حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل

باقر شريف القرشي

حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦
الجزء ١ الجزء ٢

١

٢

المقدمة

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تقديم

[١]

وليس من نافلة القول ، ولا من الغلو في شيء إن قلنا إن الامام أبا جعفر كان من أبرز رجال الفكر ، ومن ألمع أئمة المسلمين ، فقد كان الرائد والقائد للحركة الثقافية والعلمية التي عملت على تنمية العقل العربي والاسلامي وأضاءت الجوانب الكثيرة من التشريعات الاسلامية الواعية التي تمثل الابداع والأصالة والتطور في عالم التشريع ... أما ما يدعم ذلك فقد ألمحنا إليه في الحلقة الأولى من هذا الكتاب من المعارف والعلوم التي فتق أبوابها ، وسائر الحكم والآداب التي أثرت عنه وهي مما يهتدي بها الحيران ، ويأوي إليها الظمآن ، ويسترشد بها كل من يفيء إلى كلمة الله ... لقد كانت حكمه وآدابه الخالدة من أبرز ما أثر عن أئمة المسلمين في هذا المجال فهي مما تملأ الفكر وعيا ، والقلب إيمانا والنفس ثقة وصفاء.

[٢]

والشيء المحقق ان هذه البحوث على ما فيها من استيعاب وشمول لم تلم بجميع جوانب حياة الامام أبي جعفر (ع) ولا تحكي واقعه المشرق فان هذه الدعوى لا تتفق مع الواقع الذي نخلص إليه ، وإنما تلقي أضواء أو مؤشرات على بعض معالم شخصيته ، فقد كان هذا الامام العظيم باقر علوم الأولين والآخرين وانه أثرى شخصية في سعة علومه ومعارفه ، وقد

٥

كان باجماع المؤرخين ممن خطط لهذه الأمة مسيرتها الثقافية الواعية وقد ذاع ذلك بين الناس ، وضربت به الأمثال ، يقول السيد الرفاعي : « وكانت مدة إمامته يختلف إليه الخاص والعام ، يأخذون عنه معالم دينهم حتى صار في الناس تضرب به الأمثال » (١).

لقد كان هذا الامام العظيم من أهم المراكز العليا للوعي الثقافي والعلمي بين المسلمين وكانت داره جامعة للعلوم والمعارف ، فتتلمذ على يده كبار فقهاء المسلمين وعلمائهم مما يعتبر عاملا جوهريا في ازدهار الحركة العلمية ، وتطور الفكر الاسلامي في عالم الابداع والانتاج.

واني أقول : ـ بالتأكيد ـ إن هذا الكتاب بجزئيه لا يعطي إلا صورة موجزة عن حياة الامام أبي جعفر (ع) الملهم الأول لقضايا الفكر والعلم في الاسلام.

[٣]

أما بحوث هذا الكتاب فقد ألمحنا إليها في تقديم الجزء الأول منه ، ولا ضرورة في إعادة القول فيها لأن ذلك من التكرار الممل الذي لا نريده للقراء ... وإني في نهاية هذا التقديم أرى من الحق علي أن أذكر بالوفاء والعرفان ما تفضل به سماحة الاستاذ حجة الاسلام الشيخ حسين الخليفة من المساهمة في الانفاق على هذا الكتاب ، كما أكرر الشكر إلى ولدنا الفاضل السيد عبد الرسول السيد رضا الصائغ على ما تفضل به من المساهمة في طبع هذا الكتاب ، سائلا منه تعالى أن يتولى جزاءهم جميعا أنه تعالى ولي ذلك والقادر عليه.

النجف الأشرف

باقر شريف القرشي

__________________

(١) صحاح الأخبار ( ص ٤١ ).

٦

ملوك تافهون

٧
٨

أما البحث عن ملوك الأمويين الذين عاصرهم الامام فيعد من ضروريات البحث المنهجي حسب الدراسات الحديثة لأنه يصور الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية في ذلك العصر الذي هو من أشد العصور الاسلامية حساسية ، فقد ابتلي فيه المؤمنون وارهقوا ارهاقا شديدا.

لقد كان الامام أبو جعفر (ع) في غضون الصبا ، فانقرضت دولة بني سفيان التي أسسها معاوية ، وانتهت بهلاك ولده يزيد الذي جهد على إذلال المسلمين وإرغامهم على ما يكرهون ، وقد كانت أيامه من أحلك الليالي التي مرت على العالم الاسلامي فقد عانوا ألوانا مرهقة من الأحداث والخطوب أغرقتهم في المآسي والآلام.

وقد تشكلت بعد سقوط دولة بني سفيان دولة بني مروان ونحن نلمح إلى ذكر سيرة ملوكهم الذين عاصرهم الامام وما أثر عنهم من صنوف السياسة من دون أن نتحيز أو نشذ عن الحق الذي أخلصنا له ، وكان أول ملوك بني مروان هو :

مروان بن الحكم :

وآلت الخلافة الاسلامية التي هي مركز العدل في الاسلام إلى الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم صاحب الأحداث والموبقات في الاسلام ، ويجمع الرواة على أنه لم تكن فيه أية نزعة كريمة ، أو صفة فاضلة حتى يستحق هذا المنصب العظيم ، وإنما كان عدوا لله ، وعدوا لرسوله ، وعدوا للمسلمين ونلمح ـ بايجاز ـ إلى بعض شئونه وأحواله.

٩

١ ـ لعن النبي له :

ولعن النبي (ص) مروان بن الحكم وهو في صلب أبيه حسب رواية عائشة فقد قالت بعد حديث لها : « ولكن رسول الله لعن أبا مروان ، ومروان في صلبه ، فمروان فضض من لعنة الله » (١) وقال عبد الله بن الزبير وهو يطوف بالكعبة : « ورب هذه البنية للعن رسول الله (ص) الحكم وما ولد » (٢)

ويقول الرواة : انه كان لا يولد لأحد ولد في يثرب إلا أتى به إلى النبي (ص) فلما ولد مروان جيء به إليه ، فقال (ص) : هو الوزغ ابن الوزغ ، الملعون ابن الملعون (٣) ومر الحكم بن أبي العاص على النبي (ص) فقال : « ويل لأمتي مما في صلب هذا » (٤) لقد استشف النبي (ص) من وراء الغيب أن مروان مصدر خطر على أمته فلعنه ، وحذر المسلمين من قربه والاتصال به.

٢ ـ نفي أبيه من يثرب :

وكان الحكم بن أبي العاص من أحقد الناس على رسول الله (ص)

__________________

(١) تفسير القرطبي ١٦ / ١٩٧ ، تفسير الرازي ٧ / ٤٩١ ، اسد الغابة ٢ / ٣٤.

(٢) كنز العمال ٦ / ٩٠.

(٣) مستدرك الحاكم ٤ / ٤٧٩.

(٤) اسد الغابة ٢ / ٣٤ ، الاصابة ١ / ٣٤٦ ، السيرة الحلبية ١ / ٣٣٧.

١٠

وأكثرهم عداوة وايذاءا له شأنه شأن أبي لهب (١) وكان يسخر من النبي (ص) فكان يمر خلفه فيغمز به ، ويحكيه ، ويخلج بأنفه وفمه ، وإذا صلى قام خلفه فأشار بأصابعه (٢) وبصر به النبي (ص) ، فدعا عليه وقال : اللهم اجعل به وزغا (٣) فرجف مكانه ، وارتعش (٤) وبلغ من تأثر النبي (ص) منه أن أمر بنفيه من يثرب ، وقال : من غذيري من هذا الوزغ اللعين ، لا يساكنني ولا ولده ، ونزح إلى الطائف ، وبقي مع أفراد عائلته فيه قابعين في زوايا الذل والخمول ، قد نهشهم الجوع والفقر ، وبقي منفيا في الطائف فلما توفي رسول الله (ص) خف عثمان إلى أبي بكر فسأله ردهم فأبى وقال : ما كنت لآوي طرداء رسول الله (ص) ، ولما استخلف عمر كلمه عثمان في شأنهم فقال : مثل قول أبي بكر ، ولما آلت الخلافة إلى عثمان أرجعهم إلى يثرب (٥) ووهبهم الثراء العريض وجعلهم وزراءه وحاشيته.

٣ ـ في أيام عثمان :

وحينما ولي عثمان أمور المسلمين قرب مروان بن الحكم فجعله وزيره ومستشاره الخاص ، وكانت أمور الدولة كلها بيد مروان وكان عثمان بيده

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ٢٥.

(٢) انساب الأشراف ٥ / ٢٧.

(٣) الوزغ : الارتعاش والرعدة.

(٤) الفائق ٢ / ٣٠٥ ، السيرة الحلبية ١ / ٣٣٧.

(٥) انساب الأشراف ٥ / ٦٧.

١١

كالميت بيد الغاسل ، لا إرادة له ولا اختيار.

وقد وهبه الأموال الكثيرة حتى أنكر عليه خازن بيت المال زيد بن أرقم فألقى عليه المفاتيح وبكى فقال له عثمان أتبكي ان وصلت رحمي فقال له ابن أرقم : لا ولكن أبكي لأني أظنك أخذت هذا المال عوضا عما كنت انفقته في سبيل الله في حياة رسول الله (ص) لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا ، فقال : الق المفاتيح يا ابن أرقم فانا سنجد غيرك (١) ووهب عثمان إلى مروان مائة ألف وخمسين أوقية (٢) لا نعلم أنها ذهب أو فضة.

وهذه إلهيات مما أوغرت صدور المسلمين على عثمان ، وأطاحت بحكومته.

نزعاته وصفاته :

أما نزعات مروان وصفاته فهي كما يلي :

أ ـ إنه كان حسودا ، يقول مالك بن هبيرة السكوني : إلى الحصين ابن نمير والله لئن استخلف مروان ليحسدك على سوطك وشراك نعلك ، وظل شجرة تستظل بها (٣).

ب ـ ومن صفاته التي عرف بها الضحالة في الفكر والرأي فهو الذي أجهز على عثمان ويقول المؤرخون : انه حينما أحاط بعثمان الثوار طالبين

__________________

(١) شرح النهج ١ / ٦٧.

(٢) السيرة الحلبية ٢ / ٨٧.

(٣) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٣٣٧.

١٢

منه الاستقالة من الحكم أو ابعاد الأمويين عنه ، فخرج إليهم مروان ، وقال لهم : شاهت الوجوه ذلا جئتم لنهبنا ، فأثارت هذه الكلمات العواطف واشعلت نار الحرب ، وأودت بحياة عثمان ولو كانت عنده صبابة من الفكر والرأي لما كلم الثوار بذلك.

ج ـ من ذاتيات مروان التنكر للمعروف والاحسان فقد أسدى عليه الامامان الحسن والحسين (ع) معروفا كبيرا ، وأنقذاه من الموت في حرب الجمل ، فقد تشفعا به عند الامام أمير المؤمنين (ع) فشفعهما فيه إلا أنه قابل إحسانهما بالاساءة إليهما فقد منع جنازة الامام الحسن (ع) أن توارى بجوار رسول الله (ص) ولما دعا الوليد الامام الحسين (ع) إلى بيعة يزيد أشار عليه مروان بقتله إن امتنع عن البيعة ويقول المؤرخون انه أظهر الشماتة والحقد حينما قتل الامام الحسين (ع).

د ـ ومن مظاهر صفات مروان الغدر ، ونكث العهد ، فقد بايع الامام أمير المؤمنين (ع) ثم غدر ونكث بيعته ، وخرج عليه يقول (ع) فيه لما قال له الحسنان (ع) : في مبايعته : « لا حاجة في بيعته انها كف يهودية لو بايعني بيده لغدر بسبابته ».

ه ـ ومن صفاته البارزة اندفاعه في الباطل وانطلاقه في كل دعوة ضلال ، فقد انضم إلى حزب عائشة ، وانهزم إلى معاوية وبايعه وقد لقب « خيط باطل » لدقته وطوله شبه بالخيط ، وفيه يقول الشاعر :

لعمرك ما أدري واني لسائل

حليلة مضروب القفا كيف يصنع

لحى الله قوما أمروا خيط باطل

على الناس يعطي ما يشاء ويمنع

(١) وظل هذا اللقب سمة عار على أبنائه ، وفي ذلك يقول يحيى بن سعيد

__________________

(١) أسد الغابة ٤ / ٣٤٨.

١٣

يهجو عبد الملك الذي قتل عمرو بن سعيد الأشرق :

غدرتم بعمرو يا بني خيط باطل

ومثلكم يبني البيوت على الغدر

(١) هذه بعض صفاته ونزعاته ، وهي تصور لنا انسانا ممسوخا لم يعرف الخير ، ولا المعروف ، ولم يصنع في حياته سوى الباطل وما يضر الناس.

ولعه بسب أمير المؤمنين :

وكان مروان ولعا بسب الامام أمير المؤمنين (ع) فكان يسبه على المنبر في كل جمعة حينما كان واليا على المدينة ، وكان الامام الحسن (ع) يعلم ذلك فيسكت ولا يدخل المسجد إلا عند الاقامة ، فلم يرض بذلك مروان فأرسل إلى الحسن في بيته بالسب له ولأبيه ، وكان من جملة ما قاله : ما وجدت مثلك إلا مثل البغلة يقال لها : من أبوك فتقول : أبي الفرس ، فقال الامام الحسن (ع) لرسوله « ارجع إليه فقل له : والله لا أمحو عنك شيئا مما قلت : بأني أسبك ، ولكن موعدي وموعدك الله ، فان كنت كاذبا فالله أشد نقمة ، وقد أكرم جدي أن يكون مثلي مثل البغلة » (٢).

وليس غريبا أن يعلن مروان سب الامام أمير المؤمنين رائد الحق والحكمة في الأرض ، فانه لا يسبه ولا يبغضه إلا أمثال مروان من الذين لا عهد لهم بالشرف والانسانية.

__________________

(١) أنساب الاشراف ٥ / ١٤٤.

(٢) تطهير الجنان المطبوع على هامش الصواعق ص ١٤٢.

١٤

خلافته :

وتقلد الخلافة سنة ( ٦٤ ه‍ ) (١) بعد أن تنازل عنها رسميا معاوية ابن يزيد فارا بدينه عن حكم ورثه عن أبيه بغير حق ، لقد فر من ذلك الحكم الذي لم يقم إلا بحد السيف ، والتبذير بأموال المسلمين ، والنكاية بهم وقد فضح جده وأباه في خطابه الرائع الذي أعلن فيه استقالته من الحكم وقد جاء فيه :

« إن جدي معاوية نازع الأمر من كان أولى به لقرابته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقديمه وسابقته أعظم المهاجرين قدرا ، وأولهم إيمانا ، ابن عم رسول الله (ص) وزوج ابنته ، جعله لها بعلا باختياره لها ، وجعلها له زوجة باختيارها له ، فهما بقية رسول الله (ص) خاتم النبيين ، فركب جدي منه ما تعلمون ، وركبتم معه ما لا تجهلون (٢) الأمر فكان غير أهل لذلك ، وركب هواه ، وأخلفه الأمل ، وقصر عنه الأجل ، وصار في قبره بذنوبه ، وأسيرا بجرمه.

ثم بكى وقال : إن من أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه ، وبئس منقلبه وقد قتل عترة رسول الله (ص) وأباح الحرم وخرب الكعبة » (٣).

وقد تهدم بذلك ملك آل أبي سفيان على يد معاوية بن يزيد الذي

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٣٢٨.

(٢) جواهر المطالب في مناقب الامام علي بن أبي طالب ( ص ١٣٣ ).

(٣) النجوم الزاهرة ١ / ١٦٤.

١٥

هو أنبل أموي عرفه التأريخ.

ويقول المؤرخون : إنه تبرأ من أبيه ، ونظم ذلك في بيتين من الشعر وهما :

يا ليت لي بيزيد حين أنتسب

أبا سواه وان أزرى بي النسب

برئت من فعله والله يشهد لي

إني برئت وذا في الله قد يجب

وعلى أي حال فان مروان لم يكن يحلم بالخلافة ، وقد كان عازما ومصمما على البيعة لابن الزبير إلا أن عبيد الله بن زياد منعه عن ذلك (١) وقد رشحه للخلافة الحصين فقد زعم أنه رأى في منامه أن قنديلا معلق في السماء وان من يلي الخلافة يتناوله فلم يتناوله أحد إلا مروان (٢) وقص ذلك على أهل الشام فاستجابوا له وانبرى روح بن زنباع فخطب في أهل الشام قائلا :

« يا أهل الشام هذا مروان بن الحكم شيخ قريش ، والطالب بدم عثمان ، والمقاتل لعلي بن أبي طالب يوم الجمل ، ويوم صفين ، فبايعوا الكبير ... » (٣).

وتسابق الغوغاء إلى مبايعة مروان ، وهو أول خليفة للدولة المروانية التي عانى المسلمون في ظلالها الجور والفقر والحرمان.

وفاته :

ولم تطل خلافة مروان ، فقد كانت كلعقة الكلب أنفه ـ على حد تعبير

__________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٣١.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٣٢٧.

(٣) تأريخ اليعقوبي ٣ / ٣.

١٦

الامام أمير المؤمنين (ع) ـ (١) أما سبب وفاته فتعزوه بعض المصادر إلى زوجته أم خالد بن يزيد بن معاوية لأنه عيره بها حسبما يقول بعض المؤرخين (٢) وقد انطوت بموته صفحة من صفحات الخيانة والباطل والاثم.

عبد الملك بن مروان :

بويع له بالخلافة في حياة أبيه ، ولما هلك أبوه جددت له البيعة بدمشق ومصر (٣) ويقول المؤرخون : إنه كان قبل أن يتقلد الخلافة يظهر النسك والعبادة ، فلما بشر بالملك كان بيده المصحف الكريم فأطبقه وقال : هذا آخر العهد بك ، أو قال : هذا فراق بيني وبينك (٤) وصدق فيما قال : فقد فارق كتاب الله وسنة نبيه منذ اللحظة الأولى التي تقلد فيها الحكم ، فقد أثرت عنه من الأعمال ما باعدت بينه وبين الاسلام والقرآن ونلمح إلى بعض شئونه وأحواله.

صفاته :

ولم تتوفر في عبد الملك أية نزعة شريفة أو صفة كريمة كأبيه مروان فقد كان ـ فيما أجمع عليه المؤرخون ـ قد اتصف بأخس الصفات وأحطها ومن بينها :

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٢ / ٥٣.

(٢) تأريخ اليعقوبي ٣ / ٤.

(٣) تأريخ ابن كثير ٨ / ٢٦٠.

(٤) تأريخ ابن كثير ٨ / ٢٦٠.

١٧

١ ـ الجبروت :

كان عبد الملك طاغية جبارا ، ويقول فيه المنصور : كان عبد الملك جبارا لا يبالي ما صنع (١) وكان فاتكا لا يعرف الرحمة والعدل ، وقد قال : في خطبته بعد قتله لابن الزبير : لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه (٢) لقد تخلى عن ذكر الله ، وأمن مكره ، وعقابه ، وهو أول من نهى عن الكلام بحضرة الخلفاء (٣).

٢ ـ الغدر :

وظاهرة اخرى من صفاته التي عرف بها وهي الغدر ، ونكث العهد فقد أعطى الأمان لعمرو بن سعيد الأشدق على أن تكون الخلافة له من بعده إلا أنه خان بعهده فغدر به ، وقتله ورمى برأسه إلى أصحابه (٤) ولم يرع وشيجة النسب التي تربطه مع عمرو ، فلم يعن بها ودفعه حب الملك والسلطان إلى الغدر به ويقول بعض الشعراء في ذلك :

يا قوم لا تغلبوا عن رأيكم فلقد

جربتم الغدر من أبناء مروانا

أمسوا وقد قتلوا عمروا وما رشدوا

يدعون غدرا بعهد الله كيسانا

__________________

(١) النزاع والتخاصم للمقريزي ( ص ٨ ).

(٢) تأريخ الخلفاء للسيوطي ( ص ٢١٩ ).

(٣) تأريخ الخلفاء ( ص ٢١٨ ).

(٤) تأريخ اليعقوبي ٣ / ١٦.

١٨

ويقتلون الرجال الذل ضاحية

لكي يولوا أمور الناس ولدانا

تلاعبوا بكتاب الله فاتخذوا

هواهم في معاصي الله قرآنا (١)

لقد خاف عبد الملك من الأشدق ، ولو كان حيا لأتخذ التدابير في القضاء على حكم بني مروان ولكن الله قد انتقم منه لأنه كان جبارا قد أسرف في اراقة دماء المسلمين وأشاع فيهم الخوف والرعب.

٣ ـ القسوة والجفاء :

من الصفات البارزة في عبد الملك القسوة والجفاء فقد انعدمت من نفسه الرحمة والرأفة ، فكان فيما يقول المؤرخون : قد بالغ باراقة الدماء وسفكها بغير حق ، وقد اعترف بذلك ، فقد قالت له أم الدرداء : بلغني أنك شربت الطلى ـ يعني الخمر ـ بعد العبادة والنسك ، فقال لها غير متأثم :

« اي والله والدماء شربتها » (٢).

وقد نشر الشكل والحزن والحداد في بيوت المسلمين أيام حكمه الرهيب فقد خطب في يثرب بعد قتله لابن الزبير خطابا قاسيا أعرب فيه عما يحمله في قرارة نفسه من القسوة والسوء قائلا :

« إني لا اداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم .. » (٣).

__________________

(١) تأريخ الخلفاء للسيوطي ( ص ٢١٨ ).

(٢) تأريخ الطبري

(٣) تأريخ ابن كثير ٩ / ٦٤.

١٩

وما كان مثل ذلك الضمير المتحجر الذي ران عليه الباطل أن يعي الرحمة والرفق بالمسلمين ، وإنما كان يعي القتل وسفك الدماء ، والتنكيل بالناس بغير حق.

٤ ـ البخل :

ومن ذاتيات عبد الملك البخل فكان يسمى ( رشح الحجارة ) لشدة شحه وبخله (١) وقد عانت الأمة في أيام حكمه الجوع والفقر والحرمان هذه بعض صفات عبد الملك ، وذاتياته ، وهي تنم عن انسان لا عهد له بالمثل والقيم الكريمة.

نقله الحج إلى بيت المقدس :

وخاف عبد الملك أن يتصل ابن الزبير بأهل الشام فيفسدهم عليه فمنعهم من الحج ، فقالوا له : أتمنعنا من الحج وهو فريضة فرضها الله ، فقال قال ابن شهاب الزهري يروى عن رسول الله (ص) انه قال : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي ، ومسجد بيت المقدس.

وصرفهم بذلك عن الحج إلى بيت الله الحرام ، وصيره إلى بيت المقدس وقد استغل الصخرة التي فيه ، وقد روى فيها أن رسول الله (ص) قد وضع قدمه عليها حين صعوده إلى السماء فأقامها لهم مقام الكعبة فبنى

__________________

(١) تأريخ القضاعي ( ص ٧٢ ).

٢٠