد لزمه الوهن ، أو يكون جل وعز عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي على إرادته كرهوا أو أحبوا ، ففوض أمره ونهيه إليهم ، وأجراهما على محبتهم ، إذ عجز عن تعبدهم بإرادته ، فجعل الاختيار إليهم في الكفر والايمان.

مثال على التفويض :

ومثل ذلك مثل رجل ملك عبداً ابتاعه ليخدمه ، ويعرف له فضل ولايته ، ويقف عند أمره ونهيه ، وأدعى مالك العبد أنه قاهر عزيز حكيم ، فأمر عبده ونهاه ووعده على اتباع أمره عظيم الثواب ، وأوعده على معصيته أليم العقاب ، فخالف العبد إرادة مالكه ، ولم يقف عند أمره ونهيه ، فأي أمر أمره ، وأي نهي نهاه عنه ، لم يأته على إرادة المولى ، بل كان العبد يتبع إرادة نفسه واتباع هواه ، ولا يطيق المولى أن يرده إلى اتباع أمره ونهيه والوقوف على إرادته ، ففوض اختيار أمره ونهيه إليه ، ورضى منه بكل ما فعله على إرادة العبد لا على إرادة المالك ، وبعثه في بعض حوائجه ، وسمى له الحاجة ، فخالف على مولاه ، وقصد لارادة نفسه واتبع هواه ، فلما رجع إلى مولاه نظر إلى ما أتاه به ، فإذا هو خلاف ما أمره به ، فقال له : لم أتيتني بخلاف ما أمرتك؟ فقال العبد : اتكلت على تفويضك الأمر إلي ، فاتبعت

١٩٨

هواي وإرادتي ، لأن المفوض إليه غير محظور عليه ، فاستحال التفويض.

أو ليس يجب على هذا السبب إما أن يكون المالك للعبد قادراً ، يأمر عبده باتباع أمره ونهيه على إرادته لا على إرادة العبد ، ويملكه من الطاقة بقدر ما يأمره به وينهاه عنه ، فإذا أمره بأمر ونهاه عن نهي عرفه الثواب والعقاب عليهما ، وحذره ورغبه بصفة ثوابه وعقابه ، ليعرف العبد قدرة مولاه بما ملكه من الطاقة لأمره ونهيه وترغيبه وترهيبه ، فيكون عدله وإنصافه شاملاً له وحجته واضحة عليه للاعذار والانذار ، فإذا اتبع العبد أمر مولاه جازاه ، وإذا لم يزدجر عن نهيه عاقبه ، أو يكون عاجزاً غير قادر ، ففوض أمره إليه ، أحسن أم أساء ، أطاع أم عصى ، عاجز عن عقوبته ورده إلى اتباع أمره.

وفي إثبات العجز نفي القدرة والتأله وإبطال الأمر والنهي والثواب والعقاب ومخالفة الكتاب إذ يقول : ( ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ) (١) ، وقوله عز وجل : ( اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) (٢) ، وقوله : ( وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ) (٣) ، وقوله : ( اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ) (٤) ، وقوله : ( أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ) (٥).

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٧.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٠٢.

(٣) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٦ و ٥٧.

(٤) سورة النساء : ٤ / ٣٦.

(٥) سورة الأنفال : ٨ / ٢٠.

١٩٩

فمن زعم أن الله تعالى فوض أمره ونهيه إلى عباده ، فقد أثبت عليه العجز ، وأوجب عليه قبول كل ما عملوا من خير وشر ، وأبطل أمر الله ونهيه ووعده ووعيده ، لعلة ما زعم أن الله فوضها إليه ، لأن المفوض إليه يعمل بمشيئته ، فإن شدة الكفر أو الايمان كان غير مردود عليه ولا محظور ، فمن دان بالتفويض على هذا المعنى ، فقد أبطل جميع ما ذكرنا من وعده ووعيده وأمره ونهيه ، وهو من أهل هذه الآية : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ) (١) تعالى الله عما يدين به أهل التفويض علواً كبيراً.

المنزلة بين المنزلتين :

لكن نقول : إن الله جل وعز خلق الخلق بقدرته ، وملكهم استطاعة تعبدهم بها ، فأمرهم ونهاهم بما أراد ، فقبل منهم اتباع أمره ، ورضي بذلك لهم ، ونهاهم عن معصيته ، وذم من عصاه وعاقبه عليها ، ولله الخيرة في الأمر والنهي ، يختار ما يريد ويأمر به ، وينهى عما يكره ويعاقب عليه بالاستطاعة التي ملكها عباده لاتباع أمره واجتناب معاصيه ، لأنه ظاهر العدل والنصفة والحكمة البالغة ، بالغ الحجة بالاعذار والانذار ، وإليه الصفوة يصطفي من عباده من يشاء لتبليغ رسالته واحتجاجه على عباده ، اصطفى محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعثه برسالاته إلى خلقه ، فقال من قال من كفار قومه حسداً واستكباراً : ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) (٢) يعني بذلك أمية بن

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٨٥.

(٢) سورة الزخرف : ٤٣ / ٣١.

٢٠٠