حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل

باقر شريف القرشي

حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦
الجزء ١ الجزء ٢

عليها قبة وعلى فوقها ستور الديباج ، وأقام لها سدنة ، وأمر الناس أن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة (١).

انتقاصه لسلفه

وانتقص عبد الملك سلفه من حكام بني أمية ، وقد أدلى بذلك في خطابه الذي ألقاه في يثرب ، فقد جاء فيه : « إني والله ما أنا بالخليفة ، المستضعف ـ يعني عثمان ـ ولا بالخليفة المداهن ـ يعني معاوية ـ ولا بالخليفة المأفون (٢) ـ يعني يزيد ـ » وعلق ابن أبي الحديد على هذه الكلمات بقوله « وهؤلاء سلفه وأئمته ، وبشفعتهم قام ذلك المقام ، وبتقدمهم وتأسيسهم نال تلك الرئاسة ، ولو لا العادة المتقدمة ، والأجناد المجندة والصنائع القائمة ، لكان أبعد خلق الله من ذلك المقام ، وأقربهم إلى المهلكة إن رام ذلك الشرف ... » (٣).

ولايته لحجاج

وأخطر عمل قام به عبد الملك ولايته للحجاج بن يوسف الثقفي ، فقد عهد بأمور المسلمين إلى هذا الانسان الممسوخ الذي هو من أقذر من عرفته البشرية في جميع مراحل التأريخ ... لقد منحه عبد الملك صلاحيات

__________________

(١) اليعقوبي ٢ / ٣١١.

(٢) المأفون : الضعيف الرأي.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١٥ / ٢٥٧.

٢١

واسعة النطاق ، فجعله يتصرف في امور الدولة حسب رغباته وميوله التي لم تكن تخضع إلا إلى منطق البطش والاستبداد ، وقد أمعن هذا المجرم الأثيم في النكاية بالناس ، وقهرهم واذلالهم ، واخضاعهم للظلم والجور ،

وقد خلق في البلاد الخاضعة لنفوذه جوا من الأزمات السياسة التي لا عهد للناس بمثلها ... ونعرض إلى ما قيل فيه ، وإلى بعض صفاته وأعماله التي سود فيها وجه التأريخ ، وفيما يلي ذلك.

تنبؤ النبي عنه

واستشف النبي (ص) من وراء الغيب ما يجري على امته من الظلم والجور ، على يد الحجاج ، فقد روت أسماء بنت أبي بكر قالت : إني سمعت رسول الله (ص) يقول : « منافق ثقيف يملأ الله به زاوية من زوايا جهنم ، يبيد الخلق ، ويقذف الكعبة بأحجارها إلا لعنة الله عليه ... » (١).

أخبار الامام أمير المؤمنين عنه

وأخبر الامام أمير المؤمنين باب مدينة علم النبي (ص) عن الحجاج وما يعانيه المسلمون في عهده من الظلم ما لا يوصف لفضاعته وقسوته ، ويقول المؤرخون ان الامام (ع) دعا على أهل الكوفة حينما خذلوه ، وتمردوا عليه قال (ع) : « اللهم اني ائتمنتهم فخانوني ، ونصحتهم فغشوني اللهم

__________________

(١) الامامة والسياسة ٢ / ٤٥.

٢٢

فسلط عليهم غلام ثقيف يحكم في دمائهم وأموالهم بحكم الجاهلية ... » (١).

لقد سلط الله عليهم الحجاج فصب عليهم وابلا من العذاب ، وسقاهم كأسا مصبرة ، وأرغمهم على الذل والعبودية.

وروى حبيب بن أبي ثابت : أن أمير المؤمنين (ع) قال لرجل :

لا تموت حتى تدرك فتى ثقيف ، قيل يا أمير المؤمنين ما فتى ثقيف؟ قال عليه‌السلام : ليقالن له يوم القيامة اكفنا زاوية من زوايا جهنم ، رجل يملك عشرين سنة أو بضعا وعشرين ، فلا يدع لله معصية إلا ارتكبها حتى لو لم يبق إلا معصية واحدة وبينها وبينه باب مغلق لكسره حتى يرتكبها يقتل من أطاعه (٢) بمن عصاه ... » (٣).

الناقمون على الحجاج :

ونقم علماء المسلمين وخيارهم على الحجاج ، وهذه بعض كلماتهم :

١ ـ عمر بن عبد العزيز :

وكان عمر بن عبد العزيز من الناقمين على الحجاج ، والساخطين عليه ، قال فيه : « لو جاءت كل أمة بخبيثها ، وجئنا بالحجاج لغلبناهم » (٤).

٢ ـ عاصم :

قال عاصم : « ما بقيت لله عز وجل حرمة إلا وقد ارتكبها

__________________

(١) نهاية الأرب ٢١ / ٣٣٤.

(٢) نهاية الأرب ٢١ / ٣٣٤.

(٣) جاء في الكامل : يقتل بمن أطاعه من عصاه.

(٤) نهاية الأرب : ٢١ / ٣٣٤.

٢٣

الحجاج » (١).

٣ ـ القاسم :

قال القاسم بن مخيمرة : « كان الحجاج ينقض عرى الاسلام عروة عروة » (٢).

٤ ـ زاذان :

وكان زاذان من الناقمين على الحجاج ، وقد قال : « كان الحجاج مفلسا من دينه » (٣).

٥ ـ طاوس :

قال طاوس : « عجبت لمن يسمي الحجاج مؤمنا » (٤).

إلى غير ذلك من الكلمات التي أعربت عن خبثه وانه من سوءات التأريخ.

من صفاته :

واتصف الحجاج بجميع الصفات الكريهة والنزعات الشريرة فقد انطوت نفسه على الخبث والشر ، والحقد على الناس ، ومن مظاهر صفاته ما يلي :

أ ـ كان الحجاج قد خلق للجريمة والإساءة إلى الناس ، فلم يعرف الاحسان والمعروف ، ولما أراد الحج ولى على العراق شخصا اسمه محمد ، وقد خطب بين الناس فقال لهم : إني قد استعملت عليكم محمدا ، وقد أوصيته فيكم خلاف وصية رسول الله (ص) بالأنصار فانه قد أوصى أن يقبل من محسنهم ، ويتجاوز عن مسيئهم ، وقد أوصيته أن لا يقبل من

__________________

(١) تأريخ ابن كثير ٩ / ١٣٢.

٢ و ٣ و ٤ تهذيب التهذيب ٢ / ٣١١.

٢٤

محسنكم ، ولا يتجاوز عن مسيئكم ... » (١).

وخليق بهذا الانسان الممسوخ أن يخالف رسول الله (ص) ويشذ عن سيرته وسنته.

ب ـ ومن أبرز صفات هذا الطاغية سفكه للدماء ، يقول الدميري : « كان الحجاج لا يصبر عن سفك الدماء ، وكان يخبر عن نفسه أن أكبر لذاته اراقته للدماء ، وارتكاب امور لا يقدر عليها غيره » (٢) وقد بالغ في قتل الناس بغير حق ، فقد كان عدد من قتلهم صبرا ـ سوى من قتل في حروبه ـ مائة وعشرين ألفا (٣) وقيل مائة وثلاثون ألفا (٤) وقد أعترف رسميا بسفكه للدماء بغير حق يقول : « والله ما أعلم اليوم رجلا على ظهر الأرض هو أجرا على دم مني » (٥) وقد أنكر عليه عبد الملك اسرافه في ذلك إلا أنه لم يعن به (٦). وقد وضع سيفه في رقاب القراء والعباد لأنهم أيدوا ثورة ابن الأشعث ، ومن جملة من قتلهم سعيد بن جبير من علماء الكوفة وزهادها ، وأحد أعلام الشيعة في ذلك العصر ، ولما بلغ الحسن البصري قتله قال : والله لقد مات سعيد بن جبير يوم

__________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٨٦.

(٢) حياة الحيوان للدميري ١ / ١٦٧.

(٣) تهذيب التهذيب ٢ / ٢١١ ، تيسير الوصول ٤ / ٣١ ، التنبيه والاشراف ( ص ٣١٨ ) معجم البلدان ٥ / ٣٤٩.

(٤) حياة الحيوان ١ / ١٧٠ ، تأريخ الطبري.

(٥) طبقات ابن سعد ٦ / ٦٦.

(٦) مروج الذهب ٣ / ٧٤.

٢٥

مات وأهل الأرض من مشرقها إلى مغربها محتاجون لعلمه (١).

ج ـ ومن صفاته أنه كان عبوسا سيئ الخلق ، لم يظهر منه لندمائه بشاشة ، ولا سماحة في الخلق (٢) لقد كان فظا غليظا تنفر منه النفوس فقد غرق في الجريمة والاثم ... هذه بعض مظاهر شخصيته وصفاته.

كفره والحاده :

وحكم جماعة من أعلام المسلمين بكفره وإلحاده ، منهم سعيد بن جبير والنخعي ، ومجاهد ، وعاصم بن أبي النجود ، والشعبي وغيرهم (٣) أما ما يدلل على كفره فاراقته لدماء المسلمين بغير حق ، واشاعته للخوف والارهاب بين الناس ، ولو كان مسلما لما فعل ذلك ، كما أثرت عنه بعض التصريحات التي أدلى بها وهي تدل على كفره ، ومن بينها ما يلي :

الاستهانة بالنبي :

واستهان الحجاج بالنبي العظيم (ص) ففضل عبد الملك بن مروان عليه فقد خاطب الله تعالى أمام الناس قائلا : « ارسلوك أفضل ـ يعني النبي ـ أم خليفتك ـ يعني عبد الملك ـ » (٤) وكان ينقم ويسخر من الذين يزورون قبر النبي (ص) ويقول : « تبا لهم إنما يطوفون بأعواد ورمة بالية ، هلا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك ، ألا يعلمون أن خليفة المرء خير من

__________________

(١) حياة الحيوان ١ / ١٧١.

(٢) مروج الذهب ٣ / ٨١.

(٣) تهذيب التهذيب ٢ / ٢١١.

(٤) النزاع والتخاصم للمقريزي ( ص ٢٧ ) رسائل الجاحظ ( ص ٢٩٧ ).

٢٦

رسوله » (١) وعلق الدينوري على كلامه هذا بقوله : إنما كفروه ـ يعني الحجاج ـ بهذا لأن في هذا الكلام تكذيبا لرسول الله (ص) .. فانه صح عنه (ص) ان الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء (٢).

لقد دلت تصريحاته ، وأعماله على كفره ، ومروقه من الدين ، وانه لا علاقة له بالله ، ولو كان يرجو لله وقارا ، ويؤمن باليوم الآخر لما أقترف تلك الاعمال التي باعدت بينه وبين الله ، وبقيت سمة عار وخزي عليه وعلى الحكم الاموي.

من جرائمه :

وحفل حكم هذا الخبيث بالجرائم والموبقات ، ومن بينها :

التنكيل بالشيعة :

ونكل الطاغية الفاجر بشيعة آل البيت (ع) فأذاع فيهم القتل ، وأشاع في بيوتهم الثكل والحزن والحداد ، وقد كان عبد الملك قد كتب إليه « جنبني دماء بني عبد المطلب فليس فيها شفاء من الحرب ، وإني رأيت آل بني حرب قد سلبوا ملكهم لما قتلوا الحسين بن علي » (٣).

__________________

(١) شرح النهج ١٥ / ٢٤٢.

(٢) حياة الحيوان للدميري ١ / ١٧٠.

(٣) العقد الفريد ٣ / ١٤٩.

٢٧

ولكن الحجاج قد تعرض إلى شيعة العلويين فانطلقت يده في الفتك بهم وسفك دمائهم حتى ان الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال له من شيعة علي (١) ويقول المؤرخون إن خير وسيلة للتقرب إلى الحجاج هي انتقاص الامام أمير المؤمنين (ع) فقد أقبل إليه بعض المرتزقة من أوغاد الناس وأجلافهم وهو رافع عقيرته قائلا :

« أيها الامير ، ان أهلي عقوني فسموني عليا ، وإني فقير بائس ، وأنا إلى صلة الامير محتاج ... ».

فسر الحجاج بذلك وقال : « للطف ما توسلت به ، فقد وليتك موضع كذا » (٢).

وعلى أي حال فقد ذهبت الشيعة في عهد هذا الجلاد طعمة للسيوف والرماح ، فقد نكل بهم وقتلهم تحت كل حجر ومدر وأودع الكثيرين منهم في ظلمات السجون ... لقد أثار الحجاج في صفوف الشيعة جوا من الارهاب ، لم تشهد له الشيعة مثيلا حتى في أيام الطاغية زياد ، وابنه عبيد الله.

محنة الكوفة :

وامتحنت الكوفة في أيام هذا الجبار كأشد ما تكون المحنة ، فقد أخذ يقتل على الظنة والتهمة ، ويأخذ البريء بالسقيم ، والمقبل بالمدبر وقد خطب في الكوفة خطابا قاسيا ، لم يحمد الله ، ولم يثن عليه ، ولم

__________________

(١) شرح النهج

(٢) حياة الامام الحسن بن علي ٢ / ٣٣٦.

٢٨

يصل على النبي (ص) وكان من جملة ما قاله فيه :

« يا أهل العراق ، يا أهل الشقاق ، والنفاق ، والمراق ، ومساوئ الاخلاق ان أمير المؤمنين ـ يعني عبد الملك ـ فتل كنانته فعجمها عودا عودا ، فوجدني من أمرها عودا ، وأصعبها كسرا ، فرماكم بي ، وأنه قلدني عليكم سوطا وسيفا ، فسقط السوط وبقى السيف (١) ثم قال : اني والله لارى أبصارا طامحة ، وأعناقا متطاولة ، ورءوسا قد أينعت ، وحان قطافها ، وإني أنا صاحبها كأني أنظر إلى الدماء ترقرق بين العمائم واللحى (٢) ثم أنشد :

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا

متى أضع العمامة تعرفوني

ومضى الجلاد فشهر السيف وأطاح بالرؤوس ، ونشر من الرعب والارهاب ما لا يوصف حتى قال له أبو وائل الاسدي : « وأيم الله ما أعلم الناس هابوا أميرا قط هيبتهم إياك » (٣) وبلغ من عظيم خوف الناس انه لم يبق أحد في مجلسه إلا اهمته نفسه ، وارتعدت فرائصه كما يقول بعضهم (٤).

لقد امتحن العراقيون امتحانا عسيرا في زمن الحجاج ، فقد صب عليهم وابلا من العذاب الاليم.

__________________

(١) تأريخ اليعقوبي ٣ / ٦٨.

(٢) مروج الذهب ٣ / ٦٨.

(٣) طبقات ابن سعد ٦ / ٦٦.

(٤) طبقات ابن سعد ٦ / ٦٦.

٢٩

رمي الكعبة بالمنجنيق

ومن جرائم هذا الطاغية انه قاد جيشا مكثفا إلى مكة لمحاربة ابن الزبير ، وقد حاصر البيت الحرام ستة أشهر وسبع عشر ليلة ، وقد امر برمي الكعبة المشرفة فرميت من جبل أبي قبيس بالمنجنيق ، وكان قومه يرمون الكعبة ويرتجزون.

خطارة مثل الفنيق المزيد

نرمي بها اعواد هذا المسجد

(١) ودام الحصار حتى قتل عبد الله بن الزبير ، وصلب منكوسا وبعث برأسه الى عبد الملك فأمر ان يطاف به في البلاد (٢) ولم يرجو وقارا لبيت الله الحرام الذي من دخله كان آمنا فقد انتهك حرمته ، وقبله يزيد بن معاوية لم يقم له اي حرمة.

سجونه :

واتخذ الطاغية سجونا لا تقي من حر ولا برد ، وكان يعذب المساجين بأقسى الوان العذاب ، فكان يشد على بدن السجين القصب الفارسي الشقوق ويجر عليه حتى يسيل دمه ، ويقول المؤرخون انه مات في حبسه خمسون الف رجل ، وثلاثون الف امرأة منهن ستة عشر الفا مجردات كان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد (٣) واحصي في محبسه ثلاث وثلاثون

__________________

(١) تهذيب ابن عساكر ٤ / ٥٠.

(٢) تأريخ الخلفاء للسيوطي ( ص ٨٤ ) تأريخ ابن كثير ٩ / ٦٣.

(٣) حياة الحيوان للدميري ١ / ١٧٠.

٣٠

الف سجين لم يحبسوا في دين ولا تبعة (١) وكان يقول لاهل السجن : ( اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ ) (٢) شبههم بأهل النار ، وشبه نفسه بالخالق تعالى ، عتوا وتكبرا منه.

ومن طريف ما يذكر ان بعض القراء روى ان الحجاج قرأ في سورة هود ( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) فلم يدر أهي عمل أم عمل ، فقال : ائتوني بقارئ ، فأتوا بي وقد قام من مجلسه فحبست ، ونسيني الحجاج حتى عرض السجن بعد ستة أشهر فلما ان انتهى إلي قال : فيم حبست؟ قلت : في ابن نوح أصلح الله الامير فضحك وأطلقني.

هلاكه :

وأهلك الله هذا المجرم الخبيث الذي أغرق البلاد بالمحن والخطوب فقد أصابته الاكلة في بطنه ، وسلط الله عليه الزمهرير فكانت الكوانين تجعل حوله مملوءة نارا ، وتدنى منه حتى تحرق جلده ، وهو لا يحس بها وأخذت منه الآلام مأخذا عظيما فشكا ما هو فيه إلى الحسن البصري فقال له : قد كنت نهيتك أن تتعرض للصالحين ، فلججت ، فقال له : يا حسن لا أسألك أن تسأل الله أن يفرج عني ، ولكن أسألك أن تسأله أن يعجل قبض روحي ، ولا يطيل عذابي (٣) وظل الجلاد يعاني آلام الموت وشدة

__________________

(١) معجم البلدان ٥ / ٣٤٩.

(٢) تهذيب التهذيب ٢ / ٢١٢.

(٣) وفيات الاعيان ٦ / ٣٤٧.

٣١

النزع حتى هلك (١) ومضت روحه الخبيثة إلى جهنم مقرنة بالاصفاد وقد انكسر بموته باب الجور ، وانحسرت روح الظلم ، فاهون به هالكا ومفقودا ولما بلغ هلاكه الحسن البصري قال اللهم أنت أمته ، فأمت سنته أتانا أخيفش اعيمش قصير البنان ، والله ما عرق له عذار في سبيل الله قط فمن كفا كبره ، فقال : بايعوني وإلا ضربت أعناقكم (٢).

وتلقى المسلمون نبأ وفاته بمزيد من السرور والافراح ، وكانت الشتائم تلاحقه من يوم وفاته حتى يرث الله الارض ومن عليها.

عبد الملك مع الأخطل :

كان الاخطل شاعر بني أميّة ولسانهم الناطق ، وكان أثيرا عند عبد الملك فقد دخل عليه وهو ثمل يترنح فأنشده البيتين.

إذا ما نديمي علني ثم علني

ثلاث زجاجات لهن هدير

خرجت أجر الذيل تيها كأنني

عليك أمير المؤمنين أمير

ولم يتخذ معه أي أجراء حاسم.

وقد قال لعبد الملك حينما عرض عليه الاسلام إن آمنت احللت لي الخمر ، ووضعت عني صوم رمضان اسلمت ، فقال له عبد الملك : إن أنت أسلمت ثم قصرت في شيء من الاسلام ضربت عنقك.

فقال الاخطل :

ولست بصائم رمضان عمري

ولست بآكل لحم الاضاحي

__________________

(١) كان هلاكه في شهر رمضان وقيل في شوال سنة ( ٩٥ ه‍ ) وكان عمره ثلاثا أو أربعا وخمسين سنة ، وفيات الاعيان ١ / ٤٣٧.

(٢) تهذيب التهذيب ٢ / ٢١٣.

٣٢

ولست بزاجر عنسا بكورا

إلى بطحاء مكة للنجاح

ولست بقائم كالعير يدعو

قبيل الصبح حي على الفلاح

ولكني سأشربها شمولا

وأسجد عند منبلج الصباح

وكان يخرج من بلاط عبد الملك ولحيته تقطر من الخمر ، وكان عبد الملك يغدق عليه بالاموال لانه قد استخدمه في مدحه ، ومما قال فيه :

إلى إمام تغادينا فواضله

أظفره الله فليهنأ له الظفر

الخائض الغمر والميمون طائره

خليفة الله يستسقى به المطر

والمستمر به أمر الجميع فما

يغره بعد توكيد له غرر (١)

نفسي فداء أمير المؤمنين إذا

أبدى النواجذ يوما عارم ذكر (٢)

لقد أشاد الأخطل بعبد الملك ، ومدحه في كثير من المناسبات ، وقد شكره عبد الملك فكان يدخل عليه بغير اذن وفي عنقه سلسلة من ذهب وصليب وكان عبد الملك يسميه مرة شاعر أمير المؤمنين ، ومرة شاعر بني أمية ، وثالثة شاعر العرب (٣).

الامام مع عبد الملك :

وابتلي المسلمون في ذلك العصر برجل من القدرية أفسد عليهم دينهم ولم يهتدوا إلى رد شبهه وابطال مزاعمه ، ورأى عبد الملك انه لا طريق لافحامه إلا الامام محمد الباقر (ع) فكتب إلى عامله على يثرب رسالة

__________________

(١) الغرر : الهلاك.

(٢) ديوان الأخطل ( ص ٩٨ ).

(٣) الأغاني ٨ / ٢٨٧.

٣٣

يطلب فيها احضار الامام إلى دمشق ، والتلطف معه ، وعرض حاكم يثرب على الامام رسالة عبد الملك ، فاعتذر الامام (ع) عن السفر لأنه شيخ لا طاقة له على عناء السفر ولكنه أناب عنه ولده جعفر الصادق للقيام بهذه المهمة ، وسافر الامام الصادق إلى دمشق فلما حضر عند عبد الملك قال له : قد أعيانا هذا القدري ، وإني أحب أن أجمع بينك وبينه ، فانه لم يدع أحدا إلا خصمه ، وأمر باحضاره فلما حضر عنده أمره الامام بقراءة الفاتحة ، فبهر القدري ، وأخذ بقراءتها ، فلما بلغ قوله تعالى : « ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) » قال له الامام.

« من نستعين؟ وما حاجتك إلى المعرفة إن كان الأمر إليك ... »

وبان العجز على القدري ، ولم يطق جوابا (١) وواصل الامام حديثه في لبطال مزاعمه ورد شبهه.

الايعاز باعتقال الامام :

وأوعز عبد الملك إلى عامله على يثرب باعتقال الامام (ع) وارساله إليه مخفورا ، وتردد عامله في اجابته ورأى أن من الحكمة اغلاق ما أمر به فأجابه بما يلي :

« ليس كتابي هذا خلافا عليك ، ولا ردا لأمرك ، ولكن رأيت أن أراجعك في الكتاب نصيحة وشفقة عليك ، فان الرجل الذي أردته ليس على وجه الأرض اليوم أعف منه ، ولا أزهد ، ولا أورع منه ، وانه ليقرأ في محرابه فيجتمع الطير والسباع إليه تعجبا لصوته ، وإن قراءته

__________________

(١) تفسير العياشي ١ / ٢٣.

٣٤

لتشبه مزامير أل داود ، وإنه لمن أعلم الناس ، وأرأف الناس ، وأشد الناس اجتهادا وعبادة ، فكرهت لأمير المؤمنين التعرض له ، فان الله لا يغير ما بقوم ، حتى يغيروا ما بأنفسهم ... » وكشفت هذه الرسالة عن صفحات مشرقة من صفات الامام أبي جعفر (ع) والتي كان منها :

١ ـ إنه أعف أهل الأرض فليس أحد يدانيه أو يساويه في هذه الظاهرة التي هي من أميز الصفات.

٢ ـ إنه أزهد أهل الدنيا وانه قد بنى واقع حياته على الزهد ، والابتعاد عن زخارف الحياة.

٣ ـ إنه أورع الناس عن محارم الله.

٤ ـ إنه كان وحيدا في قراءته للقرآن الكريم فكانت قراءته له كمزامير آل داود.

٥ ـ إنه أعلم الناس بأحكام الدين وشئون الشريعة وغيرها من سائر العلوم.

٦ ـ إنه أرأف الناس بالناس ، وأشدهم عطفا وحنانا على الفقراء والمحرومين.

٧ ـ إنه كان أكثر الناس اجتهادا في الطاعة ، والاقبال على الله والاتصال به.

وهذه الصفات هي التي تقول بها الشيعة في الامام ، وليس بها غلو أو خروج عن منطق الحق.

وعلى أي حال فان هذه الرسالة لما وافت عبد الملك عدل عن رأيه في اعتقال الامام (ع) ورأى أن الصواب فيما قاله عامله (١).

__________________

(١) الدر النظيم ( ص ١٨٨ ) ضياء العالمين الجزء الثاني في أحوال الامام الباقر (ع).

٣٥

الامام وتحرير النقد الاسلامي :

وقام الامام أبو جعفر (ع) بأسمى خدمة للعالم الاسلامي ، فقد حرر النقد من التبعية إلى الامبراطورية الرومية ، حيث كان يصنع هناك ويحمل شعار الروم ، وقد جعله الامام (ع) مستقلا بنفسه يحمل الشعار الاسلامي ، وقطع الصلة بينه وبين الروم ، أما السبب في ذلك فهو ان عبد الملك بن مروان نظر إلى قرطاس قد طرز بمصر فأمر بترجمته إلى العربية ، فترجم له ، وقد كتب عليه الشعار المسيحي الأب والابن والروح فأنكر ذلك ، وكتب إلى عامله على مصر عبد العزيز بن مروان بابطال ذلك وأن يحمل المطرزين للثياب والقراطيس وغيرها على أن يطرزوها بشعار التوحيد ، ويكتبوا عليها ( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ ) وكتب إلى عماله في جميع الآفاق بابطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم ، ومعاقبة من وجد عنده شيء بعد هذا النهي ، وقام المطرزون بكتابة ذلك ، فانتشرت في الآفاق ، وحملت إلى الروم ولما علم ملك الروم بذلك انتفخت أوداجه ، واستشاط غيظا وغضبا فكتب إلى عبد الملك أن عمل القراطيس بمصر ، وسائر ما يطرز إنما يطرز بطراز الروم إلى أن أبطلته ، فان كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت ، وإن كنت قد أصبت فقد أخطئوا ، فاختر من هاتين الحالتين أيهما شئت وأحببت ، وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك ، وأحببت أن تجعل رد ذلك الطراز إلى ما كان عليه في جميع ما كان يطرز من أصناف الاعلاق حالة أشكرك عليها وتأمر بقبض الهدية.

٣٦

ولما قرأ عبد الملك الرسالة أعلم الرسول أنه لا جواب له عنده كما رد الهدية ، وقفل الرسول إلى ملك الروم فأخبره الخبر ، فضاعف الهدية وكتب إليه ثانيا يطلب باعادة ما نسخه من الشعار ، ولما انتهى الرسول إلى عبد الملك رده ، مع هديته ، وظل مصمما على فكرته ، فمضى الرسول إلى ملك الروم وعرفه بالأمر ، فكتب إلى عبد الملك يتهدده ويتوعده وقد جاء في رسالته :

« انك قد استخففت بجوابي وهديتي ، ولم تسعفني بحاجتي فتوهمتك استقللت الهدية فأضعفتها ، فجريت على سبيلك الأول وقد أضعفتها ثالثة وأنا أحلف بالمسيح لتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه أو لآمرن بنقش الدنانير والدراهم ، فانك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلا ما ينقش في بلادي ، ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الاسلام ، فينقش عليها شتم نبيك ، فاذا قرأته أرفض جبينك عرقا ، فأحب أن تقبل هديتي ، وترد الطراز إلى ما كان عليه ، ويكون فعل ذلك هدية تودني بها ، وتبقى الحال بيني وبينك ... ».

ولما قرأ عبد الملك كتابه ضاقت عليه الأرض ، وحار كيف يصنع ، وراح يقول : احسبني أشأم مولود في الاسلام ، لأني جنيت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من شتم هذا الكافر ، وسيبقى علي هذا العار إلى آخر الدنيا فان النقد الذي توعدني به ملك الروم إذا طبع سوف يتناول في جميع أنحاء العالم.

وجمع عبد الملك الناس ، وعرض عليهم الأمر فلم يجد عند أحد رأيا حاسما ، وأشار عليه روح بن زنباع ، فقال له : إنك لتعلم المخرج من هذا الأمر ، ولكنك تتعمد تركه ، فأنكر عليه عبد الملك وقال له :

٣٧

« ويحك من؟ ».

« عليك بالباقر من أهل بيت النبي (ص) ».

فأذعن عبد الملك ، وصدقه على رأيه ، وعرفه أنه غاب عليه الأمر ، وكتب من فوره إلى عامله على يثرب يأمره باشخاص الامام وأن يقوم برعايته والاحتفاء به ، وأن يجهزه بمائة ألف درهم ، وثلاثمائة ألف درهم لنفقته ، ولما انتهى الكتاب إلى العامل قام بما عهد إليه ، وخرج الامام من يثرب إلى دمشق فلما سار إليها استقبله عبد الملك ، واحتفى به ، وعرض عليه الأمر فقال (ع) :

« لا يعظم هذا عليك فانه ليس بشيء من جهتين : إحداهما ان الله عز وجل لم يكن؟؟؟ ليطلق ما تهدد به صاحب الروم في رسول الله (ص) والأخرى وجود الحيلة فيه ... ».

وطفق عبد الملك قائلا :

« ما هي؟ ».

قال (ع) : تدعو في هذه الساعة بصناع فيضربون بين يديك سككا للدراهم والدنانير ، وتجعل النقش صورة التوحيد وذكر رسول الله (ص) احدهما في وجه الدرهم ، والآخر في الوجه الثاني ، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنة التي يضرب فيها ، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهما عددا من الأصناف الثلاثة إلى العشرة منها وزن عشرة مثاقيل ، وعشرة منها وزن ستة مثاقيل ، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل ، فتكون أوزانها جميعا واحدا وعشرين مثقالا ، فتجزئها من الثلاثين فيصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل ، وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان ، فتضرب الدراهم على وزن

٣٨

عشرة ، والدنانير على وزن سبعة مثاقيل ... وأمره بضرب السكة على هذا اللون في جميع مناطق العالم الاسلامي ، وأن يكون التعامل بها ، وتلغى السكة الأولى ، ويعاقب بأشد العقوبة من يتعامل بها ، وترجع إلى المعامل الاسلامية لتصب ثانيا على الوجه الاسلامي.

وامتثل عبد الملك ذلك ، فضرب السكة حسبما رآه الامام (ع) ولما فهم ملك الروم ذلك سقط ما في يده ، وخاب سعيه ، وظل التعامل بالسكة التي صممها الامام (ع) حتى في زمان العباسيين (١).

وذكر ابن كثير ان الذي قام بهذه العملية الامام زين العابدين عليه‌السلام (٢)

وعلى أي حال فان العالم الاسلامي مدين للامام أبي جعفر بما أسداه إليه من الفضل بانقاذ نقده من تبعية الروم ، وجعله مستقلا بنفسه يصنع في بلد المسلمين ، ويحمل الشعار الاسلامي.

وفاة عبد الملك :

ومرض عبد الملك مرضه الذي هلك فيه ، وكان غير آمن ولا مطمئن فقد أخذت تراوده أعماله المنكرة وما اقترفه من الظلم والجور وسفك الدماء بغير حق في سبيل الملك والسلطان ، وأخذ يضرب بيده على رأسه ويقول : « وددت أني اكتسبت قوتي يوما بيوم ، واشتغلت بعبادة ربي

__________________

(١) حياة الحيوان للدميري ١ / ٦٣ ـ ٦٤ ، المحاسن والأضداد للبيهقي ، المطالعة العربية ١ / ٣١.

(٢) البداية والنهاية ٩ / ٦٨.

٣٩

عز وجل ، وطاعته » (١).

وعهد بالخلافة من بعده إلى ولده الوليد ، وأوصاه بالحجاج خيرا ، وقال له : وانظر الحجاج فأكرمه ، فانه هو الذي وطأ لكم المنابر ، وهو سيفك يا وليد ، ويدك على من ناواك ، فلا تسمعن فيه قول أحد ، وأنت إليه أحوج منه إليك ، وادع الناس إذا مت إلى البيعة ، فمن قال برأسه هكذا ، فقل : بسيفك هكذا ... » (٢).

ومثلت هذه الوصية اندفاعاته نحو الشر حتى في الساعة الأخيرة من حياته ، فقد أوصى ولي عهده بالجلاد الحجاج الذي أغرق البلاد في الثكل والحزن والحداد ، كما أوصى بالقتل لكل من تحدثه نفسه بعدم الرضا بالحكم الأموي ، ولم يبق بعد هذه الوصية إلا لحظات ثم توفى ، وكانت وفاته في يوم الأربعاء في النصف من شوال سنة ( ٨٦ ه‍ ) (٣) وقد سئل عنه الحسن البصري فقال : ما أقول في رجل كان الحجاج سيئة من سيئاته (٤).

الوليد بن عبد الملك :

وولي الوليد الخلافة بعد هلاك أبيه ، ويقول المؤرخون : انه لم تكن فيه أية صفة من صفات النبل تؤهله إلى الخلافة ، وإنما كان جبارا

__________________

(١) البداية والنهاية ٩ / ٦٨.

(٢) تأريخ الخلفاء للسيوطي ( ص ٢٢٠ ).

(٣) البداية والنهاية ٩ / ٦٨.

(٤) تأريخ أبي الفداء ١ / ٢٠٩.

٤٠