حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل

باقر شريف القرشي

حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦
الجزء ١ الجزء ٢

ولما انتهيا إلى دمشق حجبهما ثلاثة أيام ، ولم يسمح لهما بمقابلته استهانة بهما ، وفي اليوم الرابع أذن لهما في مقابلته ، وكان مجلسه مكتظا بالأمويين وسائر حاشيته ، وقد نصب ندماؤه برحاصا وأشياخ بني أمية يرمونه ، يقول الامام الصادق (ع) : فلما دخلنا ، كان أبي أمامي وأنا خلفه فنادى هشام :

« يا محمد ارم مع أشياخ قومك .. ».

فقال أبي : « قد كبرت عن الرمي ، فان رأيت أن تعفيني .. ». فصاح هشام : « وحق من أعزنا بدينه ، ونبيه محمد (ص) لا أعفيك .. » وظن الطاغية أن الامام سوف يخفق في رمايته فيتخذ ذلك وسيلة للحط من شأنه أمام الغوغاء من أهل الشام ، وأومأ إلى شيخ من بني أمية أن يناول الامام (ع) قوسه ، فناوله ، وتناول معه سهما فوضعه في كبد القوس ، ورمى به الغرض فأصاب وسطه ، ثم تناول سهما فرمى به فشق السهم الأول الى نصله ، وتابع الامام الرمي حتى شق تسعة أسهم بعضها في جوف بعض ، ولم يحصل بعض ذلك إلى أعظم رام في العالم ، وجعل هشام ، يضطرب من الغيظ وورم أنفه ، فلم يتمالك أن صاح :

« يا أبا جعفر أنت أرمى العرب والعجم!! وزعمت أنك قد كبرت!! » ثم أدركته الندامة على تقريظه للامام ، فأطرق برأسه إلى الأرض والامام واقف ، ولما طال وقوفه غضب (ع) وبان ذلك على سحنات وجهه الشريف وكان إذا غضب نظر إلى السماء ، ولما بصر هشام غضب الامام قام إليه واعتنقه ، وأجلسه عن يمينه ، وأقبل عليه بوجهه قائلا :

« يا محمد لا تزال العرب والعجم تسودها قريش ، ما دام فيها مثلك لله درك!! من علمك هذا الرمي؟ وفي كم تعلمته؟ أيرمي جعفر

٦١

مثل رميك؟ .. ».

فقال أبو جعفر (ع) : « إنا لحن نتوارث الكمال ».

وثار الطاغية ، واحمر وجهه ، وهو يتميز من الغيظ. وأطرق برأسه إلى الأرض ، ثم رفع رأسه ، وراح يقول :

« ألسنا بنو عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد؟ .. ».

ورد عليه الامام مزاعمه قائلا :

« نحن كذلك ، ولكن الله اختصنا من مكنون سره ، وخالص علمه بما لم يخص به أحدا غيرنا .. ».

وطفق هشام قائلا :

أليس الله بعث محمدا (ص) من شجرة عبد مناف إلى الناس كافة أبيضها وأسودها وأحمرها ، فمن أين ورثتم ما ليس لغيركم؟ ورسول الله مبعوث إلى الناس كافة ، وذلك قول الله عز وجل : ( وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) فمن أين ورثتم هذا العلم؟ وليس بعد محمد نبي ، ولا أنتم أنبياء .. ».

ورد عليه الامام ببالغ الحجة قائلا :

« من قوله تعالى لنبيه : ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) فالذي لم يحرك به لسانه لغيرنا أمره الله تعالى أن يخصنا به من دون غيرنا ، فلذلك كان يناجي أخاه عليا من دون أصحابه ، وأنزل الله به قرآنا في قوله : ( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) فقال رسول الله (ص) : سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي ، فلذلك قال علي : علمني رسول الله (ص) ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب ، خصه به النبي (ص) من مكنون سره ، كما خص الله نبيه ، وعلمه ما لم يخص به أحدا من قومه ، حتى

٦٢

صار إلينا فتوارثناه من دون أهلنا .. » والتاع هشام ، فالتفت إلى الامام وهو غضبان قائلا :

« إن عليا كان يدري علم الغيب؟ والله لم يطلع على غيبه أحدا ، فمن أين ادعى ذلك؟ .. ».

وأجابه الامام (ع) بالواقع المشرق من جوانب حياة الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام قائلا :

« إن الله أنزل على نبيه كتابا بين دفتيه فيه ما كان ، وما يكون إلى يوم القيامة في قوله تعالى : ( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) وفي قوله تعالى : ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) وفي قوله تعالى : ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) وفي قوله : « وما من آية في السماء والأرض آية إلا في كتاب مبين » وأوحى الله إلى نبيه أن لا يبقي في عيبة سره ، ومكنون علمه شيئا إلا يناجي به عليا ، فأمره أن يؤلف القرآن من بعده ، ويتولى غسله وتحنيطه من دون قومه ، وقال لاصحابه : حرام على أصحابي وقومي أن ينظروا إلى عورتي غير أخي علي ، فانه مني ، وأنا منه ، له ما لي ، وعليه ما علي ، وهو قاضي ديني ، ومنجز موعدي ، ثم قال لاصحابه : علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ، ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وعامه إلا عند علي ، ولذلك قال رسول الله (ص) : « أقضاكم علي » أي هو قاضيكم ، وقال عمر بن الخطاب : لو لا علي لهلك عمر ، يشهد له عمر ويجحده غيره .. ».

وأطرق هشام برأسه إلى الأرض ، ولم يجد منفذا يسلك فيه للرد على الامام ، فقال له :

« سل حاجتك .. ».

٦٣

قال الامام (ع) : « خلفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي .. ».

قال هشام : آنس الله وحشتهم برجوعك إليهم ، فلا تقم وسر من يومك .. » (١).

وهذه الرواية لم تشر إلى ما جرى على الامام من الاعتقال في دمشق ، كما أن الرواية الأولى قد أهملت جميع ما جاء في الرواية الثانية.

الامام مع قسيس :

ولما كان الامام أبو جعفر (ع) في الشام التقى مع قسيس من كبار علماء النصارى وجرت بينهما مناظرة اعترف القسيس بعجزه ، وعدم استطاعته على محاججة الامام ومناظرته ، وهذا نصها : قال أبو بصير : قال أبو جعفر (ع) : مررت بالشام ، وأنا متوجه إلى بعض خلفاء بني أمية فاذا قوم يمرون ، فقلت : أين تريدون؟ قالوا : إلى عالم لم نر مثله ، يخبرنا بمصلحة شأننا ، قال (ع) : فتبعتهم حتى دخلوا بهوا عظيما فيه خلق كثير ، فلم ألبث أن خرج شيخ كبير متوكّئ على رجلين ، قد سقطت حاجباه على عينيه ، وقد شدهما فلما استقر به المجلس نظر إلي وقال :

ـ منا أنت أم من الامة المرحومة؟

ـ من الأمة المرحومة.

ـ أمن علمائها أم من جهالها؟

ـ لست من جهالها.

__________________

(١) ضياء العالمين الجزء الثاني ، دلائل الامامة ( ص ١٠٤ ـ ١٠٦ ).

٦٤

ـ أنتم الذين تزعمون أنكم تذهبون إلى الجنة فتأكلون وتشربون ، ولا تحدثون؟!

ـ نعم.

ـ هات على هذا برهانا.

ـ نعم الجنين يأكل في بطن أمه من طعامها ، ويشرب من شرابها ، ولا يحدث.

ـ ألست زعمت أنك لست من علمائها؟

ـ قلت : لست من جهالها.

ـ اخبرني عن ساعة ليست من النهار ، ولا من الليل؟

ـ هذه ساعة من طلوع الشمس ، لا نعدها من ليلها ، ولا من نهارنا وفيها تفيق المرضى.

وبهر القسيس ، وراح يقول للامام :

ـ ألست زعمت أنك لست من علمائها.

ـ إنما قلت : لست من جهالها.

ـ والله لأسألنك عن مسألة ترتطم فيها.

ـ هات ما عندك.

ـ اخبرني عن رجلين ولدا في ساعة واحدة ، وماتا في ساعة واحدة؟

عاش أحدهما مائة وخمسين سنة ، وعاش الآخر خمسين سنة؟

ـ ذاك عزير وعزيرة ، عاش أحدهما خمسين عاما ، ثم أماته الله مائة عام ، فقيل له كم لبثت؟ قال : يوما أو بعض يوم ، وعاش الآخر مائة وخمسين عاما ، ثم ماتا جميعا.

وصاح القسيس بأصحابه ، والله لا أكلمكم ، ولا ترون لي وجها اثنى عشر شهرا (١) ، فقد توهم أنهم عمدوا إلى ادخال الامام أبي جعفر (ع)

__________________

(١) الدر النظيم ( ص ١٩٠ ) دلائل الامامة (١٠٦).

٦٥

عليه لافحامه وفضيحته ، ونهض الامام أبو جعفر (ع) وأخذت أندية الشام تتحدث عن وفور فضله ، وقدراته العلمية.

اغلاق الحوانيت بوجه الامام :

وأمر الطاغية بمغادرة الامام أبي جعفر (ع) دمشق خوفا أن يفتتن الناس به ، ويتبلور الرأي العام ضد بني أمية ، وقد أوعز إلى أسواق المدن والمحلات التجارية الواقعة في الطريق أن تغلق محلاتها بوجهه ، ولا تبيع عليه أية بضاعة ، وقد أراد بذلك هلاك الامام (ع) والقضاء عليه ، وسارت قافلة الامام (ع) وقد أضناها الجوع والعطش فاجتازت على بعض المدن فبادر أهلها إلى اغلاق محلاتهم بوجه الامام ، ولما رأى الامام ذلك صعد على جبل هناك ، ورفع صوته قائلا :

« يا أهل المدينة الظالم أهلها أنا بقية الله ، يقول الله تعالى : بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ، وما أنا عليكم بحفيظ » وما أنهى الامام هذه الكلمات حتى بادر شيخ من شيوخ المدينة فنادى أهل قريته قائلا :

« يا قوم هذه والله دعوة شعيب ، والله لئن لم تخرجوا إلى هذا الرجل بالأسواق لتؤخذن من فوقكم ، ومن تحت أرجلكم فصدقوني هذه المرة ، وأطيعوني ، وكذبوني فيما تستأنفون فاني ناصح لكم .. ».

وفزع أهل القرية فاستجابوا لدعوة الشيخ الذي نصحهم ، ففتحوا حوانيتهم واشترى الامام ما يريده من المتاع (١) وفسدت مكيدة الطاغية وما دبره للامام (ع) وقد انتهت إليه الأنباء بفشل مؤامرته ولم يقف عند هذا الحد فقد أخذ يبغي له الغوائل حتى دس إليه السم ، كما سنذكر ذلك في نهاية البحث عن الامام (ع) وبهذا ينتهي بنا المطاف عن الملوك الذين عاصرهم الامام أبو جعفر.

__________________

(١) المناقب ٤ / ٦٩٠ ، البحار ١١ / ٧٥.

٦٦

عصر الإمام

٦٧
٦٨

أما الحديث عن عصر الامام أبي جعفر (ع) وذكر الأحداث البارزة التي جرت فيه ، فانه ـ حسب الدراسات الحديثة ـ يعد من البحوث المنهجية التي لا غنى للباحث عنها ، فان دراسة العصر لها أشد التأثير في الكشف عن سلوك الشخص الذي يبحث عنه ، والوقوف على مكوناته الفكرية والاجتماعية ، فلم تكن اذن هذه الدراسة مما لا صلة لها بالموضوع وإنما هي داخلة في صميمه ، وجزء لا يتجزا منه.

لقد كان عصر الامام (ع) من أدق العصور الاسلامية ، وأكثرها حساسية فقد نشأت فيه الكثير من الفرق الاسلامية التي كانت من أخطر الظواهر الفكرية والاجتماعية في ذلك العصر ، كما تصارعت فيه الأحزاب السياسية كأشد ما يكون التصارع مما أدى إلى وقف المد الاسلامي ، والانحراف عن مجراه إلى مجرى آخر ليس فيه أي بصيص من النور والوعي.

وعلى أي حال فانا نبحث عن جميع مظاهر الحياة في ذلك العصر ، ولا نترك أي جانب منها ، وفيما يلي ذلك :

الفرق الاسلامية :

ونشأت في ذلك العصر كثير من الفرق الاسلامية ، وقد كان بعضها ـ فيما يقول المحققون ـ قد أنشئ بايعاز من الدولة الأموية أو بمساندتها لأسباب كان من أهمها مساندة الحكم الأموي ، وتبرير مواقفه واتجاهاته ، ونعرض ـ بايجاز ـ لدراسة بعض تلك الفرق رائدنا الاخلاص للحق مهما استطعنا إليه سبيلا.

٦٩

المعتزلة :

ولعبت المعتزلة دورا خطيرا في تاريخ الحياة الفكرية والاجتماعية في ذلك العصر ، وتركت آثارا بعيدة المدى في الحياة العقلية الاسلامية ، كان منها تأسيس القواعد الفكرية التي قام عليها ـ فيما بعد ـ علم الكلام السني (١) ويرى ( كولد زيهر ) أن رجال المعتزلة هم أول من أدخلوا النزعة العقلية في الاسلام وصانوها (٢). ولا بد لنا من وقفة قصيرة للبحث عن تأسيس الاعتزال ، ومبادئه ، وموقف الامام (ع) من قادته ، وغير ذلك فيما يتعلق بالموضوع.

تأسيس الاعتزال :

ويرى زهدي جار الله أن الاعتزال تأسس في بداية القرن الهجري الثاني في مدينة البصرة التي كانت مجمعا للعلم والأدب في الدولة الاسلامية (٣) ولكن التحقيق أن الاعتزال كفكرة سياسية كانت أسبق من ذلك الوقت فقد تأسست حينما بويع الامام أمير المؤمنين (ع) فاعتزل جماعة بيعته كسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، واسامة بن زيد ، ومحمد بن مسلمة الأنصاري ، فأطلق عليهم اسم المعتزلة ، كما أنهم لم يناصروا عليا

__________________

(١) الفلسفة الاسلامية ( ص ١٧٠ ).

(٢) العقيدة والشريعة في الاسلام ( ص ١٠٢ ).

(٣) المعتزلة ( ص ١ ).

٧٠

في معركة الجمل وصفين واعتزل الحرب الأحنف بن قيس فقال لقومه : « اعتزلوا الفتنة اصلح لكم » (١) فالاعتزال كفكرة سياسية ظهرت في ذلك الوقت ، أما أنها كمدرسة كلامية فقد ظهرت في أواخر القرن الأول الهجري.

الاعتزال والسياسة

إن الاعتزال بما يحمل من نزعات دينية ، ومناهج كلامية قد كان مساندا للحكم القائم في تلك العصور ، وقد عمل زعماؤه وأقطابه على مساندة السلطة وتبرير تصرفاتها السياسية ، فبالرغم مما كان يتظاهر به قادة الاعتزال من التقشف والزهد ، والنسك والعبادة فانهم كانوا من أجهزة الحكم القائم في تلك العصور ، أما ما يدعم ذلك فاقرارهم لامامة المفضول وجواز تقديمه على الفاضل ، وقد اتخذوا ذلك للقول بمشروعية خلافة الأمويين وغيرهم ممن تسلموا قيادة الحكم مع وجود من هو أعلم منهم بشئون الدين وأحكام الشريعة ، وقد نالوا بذلك التأييد المطلق من الأمويين واحترامهم وبعد انقلاب الحكم الأموي انضموا إلى الحكم العباسي فكانوا من أجهزته وأدواته ، وقد كان المنصور الدوانيقي على ما فيه من جفوة وقسوة ومعاداة للعلم والعلماء كان يكبر عمرو بن عبيد الزعيم الروحي للمعتزلة ، كما أن أحمد بن أبي دؤاد الزعيم الآخر للمعتزلة قد حظي بالاحترام والتبجيل من قبل ملوك بني العباس ، فقد قال فيه المعتصم : « هذا والله الذي يتزين بمثله ، ويبتهج بقربه ، ويعدل الوفا

__________________

(١) فرق الشيعة ( ص ٥ ).

٧١

من جنسه » (١) ومرض أحمد فعاده المعتصم ، وكان لا يعود أحدا من اخوته واجلاء أهله ، ولما قيل في ذلك أجاب « كيف لا أعود رجلا ما وقعت عيني عليه قط إلا ساق لي أجرا ، وأوجب إلي شكرا ، وأفادني فائدة تنفعني في ديني ودنياي » (٢).

ويميل كل من المستشرق الايطالي « نلينو » والمستشرق « نيسبوح » إلى أن منشأ الاعتزال كان من أصل سياسي (٣).

أما أحمد أمين فيقول : « إن جرأة المعتزلة في نقد الرجال هو بمثابة تأييد قوي للأمويين لأن نقد الخصوم ، ووضعهم موضع التحليل وتحكم العقل في الحكم لهم أو عليهم يزيل ـ على الأقل ـ فكرة تقديس علي التي كانت شائعة عند جماهير الناس » (٤).

وعلى أي حال فان الاعتزال قد حظي بتكريم الحكم الأموي والعباسي ولو كان بمعزل عن تأييد السياسة القائمة في ذلك الوقت لما ظفر قادته بذلك التكريم من ملوك الأمويين والعباسيين.

الاعتزال والمسيحية

وليس من المنطق في شيء اتّهام المعتزلة بأنهم قد تأثروا فكريا بالمسيحية وأن هناك تشابها قويا بين آراء المعتزلة التي غرس بذورها الحسن البصري

__________________

(١) مروج الذهب.

(٢) تأريخ بغداد ٤ / ١٤٨ ـ ١٥٠.

(٣) دراسات في الفرق والعقائد الاسلامية ( ص ١٠٦ ).

(٤) فجر الاسلام ( ص ٢٩٥ ).

٧٢

وبين آراء النساطرة الدينية المتأثرة بالفلسفة الاغريقية ، كما ذهب إلى ذلك ( دي بو ) يقول : إن هناك دلائل متفرقة على أن طائفة من المسلمين الأولين الذين قالوا : بالاختيار تتلمذوا لاساتذة مسيحين (١) وقد مال إلى ذلك الدكتور نعمان القاضي قال : وقد يعزو هذا ما قيل أن أول من تكلم في القدر نصراني من العراق وأسلم ثم عاد إلى نصرانيته وأخذ عنه معبد الجهني وعيلان الدمشقي ، وهما من مرجئة القدرية (٢) وليس فيما ذكره الدكتور القاضي حجة على ما ذهب إليه فان أول من تكلم في القدر أئمة أهل البيت (ع) وقد أوضحوه ودللوا على ما ذهبوا إليه ، وعلى تقدير أن أول من تكلم بالقدر نصراني من العراق فليس معناه أن المعتزلة قد تأثرت بآرائه ، فالحق ان الاعتزال بما يحمل من أفكار دينية وفلسفية فانه غير متأثر مطلقا بالمسيحية ولا هو عيال عليها.

الاصول الاعتقادية :

أما الأصول الاعتقادية العامة التي دانت بها للمعتزلة فهي خمسة مبادئ أساسية فمن اعتنقها ودان بها كان معتزليا ، ومن أنكر واحدا منها أو زاد عليها فقد فارق الاعتزال (٣) وهي :

١ ـ التوحيد :

وأقوى المبادئ الخمسة التي تجمع عليها المعتزلة هي التوحيد ، وقد

__________________

(١) تأريخ الفلسفة في الاسلام ( ص ٤٩ ).

(٢) الفرق الاسلامية في العصر الاموي ( ص ٢٩٠ ).

(٣) الفصل ٢ / ١١٣.

٧٣

فسروه بتنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين ، فهو ليس جسما ، ولا عرضا ولا جوهرا ، ولا يحويه زمان ولا مكان ، وردوا كل ما يتعارض مع وحدانية الله تعالى وأزليته فأنكروا أن يكون لله صفات غير ذاته (١) فقد قالوا : إن وجود صفات قديمة خارجة عن الذات يؤدي إلى أن يكون هناك شيء قديم أزلي غير ذاته وهذا يقتضي التعدد ، وهو مستحيل بالنسبة إليه تعالى (٢) وأولو الآيات التي تدل بظاهرها على التجسيم ، مثل قوله تعالى : ( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) وقد بسطوا القول في هذه الجهة ، واستدلوا عليها بأروع الأدلة وأوثقها.

٢ ـ العدل

وهذا هو الأصل الثاني من الأصول الأساسية لمذهبهم وهو العدل الالهي فليس الله بظلام للعبيد ، ولا بجائر عليهم ، وقد تشعب بحثهم في عدل الله تعالى إلى عدة بحوث كلامية ، منها نفي القدر ، واثبات حرية الانسان وارادته واختياره ، وان الانسان هو الذي يوجد أفعاله بمقتضى حريته واختياره وذلك نتيجة لعدالة الله وتنزهه عن الظلم ، فان الله تعالى لا يعاقب إنسانا على عمل أجبره عليه ووجهه إليه لأن من أعان فاعلا على فعله ثم عاقبه عليه كان جائرا وظالما له ، والظلم منفي عنه تعالى ( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) وقوله تعالى : ( فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ).

فالثواب والعقاب تابعان للعمل ، وليسا خاضعين إلى شيء آخر ، وقد

__________________

(١) الملل والنحل ١ / ٥٨.

(٢) الملل والنحل ١ / ٥٨.

٧٤

بحثوا في قضية عدل الله عن الحسن والقبح العقليين ، فانهم لما آمنوا بعدالة الله ، وانه تعالى لا يفعل إلا ما فيه الخير العام لعباده ، فقد دعاهم ذلك إلى النظر في الأعمال فهل هي حسنة لذاتها ، أم أنها تكتسب حسنها وقبحها بتوجيه من الشرع المقدس؟ وقد ذهبوا إلى أن الحسن والقبح في الأشياء ذاتيان ، وان الشرع لا يحسن الشيء بأمره ، وإنما يأمر به لحسنه ، وكذلك لا يقبح الشيء بنهيه ، وإنما ينهى عنه لقبحه وقد مجدوا بذلك العقل ، وفتحوا الطريق أمام نضجه وارتقائه ـ كما يقول بعض الباحثين (١).

٣ ـ الوعد والوعيد

هذا هو الأصل الثالث من أصولهم العقائدية ، ويراد به أن الله صادق في وعده ووعيده في يوم القيامة ، لا مبدل لكلماته ، وإن أهل الجنة يزفون إلى الجنة بأعمالهم ، وأهل النار يساقون إلى النار بأعمالهم ، ورتبوا على ذلك إنكار الشفاعة لأي أحد يوم القيامة (٢) وتجاهلوا الآيات والأخبار الواردة في ثبوتها.

٤ ـ المنزلة بين المنزلتين :

ويراد بهذا الأصل أن مرتكب الكبيرة لا مؤمن ، ولا كافر بل هو

__________________

(١) الفرق الاسلامية في الشعر الأموي ( ص ٣١٢ ).

(٢) المعتزلة ( ص ٥١ ـ ٥٢ ).

٧٥

فاسق ، فجعلوا الفسق منزلة ثالثة مستقلة عن الايمان والكفر واعتبروه وسطا بينهما ، وقد قرر ذلك واصل بقوله : « إن الايمان عبارة عن خصال خير إذا اجتمعت سمي المرء مؤمنا ، وهو اسم مدح ، والفاسق لم يستجمع خصال الخير ، ولا استحق اسم المدح فلا يسمى مؤمنا ، وليس هو بكافر مطلق أيضا لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه لا وجه لانكارها لكنه إذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير توبة فهو من أهل النار خالدا فيها » (١) وتابع عمرو بن عبيد واصلا في ذلك ، كما أن الحسن البصري قد تابعهما في هذا الرأي بعد أن كان مصرا على أن مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق (٢).

٥ ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وهو الأصل الخامس من الأصول الاعتقادية ، ويرون أن الواجب على كل مسلم العمل على إقامة المعروف وتحطيم المنكر فان استطاعوا فبالسيف ويسمى جهادا ، وإن لم يستطيعوا بالسيف فبما دونه فلا فرق عندهم بين مقاومة الكافرين والفاسقين (٣) إلا أن هذا المبدأ لم يستعملوه لمقاومة الحكم الأموي الذي تنكر للاسلام ، وعمل على إذلال المسلمين وارغامهم على ما يكرهون.

__________________

(١) الملل والنحل ١ / ٥٩. وجاء فيه أن عقاب الفاسق أخف من عقاب الكافر.

(٢) أمالي المرتضى ١ / ١١٥ ـ ١١٦.

(٣) المقالات ١ / ٢٧٨.

٧٦

هذه هي الأصول العامة للمعتزلة ، ويتفرغ عليها فروع كثيرة ذات أهمية علمية بالغة ، ذكرت في الكتب الكلامية.

الشيعة والمعتزلة

وذهب بعض المستشرقين إلى أن الشيعة اقتبست الكثير من مسائلها الكلامية من المعتزلة ، وإنهما معا يشكلان وحدة في الفكر ، والعقيدة وقد ذهب إلى ذلك ( كولدزيهر ) يقول : « استقر الاعتزال في مؤلفات الشيعة حتى في يومنا هذا ، ولذا فان من الخطأ الجسيم سواء من ناحية التأريخ الديني أو التأريخ الأدبي أن نزعم بأنه لم يبق للاعتزال أثر محسوس بعد الفوز الحاسم الذي نالته العقائد الأشعرية وعند الشيعة مؤلفات اعتقادية كثيرة يرجعون إليها وينسجون على منوالها ، وهي حجة قائمة تدحض هذا الزعم ، وتفنده ، ويمكن أن تعتبر كتب العقائد الشيعية كأنها مؤلفات المعتزلة » (١).

وممن ذهب إلى ذلك ( آدم متز ) يقول : « إن الشيعة في القرن الرابع الهجري لم يكن لهم مذهب كلامي خاص بهم ، فاقتبسوا من المعتزلة اصول الكلام وأساليبه حتى أن ابن بابويه القمي أكبر علماء الشيعة في القرن الرابع الهجري اتبع في كتابه « علل الشرائع » طريقة المعتزلة الذين كانوا يبحثون عن علل كل شيء ... إن الشيعة من حيث العقيدة والمذهب هم ورثة المعتزلة » (٢) وليس لهذا الرأي أية أصالة علمية فان الشيعة لم تكن بأي حال عيالا على أية فرقة اسلامية ، فقد أمدها أئمة أهل البيت (ع) بطاقات ثرية من البحوث الكلامية وغيرها ، فهم أول من فتق باب هذا العلم ، كما أنهم الرواد الأوائل للخوض في بحوث

__________________

(١) العقيدة والشريعة في الاسلام ( ص ٢٢٣ ).

(٢) دراسات في الفرق والعقائد الاسلامية ( ص ١١٥ ).

٧٧

التوحيد وغيره من المسائل الكلامية ، فنهج البلاغة للامام أمير المؤمنين (ع) ملئ بالخطب الرائعة التي أشادت بعظمة الخالق ونزهته عن صفات المخلوقين والصحيفة السجادية للامام الأعظم زين العابدين (ع) ثرية بهذه البحوث كما ان مما أثر عن أئمة الهدى (ع) من الاحتجاج في الرد على الدهريين وغيرهم من الملاحدة مما يثبت ـ بوضوح ـ سبق الشيعة في هذه البحوث ، فكيف تكون عيالا على المعتزلة؟ يقول الشيخ المفيد : « لسنا نعرف للشيعة فقيها متكلما على ما حكيت عنه من أخذ الكلام من المعتزلة وتلقينه الاحتجاج » (١).

ويقول الدكتور عرفان عبد الحميد :

« أما علماء الشيعة قديما وحديثا فقد أنكروا دعوى الاقتباس والتقليد وردوا على القائلين به ، وذلك في نظرنا أمر طبيعي منطقي لا بد منه ممن يعتنق مذهب الامامية القاضي بأن الهيكل العام للتعاليم الشيعية إنما قام على ما روي من أحاديث وأخبار عن الامام المعصوم ، فمنطوق المذهب يقضي بطرد كل احتمال للتأثير الخارجي لا بل وانكاره باعتبار أن المذهب الشيعي وحدة فكرية قائمة بذاتها مستمدة من تعاليم الامام » (٢).

المسائل المنفق عليها

واتفقت الشيعة والمعتزلة في بعض المسائل من الأصول الاعتقادية الخمسة

__________________

(١) أجوبة المسائل الصاغانية ( ورقة ١٤ ) من مخطوطات مكتبة السيد الحكيم العامة.

(٢) دراسات في الفرق والعقائد الاسلامية ( ص ١١٥ ).

٧٨

كالعدل الالهي ، يقول الامام كاشف الغطاء : « والذي يجمعها ـ أي المعتزلة ـ مع الشيعة قولهم : بأن من صفاته تعالى العدل الذي ينكره الاشاعرة وعلى هذا تبتنى مسألة الحسن والقبح العقليين التي تقول بها الامامية والمعتزلة وتنكرها الاشاعرة أيضا ، وبهذا الملاك يطلق على الفريقين اسم العدلية (١) هذه بعض المسائل التي اتفق عليها الشيعة والمعتزلة.

المسائل الخلافية

واختلفت الشيعة والمعتزلة اختلافا جوهريا في كثير من المسائل ومن بينها ما يلي :

١ ـ إمامة المفضول :

وذهبت المعتزلة إلى جواز إمامة المفضول ، وتقديمه على الفاضل في حين أن الشيعة قد أنكرت ذلك أشد الانكار ، واعتبرته خروجا عن المنطق وانحرافا عن القرآن الكريم الذي أعلن استنكاره للتساوي بينهما قال تعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) وترى الشيعة أن جميع الأزمات التي عانتها الأمة الاسلامية إنما كانت من جراء تقديم المفضول على الفاضل ، فان النبي (ص) قد رشح للخلافة أفضل أهل بيته وأصحابه الامام أمير المؤمنين (ع) وأخذ له البيعة في غدير خم ، ولكن الاطماع السياسية قد حدت بالقوم إلى اقصائه عن الخلافة وترشيح

__________________

(١) جنة المأوى (٢٣٢).

٧٩

غيره لها ، فكان لذلك من المضاعفات السيئة التي عانتها الأمة في جميع مراحل تأريخها.

وعلى أي حال فان هذه النقطة الحساسة هي من جملة الفوارق الجوهرية بين الشيعة والمعتزلة.

٢ ـ الشفاعة :

وأنكرت المعتزلة الشفاعة لأي أحد من أولياء الله ، وإن الانسان إنما يجازى بأعماله إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا ، ولا تنفعه شفاعة أي أحد وخالفت الشيعة في ذلك ، وذهبت إلى أن أولياء الله العظام كالأئمة الطاهرين لهم الشفاعة يوم القيامة ، وذلك لاظهار فضلهم وعظيم منزلتهم ومكانتهم عند الله ، وإذا لم تكن لهم الشفاعة فما هي الميزة لهم على غيرهم من الناس في ذلك اليوم.

هذه بعض الفوارق بين الشيعة والمعتزلة ، وقد جرت بين أعلام الشيعة وأعلام المعتزلة كثير من المناظرات الحادة ، وقد ذكرت فيها الفوارق الأساسية بين الطائفتين.

الامام الباقر مع قادة الاعتزال :

والتقى كبار قادة الاعتزال بالامام أبي جعفر ، وجرت بينهما مناظرات وفيما يلي بعضها :

٨٠