حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل

باقر شريف القرشي

حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦
الجزء ١ الجزء ٢

١ ـ مع الحسن البصري

ووفد الحسن البصري إلى يثرب فتشرف بمقابلة الامام أبي جعفر (ع) فقال للامام :

ـ جئت لأسألك عن أشياء من كتاب الله؟

ـ ألست فقيه أهل البصرة؟

ـ قد يقال ذلك.

ـ هل بالبصرة أحد تأخذ عنه؟

ـ لا

ـ فجميع أهل البصرة يأخذون عنك؟

ـ نعم

ـ لقد تقلدت عظيما من الأمر ، بلغني عنك أمر فما أدري أكذلك أنت أم يكذب عليك؟

ـ ما هو؟

ـ زعموا أنك تقول : إن الله خلق العباد ففوض إليهم أمورهم.

وأطرق الحسن البصري برأسه إلى الأرض وحار في الجواب ، فبادره الامام قائلا :

ـ أرأيت من قال له الله في كتابه : إنك آمن هل عليه خوف بعد القول منه؟

ـ لا

ـ إني أعرض عليك آية ، وأنهي إليك خطابا ، ولا أحسبك إلا وقد فسرته على غير وجهه ، فان كنت فعلت ذلك فقد هلكت ، وأهلكت.

٨١

ـ ما هو؟

ـ أرأيت حيث يقول الله : ( وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ ، سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ) (١) بلغني أنك أفتيت الناس فقلت : هي مكة.

قال الحسن البصري : بلى.

وأخذ الامام يستدل على ما ذهب إليه في تفسير الآية حتى بهت الحسن البصري وحار في الجواب ، ثم نهاه عن القول بالتفويض وبين فساده (٢).

٢ ـ الرد على الحسن البصري

ودخل عثمان الأعمى على الامام أبي جعفر (ع) فعرض عليه رأيا للحسن البصري زعم فيه أن الذين يكتمون العلم تؤذي ريح بطونهم النار فأنكر عليه الامام (ع) وقال : فهلك إذن مؤمن آل فرعون ، والله مدحه بذلك ، وما زال العلم مكتوما منذ بعث الله عز وجل نوحا ، فليذهب الحسن يمينا وشمالا ، فو الله ما يوجد العلم إلا هاهنا ـ وأومأ إلى صدره الشريف ـ (٣).

٣ ـ مع عمرو بن عبيد

وعمرو بن عبيد هو شيخ المعتزلة وزعيمها الروحي الكبير الذي حظي

__________________

(١) سورة سبأ : آية ١٩

(٢) الاحتجاج ٢ / ٦٢ ـ ٦٣

(٣) التفسير والمفسرون ٢ / ٣٣ ، احتجاج الطبرسي ٢ / ٦

٨٢

باكبار المنصور الدوانيقي وتعظيمه له (١) ، التقى بالامام أبي جعفر (ع) وكان قد قصد امتحانه واختباره فوجه له السؤال التالي :

جعلت فداك ، ما معنى قوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) (٢).

قال (ع) : كانت السماء رتقا لا تنزل القطر ، وكانت الأرض فتقا لا تخرج النبات ».

وأفحم عمرو ولم يطق جوابا وخرج من المجلس ثم عاد إليه ، وقال للامام :

جعلت فداك ، أخبرني عن قوله تعالى : ( وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى ) (٣) ما معنى غضب الله؟

قال (ع) : غضب الله عقابه ، ومن قال : إن الله يغيره شيء فقد كفر (٤)

المرجئة :

وظهرت المرجئة على الصعيد الاسلامي في العصر الأموي ، وقد لعبت

__________________

(١) من مظاهر اكبار المنصور لعمرو أنه مر على قبره فصلى عليه ودعا له وأنشد :

صلى الاله عليك من متوسد

قبرا مررت به على مران

قبرا تضمن مؤمنا متخشعا

عبد الاله ودان بالقرآن

وإذا الرجال تنازعوا في شبهة

فصل الحديث بحجة وبيان

ولو أن هذا الدهر أبقى صالحا

أبقى لنا عمروا أبا عثمان

ويقول ابن خلكان : إنه لم يسمع بخليفة يرثي من دونه سواه ، جاء ذلك في وفيات الأعيان ١ / ٥٤٨ ، وفي المنية والأمل ( ص ٢٤ )

(٢) سورة الأنبياء : آية ٣٠

(٣) سورة طه : آية ٨١

(٤) روضة الواعظين ١ / ١٤٤

٨٣

دورا خطيرا في مسرح الأحداث السياسية في تلك العصور ، وساهمت مساهمة إيجابية في تدعيم الحكم الأموي والدفاع عنه ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر في شئونها وبيان موقف الامام أبي جعفر (ع) منها وفيما يلي ذلك :

١ ـ معني المرجئة

واختلف البحاث في معنى المرجئة ، وذلك لاختلافهم في فهم المادة التي اشتقّ منها وفيما يلي بعض الأقوال :

أ ـ ويرى بعضهم أن كلمة المرجئة مأخوذة من ( أرجأ ) بمعنى أمهل وأخر وقد سموا بالمرجئة لأنهم يرجئون أمر الذين اختلفوا وتنازعوا في الخلافة إلى يوم القيامة ، ولا يقضون بحكم على أحد منهم (١).

ب ـ وذهب بعضهم إلى أن المرجئة اشتقت من « أرجأ » بمعنى بعث الرجاء وذلك لأنهم لم يقضوا على مرتكب الكبيرة بأنه من أهل النار أو من أهل الجنة وإنما أخروا الحكم عليه إلى يوم القيامة ، فهم بهذا يعطون الرجاء في المغفرة ، ويرجون لكل مسلم المغفرة من الله (٢).

ج ـ وقيل إنهم إنما سموا بذلك لأنهم ذهبوا إلى أن الايمان تصديق بالقلب واللسان ، ويؤخرون العمل فان المؤمنين ـ في اعتقادهم ـ وإن لم يصلوا ويصوموا ينجيهم الله بايمانهم القلبي ، فهم بهذا يقدمون القول ويرجئون العمل (٣).

__________________

(١) الفرق الاسلامية في العصر الأموي ( ص ٢٦٤ )

(٢) نقد العلم والعلماء ( ص ١٠٢ )

(٣) تاج العروس مادة رجا

٨٤

ويرجح أحمد أمين الرأي الأول (١) ويذهب ينكلسون إلى الرأي الثاني (٢)

نشاة المرجئة :

وأكبر الظن أن المرجئة قد نشأت بايعاز ودعم من الحكم الأموي فهو الذي جهد على نشر أفكارها وإذاعتها بين الناس لأنها حكمت بمشروعية خلافتهم ، وتركت الحكم فيما اقترفوه من الاحداث الجسام إلى الله فهو الذي يحكم بين عباده بالحق يوم القيامة ، وليس لأحد أن يلج أو يخوض في أعمالهم أو يحكم عليهم بشيء.

لقد نشأت المرجئة نشأة سياسية ، وكان اعلامها أداة طيعة بأيدي الحكام والملوك سواء أكانوا من بني أمية أم من بني العباس ، يقول المأمون : الأرجاء دين الملوك (٣) ولم يقفوا موقف المعارضة أمام الأحداث الهائلة التي صدرت من ملوك الأمويين ، وهي لا تتفق مع واقع الاسلام وجوهره يقول شوقي ضيف :

« إن أفكار المرجئة تخدم البيت الأموي الذي كان في رأي الشيعة وكثير من الأتقياء منحرفا عن الجادة الدينية ، وينبغي أن يغيره المسلمون ويضعوا مكانه البيت العلوي ، والمرجئة لم يكونوا يوافقونهم على هذا الرأي ، لأنهم لا يريدون المفاضلة بين المسلمين ، ولا الحكم على أحد بتقوى وغير تقوى ، فالمسلم يكفي أن يكون مسلما ، وليس من شأن

__________________

(١) فجر الاسلام ( ص ٢٧٩ )

(٢) الفرق الاسلامية في العصر الأموي ( ص ٢٦٥ )

(٣) تأريخ بغداد لطيفور ( ص ٨٦ )

٨٥

أحد أن يحكم على عمله .. » (١).

ويرى خدابخش « أن أصل المرجئة يرجع إلى ما كان من ضرورة استنباط وسيلة للعيش في وفاق مع الحكم الأموي » (٢).

لقد كانت المرجئة من أعوان السلطة الحاكمة في ذلك العصر وإحدى أجهزتها ، وقد قامت بدور إيجابي في دعم الحكم الأموي وتبرير سياسته القائمة على الظلم والجور.

الشيعة والمرجئة :

وكانت هناك منافرة شديدة بين الشيعة والمرجئة ، وسبب ذلك يرجع إلى اختلافهما في الخلافة فالشيعة ترى أن الامام بعد النبي (ص) مباشرة هو الامام أمير المؤمنين (ع) وترى أن الحكم الأموي غير شرعي ، ويجب القضاء عليه بينما ترى المرجئة أن حكومة الأمويين مشروعة ، ولا يدينون بالثورة عليهم ، وكان بين الطائفتين صراع حاد ، فكانت الشيعة تغيظ المرجئة بذكرها لعلي (ع) في أنديتها ومجالسها ، وفي ذلك يقول أحد شعراء الشيعة :

إذا المرجي سرك أن تراه

يموت بدائه من قبل موته

فجدد عنده ذكرى علي

وصل على النبي وآل بيته (٣)

وقد عابت الشيعة على المرجئة حكمها بتقديم الخلفاء على الامام أمير

__________________

(١) التطور والتجديد في الشعر الأموي ( ص ٥٠ )

(٢) مقدمة لكريمر الحضارة الاسلامية ( ص ١٩ )

(٣) البيان والتبيين ( ٢ / ١٤٩ )

٨٦

المؤمنين (ع) واعتبرت ذلك من ضحالة الفكر ، وقد رد على الشيعة محارب بن دثار الذهلي أحد أعلام المرجئة وأئمتهم بقوله :

يعيب علي أقوام سفاها

بأن أرجو أبا حسن عليا

وارجائي أبا حسن صواب

عن العمران برا أو شقيا

فان قدمت قوما قال قوم :

أسأت وكنت كذابا رديا

إذا أيقنت أن الله ربي

وأرسل أحمدا حقا نبيا

وان الرسل قد بعثوا بحق

وان الله كان لهم وليا

فليس علي في الأرجاء بأس

ولا لبس ولست أخاف شيا

(١) وقد رد منصور النمري شاعر الشيعة ولسانهم على محارب بأبيات هجاء ، وقد عاب عليه أن يرجئ عليا لأنه بذلك إنما يرجئ نبيا من أنبياء الله ، يقول :

يود محارب لو قد رآها

وأبصرهم حواليها جثيا

وان لسانه من ناب أفعى

وما أرجى أبا حسن عليا

وان عجوزه مصعت بكلب

وكان دماء ساقيها جريا

متى ترجى أبا حسن عليا

فقد أرجيت يا لكع نبيا

(٢) وتعرضت المرجئة لنقد الشيعة وسخريتها ، فقد هزأت من حكم المرجئة بارجاء الامام أمير المؤمنين والتسوية بينه وبين عثمان ومعاوية والخوارج يقول السيد الحميري :

خليلي لا ترجيا واعلما

بأن الهدى غير ما تزعمان

وان عمى الشك بعد اليقين

وضعف البصيرة بعد العيان

__________________

(١) الأغاني ٧ / ١٠

(٢) الأغاني ٧ / ١٠ ـ ١١

٨٧

ضلال فلا تلججا فيهما

فبئست لعمر كما الخصلتان

أ يرجى على إمام الهدى

وعثمان ما أعند المرجيان

ويرجى ابن حرب وأشياعه

وهوج الخوارج بالنهروان

يكون إمامهم في المعاد

خبيث الهوى مؤمن الشيصان (١)

لقد فندت الشيعة أفكار المرجئة التي فيها خروج عن المنطق والدليل

مزاعم كريمر :

وذهب كريمر إلى أن هناك صلة بين مبادئ المرجئة وبين تعاليم الكنيسة الشرقية ، ويدلل على ذلك بما تذهب إليه المرجئة من عدم تخليد العصاة في النار ، وهذا ما تقول به آباء الكنيسة الشرقية مخالفين بذلك الكنيسة الغربية ، كما يرى أن إيمان المرجئة الهادئ الذي يغلب عليه الانشراح وتعزية النفس يتفق كل الاتفاق مع تعاليم يوحنا الدمشقي الذي كان وقت ظهور هذه الطائفة يشتغل بالأبحاث الدينية ، ويتمتع بشهرة كبيرة في عاصمة الخلفاء الأمويين ويؤكد في النهاية أن آراء المرجئة ترجع في أصلها وشكلها إلى فلسفة الكنيسة الإغريقية الدينية (٢).

أما هذا الرأي فضعيف جدا لأن البحوث الكلامية قد ازدهرت في وقت مبكر في الاسلام وليس أي بحث منها قد أخذ من المسيحية أو غيرها ، يقول الدكتور يوسف خليف : « والرأي عندي أن الارجاء كالزهد ليس مسيحي النشأة والنزعة ، وإنما نشأ نشأة إسلامية ، واتجه

__________________

(١) الأغاني ٧ / ١٥.

(٢) الحضارة الاسلامية / ٦٥.

٨٨

اتّجاها إسلاميا ، وليس في هذا ما يمنع أنه تأثر بالمسيحية ، وأخذ عنها بعض اتّجاهاتها ، ولكنه صبغته صبغة إسلامية واضحة متميزة » (١).

تحديد الايمان :

وذهبت المرجئة إلى أن الايمان هو التصديق بالقلب ولا عبرة بالاقرار بالقول ولا بالعمل ، فان آمن الانسان بقلبه فهو مؤمن مسلم ، ولا يتوقف ذلك على صلاته وصومه وحجه ، فلا عبرة بهذه الطقوس الدينية ، وقد خالفوا بذلك المعتزلة الذين يرون أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمنا ولا كافرا وإنما هو في منزلة بين المنزلتين ، كما خالفوا الخوارج الذين يرون أن مرتكب الكبيرة كافر ، وقد اشتهرت كلمتهم أنه لا تضر مع الايمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة (٢) وقد نتج من هذا أنهم لا يحكمون بالكفر على النصارى واليهود مراعاة لهم ومجاراة لعواطفهم فقد امتلأ بهم البلاط الأموي ، وشغلوا المناصب العالية في الدولة الأموية (٣)

الامام مع عمرو الماصر :

وكان عمرو بن قيس الماصر ممن يذهب إلى الأرجاء ، وقد قصد مع

__________________

(١) حياة الشعر في الكوفة ( ص ٣١٢ ).

(٢) خطط المقريزي ٤ / ١٧١.

(٣) الفرق الاسلامية في العصر الأموي ( ص ٣٠٥ ).

٨٩

زميل له ، الامام أبا جعفر (ع) فانبرى عمرو إلى الامام قائلا :

« إنا لا نخرج أهل دعوتنا ، وأهل ملتنا من الايمان في المعاصي والذنوب » فرد عليه الامام مزاعمه الفاسدة قائلا :

( يا ابن قيس أما رسول الله (ص) فقد قال ، « لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يسرق السارق وهو مؤمن » فاذهب أنت وأصحابك حيث شئت ) (١)

إن ما ذهبت إليه المرجئة في تحديد الايمان يتنافى مع ما أثر عن النبي (ص) من أن الزاني لا يقترف جريمة الزنا ، وهو مؤمن بربه ودينه ، وإنما تصدر هذه الجريمة ممن لا عهد له بالايمان ، وكذلك السارق لا يسرق وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ، وإنما يقدم عليها من انسلخت عن نفسه جميع أفانين التقوى .. إن الايمان قوة رادعة للنفس تصونها من ارتكاب الذنوب ، وإن من يقترفها لم يكن له أي عهد بواقع الايمان.

ابو حنيفة والارجاء :

وتنص بعض المصادر على أن أبا حنيفة كان ممن يعتنق الارجاء ، وإن مدرسته الدينية كانت تقوم على أساس الارجاء (٢) وقال محمد بن عمرو : سمعت أبا مسهر يقول : كان أبو حنيفة رأس المرجئة ، وقال عمر بن سعيد : سمعت جدي يقول : قلت لأبي يوسف : أكان أبو حنيفة مرجئا؟

ـ نعم

__________________

(١) تفسير فاتحة الكتاب للأميني ( ص ١٦٤ ).

(٢) مقالات الاسلاميين ١ / ٢٠٢ ، الملل والنحل ١ / ٢٧٦ ، الاعلاق النفسية ( ص ٢٢٠ )

٩٠

ـ أكان جهميا؟

ـ نعم

ـ فأين أنت منه؟

ـ إنما كان أبو حنيفة مدرسا ، فما كان من قوله حسنا قبلناه وما كان من قوله قبيحا تركناه (١)

وقد سببت هذه التهمة الكثير من الطعون عليه ، وشنت عليه بعض الأوساط الحاكمة عدة حملات تشهير لاذعة ، ولكن لم يتبين لنا بصورة مؤكدة صحة هذه النسبة.

الخوارج :

الخوارج من أقدم الفرق الثورية التي ظهرت على مسرح الحياة السياسية في الاسلام ، فقد نشأت حينما تفللت قوى معاوية وبان عليه الانكسار ، وهمّ بالهزيمة فالتجأ إلى رفع المصاحف مطالبا تحكيم القرآن ، وانخدعت هذه الزمرة التي لا تملك أي وعي سياسي أو اجتماعي بذلك فخفوا إلى الامام يلحون عليه أن يجيب إلى ما يحكم به الكتاب العظيم فعرفهم الامام أنها خديعة حربية ، وإن القوم لا يدينون بالكتاب ، ولا يرجون لله وقارا ، فلم ينصاعوا لرأيه ، وأجمعوا على خلعه أو إيقاف العمليات الحربية ، وشهروا سيوفهم في وجهه ، في حين أن طلائع جيشه بقيادة الزعيم الكبير مالك الأشتر قد أشرفت على الفتح ، ولم يبق لالقاء القبض على الذئب الجاهلي معاوية بن أبي سفيان سوى حلبة شاة أو أقل

__________________

(١) تأريخ بغداد ١٣ / ٣٧٥.

٩١

من ذلك حسبما يقول مالك الأشتر وكادت الفتنة أن تقع ويمنى الامام بانقلاب عسكري مدمر يقضى فيه على الاسلام ، فاستجاب (ع) لإيقاف الحرب ، وكتبت بذلك وثيقة التحكيم التي لم تحو أن عليا أمير المؤمنين واستبان لأولئك الأغبياء أنهم على ضلال مبين وأنهم قد خدعوا برفع المصاحف ، فنفروا من التحكيم ونقموا عليه وانطلقوا إلى الامام يطالبونه بإعلان التوبة ، والمضي في الحرب ، ولم يرتض منهم الامام هذا المنطق الهزيل ، إذ كيف ينقض ما عاهد عليه القوم من إيقاف القتال ، وكيف يتوب عن ذنب لم يقترفه ، وإنما هم الذين اقترفوه ، وأخذوا يضايقونه ، ويشاغبون عليه وهم يهتفون :

« لا حكم إلا لله »

وقد أصبحت هذه الكلمة شعارهم الرسمي ، وكان الامام (ع) يقول :

إنها كلمة حق أريد بها باطل ، فقد كان الحكم عندهم للسيف لا لله ، فأشاعوا القتل بين المسلمين بغير حق ، ونشروا الفساد في الأرض ، وقد حاججهم الامام وأقام سيلا من الأدلة على فساد ما ذهبوا إليه ، فلم ينفع ذلك معهم وأصروا على الغي والعدوان ، فاضطر الامام إلى مناجزتهم فكانت حرب النهروان التي أبيد فيها معظمهم ، وقد صحبوا معهم العار والخزي ، فقد سفكت دماؤهم ، وهم في ضلال مبين ، وقد نقم عليهم المسلمون وهجاهم الشعراء ، يقول الكميت :

إني أدين بما دان الوصي به

يوم النخيلة من قتل المحلينا

وبالذي دان يوم النهر دنت به

وشاركت كفه كفي بصفينا

تلك الدماء معا يا رب في عنقي

ومثلها فاسقني آمين آمينا (١)

__________________

(١) تهذيب الكامل ١ / ٨٦.

٩٢

لقد أريقت دماؤهم في محاربة الحق وإحياء الباطل. ومناهضة الاسلام يقول السيد الحميري :

خوارج فارقوه بنهروان

على تحكيمه الحسن الجميل

على تحكيمه فعموا وصموا

كتاب الله في فم جبرئيل

فمالوا جانبا وبغوا عليه

فما مالوا هناك إلى مميل

فتاه القوم في ظلم حيارى

عماة يعمهون بلا دليل

فضلوا كالسوائم يوم عيد

تنحر بالغداة وبالأصيل

كأن الطير حولهم نصارى

عكوفا حول صلبان الأصيل (١)

لقد اجتث الامام أمير المؤمنين (ع) في واقعة النهروان أصولهم ، وقضى على إعلامهم إلا أنه فر منهم جماعة فأخذوا ينشرون مبادئهم التي تدعو إلى العصيان المسلح على الحكم القائم ، وقد شهدت منهم البلاد الاسلامية عدة ثورات دموية أزهقت فيها الأنفس. وسفكت فيها الدماء بغير حق ، ذكرها المؤرخون بالتفصيل.

آراؤهم الدينية :

وانفردت الخوارج عن بقية المسلمين بآرائهم التي شذت عن كتاب الله وسنة نبيه ، ومن بين آرائهم :

أولا ـ الحكم بالكفر على الإمام علي (ع) ومعاوية والحكمين عمرو ابن العاص ، وأبي موسى الأشعري ، وأصحاب الجمل من عائشة وطلحة والزبير.

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ / ٢٧١ ـ ٣٧٢.

٩٣

ثانيا ـ تكفير مرتكب الذنوب الكبيرة ، والحكم بتخليده في النار.

ثالثا ـ جواز أن تكون الخلافة في غير قريش ، وخالفوا بذلك جمهور أهل السنة الذين أجمعوا على أن الخلافة في قريش ، كما قالوا إن الامامة لا تكون بالنص والتعيين وخالفوا بذلك الشيعة الذين قالوا بالنص ، كما ذهبوا إلى جواز أن لا يكون في العالم إمام أصلا وإن احتيج إليه فيجوز أن يكون عبدا أو حرا أو قبطيا أو غيرهم (١) ولهم آراء أخرى ذكرتها كتب الفرق وغيرها.

الامام الباقر مع نافع :

ووفد نافع الأزرق وهو من أعلام الخوارج على الامام أبي جعفر (ع) فأخذ يسأله عن بعض المسائل الدينية ، والامام (ع) يجيبه عنها ، وبعد ما فرغ من أسئلته قال له الامام :

قل لهذه المارقة بم استحللتم فراق أمير المؤمنين (ع) وقد سفكتم دماءكم بين يديه في طاعته ، والقربة إلى الله في نصرته؟ وسيقولون لك : إنه قد حكم في دين الله ، فقل لهم : قد حكم الله في شريعة نبيه رجلين من خلقه فقال : ( فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ ، وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما ) (٢) وحكم رسول الله (ص) سعد بن معاذ في بني قريضة فحكم فيهم بما أمضاه الله عز وجل ، أو ما علمتم أن أمير المؤمنين (ع) إنما أمر الحكمين أن يحكما بالقرآن ، ولا يتعديا ،

__________________

(١) الملل والنحل ١ / ١٥٨.

(٢) سورة النساء : آية ٣٥.

٩٤

واشترط رد ما خالف القرآن من أحكام الرجال ، وقال : حين قالوا له : قد حكمت على نفسك ، من حكم عليك فقال : ما حكمت مخلوقا ، وإنما حكمت كتاب الله ، فاين تجد المارقة تضليل من أمر الحكمين بالقرآن واشترط رد ما خالفه لو لا ارتكابهم في بدعتهم البهتان ».

وبهر نافع بهذا الكلام المشرق ، وطفق يقول :

« هذا والله كلام ما مر بسمعي قط ، ولا خطر ببالي ، وهو الحق إن شاء الله » (١).

وللامام أبي جعفر (ع) احتجاجات أخرى مع الخوارج تتعلق بالتوحيد سنذكر بعضها عند البحث عن الموجات الالحادية التي غزت المسلمين في ذلك العصر.

الشيعة :

أريد أن أتحدث عن الشيعة حديثا أخلص فيه للحق مهما استطعت إليه سبيلا ، أريد أن ألتزم جانب الحياد فأبرز ما تلتزم به هذه الطائفة في إطارها العقائدي ، فقد أاهمت في غير إنصاف باتهامات رخيصة لا مبرر لها ولا واقع لها بل وتبرأ منها ، وفيما يلي ذلك.

معنى الشيعة :

الشيعة : ـ في اللغة ـ هم الاتباع والأنصار ، وغلب هذا الاسم على

__________________

(١) روضة الواعظين ١ / ٢٤٥.

٩٥

كل من يدين للامام علي (ع) وأهل بيته بالولاية حتى صار هذا الاسم خاصا بهم (١) قال الشيخ المفيد : « التشيع في أصل اللغة : هو الاتباع على وجه التدين والولاء للمتبوع على الاخلاص ، قال الله عز وجل : « فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه » (٢) ففرق بينهما في الولاية والعداوة ، وجعل موجب التشيع لأحدهما هو الولاء بصريح الذكر له في الكلام .. فأما إذا أدخل فيه علامة التعريف بأن يقال : الشيعة ـ فهو على التخصيص لا محالة لاتباع أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله بلا فصل ، ونفي الامامة عمن تقدمه في مقام الخلافة ، وجعله في الاعتقاد متبوعا له غير تابع لأحد منهم على وجه الاقتداء » (٣).

لقد أصبح اسم الشيعة علما لكل من قال بالنص على إمامة أمير المؤمنين وخلافته من بعد النبي (ص) مباشرة فقد أجمعوا على أنه (ص) قد عهد إليه بالخلافة ، ونصبه علما لامته ، وقائدا لمسيرتها وهاديا لها إلى سواء السبيل.

نشأة التشيع :

والشيء المحقق أن النبي (ص) هو الذي غرس بذرة التشيع ، وتعهدها ونماها فقد خاطب عليا فقال له : « يا علي أنت وشيعتك تردون علي

__________________

(١) تاج العروس ٥ / ٤٠٥.

(٢) سورة القصص : آية ١٥.

(٣) أوائل المقالات ص ٢ ـ ٤.

٩٦

الحوض ظماء مقمحين » (١).

يقول الامام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء : « إن أول من وضع بذرة التشيع في حقل الاسلام هو نفس صاحب الشريعة الاسلامية يعني أن بذرة التشيع وضعت مع بذرة الاسلام جنبا إلى جنب ، وسواء بسواء » (٢) ويقول النوبختي : « فأول الفرق الشيعة ، وهم فرقة علي ابن أبي طالب ، المسمون شيعة علي في زمان النبي (ص) وبعده ، معروفون بانقطاعهم إليه ، والقول بامامته » (٣) وذهب إلى ذلك الشيخ محمد الحسين المظفر يقول : إن الدعوة إلى التشيع ابتدئت من اليوم الذي هتف فيه المنقذ الأعظم محمد صلوات الله عليه صارخا بكلمة لا إله إلا الله ، فانه لما نزل عليه قوله ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) جمع بني هاشم وأنذرهم قائلا : أيكم يؤازرني ليكون أخي ووارثي ووصيي وخليفتي فيكم بعدي؟ فلما لم يجبه إلى ما أراد غير المرتضى قال لهم الرسول : هذا أخي ووارثي ووزيري ووصيي وخليفتي فيكم بعدي فاسمعوا له وأطيعوا ... فكانت الدعوة إلى التشيع لأبي الحسن من صاحب الرسالة تمشي معه جنبا لجنب مع الدعوة للشهادتين ، ومن ثم كان أبو ذر الغفاري من شيعة علي (ع) .. وينقل عن محمد كرد علي صاحب خطط الشام (٤) قوله : عرف جماعة من كبار الصحابة بمولاة علي في عصر رسول الله مثل سلمان الفارسي القائل : بايعنا رسول الله (ص) على النصح للمسلمين ، والائتمام

__________________

(١) مجمع الزوائد ٩ / ١٣١ كنوز الحقائق ( ص ١٨٨ ) ، الاستيعاب ٢ / ٤٥٧

(٢) اصل الشيعة واصولها ( ص ٧٧ ) ط التاسعة المكتبة الحيدرية.

(٣) فرق الشيعة ( ص ١٥ ).

(٤) خطط الشام ٥ / ٢٥١.

٩٧

بعلي بن أبي طالب (ع) والموالاة له ، ومثل أبي سعيد الخدري القائل : أمر الناس بخمس فعلوا أربعا ، وتركوا واحدة ، ولما سئل عن الأربع قال : الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان ، والحج ، قيل فما الواحدة التي تركوها؟ قال : ولاية علي بن أبي طالب » (١).

لقد نشأت الشيعة في عهد الرسول الأعظم (ص) فهو الذي وضع قواعدها وأسس أصولها ، وذلك في ترشيحه للامام أمير المؤمنين (ع) خليفة من بعده ، وعلما لأمته ، أما الأدلة على ذلك فهي متوفرة ونلمح إلى بعضها :

أولا ـ إن النبي (ص) صاحب رسالة ودعوة فقد جاء محررا ومنقذا للعالم بأسره ، وقد جاهد كأعظم ما يكون الجهاد في أداء رسالة ربه فخاض الأهوال ، وخاض الحروب ، وعانى من الاضطهاد ما لم يعانه أي مصلح اجتماعي في الأرض ، فكيف يترك الأمر فوضى من بعده ويهمل شئون الخلافة التي تتوقف عليها مصير أمته؟ إن من المؤكد أنه (ص) قد أولى هذه الجهة المزيد من اهتمامه ، فأقام الامام أمير المؤمنين (ع) علما لأمته وذلك حرصا عليها من الاختلاف والفرقة ، وضمانا لمصالحها ، وحفظا على استمرار رسالته في أداء فعالياتها المشرقة إلى الناس.

ثانيا ـ إن ما تتطلبه القيادة للأمة من النزعات الخيرة ، والصفات الفاضلة قد توفرت على الوجه الأكمل في الامام أمير المؤمنين (ع) فهو أعلم الناس بشئون الرسالة الاسلامية ، وأدرى بفلسفتها ودقائقها ومحتوياتها ، فهو باب مدينة علم النبي (ص) وأقضى أمته حسبما تواترت النصوص بذلك كما أنه من أزهد الناس فقد زهد في جميع رغبات الحياة ، وطلق دنياه

__________________

(١) تأريخ الشيعة ( ص ٩ ).

٩٨

ثلاثا ، فلم يضع لبنة على لبنة ، ولم يتخذ من غنائمها وفرا ، كما كان (ع) من أعدل الناس فالقريب والبعيد عنده سواء ، والعزيز عنده ذليل حتى يأخذ منه الحق ، والذليل عنده عزيز ، وقضايا عدله من الأمور التي يعتز بها الاسلام ، ويفخر بها المسلمون فلم يؤثر عن حاكم مثله في عدله ومساواته بين الرعية.

ومع توفر الصفات الكاملة في الامام ، وعدم توفرها في غيره كيف لا ينتخبه النبي (ص) قائدا لأمته يهديها إلى سواء السبيل ويرشدها إلى معالم الحياة الرفيعة.

ثالثا ـ إنه قد أثرت عن النبي (ص) مجموعة ضخمة من الأخبار قد أجمع المسلمون على روايتها والاعتراف بصحتها في حق الامام أمير المؤمنين (ع) كحديث الطائر المشوي ، وحديث المنزلة ، وحديث الغدير وحديث الثقلين وحديث السفينة ، وغيرها من الأحاديث التي تشيد بفضل أبي الحسين (ع) وتبرز قيمه ومواهبه ، والمتأمل فيها يطل على الغاية المنشودة للرسول (ص) من تعيينه للامام خليفة من بعده وقائدا لمسيرة أمته.

رابعا ـ امتناع الامام عن بيعة أبي بكر ، وتخلف خيار الصحابة عن بيعته كأبي ذر وعمار بن ياسر ، وسلمان الفارسي وخالد بن سعيد وغيرهم من أعلام الاسلام واحتجاجهم على أبي بكر بأن عليا أولى منه بمقام رسول الله (ص) ، يقول خالد بن سعيد للامام : « هلم أبايعك فو الله ما في الناس أحد أولى بمقام محمد منك » (١).

ونقمت بضعة الرسول (ص) وسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء على أبي بكر لاحتلاله مركز الامام أمير المؤمنين (ع) ومقامه ، وقد خطبت

__________________

(١) تأريخ اليعقوبي ٢ / ١٠٥.

٩٩

خطبتها الشهيرة التي دعت فيها إلى الثورة على حكومة أبي بكر ، وهي سلام الله عليها لو لم تعلم أن أباها قد عقد الامامة للامام علي (ع) ونصبه خليفة من بعده لما قامت بذلك ، ويقول المؤرخون إنها أوصت الامام أن يدفنها في غلس الليل البهيم وأن لا يحضر جنازتها أبو بكر وعمر كل ذلك مما يدلل على أن نشأة التشيع كانت في عهد الرسول (ص).

خامسا ـ إن وصاية الامام (ع) عن النبي (ص) كانت شائعة في الأوساط الاسلامية في العصر الأول ، يقول الصحابي العظيم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين في يوم الجمل مخاطبا للامام :

يا وصي النبي قد أجلت الحر

ب الاعادي وسارت الأظعان

وقال مخاطبا عائشة :

أعائش خلي عن علي وعيبه

بما ليس فيه إنما أنت والده

وصي رسول الله من دون أهله

وأنت على ما كان من ذاك شاهده

وقال عبد الرحمن بن جعيل حينما بايع الناس أمير المؤمنين بعد مقتل عثمان :

لعمري لقد بايعتم ذا حفيظة

على الدين معروف العفاف موفقا

عليا وصي المصطفى وابن عمه

وأول من صلى أخا الدين والتقى

وقال عبد الله بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب مفتخرا بالامام :

ومنا علي ذاك صاحب خيبر

وصاحب بدر يوم سالت كتائبه

وصي النبي المصطفى وابن عمه

فمن ذا يدانيه ومن ذا يقاربه

وقال الشهيد العظيم حجر بن عدي الكندي يوم الجمل :

يا ربنا سلم لنا عليا

سلم لنا المبارك المضيا

المؤمن الموحد التقيا

لا خطل الرأي ولا غويا

١٠٠