حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل

باقر شريف القرشي

حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦
الجزء ١ الجزء ٢

ظالما (١) وكان يغلب عليه اللحن ، وقد خطب في المسجد النبوي. فقال : يا أهل المدينة ـ بالضم ـ مع أن القاعدة تقتضي نصبه لأنه منادى مضاف.

وخطب يوما فقال : يا ليتها كانت القاضية ، وضم التاء فقال عمر بن عبد العزيز : عليك وأراحتنا منك (٢) وعاتبه أبوه على إلحانه ، وقال : إنه لا يلي العرب إلا من يحسن كلامهم ، فجمع أهل النحو ودخل بيتا فلم يخرج منه ستة اشهر ، ثم خرج منه ، وهو أجهل منه يوم دخل (٣).

وطعن عمر بن عبد العزيز في حكومته فقال : إنه ممن امتلأت الأرض به جورا (٤) ويقول المؤرخون : إنه كان كثير النكاح والطلاق يقال إنه تزوج ثلاثا وستين امرأة (٥) غير الإماء.

وهو الذي بنى مسجد دمشق الكبير المعروف بالجامع الأموي أنفق عليه نحو ستة ملايين دينار ذهبي من نقود زماننا (٦) ، كما زاد في مسجد النبي (ص) وزخرفه ، ونمقه ورصعه بالفسيفساء ، وأدخل فيه حجر أزواج النبي (ص) وسائر المنازل التي حوله (٧).

وفي عهد الوليد قتل الحجاج سعيد بن جبير صبرا وكان قتله من الأحداث الجسام التي روع بها العالم الاسلامي.

__________________

(١) تأريخ الخلفاء ( ص ٢٢٣ ).

(٢) تأريخ ابن الأثير ٤ / ١٣٨.

(٣) تأريخ ابن الأثير ٤ / ١٣٨.

(٤) تأريخ الخلفاء للسيوطي ( ص ٢٢٣ ).

(٥) الانافة في مآثر الخلافة ١ / ١٣٣.

(٦) الاعلام للزركلي ٩ / ١٤١.

(٧) الانافة في مآثر الخلافة ١ / ١٣٣.

٤١

وكانت مدة خلافته تسع سنين وسبعة أشهر ، توفى بدير مروان سنة ( ٩٦ ه‍ ) وكان عمره خمسا وأربعين سنة (١).

سليمان بن عبد الملك :

بويع له بعهد من أبيه بعد هلاك أخيه في جمادى الآخرة سنة ( ٩٦ ه‍ ) وقد نكل بآل الحجاج تنكيلا فظيعا ، وقد عهد بتعذيبهم إلى عبد الملك ابن المهلب (٢) وعزل جميع عمال الحجاج واطلق في يوم واحد من سجنه واحدا وثمانين ألفا ، وأمرهم أن يلحقوا بأهاليهم ، ووجد في السجن ثلاثين ألفا ممن لا ذنب لهم وثلاثين ألف امرأة (٣) وكانت هذه من مآثره وألطافه على الناس.

وكان مجحفا أشد الاجحاف في جباية الخراج فقد كتب إلى عامله على مصر اسامة بن زيد التنوخي رسالة جاء فيها « احلب الدر حتى ينقطع ، واحلب الدم حتى ينصرم » وقدم عليه اسامة بما جباه من الخراج ، وقال له : إني ما جئتك حتى نهكت الرعية ، وجهدت فان رأيت أن ترفق بها وترفه عليها ، وتخفف من خراجها ما تقوى به على عمارة بلادها فافعل فانه يستدرك ذلك في العام المقبل فصاح به سليمان :

« هبلتك أمك احلب الدر ، فاذا انقطع فاحلب الدم » (٤).

__________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٤ / ١٣٨.

(٢) تأريخ ابن الأثير ٤ / ١٣٨.

(٣) تأريخ ابن عساكر ٥ / ٨٠.

(٤) الجهشياري ( ص ٣٢ ).

٤٢

ودلت هذه البادرة على تجرده من الرحمة والرأفة على رعيته ، فقد أمات الحركة الاقتصادية ، وأشاع الفقر والبؤس في البلاد.

وفاته :

ويقول المؤرخون : إنه كان شديد الاعجاب بنفسه ، وقد لبس أفخر ثيابه وراح يقول : أنا الملك الشاب المهاب ، الكريم ، الوهاب ، وتمثلت أمامه احدى جواريه فقال لها :

« كيف ترين أمير المؤمنين؟!! ».

« أراه منى النفس ، وقرة العين ، لو لا ما قال الشاعر .. ».

« ما قال :؟ ».

« إنه قال : ».

أنت نعم المتاع لو كنت تبقى

غير أن لا بقاء للانسان

أنت من لا يريبنا منك شيء

علم الله غير أنك فان

ليس فيما بدا لنا منك عيب

يا سليمان غير أنك فان

فكانت هذه الأبيات كالصاعقة على رأسه ، فقد تبدد جبروته واعجابه بنفسه ، ويقول المؤرخون : انه لم يمكث إلا زمنا يسيرا حتى هلك (١) وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام ، وتوفى يوم الجمعة لعشر ليال بقين من صفر سنة ( ٩٩ ه‍ ) (٢).

__________________

(١) مروج الذهب ٣ / ١١٣.

(٢) تأريخ ابن الأثير ٤ / ١٥١.

٤٣

عمر بن عبد العزيز :

هو مفخرة البيت الأموي ، وسيد ملوكهم ، ونجيب بني أمية ـ كما يقول الامام أبو جعفر ـ (١) تقلد الخلافة بعهد من سليمان بن عبد الملك وذلك في يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة ( ٩٩ ه‍ ) (٢) ولمس الناس في عهده القصير الأمن ، والرفاه ، فقد أزال عنهم جور بني مروان وطغيانهم ، وكان محنكا ، وقد هذبته التجارب ، وقام على تكوينه عقل متزن ، وقد ساس المسلمين سياسة رشيدة لم يألفوها من قبله ، وكانت له ألطاف ، وأياد بيضاء على العلويين تذكر له بالخير على امتداد التأريخ ومن بينها :

رفع السب عن الامام علي :

وكانت الحكومة الأموية منذ تأسيسها قد تبنت بصورة ايجابية سب الامام أمير المؤمنين (ع) وانتقاصه ، وقد رأوا أن ذاك هو السبب في بقاء دولتهم وبقاء سلطانهم ، لأن مبادئ الامام (ع) وما أثر عنه من روائع صور العدل السياسي والاجتماعي تطاردهم وتفتح أبواب النضال الشعبي ضد سياستهم القائمة على الظلم والجور والطغيان.

وقد أدرك عمر بن عبد العزيز بوعيه ، وأصالة تفكيره أن السياسة

__________________

(١) تأريخ الخلفاء للسيوطي ( ص ٢٣٠ ).

(٢) نهاية الأرب ٢١ / ٣٥٥.

٤٤

التي انتهجها آباؤه ضد الامام (ع) لم تكن حكيمة ولا رشيدة ، فقد جرت للأمويين الكثير من المصاعب والمشاكل ، وألقتهم في شر عظيم ، فعزم على أن يمحو هذه الخطيئة ، فأصدر أوامره الحاسمة والمشرفة إلى جميع أنحاء العالم الاسلامي برفع السب عن الامام أمير المؤمنين (ع) وأن يقرأ عوض السب ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ) وقد علل هو السبب في تركه لما سنه آباؤه من انتقاص الامام يقول : كان أبي إذا خطب فنال من علي تلجلج ، فقلت : يا أبت إنك تمضي في خطبتك فاذا أتيت على ذكر علي عرفت منك تقصيرا ، قال : أو فطنت لذلك؟ قلت : نعم ، فقال : يا بني إن الذين حولنا لو يعلمون من علي ما نعلم تفرقوا عنا إلى أولاده ، فلما ولي الخلافة لم يكن عنده من الرغبة في الدنيا مثل أبطال سب الامام (١) وقد أثارت هذه المكرمة إعجاب الجميع ، وأخذ الناس يتحدثون عنه بأطيب الذكر ويذكرون شجاعته النادرة في مخالفته لسلفه ، وقد وفد عليه الشاعر الكبير كثير عزة ، فتلا عليه هذه الأبيات :

وليت فلم تشتم عليا ولم تخف

بريا ولم تتبع مقالة مجرم

تكلمت بالحق المبين وإنما

تبين آيات الهدى بالتكلم

وصدقت معروف الذي قلت بالذي

فعلت فأضحى راضيا كل مسلم

ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه

من الأود الباقي ثقاف المقوم

لقد لبست لبس الملوك ببابها

وأبدت لك الدنيا بكف ومعصم

وتومض أحيانا بعين مريضة

وتبسم عن مثل الجمان المنظم

فأعرضت عنها مشمئزا كأنما

سقتك مدوفا من سمام وعلقم

__________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٤٤ / ١٥٤.

٤٥

وقد كنت من أجيالها في ممنع

ومن بحرها في مزبد الموج منهم

وما زلت سباقا إلى كل غاية

صعدت بها أعلى البناء المقدم

فلما رآك الملك عفوا ولم يكن

لطالب دنيا بعده من تكلم

تركت الذي يفنى وان كان مونقا

وآثرت ما يبقى برأي مصمم

فاضررت بالفاني وشمرت للذي

أمامك في يوم من الهول مظلم

ومالك ان كنت الخليفة مانع

سوى الله من مال رغيب ولا دم

سما لك هم في الفؤاد مؤرق

صعدت به أعلى المعالي بسلم

فما بين شرق الأرض والغرب كلها

مناد ينادي من فصيح وأعجم

يقول أمير المؤمنين : ظلمتني

بأخذ لدينار ولا أخذ درهم

ولا بسط كف لامرئ ظالم له

ولا الفك منه ظالما ملء محجم

فلو يستطيع المسلمون تقسموا

لك الشطر من أعمارهم غير ندم

فعشت به ما حج لله راكب

مغذ مطيف بالمقام وزمزم

فاربح بها من صفقة لمبايع

واعظم بها ثم اعظم (١)

ولم يمدح أحد من ملوك بني أمية بمثل هذه الرائعة ، فقد رفعته إلى أفذاذ الخالدين ، وقد افتتحها بمكرمته في منع السب عن الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام ثم صور سياسته القائمة على الزهد والاحسان إلى الرعية ، وقد أحب المسلمون سياسته حتى انهم يتمنون أن يفدوه بأعمارهم ليطول عمره وتمتد حياته.

وعقب عمر على هذه الأبيات بقوله : أفلحنا اذن (٢) لقد أفلح لأنه أرضى ضميره ، ولم يخن الأمة في سبه لقائد مسيرتها ، وعملاقها العظيم

__________________

(١) الأغاني ٨ / ١٤٨.

(٢) تأريخ ابن الأثير ٤ / ٦٥٤.

٤٦

الامام أمير المؤمنين (ع).

وأثنى عليه ومدحه بعاطر المدح الشريف الرضي يقول :

يا بن عبد العزيز لو بكت الع

ين فتى من أمية لبكيتك

غير أني أقول : إنك قد طب

ت وان لم يطب ولم يزك بيتك

أنت نزهتنا عن السب والقذ

ف فلو أمكن الجزاء جزيتك

ولو اني رأيت قبرك لاستحيي

ت من أن أرى وما حييتك

وقليل أن لو بذلت دماء الب

دن ضربا على الذرى وسقيتك

دير سمعان فيك مأوى أبي حفص

فبودي لو انني آويتك

دير سمعان لا أغبك غيث

خير ميت من آل مروان ميتك (١)

لقد قدم الشريف الرضي إلى عمر آيات الشكر والولاء ، وأعرب عن عميق وده بهذه الأبيات فهو لا ينسى فضله ولطفه على العلويين بما أسداء عليهم من رفع السب عن سيدهم الامام أمير المؤمنين (ع).

صلته للعلويين :

وجهدت الحكومة الأموية منذ تأسيسها على حرمان أهل البيت (ع) من حقوقهم واشاعة الفاقة في بيوتهم ، وقد عانوا الفقر والحرمان ، ولكن لما ولي الحكم عمر بن عبد العزيز أجزل لهم العطاء فقد كتب إلى عامله على يثرب أن يقسم فيهم عشرة آلاف دينار ، فأجابه عامله : ان عليا قد ولد له في عدة قبائل من قريش ففي أي ولده؟ فكتب إليه : إذا أتاك كتابي هذا ، فاقسم في ولد علي من فاطمة رضوان الله عليهم عشرة

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١ / ٣٥٧.

٤٧

ألاف دينار ، فطالما تخطتهم حقوقهم » (١) وكانت هذه أول صلة تصلهم أيام الحكم الأموي.

رد فدك :

والبادرة الكريمة التي قام بها عمر بن عبد العزيز أنه رد فدكا إلى العلويين بعد أن صودرت منهم ، وأخذت تتعاقب عليها الأيدي ، وتتناهب الرجال وارداتها ، وآل النبي (ص) قد حرموا منها ، وقد روى رده لها بصور متعددة منها :

١ ـ إن عمر بن عبد العزيز زار مدينة النبي (ص) وأمر مناديه أن ينادي من كانت له مظلمة أو ظلامة فليحضر ، فقصده الامام أبو جعفر عليه‌السلام فقام إليه عمر تكريما واحتفى به فقال الامام (ع) له : « إنما الدنيا سوق من الأسواق يبتاع فيها الناس ما ينفعهم وما يضرهم ، وكم قوم ابتاعوا ما ضرهم ، فلم يصبحوا حتى آتاهم للموت فخرجوا من الدنيا ملومين ، لما لم يأخذوا ما ينفعهم في الآخرة ، فقسم ما جمعوا لمن لم يحمدهم وصاروا إلى من لا يعذرهم ، فنحن والله حقيقيون أن ننظر إلى تلك الأعمال التي نتخوف عليهم منها ، فنكف عنها ، واتق الله ، واجعل في نفسك اثنتين ، انظر إلى ما تحب أن يكون معك إذا قدمت على ربك فقدمه بين يديك ، وانظر إلى ما تكره معك إذا قدمت على ربك فارمه وراءك ، ولا ترغبن في سلعة بادرت على من كان قبلك ، فترجو أن يجوز عنك ، وافتح الأبواب ، وسهل الحجاب ، وانصف المظلوم ، ورد الظالم ،

__________________

(١) المناقب ٤ / ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

٤٨

ثلاثة من كن فيه استكمل الايمان بالله من إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل ، ومن إذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق ، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له ... » وقد وعظه الامام بهذه الكلمات القيمة ، وأوصاه بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، إلا أنه (ع) لم يذكر فيها ظلامة أهل البيت في فدك ، وغيرها.

ولما سمع عمر كلام الامام (ع) أمر بدواة وبياض ، وكتب بعد البسملة : « هذا ما رد عمر بن عبد العزيز ظلامة محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب بفدك ».

٢ ـ إنه لما ولي الخلافة أحضر قريشا ووجوه الناس ، فقال لهم : إن فدكا كانت بيد رسول الله (ص) ، فكان يضعها حيث أراه الله ، ثم وليها أبو بكر كذلك ، ثم عمر كذلك ، ثم اقطعها مروان (١) ثم انها صارت إلى ، ولم تكن من مالي أعود منها علي ، وإني أشهدكم أني قد رددتها على ما كانت عليه في عهد رسول الله (ص) (٢).

وليس في هذه الرواية أنه ردها إلى العلويين ، وإنما وضعها حيث كان رسول الله (ص) يضعها ومن المعلوم أن رسول الله أقطعها إلى بضعته سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (ع) وتصرفت (ع) بها في حياة رسول الله (ص) ولكن القوم رغبوا في مصادرتها لمصالح سياسية دعتهم إلى ذلك.

٣ ـ إن عمر بن عبد العزيز لما أعلن رد فدك إلى العلويين نقم عليه بنو أمية فقالوا له : نقمت على الشيخين ـ يعني أبا بكر وعمر ـ فعلهما

__________________

(١) هكذا في الأصل والصحيح ثم اقطعها عثمان مروان.

(٢) تأريخ ابن الأثير ٤ / ١٦٤.

٤٩

وطعنت عليهما ، ونسبتهما إلى الظلم ، والغصب ، فقال : قد صح عندي وعندكم أن فاطمة بنت رسول الله (ص) ادعت فدكا ، وكانت في يدها ، وما كانت لتكذب على رسول الله (ص) مع شهادة علي ، وأم أيمن وأم سلمة ، وفاطمة عندي صادقة فيما تدعي ، وإن لم تقم البينة وهي سيدة نساء الجنة ، فأنا اليوم أردها على ورثتها أتقرب بذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأرجو أن تكون فاطمة والحسن والحسين يشفعون لي يوم القيامة ، ولو كنت بدل أبي بكر وادعت فاطمة (ع) كنت أصدقها على دعوتها ، ثم سلمها إلى الامام الباقر (ع) (١).

هذه بعض الأقوال التي ذكرت في رد عمر فدكا للعلويين ، وبذلك فقد خالف سلفه الحاقدين على أهل البيت (ع) والمبغضين لهم.

مع الامام الباقر :

وكانت بين الامام أبي جعفر (ع) وعمر بن عبد العزيز عدة التقاءات واتصالات كان من بينها :

١ ـ تنبؤ الامام بخلافة عمر :

وأخبر الامام (ع) بخلافة عمر بن عبد العزيز وذلك قبل أن تصير إليه الخلافة ، يقول أبو بصير : كنت مع الامام أبي جعفر (ع) في المسجد إذ دخل عمر بن عبد العزيز ، وعليه ثوبان ممصران ، فقال (ع) :

__________________

(١) سفينة البحار ٢ / ٢٧٢.

٥٠

ليلين هذا الغلام ، فيظهر العدل ، إلا أنه قدح في ولايته من جهة وجود من هو أولى منه بالحكم (١).

٢ ـ تكريم عمر للامام :

ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كرم الامام أبا جعفر (ع) وعظمه وقد أرسل خلفه فنون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وكان من عباد أهل الكوفة ، فاستجاب له الامام (ع) وسافر إلى دمشق ، فاستقبله عمر استقبالا رائعا ، واحتفى به ، وجرت بينهما أحاديث ، وبقي الامام أياما في ضيافته ولما أراد الامام الانصراف إلى يثرب خف إلى توديعه فجاء إلى البلاط الأموي وعرف الحاجب بأمره فأخبر عمر بذلك ، فخرج رسوله فنادى أين أبو جعفر ليدخل فاشفق الامام أن يدخل خشية أن لا يكون هو ، فقفل الحاجب إلى عمر وأخبره بعدم حضور الامام ، فقال له : كيف قلت؟ قال : قلت : أين أبو جعفر؟ فقال له : اخرج وقل أين محمد بن علي؟ ففعل ذلك ، فقام الامام ، ودخل عليه وحدثه ثم قال له : إني أريد الوداع ، فقال له عمر : أوصني.

قال (ع) : « أوصيك بتقوى الله ، وأن نتخذ الكبير أبا ، والصغير ولدا والرجل أخا ... ».

وبهر عمر من وصية الامام وراح يقول باعجاب :

« جمعت والله لنا ، ما ان أخذنا به ، وأعاننا الله عليه استقام لنا الخير ان شاء الله ... ».

__________________

(١) سفينة البحار ٢ / ١٢٧ ، الخرائج والجرائح مخطوط.

٥١

وخرج الامام من عنده ، ولما أراد الرحيل بادره رسول عمر فقال له : إن عمر يريد أن يأتيك ، فانتظره الامام حتى أقبل فجلس بين يدي الامام مبالغة في تكريمه وتعظيمه ، ثم انصرف عنه (١).

٣ ـ مراسلة عمر للامام :

ونقلت مباحث الأمويين إلى عمر أن الامام أبا جعفر (ع) هو بقية أهله العظماء الذين رفعوا راية الحق والعدل في الأرض ، وقد أراد عمر أن يختبره فكتب إليه فأجابه الامام برسالة فيها موعظة ونصيحة له ، فقال عمر : اخرجوا كتابه إلى سليمان ، فاخرج له فاذا فيه تقريظ ومدح له ، فانفذه إلى عامله على يثرب ، وأمره أن يعرضه عليه مع كتابه إلى عمر ، ويسجل ما يقوله الامام (ع) : وعرضه العامل على الامام فقال (ع) : إن سليمان كان جبارا كتبت إليه ما يكتب إلى الجبارين ، وان صاحبك أظهر أمرا ، وكتبت إليه بما شاكله ، وكتب العامل هذه الكلمات إلى عمر فلما قرأها أبدى اعجابه بالامام ، وراح يقول :

« إن أهل هذا البيت لا يخليهم الله من فضل ... » (٢).

هذه بعض التقاءات الامام بعمر بن عبد العزيز ، وهي تكشف عن أصالة رأي عمر ، وأصالة تفكيره في تقديره للامام ، وتعظيمه له.

__________________

(١) تأريخ دمشق ٥١ / ٣٨.

(٢) تأريخ اليعقوبي ٢ / ٤٨.

٥٢

اتهام رخيص :

واتهم عمر بن عبد العزيز باتّهام رخيص لم يكن له أساس من الصحة والواقع فقد اتهم بأنه لم يكن يعرف أوقات الصلاة المفروضة وقد نقل ذلك الدكتور علي حسن عن بعض المصادر (١) وهو بعيد كل البعد عن الواقع وعن سيرة هذا الرجل العظيم الذي عرف بالتقوى ومجالسة العلماء والفقهاء فكيف تخفى عليه أوقات الصلاة التي هي من أعظم الواجبات الاسلامية.

مؤاخذات :

ووجهت لعمر بن عبد العزيز بعض المؤخذات ومن بينها :

١ ـ إنه أقر القطائع التي أقطعها الخلفاء والسابقون من أهل بيته ، وهي من دون شك كانت بغير وجه مشروع.

٢ ـ إن عماله وولاته على الأقطار والأقاليم الاسلامية قد جهدوا في ظلم الناس وابتزاز أموالهم يقول كعب الأشعري مخاطبا له :

إن كنت تحفظ ما يليك فانما

عمال أرضك بالبلاد ذئاب

لن يستجيبوا للذي تدعو له

حتى تجلد بالسيوف رقاب

بأكف منصلتين أهل بصائر

في وقعهن مزاجر وعقاب (٢)

__________________

(١) نظرة عامة في تأريخ الفقه الاسلامي ( ص ١١٠ ).

(٢) حياة الامام موسى بن جعفر ١ / ٣٠٥.

٥٣

وكان عمر يخطب على المنبر فانبرى إليه رجل فقطع عليه خطابه ، وقال له :

إن الذين بعثت في أقطارها

نبذوا كتابك واستحل المحرم

طلس الثياب على منابر أرضنا

كل يجور وكلهم يتظلم

وأردت أن يلي الأمانة منهم

عدل وهيهات الأمين المسلم

(١) ٣ ـ إنه أقر العطاء الذي كان للأشراف ، فلم يغيره في حين أنه يتنافى مع المبادئ الاسلامية التي ألزمت بالمساواة بين المسلمين ، وألغت التمايز بينهم.

٤ ـ إنه زاد في عطاء أهل الشام عشرة دنانير ، ولم يفعل مثل ذلك في أهل العراق (٢). ولا وجه لهذا التمييز الذي يتصادم مع روح الاسلام وواقعه.

هذه بعض المؤاخذات التي تواجه سياسة عمر بن عبد العزيز وهي بالنسبة إليه كثيرة لأن الرجل ـ كما يقول مترجموه ـ قد تبنى العدل في سياسته.

وفاته :

وألمت الأمراض بعمر بن عبد العزيز ، ويقول المؤرخون : إنه امتنع من التداوي فقيل له : لو تداويت؟ قال : لو كان دوائي في مسح أذني

__________________

(١) حياة الامام موسى بن جعفر ١ / ٣٠٥.

(٢) تأريخ اليعقوبي ٢ / ٤٨.

٥٤

ما مسحتها ، نعم المذهوب إليه ربي (١) وتنص بعض المصادر إنه سقي السم من قبل الأمويين لأنهم علموا أنه إن امتدت أيامه فسوف يخرج الأمر منهم ، ولا يعهد بالخلافة إلا لمن يصلح لها فعاجلوه (٢).

توفي في دير سمعان سنة ( ١٠١ ه‍ ) في شهر رجب (٣) وقد ترك الرجل سيرة حسنة كانت من مواضع الاعتزاز والفخر.

يزيد بن عبد الملك :

ولي الخلافة يزيد بن عبد الملك بعهد من أخيه سليمان ، وأقام أربعين يوما يسير بين الناس بسياسة عمر بن عبد العزيز ، فشق ذلك على بني أمية ، فأتوه باربعين شيخا فشهدوا عنده بأنه ليس على الخلفاء حساب ، ولا عقاب (٤) فعدل عن سياسة عمر ، وساس الناس سياسة عنف وجبروت وعمد إلى عزل جميع ولاة عمر ، وكتب مرسوما إلى عماله جاء فيه : « أما بعد فان عمر بن عبد العزيز كان مغرورا ، فدعوا ما كنتم تعرفون من عهده ، واعيدوا الناس إلى طبقتهم الأولى أخصبوا أم أجدبوا ، أحبوا أم كرهوا ، حيوا أم ماتوا ... » (٥) وعاد الظلم على الناس بأبشع صوره وألوانه ، وانتشر الجور ، وعم الطغيان جميع أنحاء البلاد.

__________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٤ / ١٦١.

(٢) الانافة في مآثر الخلافة ١ / ١٤٢.

(٣) تأريخ ابن الأثير ٤ / ١٦١.

(٤) تأريخ ابن كثير ٩ / ٢٣٢.

(٥) العقد الفريد ٣ / ١٨٠.

٥٥

ومما تجدر الاشارة إليه أن يزيد بن عبد الملك كان جاهلا ، وحقودا على أهل العلم ، فكان يحتقر العلماء ، ويسمي الحسن البصري بالشيخ الجاهل (١) كما كان مسرفا في اللهو والمجون هام بحب حبابة ، وقد ثمل يوما ، فقال : دعوني أطير ، فقالت حبابة : على من تدع الأمة؟ قال : عليك (٢) وخرجت معه إلى الأردن يتنزهان فرماها بحبة عنب فدخلت حلقها فشرقت ، ومرضت ، وماتت فتركها ثلاثة أيام لم يدفنها حتى انتنت ، وهو يشمها ، ويقبلها ، وينظر إليها ويبكي ، فكلم في أمرها حتى أذن في دفنها ، وعاد إلى مقره كئيبا حزينا (٣) ويقول المسعودي : إنه أقام على قبرها ، وهو يقول :

فان تسل عنك النفس أو تدع الهوى

فباليأس تسلو النفس لا بالتجلد

(٤) وقيل انه نبشها بعد الدفن حتى شاهدها (٥) وله أخبار كثيرة مخزية

في الدعارة واللهو أعرضنا عن ذكرها ، هلك سنة ( ١٠٥ ه‍ ).

هشام بن عبد الملك :

بويع هشام بن عبد الملك في اليوم الذي هلك فيه أخوه يزيد وهو يوم الجمعة لخمس بقين من شوال سنة ( ١٠٥ ه‍ ) وهو أحول بني أمية

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٥ / ٩٥.

(٢) تأريخ ابن الأثير ٤ / ١٩١.

(٣) تأريخ ابن الأثير ٤ / ١٩١.

(٤) مروج الذهب ٣ / ١٣٩ ، البدء والتأريخ ٣ / ٤٨.

(٥) الانافة في مآثر الخلافة ١ / ١٤٦

٥٦

وكان حقودا على ذوي الاحساب العريقة ، ومبغضا لكل شريف ، وفيه يقول الشاعر :

يقلب رأسا لم يكن رأس سيد

وعين له حولاء باد عيوبها

ومن مظاهر ذاته البخل فكان يقول : ضع الدرهم على الدرهم يكون مالا (١) وقد جمع من المال ما لم يجمعه خليفة قبله (٢) وقال : ما ندمت على شيء ندامتي على ما أهب أن الخلافة تحتاج إلى الأموال كاحتياج المريض إلى الدواء (٣) ودخل إلى بستان له فيها فاكهة فجعل أصحابه يأكلون من ثمرها ، فأوعز إلى غلامه بقلع الأشجار وزراعة الزيتون لئلا يأكل منه أحد (٤) وكان له قباء أخضر كان يلبسه أميرا وخليفة (٥) ووصفه اليعقوبي بانه بخيل فظ ظلوم شديد القسوة ، بعيد الرحمة ، طويل اللسان (٦) ، وكان شديد البغض للعلويين ، وهو الذي قتل زيد بن علي ، وتعرض الامام أبو جعفر (ع) في عهده إلى ضروب من المحن والآلام كان من بينها ما يلي :

الامام في دمشق :

وأمر الطاغية هشام عامله على يثرب بحمل الامام إلى دمشق وقد روى

__________________

(١) البخلاء ( ص ١٥٠ ).

(٢) اخبار الدول ٢ / ٢٠٠.

(٣) انساب الأشراف.

(٤) البخلاء ( ص ١٠٥ ).

(٥) الآداب السلطانية.

(٦) تأريخ اليعقوبي ٢ / ٣٩٣.

٥٧

المؤرخون في ذلك بروايتين :

الرواية الاولى إن الامام (ع) لما انتهى إلى دمشق ، وعلم هشام بقدومه أو عز إلى حاشيته إنه ان دخل عليه الامام قابلوه بمزيد من التوهين والتوبيخ عند ما ينتهي حديثه معه ، ودخل الامام (ع) على هشام فسلم على القوم ولم يسلم عليه بالخلافة ، فاستشاط غضبا ، وأقبل على الامام (ع) فقال له :

« يا محمد بن علي لا يزال الرجل منكم قد شق عصا المسلمين ، ودعا إلى نفسه ، وزعم أنه الامام سفها وقلة علم .. ».

وسكت هشام فانبرى عملاؤه فجعلوا ينالون من الامام ويسخرون منه ووثب (ع) فقال :

« أيها الناس : أين تذهبون؟ وأين يراد بكم؟ بنا هدى الله أولكم وبنا يختم آخركم ، فان يكن لكم ملك معجل ، فان لنا ملكا مؤجلا ، وليس بعد ملكنا ملك ، لأنا أهل العاقبة ، والعاقبة للمتقين .. » (١).

وخرج (ع) وقد ملأ نفوسهم حزنا وأسى ، ولم يستطيعوا الرد على منطقه الفياض.

خطاب الامام في دمشق :

وازدحم أهل الشام على الامام. وهم يقولون : هذا ابن أبي تراب! وكانوا ينظرون إليه نظرة حقد وعداء ، فرأى (ع) أن يهديهم الى سواء السبيل ، ويعرفهم بحقيقة أهل البيت ، فقام فيهم خطيبا ، فحمد الله واثنى عليه ، وصلى على رسول الله (ص) ثم قال :

__________________

(١) بحار الانوار ١١ / ٧٥.

٥٨

اجتنبوا أهل الشقاق ، وذرية النفاق ، وحشو النار ، وحصب جهنم عن البدر الزاهر ، والبحر الزاخر ، والشهاب الثاقب ، وشهاب المؤمنين ، والصراط المستقيم ، من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو يلعنوا كما لعن أصحاب السبت ، وكان أمر الله مفعولا .... ثم قال بعد كلام له :

أبصنو رسول الله (ص) ـ يعني الامام امير المؤمنين ـ تستهزئون أم بيعسوب الدين تلمزون؟ وأي سبل بعده تسلكون؟ وأي حزن بعده تدفعون ، هيهات برز ـ والله ـ بالسبق وفاز بالخصل واستولى على الغاية ، واحرز على الختار (١) فانحسرت عنه الابصار ، وخضعت دونه الرقاب ، وفرع الذروة العليا ، فكذب من رام من نفسه السعي ، واعياه الطلب ، فانى لهم التناوش (٢) من مكان بعيد ، وأنشد :

اقلوا عليهم لا أبا لأبيكم

من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا

اولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا

وان عاهدوا أوفوا وان عقدوا شدوا

فأنى يسد ثلمة أخي رسول الله (ص) إذ شفعوا ، وشقيقه إذ نسبوا ونديده إذ قتلوا ، وذي قرنى كنزها إذ فتحوا ، ومصلي القبلتين إذ تحرفوا ، والمشهود له بالايمان إذ كفروا ، وللمدعي لبذ عهد المشركين إذ نكلوا والخليفة على المهاد ليلة الحصار إذ جزعوا ، والمستودع الاسرار ساعة الوداع .. » (٣).

__________________

(١) الختار : الغدر.

(٢) التناوش : التناول.

(٣) المناقب ٤ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

٥٩

وأكبر الظن ان هذه الفقرات مقتطفات من خطابه ، وهي وإن كانت متقطعة إلا أنها قد عنت بنشر مآثر أهل البيت ، والتدليل على فضائلهم أمام ذلك المجتمع الذي تربى على عدائهم وبغضهم.

اعتقال الامام :

ولما ذاع فضل الامام بين أهل الشام ، أمر الطاغية باعتقاله في السجن وقد احتف به السجناء وهم يتلقون من علومه وآدابه ، وخشي مدير السجن من الفتنة فبادر إلى هشام فأخبره بذلك فامره باخراجه من السجن ، وارجاعه إلى بلده (١).

هذا ما ورد في الرواية الأولى في مجيء الامام (ع) إلى دمشق وما جرى له مع هشام.

الرواية الثانية : رواها لوط بن يحيى الاسدي عن عمارة بن زيد الواقدي قال : حج هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين ، وكان قد حج فيها الامام محمد بن علي الباقر وابنه الامام جعفر الصادق (ع) فقال جعفر أمام حشد من الناس فيهم مسلمة بن عبد الملك :

« الحمد لله الذي بعث محمدا بالحق نبيا ، واكرمنا به ، فنحن صفوة الله على خلقه ، وخيرته من عباده ، فالسعيد من تبعنا ، والشقي من عادانا وخالفنا .. ».

وبادر مسلمة بن عبد الملك إلى أخيه هشام فأخبره بمقالة الامام الصادق فأسرها هشام في نفسه ، ولم يتعرض للإمامين بسوء في الحجاز إلا أنه لما قفل راجعا إلى دمشق أمر عامله على يثرب باشخاصهما إليه

__________________

(١) بحار الأنوار : ١١ / ٧٥.

٦٠