الإمام عليّ الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

علي موسى الكعبي

الإمام عليّ الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-98-6
الصفحات: ٢٧٦

الفصل الرّابع

إمامته عليه السلام

قال الشيخ المفيد : كان الامام بعد أبي جعفر عليه‌السلام ابنه أبا الحسن علي بن محمد عليهما‌السلام ، لاجتماع خصال الامامة فيه ، وتكامل فضله ، وأنه لا وارث لمقام أبيه سواه ، وثبوت النص عليه بالامامة ، والاشارة إليه من أبيه بالخلافة (١).

وقال المسعودي : لما حضرت الامام الجواد عليه‌السلام الوفاة نص على أبي الحسن وأوصى إليه ، وكان سلم المواريث والسلاح إليه بالمدينة ، ومضى في سنة عشرين ومئتين من الهجرة في يوم الثلاثاء لخمس خلون من ذي الحجة (٢).

وفيما يلي نذكر أهم الأدلة الواردة في إمامته عليه‌السلام وكما يلي :

أولاً ـ نص آبائه عليه عليه‌السلام :

وردت المزيد من النصوص عن النبي والآل المعصومين عليهم‌السلام تصرح بتعيين أوصياء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وخلفائه من عترته واحدا بعد واحد باسمائهم وأوصافهم ، بشكل يجلو العمى عن البصائر وينفي الشك عن القلوب ، وسنذكر هنا ثلاثة أحاديث عن آبائه المعصومين عليهم‌السلام كنموذج على تلك النصوص ، ونحيل القارئ

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٢٩٧.

(٢) اثبات الوصية : ١٩٢.

١٤١

إلى مظانّ بقيتها (١).

١ ـ عن جابر بن يزيد الجعفي ، قال : سمعت جابر بن عبداللّه الأنصاري يقول : قال لي رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا جابر ، إن أوصيائي وأئمة المسلمين من بعدي أوّلهم عليّ ، ثم الحسن ، ثم الحسين ، ثم علي بن الحسين ، ثم محمد ابن علي المعروف بالباقر ، ستدركه يا جابر فإذا لقيته فاقرأه منّي السلام ، ثم جعفر بن محمد ، ثم موسى بن جعفر ، ثم علي بن موسى ، ثم محمد بن علي ، ثم علي بن محمد ، ثم الحسن بن علي ، ثم القائم ، اسمه اسمي ، وكنيته كنيتي ، محمد بن الحسن بن علي ... » (٢).

٢ ـ وروى ابن شاذان بالاسناد عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر ، عن سلامة عن أبي سلمى راعي أبل رسول اللّه ، قال : سمعت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « ليلة أُسري بي إلى السماء قال لي الجليل جلّ وعلا : « آمن الرسول بما اُنزل إليه من ربّه ». قلت : والمؤمنون؟ قال : صدقت يا محمد ، من خلفت في أمتك؟ قلت : خيرها. قال : علي بن أبي طالب؟ قلت : نعم يا رب. قال : يا محمد ، إنّي اطّلعت إلى الأرض اطلاّعة فاخترتك منها ، فشققت لك اسما من أسمائي ، فلا اذكر في موضع إلاّ ذكرت معي ، فأنا المحمود وأنت محمد ، ثم اطّلعت الثانية فاخترت عليّا ، وشققت له اسما من أسمائي ، فأنا الأعلى وهو علي.

__________________

(١) راجع : اُصول الكافي ١ : ٢٨٦ ـ ٢٩٢ ـ باب ما نص اللّه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الأئمّة عليهم‌السلام واحدا فواحدا ، إكمال الدين : ٢٥٠ ـ ٣٧٨ ـ الأبواب ٢٣ ـ ٣٦ ، بحار الأنوار ٣٦ : ١٩٢ ـ ٤١٨ ـ باب ٤٠ ـ ٤٨.

(٢) ينابيع المودة ٣ : ٣٩٨ الباب ٩٤ ، كشف الغمة / الإربلي ٣ : ٣١٤.

١٤٢

يا محمد ، اني خلقتك وخلقت عليا وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة من ولده من سنخ نور من نوري وعرضت ولايتكم على أهل السماوات وأهل الأرض ، فمن قبلها كان عندي من المؤمنين ، ومن جحدها كان عندي من الكافرين.

يا محمد ، لو أن عبدا من عبيدي عبدني حتى ينقطع أو يصير كالشن البالي ، ثم أتاني جاحدا لولايتكم ما غفرت له حتى يقرّ بولايتكم.

يا محمد ، أتحبّ أن تراهم؟ قلت : نعم يارب. فقال لي : التفت عن يمين العرش ، فالتفت فإذا أنا بعلي وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي والمهدي ، في ضحضاح من نور قياما يصلّون وهو في وسطهم ـ يعني المهدي ـ كأنّه كوكب دري.

قال : يا محمد ، هؤلاء الحجج ، وهو الثائر من عترتك ، وعزتي وجلالي انه الحجة الواجبة لأوليائي ، والمنتقم من أعدائي » (١).

٣ ـ عن عبد السلام بن صالح الهروي ، قال : « سمعت دعبل بن علي الخزاعي يقول : أنشدت مولاي الرضا علي بن موسى عليه‌السلام قصيدتي التي أولها :

مدارس آيات خلت من تلاوة

ومنزل وحي مقفر العرصات

فلما انتهيت إلى قولي :

خروج إمام لا محالة خارج

يقوم على اسم اللّه والبركات

يميز فينا كل حقّ وباطل

ويجزي على النعماء والنقمات

__________________

(١) مقتل الحسين / الخوارزمي ١ : ٩٥ ـ ٩٦ ، فرائد السمطين ٢ : ٣١٩ / ٥٧١.

١٤٣

بكى الرضا عليه‌السلام بكاءً شديدا ، ثم رفع رأسه إليّ فقال لي : يا خزاعي ، نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين ، فهل تدري من هذا الإمام ، ومتى يقوم؟ فقلت : لا يا مولاي ، إلاّ أني سمعت بخروج إمام منكم يطهر الأرض من الفساد ، ويملأها عدلاً كما ملئت جورا.

فقال : يا دعبل ، الإمام بعدي محمد ابني ، وبعد محمد ابنه علي ، وبعد علي ابنه الحسن ، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته ، المطاع في ظهوره ... » (١).

ثانيا ـ نص أبيه عليه عليه‌السلام :

فيما يلي نعرض أهم النصوص الواردة عن أبيه عليه‌السلام في النص عليه والإشارة إليه بالإمامة من بعده.

١ ـ عن إسماعيل بن مهران ، قال « لما خرج أبو جعفر عليه‌السلام من المدينة إلى بغداد في الدفعة الاولى من خرجتيه ، قلت له عند خروجه : جعلت فداك ، إني أخاف عليك في هذا الوجه ، فإلى من الأمر بعدك؟ فكر بوجهه إلى ضاحكاً وقال : ليس الغيبة حيث ظننت في هذه السنة. فلما اخرج به الثانية إلى المعتصم صرت إليه فقلت له : جعلت فداك ، أنت خارج فإلى من هذا الأمر من بعدك؟ فبكى حتى اخضلت لحيته ، ثم التفت إلي فقال : عند هذه يخاف علي ، الأمر من بعدي إلى ابني علي » (٢).

__________________

(١) إكمال الدين : ٣٧٢ / ٦ باب ٣٥ ، عيون أخبار الرضا ٢ : ٢٩٦ / ٣٥ الباب ٦٦ ، ينابيع المودة ٣ : ٣٤٨ الباب ٨٦ ، فرائد السمطين ٢ : ٣٣٧ / ٥٩١.

(٢) اُصول الكافي ١ : ٣٢٣ / ١ باب الاشارة والنص على أبي الحسن الثالث عليه‌السلام ، الارشاد ٢ : ٢٩٨.

١٤٤

٢ ـ وعن الحسين بن محمد ، عن الخيراني ، عن أبيه ، أنه قال : « كان يلزم باب أبي جعفر عليه‌السلام للخدمة التي كان وكل بها ، وكان أحمد بن محمد بن عيسى يجيئ في السحر في كل ليلة ، ليعرف خبر علّة أبي جعفر عليه‌السلام ، وكان الرسول الذي يختلف بين أبي جعفر عليه‌السلام وبين أبي إذا حضر قام أحمد وخلا به أبي ، فخرج ذات ليله وقام أحمد عن المجلس وخلا أبي بالرسول ، واستدار أحمد فوقف حيث يسمع الكلام ، فقال الرسول لأبي : إن مولاك يقرأ عليك السلام ويقول لك : إني ماضٍ والأمر صائر إلى ابني علي ، وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي.

ثم مضى الرسول ورجع أحمد إلى موضعه ، وقال لأبي : ما الذي قد قال لك؟ قال : خيراً. قال : قد سمعت ما قال ، فلم تكتمه؟ وأعاد ما سمع فقال له أبي : قد حرم الله عليك ما فعلت ، لأنّ الله تعالى يقول : ( ولا تجسسوا ) (١) فاحفظ الشهادة لعلنا نحتاج إليها يوماً ما ، وإياك أن تظهرها إلى وقتها.

فلما أصبح أبي كتب نسخة الرسالة في عشر رقاع ، وختمها ودفعها إلى عشرة من وجوه العصابة ، وقال : إن حدث بي حدث الموت قبل أن اطالبكم بها فافتحوها واعملوا بما فيها.

فلما مضى أبو جعفر عليه‌السلام ذكر أبي أنه لم يخرج من منزله حتى قطع على يديه نحو من أربعمائة إنسان ، واجتمع رؤساء العصابة عند محمد بن الفرج يتفاوضون هذا الأمر ، فكتب محمد بن الفرج إلى أبي يعلمه باجتماعهم عنده ، وأنه لولا مخافة الشهرة لصار معهم إليه ، ويسأله أن يأتيه ، فركب أبي وصار إليه ، فوجد القوم مجتمعين عنده ، فقالوا لأبي : ما تقول في هذا الأمر؟ فقال أبي لمن عنده الرقاع :

__________________

(١) سورة الحجرات ٤٩ : ١٢.

١٤٥

احضروا الرقاع ، فأحضروها ، فقال لهم : هذا ما أُمرت به.

فقال بعضهم : قد كنا نحب أن يكون معك في هذا الأمر شاهد آخر؟ فقال لهم : قد آتاكم الله عزوجل به ، هذا أبو جعفر الأشعري يشهد لي بسماع هذه الرسالة ، وسأله أن يشهد بما عنده ، فأنكر أحمد أن يكون سمع من هذا شيئاً ، فدعاه أبي إلى المباهلة ، فقال لما حقق عليه : قد سمعت ذلك ، وهذه مكرمة كنت أحب أن تكون لرجل من العرب لا لرجل من العجم ، فلم يبرح القوم حتى قالوا بالحق جميعاً » (١).

٣ ـ وعن محمد بن الحسين الواسطي : أنه سمع أحمد بن أبي خالد مولى أبي جعفر يحكي أنه أشهده على هذه الوصية المنسوخة : « شهد أحمد بن أبي خالد مولى أبي جعفر أن أبا جعفر محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام أشهده أنه أوصى إلى علي ابنه بنفسه وأخواته ، وجعل أمر موسى إذا بلغ إليه ، وجعل عبد الله بن المساور قائماً على تركته من الضياع والأموال والنفقات والرقيق وغير ذلك إلى أن يبلغ علي بن محمد (٢) ، صير عبد الله بن المساور ذلك اليوم إليه ، يقوم بأمر نفسه واخوانه ،

__________________

(١) اُصول الكافي ١ : ٣٢٣ / ٢ باب الاشارة والنص على أبي الحسن الثالث عليه‌السلام ، الارشاد ٢ : ٣٠٠.

(٢) في بيان للعلامة المجلسي قال : لعله للتقية من المخالفين الجاهلين بقدر الامام عليه‌السلام ومنزلته وكماله في صغره وكبره ، اعتبر بلوغه في كونه وصياً ، وفوض الأمر ظاهراً قبل بلوغه إلى عبد الله ، لئلا يكون لقضاتهم مدخلاً في ذلك ، فقوله عليه‌السلام : (إذا بلغ) يعني أبا الحسن عليه‌السلام. وقوله عليه‌السلام : (صير) أي بعد بلوغ الامام عليه‌السلام صيره عبد الله مستقلاً في امور نفسه ووكل امور أخواته إليه عليه‌السلام. قوله : (ويصيّر) بتشديد الياء ، أي عبد الله أو الامام عليه‌السلام (أمر موسى إليه) أي إلى موسى (بعدهما) أي بعد فوت

١٤٦

ويصير أمر موسى إليه ، يقوم لنفسه بعدهما على شرط أبيهما في صدقاته التي تصدق بها ، وذلك يوم الأحد لثلاث ليال خلون من ذي الحجة سنة عشرين ومائتين.

وكتب أحمد بن أبي خالد شهادته بخطه ، وشهد الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ـ وهو الجواني ـ على مثل شهادة أحمد بن أبي خالد في صدر هذا الكتاب ، وكتب شهادته بيده ، وشهد نصر الخادم وكتب شهادته بيده » (١).

٤ ـ وعن الصقر ابن أبي دلف قال : سمعت أبا جعفر محمد بن علي الرضا عليهما‌السلام يقول : « إن الامام بعدي إبني علي ، أمره أمري ، وقوله قولي ، وطاعته طاعتي ، والامام بعده ابنه الحسن ، أمره أمر أبيه ، وقوله قول أبيه ، وطاعته طاعة أبيه ، ثم سكت ، فقلت له : يا ابن رسول الله ، فمن الامام بعد الحسن؟ فبكى عليه‌السلام بكاءً شديداً ، ثم قال : إن من بعد الحسن ابنه القائم بالحق المنتظر. فقلت له : يا ابن رسول الله ، لم سمي القائم؟ قال : لأنه يقوم بعد موت ذكره وارتداد أكثر القائلين بإمامته. فقلت له : ولم سمي المنتظر؟ قال : لأن له غيبة يكثر أيامها ويطول أمدها ، فينتظر خروجه المخلصون ، وينكره المرتابون ، ويستهزئ بذكره الجاحدون ، ويكذب فيها الوقاتون ، ويهلك فيها

__________________

عبد الله والامام عليه‌السلام ، ويحتمل التخفيف أيضاً. وقوله : (على شرط أبيهما) متعلق بيقوم في الموضعين. بحار الأنوار ٥٠ : ١٢٣.

(١) أصول الكافي ١ : ٣٢٥ / ٣ باب الاشارة والنص على أبي الحسن الثالث عليه‌السلام.

١٤٧

المستعجلون ، وينجو فيها المسلّمون » (١).

٥ ـ وعن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن أبيه : « أن أبا جعفر عليه‌السلام لما أراد الخروج من المدينة إلى العراق ومعاودتها ، أجلس أبا الحسن عليه‌السلام في حجره بعد النص عليه ، وقال له : ما الذي تحب أن أهدي إليك من طرائف العراق؟ فقال عليه‌السلام : سيفاً كأنه شعلة نار. ثم التفت إلى موسى ابنه وقال له : ما تحب أنت؟ فقال : فرساً. فقال عليه‌السلام : أشبهني أبو الحسن ، وأشبه هذا أمه » (٢).

٦ ـ وعن أحمد بن هلال ، عن أمية بن علي القيسي ، قال : « قلت لأبي جعفر الثاني عليه‌السلام : من الخلف من بعدك؟ قال : ابني علي » (٣).

وعنه ، قال : « أخبرني محمد بن إسماعيل بن بزيع أنه حضر أمية بن علي وهو يسأل أبا جعفر الثاني عليه‌السلام عن ذلك ، فأجاب بمثل ذلك الجواب » (٤).

ثالثاً ـ اجماع الامامية :

نقل الاجماع على امامة أبي الحسن الهادي عليه‌السلام جملة من أعلام الامامية المعروفين ومنهم :

١ ـ قال الشيخ المفيد بعد ايراده النص على أبي الحسن عليه‌السلام من أبيه : والأخبار في هذه الباب كثيرة جداً ، إن عملنا على إثباتها طال بها الكتاب ، وفي إجماع العصابة على إمامة أبي الحسن عليه‌السلام وعدم من يدعيها سواه في وقته ممن

__________________

(١) إكمال الدين : ٣٧٨ / ٣ باب ٣٦.

(٢) عيون المعجزات : ١١٩ ، بحار الأنوار ٥٠ : ١٢٣ / ٥.

(٣) كفاية الأثر : ٢٨٠.

(٤) كفاية الأثر : ٢٨٠.

١٤٨

يلتبس الأمر فيه ، غنىً عن إيراد الأخبار بالنصوص على التفصيل (١).

وقال في موضع آخر : ثم ثبتت الامامية القائلون بإمامة أبي جعفر عليه‌السلام بأسرها على القول بامامة أبي الحسن علي بن محمد من بعد أبيه عليهما‌السلام ونقل النص عليه إلا فرقة قليلة العدد شذوا عن جماعتهم ، فقالوا بإمامة موسى بن محمد أخي أبي الحسن علي بن محمد عليهما‌السلام ، ثم إنهم لم يثبتوا على هذا القول إلا قليلاً حتى رجعوا إلى الحق ودانوا بإمامة علي بن محمد عليهما‌السلام ورفضوا القول بإمامة موسى بن محمد ، وأقاموا جميعاً على إمامة أبي الحسن عليه‌السلام (٢).

٢ ـ وقال ابن شهرآشوب : رواة النص على إمامة أبي الحسن علي بن محمد النقي عليه‌السلام جماعة منهم : إسماعيل بن مهران ، وأبو جعفر الأشعري ، والخيراني ، والدليل على إمامته إجماع الامامية على ذلك وطريق النصوص والعصمة ، والطريقان المختلفان من العامة والخاصة من نص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على إمامة الاثني عشر ، وطريق الشيعة النصوص على إمامته عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام (٣).

رابعاً ـ شواهد اخرى :

وهناك شهادات نوردها وان كنا في غنى عنها ، لكون أغلبها وارد عن مخالفي مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، ولكننا نعتقد أنها تؤكد شهرة النص حتى عند المخالفين ، سيما وأنها توكد امامته عليه‌السلام وكونه أحد الأئمة أو عاشرهم. وفيما يلي نذكر بعضها.

١ ـ قال الذهبي : علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن

__________________

(١) الارشاد ٢ : ٣٠٠.

(٢) الفصول المختارة : ٣١٧.

(٣) المناقب / ابن شهرآشوب ٤ : ٤٠٢.

١٤٩

زين العابدين ، السيد الشريف ، أبو الحسن العلوي الحسيني الفقيه ، أحد الاثني عشر ، وتلقبه الامامية الهادي (١).

٢ ـ وقال ابن حجر الهيتمي : علي العسكري ، سمي بذلك لأنه لما وجه المتوكل لاشخاصه من المدينة المنورة إلى سر من رأى ، أسكنه بها ، وكانت تسمى العسكر ، فعرف بالعسكري ، وكان وارث أبيه علماً وسخاء ... (٢).

٣ ـ ويقول ابن العماد الحنبلي : أبو الحسن علي بن الجواد محمد بن الرضا علي بن الكاظم موسى بن جعفر الصادق العلوي الحسيني المعروف بالهادي ، كان فقيهاً إماماً متعبداً ، وهو أحد الأئمّة الاثني عشر (٣).

٤ ـ وقال اليافعي : أبو الحسن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا ابن موسى الكاظم بن جعفر الصادق العلوي الحسيني ، عاش أربعين سنة ، وكان متعبداً فقيهاً إماماً (٤).

٥ ـ وقال الخطيب البغدادي : علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أبو الحسن الهاشمي ، أشخصه جعفر المتوكل على الله من مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بغداد ثم إلى سر من رأى ، فقدمها وأقام بها عشرين سنة وتسعة اشهر إلى ان توفي ودفن بها في أيام المعتز بالله ، وهو أحد من يعتقد الشيعة والامامية فيه (٥) ، ويعرف بأبي الحسن العسكري (٦).

__________________

(١) تاريخ الاسلام / الذهبي : ٢١٨ وفيات سنة ٢٥١ ـ ٢٦٠.

(٢) الصواعق المحرقة : ٢٠٧.

(٣) شذرات الذهب ٢ : ١٢٨.

(٤) مرآة الجنان ٢ : ١١٩.

(٥) الظاهر : الامامة فيه ، بلا حرف العطف.

(٦) تاريخ بغداد ١٢ : ٥٦ / ٦٤٤٠.

١٥٠

٦ ـ وقال السمعاني : أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي المعروف بالعسكري ، من عسكر سر من رأى ، أشخصه جعفر المتوكل على الله من مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بغداد ، ثم إلى سر من رأى ، فقدمها وأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر ، إلى أن توفي بها في أيام المعتز بالله ، وهو أحد من يعتقد الشيعة فيه الامامية (١) ، ويعرف بأبي الحسن العسكري (٢).

٧ ـ وقال خير الدين الزركلي : أبو الحسن العسكري ، علي الملقب بالهادي ابن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر الحسيني الطالبي ، عاشر الأئمّة الاثني عشر عند الامامية ، وأحد الأتقياء الصلحاء (٣).

٨ ـ وأذعن أبو عبد الله الجنيدي بأن الامام الهادي عليه‌السلام أعلم منه ، وأنه تعلم منه ضروباً من العلم ، وأنه خير أهل الأرض ، وأنه يحفظ القرآن من أوله إلى آخره ويعلم تأويله وتنزيله ، والجنيدي هو الذي عهد إليه عمر بن الفرج الرخجي أن يعلم الامام عليه‌السلام بأمر المعتصم ، وكان معروفاً بعداء أهل البيت عليهم‌السلام ، فذهل من حدّة ذكاء الامام عليه‌السلام وغزارة علمه مع كون الامام عليه‌السلام صبياً لم يبلغ الثامنة ، الأمر الذي جعل الجنيدي ينتهي عن النصب والعداء لأهل البيت عليهم‌السلام ، ويدين بالولاء لهم ويعتقد بالامامة ويهتدي إلى سواء السبيل (٤).

* * *

__________________

(١) الظاهر : الامامة.

(٢) الأنساب ٤ : ١٩٤.

(٣) الأعلام ٥ : ١٤٠.

(٤) إثبات الوصية / المسعودي : ٢٢٢.

١٥١

الفصل الخامس

مكارم أخلاقه ومنزلته عليه السلام

يتحلّى أئمة أهل البيت عليهم‌السلام بصفات الكمال ومعالي الأخلاق التي ميزت شخصياتهم العظيمة عن سائر من عاصرهم في العبادة والعلم والحلم والزهد والكرم والشجاعة وغيرها من مظاهر العظمة ، ذلك لأنّهم استوحوا من جدهم المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رساليته وروحانيته وأخلاقيته ، وتجسدت فيهم شخصيته ، فكانوا اختصارا لجميع عناصرها الأخلاقية والروحية والانسانية ، وصاروا رمزا للفضيلة والمروءة وقدوةً صالحة للانسانية.

ولقد أوتي الامام الهادي عليه‌السلام كسائر آبائه الطاهرين من الفضائل ومكارم الأخلاق مالم يؤت أحد من معاصريه ، فلم ير مثله في عبادته وتهجّده وطاعته لربه ، فضلاً عن زهده وتقواه وحسن سيرته وعلمه الجم وحكمته وبلاغته.

قال الشاعر :

ولست أحصي مكرمات الهادي

فإنها في العدّ كالأعداد (١)

من هنا نال الامام عليه‌السلام إعجاب كبار العلماء والمؤرخين ممن عاصره وغيرهم ، على اختلاف نزعاتهم وميولهم ، فأشادوا بشخصيته الفذة وصفاته الرفيعة وسجاياه الحميدة ومعالي أخلاقه وتفوقه على سائر المعاصرين له.

__________________

(١) الأنوار القدسية / الشيخ محمد حسين الأصفهاني : ١٠١.

١٥٢

وشهد له عليه‌السلام من رجال البلاط وزير المعتمد عبيداللّه بن يحيى بن خاقان ت ٢٦٣ هـ الذي وصفه بالفضل والنبل والجزالة لابنه أحمد بن عبيداللّه ، وكان قد سأله عن الامام العسكري عليه‌السلام ، فقال له : « يا أبه من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الاجلال والكرامة والتبجيل وفديته بنفسك وأبيك؟ فقال عبيداللّه بن خاقان : يابني ذاك إمام الرافضة ، ذاك الحسن بن علي المعروف بابن الرضا. فسكت ساعة ، ثم قال : ... ولو رأيت أباه رأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً » (١).

وذكر ابن أبي الحديد عن أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ت ٢٥٥ هـ في تعداد صفاته وصفات آبائه المعصومين عليهم‌السلام قوله : من الذي يعدّ من قريش أو من غيرهم ما يعدّه الطالبيون عشرة في نسق ، كل واحد منهم عالم زاهد ناسك شجاع جواد طاهر زاكٍ؟ فمنهم خلفاء ، ومنهم مرشّحون : ابن ابن ابن ابن ، هكذا إلى عشرة ، وهم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد ابن علي بن الحسين بن علي عليهم‌السلام ، وهذا لم يتّفق لبيتٍ من بيوت العرب ولا من بيوت العجم » (٢).

وقال ابن شهرآشوب : كان عليه‌السلام أطيب الناس مهجة ، وأصدقهم لهجة ، وأملحهم من قريب ، وأكملهم من بعيد ، إذا صمت عليه هيبة الوقار ، وإذا تكلم عليه سيماء البهاء ، وهو من بيت الرسالة والامامة ، ومقر الوصية والخلافة ، شعبة من دوحة النبوة منتضاة مرتضاة ، وثمرة من شجرة الرسالة مجتناة

__________________

(١) اصول الكافي١ : ٥٠٤ / ١ باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليه‌السلام من كتاب الحجة ، إكمال الدين : ٤٢ مقدمة المؤلف ، الارشاد٢ : ٣٢٢ ، روضة الواعظين : ٢٥٠ ، إعلام الورى ٢ : ١٤٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٥ : ٢٧٨.

١٥٣

مجتباة (١).

وقال الشيخ علي بن عيسى الاربلي : إذا قال بذّ الفصحاء ، وحير البلغاء ، وأسكت العلماء ، إن جاد بخل الغيث ، وإن صال جبن الليث ، وإن فخر أذعن كل مساجل ، وسلم إليه كل مناضل ، وأقر لشرفه كل شريف ، ... وإن ذكرت العلوم فهو موضح إشكالها ، وفارس جلادها وجدالها ، وابن نجدتها وصاحب أقوالها ، واطلاع نجادها وناصب أعلام عقالها (٢).

ولسنا نريد من خلال كلمات هؤلاء الأعلام أن ندخل في تقييم الإمام عليه‌السلام لمجرد أنهم شهدوا له ، لأنّه عليه‌السلام يختصّ من موقع إمامته بالدرجة الرفيعة عند اللّه ، ويتمتّع بملكات قدسية في جميع جوانب المعرفة والروحانية والصلاح والخلق الرفيع ، وهي التي جعلت هؤلاء العلماء وآخرين غيرهم يذعنون لعظم شخصيته ويظهرون له الإكبار والاحترام والثناء.

من هنا نأتي إلى ذكر نبذة من معالي الفضيلة وعناصر العظمة والملكات القدسية والخصال الروحانية التي تحلى بها الامام الهادي عليه‌السلام من العلم والعبادة والزهد والكرم والشجاعة وغيرها من مناقبه الفذّة وخصاله الفريدة التي ورثها عن آبائه المعصومين وكما يلي :

أولاً ـ العلم :

بدت على الامام الهادي عليه‌السلام مظاهر العلم والمعرفة منذ حداثة سنه ، فقد تميز كأبيه بالإمامة المبكرة ، لأنه أسند إليه منصب الامامة بكل ما تتطلبه من علم كامل بالشريعة وأحكامها وهو في سن الثامنة من عمره الشريف ، وتلك

__________________

(١) المناقب ٤ : ٤٠١.

(٢) كشف الغمة ٣ : ١٦٤.

١٥٤

ظاهرة نلاحظها لأول مرّة في تاريخ أهل البيت عليهم‌السلام متمثلة بالامام الجواد وثانياً بولده الامام الهادي عليهما‌السلام ، وهو أمر لا يصدق على سائر الناس ، ولا يقع في دائرة الإمكان الا أن يكون المعني محاطاً بالعناية الالهية وواقعاً ضمن دائرة الاصطفاء الالهي الذي جعل عيسى بن مريم عليهما‌السلام يتكلم في المهد ويتولى مهام النبوة وهو في السابعة من عمره ، وجعلت يحيى بن زكريا عليهما‌السلام نبياً وهو في بواكير الصبا.

روى الصفار بالاسناد عن علي بن محمد النوفلي ، قال : « سمعت أبا الحسن العسكري عليه‌السلام يقول : اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفاً ، وإنما كان عند آصف حرف واحد فتكلم به فانخرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ ، فتناول عرش بلقيس حتى صيره إلى سليمان عليه‌السلام ، ثم انبسطت له الأرض في أقل من طرفة عين ، وعندنا منه اثنان وسبعون حرفاً ، وحرف واحد عند الله تعالى مستأثر به في علم الغيب » (١).

وكان الامام الهادي عليه‌السلام أبرز المعاصرين له في العلم والمعرفة والتقوى والعبادة والوجاهة والقيادة والريادة ، ولقد تسالم العلماء والفقهاء على الرجوع إلى رأيه المشرق في المسائل المعقدة والغامضة من أحكام الشريعة الاسلامية ومسائل العقائد المختلفة ، حتى ان المتوكل العباسي وهو ألدّ أعدائه كان يرجع إلى رأي الامام عليه‌السلام في المسائل التي اختلف فيها علماء عصره ، مقدماً رأيه عليه‌السلام على آرائهم ، وكانوا يرجعون إليه في كل معضلة ، ويلجأون إليه في كل مأزق ، وأمرهم في ذلك مشتهر حتى أذعن سائر العلماء المعاصرين له ممن ناظرهم بتفوقه العلمي ، ولو رأوا أدنى قصور في ذلك لأظهروه سيما وان من حوله يحاولون الكيد له ويتربّصون به وبأصحابه ، ولذلك شواهد كثيرة تدل

__________________

(١) بصائر الدرجات : ٢٣١ / ٣.

١٥٥

بمجموعها على أنه عليه‌السلام كان أعلم أهل زمانه وأرجحهم كفة بلا خلاف.

نبوغه المبكر :

ذكر الرواة بوادر كثيرة من ذكائه ، كان منها أن المعتصم بعد شهادة الامام الجواد عليه‌السلام عهد إلى عمر بن الفرج الرخجي أن يشخص إلى يثرب ليختار معلماً لأبي الحسن الهادي عليه‌السلام ، وقد عهد إليه أن يكون المعلم معروفاً بالنصب والانحراف عن أهل البيت عليهم‌السلام ليميل به عن نهجهم حسب اعتقاده ، فاختار أبا عبد الله الجنيدي الذي وقف ذاهلاً أمام نبوغه وتفوقه ، حيث كان يملي على المعلم بما فيه استفاده له ، وأذعن المعلم بأنه يتعلم منه ولا يعلمه كما يظن الناس ، وانه عليه‌السلام خير أهل الأرض وأفضل من خلق الله تعالى ، وأخيراً قال بإمامته وعرف الحق وقال به.

روى المسعودي بإسناده عن الحميري ، عن محمد بن سعيد مولى لولد جعفر بن محمد ، قال : « قدم عمر بن الفرج الرخجي المدينة حاجاً بعد مضي أبي جعفر الجواد عليه‌السلام فأحضر جماعة من أهل المدينة والمخالفين المعادين لأهل بيت رسول الله عليهم‌السلام ، فقال لهم : ابغوا لي رجلاً من أهل الأدب والقرآن والعلم ، لا يوالي أهل هذا البيت ، لأضمّه إلى هذا الغلام وأوكله بتعليمه ، وأتقدم إليه بأن يمنع منه الرافضة الذين يقصدونه. فأسموا له رجلاً من أهل الأدب يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بالجنيدي ، وكان متقدماً عند أهل المدينة في الأدب والفهم ، ظاهر الغضب والعداوة.

فأحضره عمر بن الفرج وأسنى له الجاري من مال السلطان ، وتقدم إليه بما أراد ، وعرفه أن السلطان أمره باختيار مثله وتوكيله بهذا الغلام ، قال : فكان الجنيدي يلزم أبا الحسن عليه‌السلام في القصر بصريا ، فإذا كان الليل أغلق الباب

١٥٦

وأقفله ، وأخذ المفاتيح إليه ، فمكث على هذا مدة ، وانقطعت الشيعة عنه وعن الاستماع منه والقراءة عليه.

ثم إني لقيته في يوم جمعة فسلمت عليه ، وقلت له : ما حال هذا الغلام الهاشمي الذي تؤدبه؟ فقال منكراً علي : تقول الغلام ولا تقول الشيخ الهاشمي! أنشدك الله هل تعلم بالمدينة أعلم مني؟ قلت : لا. قال : فإني والله أذكر له الحزب من الأدب أظن أني قد بالغت فيه ، فيملي علي بما فيه أستفيده منه ، ويظن الناس أني أعلمه وأنا والله أتعلم منه.

قال : فتجاوزت عن كلامه هذا كأني ما سمعته منه ، ثم لقيته بعد ذلك ، فسلمت عليه ، وسألته عن خبره وحاله ، ثم قلت : ما حال الفتى الهاشمي؟ فقال لي : دع هذا القول عنك ، هذا والله خير أهل الأرض ، وأفضل من خلق الله تعالى ، وإنه لربما همّ بالدخول فأقول له : تنظر حتى تقرأ عشرك. فيقول لي : أي السور تحب أن أقرأها؟ وأنا أذكر له من السور الطوال ما لم يبلغ إليه ، فيهذّها بقراءة لم أسمع أصح منها من أحد قط ، بأطيب من مزامير داود النبي التي بها من قراءته يضرب المثل.

قال : ثم قال : هذا مات أبوه بالعراق وهو صغير بالمدينة ، ونشأ بين هذه الجواري السود ، فمن أين علم هذا؟ قال : ثم ما مرت به الأيام والليالي حتى لقيته فوجدته قد قال بإمامته وعرف الحق وقال به » (١).

قال الشاعر :

حار فيه فكر الجنيدي مذ

شاهد فيه ما حير الأفكارا

جاء يملي له العلوم صغيراً

فإذا بالصغار تهدي الكبارا (٢)

__________________

(١) إثبات الوصية / المسعودي : ٢٢٢.

(٢) الذخائر / اليعقوبي : ٦٣.

١٥٧

روايات عن مقامه العلمي :

ان أهم صفات الامامة بعد ثبوت النص على الامام ، هي السبق في العلم والحكمة ، لكونها ضرورة لازمة في الامام لأجل أن يكون أهلاً لهذه المنزلة ، وكفؤاً لهذه المسؤولية ، وقطباً تلتف حوله الناس ، وتطمئن إلى سبقه في العلم والحكمة والمعرفة ، وقدرته الفائقة في مواجهة ما تبتلى به الاُمّة والدولة ، فلا يحتاج إلى غيره ممن هم محتاجون إلى إمام يهديهم ويرشدهم ، اذ لا يصح أن يلتف الناس حول رجل ويسلمون إليه قيادهم ، وهم يجدون من هو أعلم منه أو أرجح فهماً وحكمةً ومعرفةً في شؤون الدين والدنيا ، وهذه الناحية تكاد تكون بديهية لازمت جميع الأنبياء والأوصياء بين أقوامهم ، وهي أشد ما تكون بروزاً وظهوراً في حياة خاتم الأنبياء وأوصيائه عليهم‌السلام.

روى الشيخ الصدوق بالاسناد عن أحمد بن علي الأنصاري ، عن الحسن ابن الجهم ، قال : « حضرت مجلس المأمون يوماً وعنده علي بن موسى الرضا عليه‌السلام ، وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام من الفرق المختلفة ، فسأله بعضهم فقال له : يا بن رسول الله ، بأي شيء تصحّ الامامة لمدعيها؟ قال : بالنص والدليل. قال له : فدلالة الامام فيما هي؟ قال : في العلم واستجابة الدعوة .... » (١).

وهكذا كان أئمة الهدى عليهم‌السلام ، فلم يعرف عن أحدهم أنه تلكأ يوماً في مسألة ، أو أفحمه أحد في حجة ، بل كان سبقهم نوعاً من الاعجاز ، وأظهر ما يكون ذلك مع الامام محمد الجواد وولده الامام الهادي عليهما‌السلام ، فقد أوتيا العلم والحكمة وفصل الخطاب ولما يبلغا الحلم ، وسبقا علماء ومتكلمي عصرهما ،

__________________

(١) عيون أخبار الرضا / الشيخ الصدوق ١ : ٢١٦.

١٥٨

وشهدوا لهما بالفضل والتقدم والسبق.

وللامام الهادي جملة احتجاجات ومناظرات وأجوبة على مسائل شتى ناظر وأجاب خلالها كثيراً من المناوئين وغيرهم ، باسلوب هادئ متين مدعم بالحجة والمنطق والبرهان الساطع ، ولم يجتمع إليه أحد من أولئك المناظرين إلا وأذعن بتفوقه العلمي وسبقه المعرفي ، وفيما يلي نورد بعض الروايات الدالة على غزارة علمه وتفوقه ورجحان كفته.

١ ـ سورة تخلو من سبعة أحرف :

في شرح شافية أبي فراس ، قال : ومما نقل أن قيصر ملك الروم كتب إلى خليفة من خلفاء بني العباس كتاباً يذكر فيه : إنا وجدنا في الانجيل أنه من قرأ سورة خالية من سبعة أحرف حرّم الله تعالى جسده على النار. وهي : الثاء والجيم والخاء والزاي والشين والظاء والفاء ، فإنا طلبنا هذه السورة في التوراة فلم نجدها ، وطلبناها في الزبور فلم نجدها ، فهل تجدونها في كتبكم؟

فجمع الخليفة العلماء وسألهم في ذلك ، فلم يجب منهم أحد عن ذلك إلا النقي علي بن محمد بن الرضا عليه‌السلام ، فقال : إنها سورة الحمد ، فإنها خالية من هذه السبعة أحرف. فقيل : الحكمة في ذلك أن الثاء من الثبور ، والجيم من الجحيم ، والخاء من الخيبة ، والزاي من الزقوم ، والشين من الشقاوة ، والظاء من الظلمة ، والفاء من الفرقة أو من الآفة. فلما وصل إلى قيصر وقرأه فرح بذلك فرحاً شديداً ، وأسلم لوقته ، ومات على الاسلام ، والحمد لله رب العالمين (١).

٢ ـ معنى المال الكثير :

روى السمعاني والخطيب البغدادي بالاسناد عن الحسين بن يحيى ، قال :

__________________

(١) شرح شافية أبي فراس / ابن أمير الحاج : ٥٦٣.

١٥٩

« اعتل المتوكل في أول خلافته ، فقال : لئن برئت لأتصدقن بدنانير كثيرة ، فلما برئ جمع الفقهاء فسألهم عن ذلك فاختلفوا ، فبعث إلى علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر ، فسأله فقال : يتصدق بثلاث وثمانين ديناراً. فعجب قوم من ذلك ، وتعصب قوم عليه وقالوا : تسأله يا أمير المؤمنين من أين له هذا؟ فرد الرسول إليه ، فقال له : قل لأمير المؤمنين : في هذا الوفاء بالنذر ، لأن الله تعالى قال : « لقد نصركم الله في مواطن كثيرة » (١). فروى أهلنا جميعاً أن المواطن في الوقائع والسرايا والغزوات كانت ثلاثة وثمانين موطناً ، وأن يوم حنين كان الرابع والثمانين ، وكلما زاد أمير المؤمنين في فعل الخير كان أنفع له وأجرى (٢) عليه في الدنيا والآخرة » (٣).

٣ ـ جواز تكنية الكافر :

عن كتاب الاستدراك : « نادى المتوكل يوماً كاتباً نصرانياً : أبا نوح ، فأنكروا كنى الكتابيين ، فاستفتى فاختلف عليه ، فبعث إلى أبي الحسن عليه‌السلام ، فوقع عليه‌السلام : ( بسم الله الرحمن الرحيم * تبت يدا أبي لهب ) (٤) ، فعلم المتوكل أنه يحل ذلك ، لأن الله قد كنى الكافر » (٥).

٤ ـ من حلق رأس آدم؟ :

روى الخطيب البغدادي بالاسناد عن محمد بن يحيى المعاذي ، قال : « قال

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٢٤.

(٢) في تاريخ بغداد : وآجر.

(٣) تاريخ بغداد ١٢ : ٥٧ / ٦٤٤٠ ، الأنساب / السمعاني ٤ : ١٩٤.

(٤) سورة المسد : ١١١ / ١.

(٥) بحار الأنوار ١٠ : ٣٩١ / ٤.

١٦٠