الإمام عليّ الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

علي موسى الكعبي

الإمام عليّ الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-98-6
الصفحات: ٢٧٦

يحيى بن أكثم في مجلس الواثق والفقهاء بحضرته : من حلق رأس آدم حين حج؟ فتعايى القوم عن الجواب. فقال الواثق : أنا احضركم من ينبئكم بالخبر ، فبعث إلى علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب فأحضر. فقال : يا أبا الحسن ، من حلق رأس آدم؟ فقال : سألتك بالله يا أمير المؤمنين الا أعفيتني. قال : أقسمت عليك لتقولن. قال : اما إذا أبيت فان أبي حدثني عن جدي عن أبيه عن جده ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أُمر جبريل أن ينزل بياقوتة من الجنة ، فهبط بها ، فمسح بها رأس آدم ، فتناثر الشعر منه ، فحيث بلغ نورها صار حرماً » (١).

٥ ـ حدّ النصراني يفجر بمسلمة :

روى الطبرسي بإسناده عن جعفر بن رزق الله ، قال : « قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة ، فأراد أن يقيم عليه الحدّ فأسلم ، فقال يحيى ابن أكثم : قد هدم إيمانه شركه وفعله. وقال بعضهم : يضرب ثلاثة حدود ، وقال بعضهم : يفعل به كذا وكذا ، فأمر المتوكل بالكتابة إلى أبي الحسن العسكري عليه‌السلام وسؤاله عن ذلك ، فلما قرأ الكتاب كتب عليه‌السلام : يضرب حتى يموت. فأنكر يحيى وأنكر فقهاء العسكر ذلك ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، سله عن ذلك ، فإنه شيء لم ينطق به كتاب ولم تجيء به سنة. فكتب إليه : إن الفقهاء قد أنكروا هذا ، وقالوا : لم تجيء به سنة ولم ينطق به كتاب ، فبين لنا لم أوجبت عليه الضرب حتى يموت؟ فكتب عليه‌السلام : ( بسم الله الرحمن الرحيم * فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا )

__________________

(١) تاريخ بغداد ١٢ : ٥٦ / ٦٤٤٠.

١٦١

الآية (١) ، فأمر به المتوكل فضرب حتى مات » (٢).

٦ ـ مسائل ابن السكيت :

طلب المتوكل من يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكيت أن يتقدم الى الامام عليه‌السلام بمسائل غامضة معقدة ، لعله لا يهتدي لجوابها ، فيتخذها وسيلة للتشهير به ، فأملى الامام عليه‌السلام على ابن السكيت أجوبة تلك المسائل الدقيقة ، مسقطاً ما في يد المتوكل مفوتاً الفرصة عليه ، معرباً عن طاقاته العلمية الهائلة. ورفع يحيى بن أكثم أسئلة إلى الامام عليه‌السلام ، وكان قد أعدها من قبل للامتحان ، وندد بابن السكيت وبإمكانيته في المناظرة ، فأخذ الامام عليه‌السلام أسئلة ابن أكثم فأجاب عنها أملاءً على ابن السكيت.

قال ابن شهرآشوب : « قال المتوكل لابن السكيت : اسأل ابن الرضا مسألة عوصاء بحضرتي ، فسأله فقال : لم بعث الله موسى عليه‌السلام بالعصا ، وبعث عيسى عليه‌السلام بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، وبعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقرآن والسيف؟

فقال أبو الحسن عليه‌السلام : بعث الله موسى عليه‌السلام بالعصا واليد البيضاء في زمان الغالب على أهله السحر ، فأتاهم من ذلك ما قهر سحرهم وبهرهم وأثبت الحجة عليهم ، وبعث عيسى عليه‌السلام بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله في زمان الغالب على أهله الطب ، فأتاهم من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله فقهرهم وبهرهم ، وبعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقرآن والسيف في زمان الغالب على أهله السيف والشعر ، فأتاهم من القرآن

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٨٤ ـ ٨٥.

(٢) الاحتجاج : ٢٥٨.

١٦٢

الزاهر والسيف القاهر ما بهر به شعرهم وقهر سيفهم وأثبت الحجة عليهم.

فقال ابن السكيت : فما الحجة الآن؟ قال : العقل ، يعرف به الكاذب على الله فيكذب.

فقال يحيى بن أكثم : ما لابن السكيت ومناظراته ، وإنما هو صاحب نحو وشعر ولغة ، ورفع قرطاساً فيه مسائل ، فأملى علي بن محمد عليه‌السلام على ابن السكيت جوابها ». وأورد بعدها مسائل ابن أكثم وأجوبتها (١).

٧ ـ مسائل يحيى بن أكثم :

روي أن المسائل الآتية رفعها ابن أكثم الى الامام عليه‌السلام مباشرة في مجلس ضمّه مع المتوكل وابن السكيت ، وان الامام عليه‌السلام أملى أجوبة تلك المسائل الى ابن السكيت (٢).

وروي أن ابن أكثم تقدم بتلك المسائل الى السيد موسى المبرقع أخي الامام الهادي عليه‌السلام ، ورفعها موسى الى الامام عليه‌السلام لعدم معرفته بها ، ومهما يكن الأمر فأننا نعرض المسائل وأجوبتها لأهميتها في معرفة سبق الامام عليه‌السلام وتفوقه في العلم.

ففي رواية عن موسى بن محمد بن الرضا عليهما‌السلام قال : « لقيت يحيى بن أكثم في دار العامة ، فسألني عن مسائل ، فجئت إلى أخي علي بن محمد ، فدار بيني وبينه من المواعظ ما حملني وبصرني طاعته ، فقلت له : جعلت فداك ، إن ابن أكثم كتب يسألني عن مسائل لأفتيه فيها ؛ فضحك ، ثم قال : فهل أفتيته؟ قلت : لا لم أعرفها.

__________________

(١) المناقب / ابن شهر آشوب ٤ : ٤٠٣.

(٢) المناقب / ابن شهر آشوب ٤ : ٤٠٣.

١٦٣

قال عليه‌السلام : وما هي؟ قلت : كتب يسألني عن قول الله : ( قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) (١) نبي الله كان محتاجاً إلى علم آصف؟

وعن قوله : ( ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً ) (٢) سجد يعقوب وولده ليوسف وهم أنبياء؟

وعن قوله : ( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب ) (٣) من المخاطب بالآية؟ فإن كان المخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد شك ، وإن كان المخاطب غيره فعلى من إذا أنزل الكتاب؟

وعن قوله : ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) (٤) ما هذه الأبحر ، وأين هي؟

وعن قوله : ( وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ) (٥) فاشتهت نفس آدم عليه‌السلام أكل البُرّ فأكل وأطعم ، وفيها ما تشتهي الأنفس ، فكيف عوقب؟

وعن قوله : ( أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ) (٦) يزوج الله عباده الذكران ، وقد عاقب قوماً فعلوا ذلك؟

وعن شهادة المرأة جازت وحدها ، وقد قال الله : ( وأشهدوا ذوي عدل

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٤٠.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ١٠٠.

(٣) سورة يونس : ١٠ / ٩٤.

(٤) سورة لقمان : ٣١ / ٢٧.

(٥) سورة الزخرف : ٤٣ / ٧١.

(٦) سورة الشورى : ٤٢ / ٥٠.

١٦٤

منكم ) (١)؟

وعن الخنثى وقول علي عليه‌السلام : يورث من المال. فمن ينظر إذا بال إليه؟ مع أنه عسى أن يكون امرأة وقد نظر إليه الرجال ، أو عسى أن يكون رجلاً وقد نظرت إليه النساء ، وهذا ما لا يحل ، وشهادة الجار إلى نفسه لا تقبل.

وعن رجل أتى إلى قطيع غنم ، فرأى الراعي ينزو على شاة منها ، فلما أبصر بصاحبها خلى سبيلها ، فدخلت بين الغنم ، كيف تذبح ، وهل يجوز أكلها أم لا؟

وعن صلاة الفجر لم يجهر فيها بالقراءة وهي من صلاة النهار ، وإنما يجهر في صلاة الليل؟

وعن قول علي عليه‌السلام لابن جرموز : بشر قاتل ابن صفية بالنار. فلم يقتله وهو إمام؟

وأخبرني عن علي عليه‌السلام لم قتل أهل صفين ، وأمر بذلك مقبلين ومدبرين ، وأجاز على الجرحى ، وكان حكمه يوم الجمل أنه لم يقتل مولياً ، ولم يجز على جريح ، ولم يأمر بذلك ، وقال : من دخل داره فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، لم فعل ذلك؟ فإن كان الحكم الأول صواباً فالثاني خطأ.

وأخبرني عن رجل أقر باللواط على نفسه أيحدّ ، أم يدرأ عنه الحد؟

جواب الامام الهادي عليه‌السلام :

قال عليه‌السلام : اكتب إليه. قلت : وما أكتب؟ قال عليه‌السلام : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، وأنت ـ فألهمك الله الرشد ـ أتاني كتابك ، فامتحنتنا به من تعنتك لتجد إلى الطعن سبيلاً إن قصرنا فيها ، والله يكافيك على نيتك ،

__________________

(١) سورة الطلاق : ٦٥ / ٢.

١٦٥

وقد شرحنا مسائلك ، فأصغ إليها سمعك ، وذلل لها فهمك ، واشغل بها قلبك ، فقد لزمتك الحجة والسلام.

سألت عن قول الله جل وعز : « قال الذي عنده علم من الكتاب » فهو آصف بن برخيا ، ولم يعجز سليمان عليه‌السلام عن معرفة ما عرف آصف ، لكنه صلوات الله عليه أحب أن يعرف أمته من الجن والانس أنه الحجة من بعده ، وذلك من علم سليمان عليه‌السلام أودعه عند آصف بأمر الله ، ففهمه ذلك لئلا يختلف عليه في إمامته ودلالته ، كما فهم سليمان عليه‌السلام في حياة داود عليه‌السلام لتعرف نبوته وإمامته من بعده لتؤكد الحجة على الخلق.

وأما سجود يعقوب عليه‌السلام وولده فكان طاعة لله ومحبة ليوسف عليه‌السلام ، كما أن السجود من الملائكة لآدم عليه‌السلام لم يكن لآدم عليه‌السلام ، وإنما كان ذلك طاعة لله ومحبة منهم لآدم عليه‌السلام ، فسجود يعقوب عليه‌السلام وولده ويوسف عليه‌السلام معهم كان شكراً لله باجتماع شملهم ، ألم تره يقول في شكره ذلك الوقت : ( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث ) (١) إلى آخر الآية.

وأما قوله : « فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب » فإن المخاطب به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يكن فى شك مما أنزل إليه ، ولكن قالت الجهلة : كيف لم يبعث الله نبياً من الملائكة ، إذ لم يفرق بين نبيه وبيننا في الاستغناء عن المآكل والمشارب والمشي في الأسواق ، فأوحى الله إلى نبيه : « فاسأل الذين يقرؤون الكتاب » بمحضر الجهلة ، هل بعث الله رسولاً قبلك إلا وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولك بهم أسوة ، وإنما قال : « فإن كنت في شك » ولم يكن شك ولكن للنصفة ، كما

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ١٠٢.

١٦٦

قال : ( تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) (١) ، ولو قال : عليكم ، لم يجيبوا إلى المباهلة ، وقد علم الله أن نبيه يؤدي عنه رسالاته ، وما هو من الكاذبين ، فكذلك عرف النبي أنه صادق في ما يقول ، ولكن أحب أن ينصف من نفسه.

وأما قوله : ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) فهو كذلك ، لو أن أشجار الدنيا أقلام والبحر يمده سبعة أبحر وانفجرت الأرض عيوناً ، لنفدت قبل أن تنفد كلمات الله ، وهي : عين الكبريت ، وعين التمر (٢) ، وعين برهوت ، وعين طبرية ، وحمة (٣) ماسبذان (٤) ، وحمة إفريقية ، تدعى لسنان (٥) ، وعين بحرون (٦) ، ونحن كلمات الله التي لا تنفد ولا تدرك فضائلنا.

وأما الجنة فإن فيها من المآكل والمشارب والملاهي ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، وأباح الله ذلك كله لآدم عليه‌السلام ، والشجرة التي نهى الله عنها آدم عليه‌السلام وزوجته أن يأكلا منها شجرة الحسد ، عهد إليهما أن لا ينظرا إلى من فضل الله على خلائقه بعين الحسد ، فنسى ونظر بعين الحسد ، ولم يجد له عزماً.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٦١.

(٢) في المناقب : عين اليمن.

(٣) الحمة : العين الحارة.

(٤) في المناقب : ماسيدان.

(٥) في المناقب : بسيلان.

(٦) في المناقب : باحوران.

١٦٧

وأما قوله : ( أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ) أي يولد له ذكور ، ويولد له إناث ، يقال لكل اثنين مقرنين زوجان ، كل واحد منهما زوج ، ومعاذ الله أن يكون عنى الجليل ما لبست به على نفسك تطلب الرخص لارتكاب المآثم ( ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً ) (١) إن لم يتب.

وأما شهادة المرأة وحدها التي جازت ، فهى القابلة ، جازت شهادتها مع الرضا ، فإن لم يكن رضا فلا أقل من امرأتين تقوم المرأتان بدل الرجل للضرورة ، لأن الرجل لا يمكنه أن يقوم مقامها ، فإن كانت وحدها قبل قولها مع يمينها.

وأما قول علي عليه‌السلام في الخنثى فهي كما قال : ينظر قوم عدول يأخذ كل واحد منهم مرآة ، وتقوم الخنثى خلفهم عريانة ، وينظرون في المرايا ، فيرون الشبح فيحكمون عليه.

وأما الرجل الناظر إلى الراعي وقد نزا على شاة ، فإن عرفها ذبحها وأحرقها ، وإن لم يعرفها قسم الغنم نصفين ، وساهم بينهما ، فإذا وقع على أحد النصفين فقد نجا النصف الآخر ، ثم يفرق النصف الآخر ، فلا يزال كذلك حتى تبقى شاتان ، فيقرع بينهما ، فأيتها وقع السهم بها ذبحت وأحرقت ، ونجا سائر الغنم.

وأما صلاة الفجر ، فالجهر فيها بالقراءة ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يغلس بها فقراءتها من الليل.

وأما قول علي عليه‌السلام : بشر قاتل ابن صفية بالنار ، فهو لقول رسول

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٦٨ و ٦٩.

١٦٨

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان ممن خرج يوم النهروان ، فلم يقتله أمير المؤمنين عليه‌السلام بالبصرة ، لأنه علم أنه يقتل في فتنة النهروان.

وأما قولك : إن علياً عليه‌السلام قتل أهل صفين مقبلين ومدبرين ، وأجاز على جريحهم ، وإنه يوم الجمل لم يتبع مولياً ، ولم يجز على جريح ، ومن ألقى سلاحه آمنه ، ومن دخل داره آمنه ، فإن أهل الجمل قتل إمامهم ، ولم تكن لهم فئة يرجعون إليها ، وإنما رجع القوم إلى منازلهم غير محاربين ولا مخالفين ولا منابذين ، رضوا بالكف عنهم ، فكان الحكم فيهم رفع السيف عنهم ، والكف عن أذاهم ، إذ لم يطلبوا عليه أعواناً ، وأهل صفين كانوا يرجعون إلى فئة مستعدة وإمام يجمع لهم السلاح : الدروع والرماح والسيوف ، ويسني لهم العطاء ، ويهيئ لهم الأنزال ، ويعود مريضهم ، ويجبر كسيرهم ، ويداوي جريحهم ، ويحمل راجلهم ، ويكسو حاسرهم ، ويردهم فيرجعون إلى محاربتهم وقتالهم ، فلم يساو بين الفريقين في الحكم ، لما عرف من الحكم في قتال أهل التوحيد ، لكنه شرح ذلك لهم ، فمن رغب عرض على السيف ، أو يتوب من ذلك.

وأما الرجل الذي اعترف باللواط ، فإنه لم تقم عليه بينة ، وإنما تطوع بالاقرار من نفسه ، وإذا كان للامام الذي من الله أن يعاقب عن الله ، كان له أن يمن عن الله ، أما سمعت قول الله : ( هذا عطاؤنا ) (١) الآية.

قد أنبأناك بجميع ما سألتنا عنه ، فاعلم ذلك ، والحمد لله رب العالمين » (٢).

__________________

(١) سورة صآ : ٣٨ / ٣٩.

(٢) الاختصاص / الشيخ المفيد : ٩١ ، تحف العقول / الحراني : ٤٧٦ ، المناقب / ابن شهر آشوب ٤ : ٤٠٤.

١٦٩

ثانياً ـ العبادة :

كان الامام الهادي عليه‌السلام يسير على نهج آبائه المعصومين عليهم‌السلام في التوجّه إلى اللّه تعالى والانقطاع إليه ، فقد كان يحيي الأيام بالصيام والصلاة وتلاوة القرآن رغم شدة الظروف المحيطة به.

قال القطب الراوندي : وأما علي بن محمد الهادي عليه‌السلام فقد اجتمعت فيه خصال الامامة ، وتكامل فضله وعلمه وخصاله الخيرة ، وكانت أخلاقه كلها خارقة للعادة كأخلاق آبائه عليهم‌السلام ، وكان بالليل مقبلاً على القبلة لا يفتر ساعة ، وعليه جبة صوف وسجادته على حصير (١).

فحينما أمر المتوكل بتفتيش داره في سامراء ، اقتحم سعيد الحاجب دار الامام فوجد عليه جبة صوف وقلنسوة منها ، وسجادته على حصير بين يديه ، وهو مقبل على القبلة (٢) ، وفي مرة أخرى دوهمت دار الامام في الليل غفلة من قبل جند المتوكل الأتراك ، فوجدوه في بيت وحده مغلق عليه ، وعليه مدرعة من شعر ، ولابساط في البيت إلا الرمل والحصى ، وعلى رأسه ملحفة من الصوف متوجها إلى ربه ، يترنّم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد (٣).

__________________

(١) الأنوار البهية / عباس القمي : ٢٤٦.

(٢) اصول الكافي ١ : ٤٩٩ / ٤ باب مولد أبي الحسن علي بن محمد عليه‌السلام من كتاب الحجة ، الارشاد ٢ : ٣٠٣ ، الخرائج والجرائح ١ : ٦٧٦ / ٨.

(٣) مروج الذهب ٤ : ٣٦٧ ـ ٣٦٨ ، تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي ٣٢٢ ، البداية والنهاية ١١ : ١٥ ، وفيات الأعيان / ابن خلكان ٣ : ٢٧٢ ، الأئمّة الاثنا عشر / ابن طولون : ١٠٧.

١٧٠

وورد في سيرة الامام الهادي عليه‌السلام أنه لم يترك نافلة من النوافل المستحبة وصلوات التطوع إلا أتى بها ، وكان عليه‌السلام يقرأ في الركعة الثالثة من نافلة المغرب سورة الحمد وأول سورة الحديد إلى قوله تعالى : ( إنه عليم بذات الصدور ) ، ويقرأ في الركعة الرابعة سورة الحمد وآخر سورة الحشر ، ونسبت إليه صلاة نافلة كان عليه‌السلام يصلي فيها ركعتين ، يقرأ في الاولى الفاتحة ويـس ، وفي الثانية سورة الفاتحة والرحمن (١).

وأُثرت عنه عليه‌السلام أذكار وقنوتات وتعقيبات طويلة ومفعمة بمعاني التوحيد وشتى دروس العقيدة ، يدعو بها في الصلاة ، فكان عليه‌السلام يعقب بدعاء طويل بعد صلاة الفجر ولا ينام ، ويدعو عقيب صلاة العصر بدعاء طويل آخر ، وروي عنه دعاء الفرج عند شدة البلاء وظهور الأعداء ، وأدعية أُخرى في أغراض شتى ، ومناجاة يناجي بها ربه في غلس الليل بقلب خاشع ونفس مطمئنة (٢).

وكان يقول في تسبيحه : سبحان من هو دائم لا يسهو ، سبحان من هو قائم لا يلهو ، سبحان من هو غني لا يفتقر ، سبحان الله وبحمده (٣).

وكان يستجير بالحائر الحسيني اذا ألمّ به مرض أو تعرض لشدة ويبعث أحد مواليه ليدعو له ، وحين سئل عن ذلك قال عليه‌السلام : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من البيت والحجر ، وكان يطوف بالبيت ويستلم الحجر ، وإن لله بقاعاً يحبّ أن يدعى فيها فيستجيب لمن دعاه ، والحائر منها » (٤).

__________________

(١) راجع : وسائل الشيعة ٦ : ٦٤ / ٧٣٥٧ و ٨ : ١٨٥ / ١٠٣٧٤.

(٢) مهج الدعوات : ٦٠ و ٦١ و ٢٧١ ، البلد الأمين : ٦٠ ، مصباح المتهجد : ٥٥٦.

(٣) بحار الأنوار ٩٤ : ٢٠٧ / ٣.

(٤) كامل الزيارات : ٢٨٧ / ١ باب ٩٠.

١٧١

وكان عليه‌السلام حين يسجد سجدة الشكر يفترش ذراعيه ويلصق جؤجؤه وبطنه بالأرض ، وحين سئل عن ذلك قال : « كذا نحبّ » (١).

ثالثا ـ الزهد :

الزهد والورع من المظاهر البارزة في سيرة الامام الهادي عليه‌السلام ، مثله في ذلك مثل آبائه المعصومين عليهم‌السلام ، فكان عليه‌السلام مثالاً للزهد والاعراض عن زخارف الدنيا وحطامها ، والرغبة فيما أعدّه اللّه له في دار الخلود من النعيم والكرامة.

ولم يحفل بمظاهر الحياة الفانية ونعيمها الزائل ومتعها الزائفة ، بل اتجه إلى الله تعالى ورغب فيما أعده له في دار الخلود من النعيم والكرامة ، وآثر طاعة الله تعالى على كل شيء.

نقل ابن أبي الحديد عن المفاخرة بين بني هاشم وبني أمية للجاحظ ، قال : وأين أنتم عن علي بن محمد الرضا ، لابس الصوف طول عمره مع سعة أمواله وكثرة ضياعه وغلاته (٢).

وداهمت قوات السلطة العباسية في زمان المتوكل داره عليه‌السلام في المدينة المنورة ، ففتشوها فلم يجدوا فيها شيئاً من متاع الدنيا وزخرفها.

قال يحيى بن هرثمة ، وهو الموكل بإشخاص الامام عليه‌السلام من المدينة إلى سامراء بأمر المتوكل : كان ملازماً للمسجد ، ولم يكن عنده ميل إلى الدنيا ، وقد فتشت منزله فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية وكتب العلم (٣).

وفي سامراء اقتحم داره ليلاً جماعة من الأتراك من جند المتوكل ، فوجدوه

__________________

(١) الكافي٣ : ٣٢٤ / ١٥ كتاب الصلاة باب٢٥ ، التهذيب٢ : ٨٥ / ٣١٢ / ٨٠ باب٨. وفيه : كذا يجب.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٥ : ٢٧٣.

(٣) تذكرة الخواص : ٣٢٢ ، مروج الذهب ٤ : ٤٢٢.

١٧٢

في بيت مغلق عليه ، وعليه مدرعة من صوف ، وهو جالس على الرمل والحصى ، ليس تحته فراش ، وهو متوجه إلى الله تعالى يتلو آيات من القرآن (١).

رابعاً ـ الجود والكرم :

عرف الإمام الهادي عليه‌السلام بالسماحة والبذل والعطاء ، وهي خصلة بارزة في سيرته وسيرة آبائه المعصومين عليهم‌السلام ، فقد كان عليه‌السلام من أندى الناس كفا وأسمحهم يداً ، وكان له دور بارز في تحمل الديون عن ذوي الحاجة ، والانفاق والبذل لسدّ حاجة ذوي الفاقة من أبناء المجتمع الاسلامي ، وقد روى المؤرخون بوادر كثيرة تدل على بره وإحسانه إلى البائسين والمحرومين ، وكان من بين من شملهم بره واحسانه أبو عمرو عثمان بن سعيد ، وعلي بن جعفر الهمداني ، وأحمد بن إسحاق الأشعري وكان عليه دين ، ورجل من أعراب الكوفة قد ركبه دين فادح أثقل حمله ، وأبو هاشم الجعفري الذي أصابته ضيقة شديدة (٢).

ومن مظاهر كرمه وبذله وصلته ذوي القربى ما رواه إسحاق الجلاب ، قال : اشتريت لأبي الحسن الهادي عليه‌السلام غنماً كثيرة يوم التروية ، فقسمها عليه‌السلام في أقاربه (٣).

قال الشاعر :

يا أيهذا الرائح الغادي

عرج على سيدنا الهادي

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٣٦٧ ـ ٣٦٨ ، تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي ٣٢٢ ، البداية والنهاية ١١ : ١٥ ، وفيات الأعيان / ابن خلكان ٣ : ٢٧٢.

(٢) راجع : المناقب / ابن شهر آشوب ٤ : ٤٠٩ ، كشف الغمة ٣ : ١٦٦ ، بحار الأنوار ٥٠ : ١٢٩ / ٧ و ١٣٢ / ١٤.

(٣) بحار الأنوار ٥٠ : ١٣٢ / ١٤.

١٧٣

يفوق في المعروف صوب الحيا

الساري بإبراق وإرعاد

في البأس يردي شأفة المعتدي

بصولة كالأسد العادي

وفي الندى يجري إلى غاية

بنفس مولى العرف معتاد

يعفو عن الجاني ويعطي المنى

في حالتي وعد وإيعاد

كأن ما يحويه من ماله

دراهم في كفّ نقّاد

مبارك الطلعة ميمونها

وماجد من نسل أمجاد

من معشر شادوا بناه العلى

كبيرهم والناشي الشادي

كأنما جودهم واقف

لمبتغى الجود بمرصاد

عمت عطاياهم وإحسانهم

طلاع أغوار وأنجاد (١)

خامساً ـ السماحة والحلم :

ضرب الامام الهادي عليه‌السلام أمثلة واضحة في العفو والصفح عن المسيئين ، ومقابلة الاساءة بالاحسان ، والصبر على كيد الأعداء والمناوئين ، ويكفي مثالاً على سعة حلمه موقفه من بريحة عامل المتوكل على المدينة الذي كان يقصد الامام عليه‌السلام بالاساءة والوشاية والتهديد ، ومع ذلك فإنه عليه‌السلام قابل ذلك بالعفو وكظم الغيظ.

ذكر المسعودي أن أبا الحسن عليه‌السلام حين توجه الى العراق ، وصار في بعض الطريق ، قال له بريحة : قد علمت وقوفك على أني كنت السبب في حملك ، وعليَّ حلف بأيمان مغلظة لئن شكوتني إلى أمير المؤمنين أو إلى أحد من خاصّته وأبنائه ، لأجمرنّ عيون ضيعتك ، ولأفعلن وأصنعن.

__________________

(١) كشف الغمة / الشيخ علي بن عيسى الاربلي ٣ : ١٩٠.

١٧٤

فالتفت إليه أبو الحسن عليه‌السلام فقال له : « إن أقرب عَرضي إياك على اللّه البارحة ، وما كنت لأعرضنك عليه ثم لأشكونك إلى غيره من خلقه. فانكبّ عليه بريحة وضرع إليه واستعفاه. فقال له : قد عفوت عنك » (١). وهكذا تجد بريحة لا يعبأ بشكوى الامام الى الله سبحانه ، ويتهدده اذا هو اشتكى عند المتوكل ، ورغم ذلك تجد الامام عليه‌السلام يعفو عنه ويسامحه رغم دوره السيئ في الوشاية والافتراء على الامام عليه‌السلام ، وهذا هو خلق أهل البيت عليهم‌السلام وسماحتهم لمن ساء إليهم.

سادساً ـ الرقّة والشفافية :

روى ثقة الاسلام الشيخ الكليني بالاسناد عن أبي هاشم الجعفري ، قال : « دخلت على أبي الحسن صاحب العسكر عليه‌السلام ، فجاء صبي من صبيانه فناوله وردة ، فقبّلها ووضعها على عينيه ثم ناولنيها ، وقال عليه‌السلام : يا أبا هاشم ، من تناول وردة أو ريحانة فقبلها ووضعها على عينيه ، ثم صلى على محمد وآل محمد ، كتب الله له الحسنات مثل رمل عالج ، ومحا عنه من السيئات مثل ذلك » (٢).

سابعاً ـ الهيبة والمنزلة الرفيعة :

حظي الإمام الهادي عليه‌السلام بمنزلة رفيعة ومكانة اجتماعية مرموقة ، تتمثّل بوافرٍ من التعظيم الذي يكنّه له غالب من عاصره ، ولو استعرضنا ما نقله كتّاب سيرته عليه‌السلام يتبيّن لنا سموّ مكانته في المجتمع الاسلامي آنذاك ، وأنّ أعداءه

__________________

(١) إثبات الوصية : ٢٣٣.

(٢) الكافي ٦ : ٥٢٥ / ٥ كتاب الزي والتجمل باب ٦٣.

١٧٥

وأصدقاءه أجمعوا على تعظيمه وتقديره وإكباره.

وتلك المنزلة لم تكن مفروضة بقوة السلاح وصولة السلطان ، ولا هي وليدة التعاطف الجماهيري العفوي مع الإمام عليه‌السلام ، بل هي هيبة حقيقية ومنزلة واقعية ناشئة من إحسانه إلى الناس ورعاية اُمورهم ، وطاعته لله تعالى وزهده في الدنيا واجتماع الملكات الروحانية ومقومات الصلاح والخلق الرفيع ، ممّا جعله في موقع محبة الناس كلهم.

ومن مصاديق تلك المنزلة أنه عندما أرسل المتوكل يحيى بن هرثمة إلى المدينة لاشخاص الامام الهادي عليه‌السلام إلى سامراء ، فدخل المدينة ، ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله خوفاً على الامام عليه‌السلام ، قال يحيى : وقامت الدنيا على ساق ، لأنه كان محسناً إليهم ملازماً للمسجد ، ولم يكن عنده ميل إلى الدنيا (١).

وهذا يدلّ على الموقع الذي يشغله الإمام عليه‌السلام في نفوس الناس وكسب ثقتهم ومحبتهم على اختلاف توجهاتهم ، لذلك هرعوا في مظاهرة احتجاجية صاخبة خوفا على حياة إمامهم عليه‌السلام من بطش المتوكل الذي يعرفون توجهاته وممارساته.

وتتجلّى مظاهر التعظيم أيضا في تشوّق الناس من أهالي بغداد إلى الإمام عليه‌السلام واجتماعهم لرؤيته وهو في طريقه الى سامراء ، مما اضطر آمر الركب إلى دخول البلد ومغادرته في الليل ، فقد جاء في التاريخ أنه لما كان في موضع يقال له الياسرية نزل هناك ، وركب والي بغداد إسحاق بن إبراهيم الطاهري لتلقيه ، فرأى تشوق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته ، فأقام إلى الليل ، ودخل به

__________________

(١) تذكرة الخواص : ٣٢٢ ، مروج الذهب ٤ : ٤٢٢.

١٧٦

في الليل ، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة ثم نفذ إلى سرّ من رأى (١).

وامتدت محبة الإمام عليه‌السلام وتعظيمه خلال تلك الرحلة إلى حاشية المتوكل وعماله ، فقد تأثّر ابن هرثمة بهيبة الإمام عليه‌السلام وعظم في عينه ، فتولّى خدمته بنفسه وأحسن عشرته ، وتلقاه اسحاق بن إبراهيم الطاهري وأوصى به ابن هرثمة ، وحذّر وصيف التركي يحيى قائلاً : واللّه لئن سقط منه شعره لايطالب بها سواك (٢).

وفرض الامام عليه‌السلام هيبته حتى على رجال البلاط من وزراء وأولاد خلفاء وغيرهم ، فبلغ من عظيم هيبة الناس له أنه كان إذا دخل على المتوكل لا يبقى أحد في القصر إلا تسابق إلى خدمته في رفع الستائر وفتح الأبواب ، ولا يكلفونه بشيء من ذلك (٣).

وعن سعيد بن سهل البصري الملقب بالملاح ، قال : حدث لبعض أولاد الخلفاء وليمة ، فدعانا مع أبي الحسن عليه‌السلام فدخلنا ، فلما رأوه أنصتوا إجلالاً له (٤).

وعن أبي يعقوب ، قال : رأيت أبا الحسن عليه‌السلام مع أحمد بن الخصيب يتسايران ، وقد قصّر أبو الحسن عليه‌السلام عنه ، فقال له ابن الخصيب : سر جعلت فداك (٥).

ومن رجال السلطة الذين تأثروا بهيبة الامام عليه‌السلام سعيد الصغير الحاجب الذي أمره أن يكبس دارالامام عليه‌السلام ، فوجده يصلي ، فلما انفتل من صلاته أقبل

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٤.

(٢) تذكرة الخواص : ٣٢٢ ، مروج الذهب ٤ : ٤٢٢ نحوه.

(٣) مناقب ابن شهرآشوب ٤ : ٤٠٦.

(٤) المناقب / ابن شهرآشوب ٤ : ٤١٤ ، الثاقب في المناقب : ٥٣٧.

(٥) الارشاد ٢ : ٣٠٦.

١٧٧

عليه وقال : « يا سعيد ، لا يكفّ عني جعفر حتى يقطع إرباً! اذهب واعزب » ، قال سعيد : فخرجت مرعوباً ، ودخلني من هيبته ما لا أحسن أن أصفه ... » (١).

وتأثر بهيبة الامام عليه‌السلام حتى الخزر الذين أحضرهم الفتح بن خاقان بأمر المتوكل ، وأمرهم أن يقتلوه ، فلما بصر به الخزر خروا سجداً مذعنين ، ورمى المتوكل بنفسه من السرير إليه ، وانكب عليه يقبّل بين عينيه ، وهو يقول : ما جاء بك يا سيدي في هذا الوقت؟ قال : جاءني رسولك. فقال المتوكل : كذب ابن الفاعلة ، ارجع يا سيدي من حيث جئت. فلما خرج أبو الحسن عليه‌السلام دعا المتوكل الخزر ، ثم أمر الترجمان أن يخبره بما يقولون ، ثم قال لهم : لِمَ لا تفعلوا ما أمرتكم به؟ قالوا : لشدة هيبته (٢).

ومن عظيم هيبته عليه‌السلام أن جميع السادة العلويين والطالبيين وغيرهم من المعاصرين له ، قد أجمعوا على تعظيمه وتقديمه والترجل له والاعتراف له بالزعامة والفضل مع كونهم من المشايخ الكبار والسادة المقدمين ، أمثال عم أبيه زيد بن الامام موسى بن جعفر عليهما‌السلام.

روى ابن جمهور عن سعيد بن عيسى ، قال : « رفع زيد بن موسى إلى عمر ابن الفرج مراراً يسأله أن يقدمه على ابن أخيه ، ويقول : إنه حدث وأنا عم أبيه. فقال عمر ذلك لأبي الحسن عليه‌السلام ، فقال عليه‌السلام : إفعل واحدة ، أقعدني غداً قبله ، ثم انظر. فلما كان من الغد أحضر عمر أبا الحسن عليه‌السلام فجلس في صدر المجلس ، ثم أذن لزيد بن موسى فدخل فجلس بين يدي أبي الحسن عليه‌السلام ، فلما كان يوم

__________________

(١) الثاقب في المناقب : ٥٣٩.

(٢) الثاقب في المناقب : ٥٥٦ ، الخرائج والجرائح ١ : ٤١٧ / ٢١ ، كشف الغمة ٣ : ١٨٥.

١٧٨

الخميس أذن لزيد بن موسى قبله فجلس في صدر المجلس ، ثم أذن لأبي الحسن عليه‌السلام فدخل فلما رآه زيد قام من مجلسه وأقعده في مجلسه ، وجلس بين يديه » (١).

وعن محمد بن الحسن الأشتر العلوي الحسيني ، قال : كنت مع أبي علي باب المتوكل ، وأنا صبي ، في جمع من الناس في ما بين طالبي إلى عباسي إلى جعفري إلى غير ذلك ، إذ جاء أبو الحسن علي بن محمد عليهما‌السلام ، فترجل الناس كلهم ، حتى دخل فقال بعضهم لبعض : لم نترجل لهذا الغلام؟ فما هو بأشرفنا ولا بأكبرنا سناً ولا بأعلمنا! فقالوا : والله لا ترجلنا له. فقال أبو هاشم الجعفري : والله لتترجلن له على صغره إذا رأيتموه. فما هو إلا أن طلع وبصروا به حتى ترجل له الناس كلهم ، فقال لهم أبو هاشم : ألستم زعمتم أنكم لا تترجلون له؟ فقالوا : ما ملكنا أنفسنا حتى ترجلنا » (٢).

وشاهده رجل من اصفهان يقال له عبد الرحمن ، أخرجه أهل اصفهان مع قوم آخرين إلى باب المتوكل متظلمين ، فكان بباب المتوكل يوماً إذ خرج الأمر بإحضارالامام عليه‌السلام ، قال عبد الرحمن : فأقبل راكباً على فرس ، وقد قام الناس يمنة الطريق ويسرته صفين ينظرون إليه ، فلما رأيته وقع حبه في قلبي فجعلت أدعو له في نفسي بأن يدفع الله عنه شر المتوكل ، فأقبل يسير بين الناس وهو ينظر إلى عرف دابته لا ينظر يمنة ولا يسرة ، قال : فارتعدت من هيبته ووقعت بين أصحابي (٣).

__________________

(١) المناقب / ابن شهر آشوب ٤ : ٤٠١ ، اعلام الورى ٢ : ١٢٥.

(٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٤ : ٤٠٧ ، الخرائج والجرائح ٢ : ٦٧٥ / ٧ ، الثاقب في المناقب : ٥٤٢.

(٣) الخرائج والجرائح ١ : ٣٩٢.

١٧٩

ومن مظاهر تعظيم الامام عليه‌السلام من قبل سائر الناس أنه لما أقيمت الصلاة عليه بعد استشهاده عليه‌السلام كثر الناس واجتمعوا وكثر بكاؤهم وضجتهم ، فرد النعش إلى داره فدفن فيها (١).

وامتدت آثار هيبته عليه‌السلام إلى البهائم والطير ، كما ورد في أخبار كثيرة ، وليس ذلك ببعيد عن المؤمن المخلص ، فكيف إذا كان إماما معصوما وحجةً على الخلق؟

فقد جاء في الحديث عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : « المؤمن يخشع له كلّ شيء ، ويهابه كلّ شيء » وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا كان مخلصا أخاف اللّه منه كلّ شيء حتى هوام الأرض والسباع وطير الهواء » (٢).

عن أبي هاشم الجعفري ، قال : « أنه كان للمتوكل مجلس بشبابيك كيما تدور الشمس في حيطانه ، قد جعل فيها الطيور التي تصوت ، فإذا كان يوم السلام جلس في ذلك المجلس ، فلا يسمع ما يقال له ، ولا يسمع ما يقول ، لاختلاف أصوات تلك الطيور ، فإذا وافاه علي بن محمد بن الرضا عليهم‌السلام سكتت الطيور ، فلا يسمع منها صوت واحد إلى أن يخرج ، فإذا خرج من باب المجلس عادت الطيور في أصواتها. قال : وكان عنده عدة من القوابج في الحيطان ، فكان يجلس في مجلس له عال ، ويرسل تلك القوابج تقتتل وهو ينظر إليها ويضحك منها ، فإذا وافى علي بن محمد عليه‌السلام ذلك المجلس لصقت القوابج بالحيطان فلا تتحرك عن مواضعها حتى ينصرف ، فإذا انصرف عادت في القتال » (٣).

* * *

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٣.

(٢) الدعوات / الراوندي : ٢٢٧.

(٣) بحار الأنوار ٥٠ : ١٤٨ / ٣٤.

١٨٠