حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل

باقر شريف القرشي

حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦
الجزء ١ الجزء ٢

وقد أعلن الامام (ع) براءته منه ، وكان حمزة زنديقا كافرا فمن كفره أنه نكح بنته ، وأحل جميع المحارم ، وقال : من عرف الامام فليصنع ما شاء فلا إثم عليه (١) وقد ادعى أن محمد بن الحنيفة هو الله عز وجل ، وأنه الامام ، وأنه ينزل عليه سبعة أسهاب من السماء فيفتح بهن الأرض ويملكها فتبعه ناس من أهل المدينة والكوفة ، فلعنه الامام أبو جعفر وكذبه ، وبرئت منه الشيعة ، وقد تبعه رجلان يقال لأحدهما صائد ، والآخر بيان.

كان تبانا في الكوفة ، ثم ادعى أن محمد بن علي أوصى إليه ، وأخذه خالد بن عبد الله القسري مع خمسة عشر رجل من أصحابه فشدهم في أطناب القصب ، وصب عليهم النفط في مسجد الكوفة ، والهب فيهم النار فأفلت منهم رجل فخرج ثم التفت إلى أصحابه فرآهم قد أخذتهم النار فكر راجعا إليهم فألقى نفسه في النار واحترق معهم (٢).

٣ ـ المغيرة بن سعيد :

المغيرة بن سعيد البجلي الكوفي الكذاب صاحب البدع والأحداث في الاسلام ، ونلمح إلى بعض شئونه :

١ ـ بدعه :

كان المغيرة صاحب بدع ومنكرات ، ومن بدعه ما يلي :

__________________

(١) فرق الشيعة ( ص ٢٥ ).

(٢) فرق الشيعة ( ص ٢٥ ).

١٦١

أ ـ إنه كان يرى التجسيم فكان يقول : إن الله على صوره رجل ، على رأسه تاج ، وإن أعضاءه على عدد حروف الهجاء (١) وله جوف ، وقلب ينبع بالحكمة ، وإن حروف أبجد على عدد أعضائه ، فالألف موضع قدمه لاعوجاجها ... ثم أنه ذكر الصاد من الحروف الهجائية ، وقال : لو رأيتم موضع الصاد منه تعالى لرأيتم منه أمرا عظيما ، يعرض لهم بالعورة ، وإنه قد رآها (٢) وأنه تعالى لما أراد أن يخلق تكلم باسمه فطار ووقع على تاجه ، ثم كتب باصبعه أعمال العباد ، فلما رأى المعاصي أرفض عرقا ، فاجتمع من عرقه بحران ملح وعذب وخلق الكفار من البحر الملح ومن البحر العذب المؤمنين (٣).

ب ـ كان مشعوذا ، ومن شعوذته أنه كان يخرج إلى المقبرة فيتكلم فيرى أمثال الجراد على القبور (٤).

ج ـ أنه كان ماهرا في دس الأخبار ووضعها في كتب أهل البيت (ع) فكان يدس الغلو في كتب الامام محمد الباقر عليه‌السلام (٥) يقول الامام أبو عبد الله الصادق (ع) إلى أصحابه : لا تقبلوا علينا حديثا إلا ما وافق القرآن والسنة ، وتجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدمة ، فان المغيرة ابن سعيد دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها ، فاتقوا الله ، ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا وسنة نبينا.

__________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٤ / ٢٣٠.

(٢) الحور العين ( ص ١٦٨ ).

(٣) ميزان الاعتدال ٤ / ١٦٢.

(٤) تأريخ ابن الأثير ٤ / ٢٣٠.

(٥) الكشي ( ص ٢٢٤ ).

١٦٢

وروى هشام بن الحكم عن الامام الصادق (ع) أنه قال : كان المغيرة ابن سعيد يتعمد الكذب على أبي ، ويأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه المتسترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب فيدفعونها إلى المغيرة ، فيدس فيها الكفر والزندقة ، ويسندها إلى أبي ثم يدفعها إلى أصحابه ، ثم يأمرهم أن يبثوها في الشيعة ، فكل ما كان في كتب أبي من الغلو فذاك مما دسه المغيرة بن سعيد في كتبهم.

وقد ضاقت الشيعة منه ذرعا ، وقد خف أبو هريرة العجلي إلى الامام أبي جعفر (ع) يشكو إليه ما ألم بهم من بدع المغيرة ومفتعلاته قائلا :

أبا جعفر أنت الولي أحبه

وأرضى بما ترضى به وأتابع

أتانا رجال يحملون عليكم

أحاديث قد ضاقت بهن الاضالع

أحاديث أفشاها المغيرة فيهم

وشر الأمور المحدثات البدائع(١)

ومعنى هذه الأبيات أن المغيرة أفشى بدعه ومفتعلاته فحفظها أصحابه وأخذوا يذيعونها بين الناس ، وينسبونها إلى الأئمة (ع) ، وقد ضاقت من بدعه قلوب الشيعة ونفوسهم.

براءة الامام الباقر منه :

وكان من الطبيعي أن يعلن الامام أبو جعفر الباقر (ع) براءته من هذا الانسان الممسوخ الذي لم يؤمن بالله وتجرد من جميع القيم الانسانية فقد روى كثير النواء قال : سمعت أبا جعفر (ع) يقول : برىء الله ورسوله من المغيرة بن سعيد وبنان بن سمعان فإنهما كذبا علينا أهل

__________________

(١) عيون الأخبار لابن قتيبة ٢ / ١٥١.

١٦٣

البيت (١).

كما أعلن الامام أبو عبد الله الصادق (ع) نقمته وسخطه على المغيرة قائلا : « لعن الله المغيرة بن سعيد ، ولعن الله يهودية كان يختلف إليها ، يتعلم منها السحر ، والشعبذة والمخاريق ، ان المغيرة كذب على أبي فسلبه الله الايمان ، وإن قوما كذبوا علي مالهم : أذاقهم الله حر الحديد فو الله ما نحن إلا عبيد خلقنا واصطفانا ، ما نقدر على ضر ولا نفع ، إن رحمنا فبرحمته ، وإن عذبنا فبذنوبنا ، والله ما بنا على الله حجة ، ولا معنا من الله براءة ، وإنا لميتون ومقبورون ومنشورون ، ومبعوثون ، وموقفون ، ومسئولون ، ما لهم لعنهم الله فلقد آذوا الله ، وآذوا رسول الله في قبره ، وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين ، وها أنا ذا بين أظهركم أبيت على فراشي خائفا وجلا يأمنون وأفزع ، وينامون على فراشهم ، وأنا خائف ساهر وجل ، أبرأ الله ما قال في الأجدع ، وعبد بني أسد أبو الخطاب لعنه الله ... ».

وأنت ترى مدى انفعال الامام وتأثره من هؤلاء الكاذبين الغلاة الذين مرقوا عن الدين وتلاعبوا بكتاب الله واتخذوا آياته هزوا.

ثورة المغيرة :

وثار المغيرة في الكوفة ، وبلغ حاكمها خالد بن عبد الله القسري وكان يخطب على المنبر فخاف الجبان ، وقال : أطعموني ماء فعيره يحيى بن نوفل وقال :

__________________

(١) لسان الميزان ٦ / ٧٦.

١٦٤

وكنت لدى المغيرة عبد سوء

تبول من المخافة للزئير

وقلت : لما أصابك اطعموني

شربا ثم بلت على السرير

لأعلاج ثمانية وشيخ

كبير السن ليس بذي نصير(١)

وأرسل خالد كتيبة عسكرية فألقت عليه القبض وعلى جماعته وجيء بهم مخفورين إلى جامع الكوفة فأمر بحرقهم فأحرقوا (٢) وانتهت بذلك حياة هذا الخائن الذي خان الله ورسوله وصد عن سبيل الله واتخذ آياته هزوا.

الكفر والالحاد :

وظهرت موجات من الكفر والالحاد والزندقة في العصر الأموي حملها إلى البلاد الاسلامية بعض العناصر الحاقدة على الاسلام والباغية عليه وقد أعرضت الحكومات الأموية عن ملاحقة دعاتها مما أوجب انتشارها بين المسلمين ، وقد تصدى الامام أبو جعفر (ع) وولده الامام الصادق (ع) إلى تزيفها ونقدها ، وكان من بين ما عرض له الامام الباقر (ع) إلى الرد عليه ما يلي :

إن الامام أبا جعفر (ع) كان جالسا في فناء الكعبة ، فقصده رجل فقال له :

ـ هل رأيت الله حيث عبدته؟

ـ ما كنت لأعبد شيئا لم أره

ـ كيف رأيته؟

__________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٤ / ٢٣٠.

(٢) تأريخ ابن الأثير ٤ / ٢٣٠.

١٦٥

ـ لم تره الأبصار بمشاهدة العيان ، ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان ، لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس ، معروف بالآيات منعوت بالعلامات ، لا يجور في قضيته ، بان من الأشياء ، وبانت الأشياء منه ، ليس كمثله شيء ذلك الله لا إله إلا هو.

وأبطل الامام (ع) شبهات الرجل وفند أوهامه ، وقد بنى كلامه (ع) على الواقع المشرق من جوانب التوحيد ، وبهر الرجل من كلام الامام وراح يقول : « ( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) فيمن يشاء » (١).

وقد انتشر الحديث عن ذات الله تعالى وأنها هل هي بسيطة أو مركبة وقد نهى الامام (ع) عن الخوض في ذلك ، وله بحوث كثيرة تتعلق في التوحيد ذكرناها في الجزء الأول من هذا الكتاب.

الامام مع عالم شامي :

روى محمد بن عطية أن رجلا من أهل الشام وفد على الامام أبي جعفر (ع) فقال له : إن عندي مسألة كلما سألت عنها العلماء عجزوا عن الاجابة عنها ، فقال له الامام :

« ما هي؟ »

الشامي : سؤالي عن أول ما خلق الله؟ فأجابني بعض بالقدر ، وبعض بالقلم ، وآخر بالروح.

فقال الامام (ع) : لم يصل القوم إلى الصواب ، أخبرك أن الله تبارك وتعالى كان ولا شيء غيره ، وكان عزيزا ولا أحد كان قبل عزه ، وذلك

__________________

(١) تأريخ دمشق ٥١ / ٤٥ ، زهر الآداب ١ / ١١٦.

١٦٦

قوله تعالى : ( سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ).

وكان الخالق قبل المخلوق ، ولو كان أول ما خلق من خلقه الشيء من الشيء إذا لم يكن له انقطاع أبدا ، ولم يزل الله إذا ومعه شيء ليس هو يتقدمه ، ولكنه كان إذا لا شيء غيره ، وخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه وهو الماء الذي خلق الأشياء منه فجعل نسب كل شيء إلى الماء ، ولم يجعل للماء نسبا يضاف إليه وخلق الريح من الماء ، ثم سلط الريح على الماء فشققت الريح متن الماء حتى صار من الماء زبدا على قدر ما شاء أن يثور فخلق من ذلك الزبد أرضا بيضاء نقية ليس فيها صدع ، ولا ثقب ولا صعود ولا هبوط ، ولا شجرة ثم ، فوضعها فوق الماء ، ثم خلق الله النار فشققت النار متن الماء حتى صار من الماء دخان على قدر ما شاء أن يثور فخلق من ذلك الدخان سماء صافية نقية ليس فيها صدع ولا نقب ، وذلك قوله : ( أَمِ السَّماءُ بَناها ، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها ).

وأضاف (ع) قائلا : ولا شمس ولا قمر ولا نجوم ولا سحاب ثم طواها فوضعها فوق الأرض ، ثم نسب الخليقين ... فوضع السماء قبل الأرض فذلك قوله عز ذكره ( وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ) أي بسطها.

قال الشامي : يا أبا جعفر قول الله عز وجل ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما. )

قال أبو جعفر : لعلك تزعم أنهما كانتا رتقا ملتزقتان ففتقت إحداهما من الأخرى قال الشامي : نعم.

قال أبو جعفر : استغفر ربك ، فان قول الله عز وجل ( كانَتا رَتْقاً ) يقول : كانت السماء رتقا لا تنزل المطر ، وكانت الأرض رتقا لا تنبت

١٦٧

الحب ، فلما خلق الله تبارك وتعالى الخلق وبث فيها ـ أي في الأرض ـ من كل دابة ففتق السماء بالمطر والأرض بنبات الحب ... »

وبهر الشامي من سعة علوم الامام وإحاطته بكل فن من الفنون ، فراح يقول :

« أشهد أنك من أولاد الأنبياء ، وأن علمك علمهم » (١).

لقد عم النزاع بين المسلمين وغيرهم في المسائل الكلامية وكان من أهمها النزاع في صفات الله ، ويقول المؤرخون : إنه تجادل جهم بن صفوان مع بعض السمنية (٢) فقالوا له :

« نكلمك فان غلبناك دخلت في ديننا ، وإن غلبتنا دخلنا في دينك »

« ألست تزعم ان لك إلها »

« بلى »

« هل رأيت إلهك؟ »

« لا »

« هل سمعت كلامه؟ »

« لا »

« أشممت له رائحة؟ »

« لا »

« ما يدريك أنه إله؟ »

فأجابهم جهم برائع الحجة قائلا :

« ألستم تزعمون أن فيكم روحا؟ »

« بلى »

__________________

(١) بحار الأنوار ، ورويت هذه الرواية بصورة موجزة في توحيد الصدوق.

(٢) السمنية : طائفة من الهند تقول بتناسخ الأرواح.

١٦٨

« هل رأيتم روحكم؟ »

« لا »

« هل سمعتم كلامها؟ »

« لا »

« فكذلك الله لا يرى له وجه ، ولا يسمع له صوت ، ولا تشم له رائحة ، وهو غائب عن الأبصار ، ولا يكون في مكان دون مكان » (١).

كما أن هناك جدلا حادا بين المسلمين والنصارى في ذلك العصر ، وكان يوحنا الدمشقي هو الرأس المفكر للعالم المسيحي ، وقد ألف رسالة في الرد على المسلمين ، وكان نديما ليزيد بن معاوية وابنه سرجون مشرفا على الشؤون المالية في دمشق (٢) وقد وقفت الحكومة الأموية موقف المتفرج أمام هذا الجدل العقائدي ، ولم تتخذ أي موقف حاسم ضد الذين أثاروا التشكيك في الأصول العقائدية للاسلام.

الثورات العارمة.

وتفجرت السياسة الأموية ببركان مدمر من الظلم والجور عصف باقتصاد الأمة ، وأمنها ورخائها ، ولم يعد على الصعيد الاجتماعي أي ظل لكرامتها وعزتها وحريتها ، فقد أخذت ترزح مثقلة بالقيود تحت وطأة ذلك الحكم الذي كفر بحقوق الانسان ، وانحرف عن كل قصد سليم.

وانطلقت الشعوب الاسلامية كالمارد الجبار بعد أن عانت الأهوال

__________________

(١) الرد على الجهمية والزندقة ( ص ١١ ) لابن حنبل.

(٢) الفرق الاسلامية في العصر الأموي ( ص ٢٨٦ ).

١٦٩

والخطوب من الحكم الأموي ، وهي تعلن العصيان المسلح في ثورات رهيبة متلاحقة حتى قضت على جبروت ذلك الحكم ، وطغيانه ، وكان من أهم الثورات التي حدثت في عصر الامام أبي جعفر (ع) ما يلي :

ثورة المدينة :

وسماها المؤرخون بواقعة « الحرة » وهي أفجع حادثة في الاسلام بعد كارثة كربلا ، فقد انتهكت فيها جميع الحرمات ، واستباح الجيش الآثم نفوس المسلمين وأموالهم وأعراضهم ، أما سبب هذه الثورة فهو أن خيار المسلمين من بقايا الصحابة وأبنائهم رأوا في عهد يزيد جورا شاملا ، وسلطانا ظالما ، قد اقترف جميع الموبقات ، وقد انتهك حرمة رسول الله (ص) بإبادته لعترته ، وسبيه لذراريه ، فرأوا أن الخروج عليه واجب شرعي ، وقد أدلى بذلك أحد زعماء الثورة عبد الله بن حنظلة يقول : « والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء .. ان رجلا ينكح الأمهات والبنات ويشرب الخمر ويدع الصلاة والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاء حسنا .. » (١).

ويقول المنذر بن الزبير أحد قادة الثورة : « إنه ـ أي يزيد ـ قد أجازني بمائة ألف ، ولا يمنعني ما صنع بي أن أخبركم خبره ، والله إنه ليشرب الخمر ، والله إنه ليسكر حتى يدع الصلاة » (٢).

وأجمع رأي أهل المدينة على خلع بيعة يزيد ، فطردوا حاكمهم وأخذوا

__________________

(١) طبقات ابن سعد.

(٢) الطبري ٤ / ٣٦٨.

١٧٠

يطاردون الأمويين ويراقبونهم وخاف الدنس مروان بن الحكم على نسائه من أهل المدينة فخف إلى عبد الله بن عمر ليحميها من الثوار ، فاعتذر ابن عمر ، ولم يجبه إلى شيء فخف إلى الامام زين العابدين (ع) فأجابه (ع) إلى ذلك وتناسى إساءة مروان لأهل البيت (ع) وقام (ع) بالانفاق عليها وهرب مروان من يثرب فزعا من الثوار (١) وبعث الطاغية يزيد ابن معاوية جيشا مكثفا إلى احتلال يثرب ، وقد أسند قيادته إلى أخطر مجرم لم يعرف التأريخ البشري له نظيرا في قسوته وجفائه وتمرده على الحق ، أما ذلك المجرم فهو مسلم بن عقبة الذي سماه المؤرخون بالمسرف وقد قال إلى يزيد : « والله لأدعن المدينة أسفلها أعلاها ».

وعهد إليه يزيد باحتلال المدينة وأن يبيحها إلى جيشه ثلاثة أيام يصنعون بأهلها ما شاءوا وما أحبوا.

وزحف المسرف الأثيم بجنوده إلى يثرب فاحتلها بعد معارك دامية لم يبد فيها أهل المدينة بسالة ولا صمودا ، وراح الجيش الآثم يمعن في قتل الأبرياء والأطفال والعجز ، وقد استباحوا كل ما حرمه الله ، وقد فقدت المدينة في هذه الواقعة ثمانين من أصحاب رسول الله (ص) حتى لم يبق بها بدري كما فقدت سبعمائة من قريش والأنصار ، وعشرة آلاف من سائر الناس (٢) ، وقد أخذ الطاغية البيعة من أهل المدينة على أنهم خول وعبيد ليزيد يصنع بهم ما أراد ، ومن أبى ضربت عنقه (٣) وجرت أحداث مروعة ومذهلة على أهل المدينة فلم يرع الجيش الأموي حرمة

__________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٣١١.

(٢) تأريخ الطبري ٧ / ٥ ـ ١٢.

(٣) تأريخ اليعقوبي ٢ / ٢٣٢ أنساب الأشراف ٤ / ق ٢ / ٣٨.

١٧١

الرسول (ص) في أنصاره الذين ناظلوا عن الاسلام أيام محنته وغربته.

ويقول بعض المؤرخين : إن الامام زين العابدين كان قد فزع إلى قبر جده رسول الله (ص) مستجيرا فألقي عليه القبض ، وجيء به إلى الطاغية المسرف في دماء المسلمين ، فلما رأى الامام ارتعدت فرائصه من هيبته (١) وقام إليه تكريما ، وقال له : سلني حوائجك فأخذ يتشفع بمن حكم عليه بالاعدام فأجابه إلى ذلك وخرج الامام من عنده فقيل للطاغية السفاح رأيناك تسب هذا الغلام وسلفه فلما أتى إليك رفعت منزلته؟ فقال : ما كان ذلك لرأي مني ، ولكن قد ملئ قلبي منه رعبا (٢).

وعلى أي حال فقد استسلمت مدينة النبي (ص) إلى جيش عات ظلوم قد عاث فيها فسادا ، وتركها واحة موحشة ، قد ملئت بيوتها بالثكل والحزن والحداد.

ولما انتصرت جيوش يزيد في واقعة الحرة تمثل بقول شاعر قريش في معركة أحد وهو عبد الله بن الزبعرى :

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

وزاد عليه قوله :

__________________

(١) جاء في عيون الأخبار وفنون الآثار ( ص ١٦٦ ) أن مروان بن الحكم كان إلى جانب مسلم بن عقبة فلما سمع سبه للامام زين العابدين جعل يغريه به ويحرضه على قتله ، وقد تناسى مروان اليد البيضاء التي أسداها عليه الامام (ع) من إيواء حرمه ، والانفاق عليهن ، والحفاظ عليهن من أيدي الثوار.

(٢) مروج الذهب ٣ / ١٨.

١٧٢

لأهلوا واستهلوا فرحا

ثم قالوا يا يزيد لا تشل

ثم عاد إلى الاستشهاد بقول ابن الزبعرى :

فجزيناهم ببدر مثلها

وأقمنا ميل بدر فاعتدل

وتركت تلك الصور في نفس الامام الباقر (ع) اللوعة والأسى ، وكان عمره الشريف أيام تلك المحنة الحازبة ما يقارب السبع سنين.

ثورة التوابين :

وكان مركزها الكوفة ، فقد ندم الشيعة هناك على ما اقترفوه من عظيم الاثم في خذلانهم لسيد الشهداء الامام الحسين (ع) في حين أنهم هم الذين كاتبوه بالقدوم إلى مصرهم وألحوا عليه برسائلهم ووفودهم ، وقد رأوا أن لا كفارة لهم سوى إعلان الثورة على حكومة يزيد ، والمطالبة بدم الامام الحسين (ع) واستئصال المجرمين من قتلته ، وكان زعيم التوابين سليمان بن صرد الخزاعي ، فقد أنتخب قائدا عاما للثورة وأناطوا به وضع الخطط السياسية والعسكرية ، ومراسلة المناطق التي تضم الشيعة في العراق وخارجه.

وأخذ التوابون يجمعون الأموال والتبرعات وأحاطوا أمرهم بكثير من السر والكتمان ، ولما هلك الطاغية الفاجر يزيد بن معاوية أعلن التوابون ثورتهم العارمة وذلك في سنة ( ٦٥ ه‍ ) وكان عددهم فيما يقول المؤرخون أربعة آلاف ، وقد نادوا بشعارهم :

« يا لثارات الحسين »

ولأول مرة دوى هذا النداء المؤثر في سماء الكوفة فكان كالصاعقة

١٧٣

على رءوس السفكة المجرمين الذين اقترفوا أفظع جريمة في تأريخ الانسانية.

وزحفت تلك القوى العسكرية إلى عين الوردة فأقامت فيها وانطلقت إليها جنود أهل الشام ، فالتحمت معها التحاما رهيبا ، وجرت بينهما أعنف المعارك ، وأشدها ضراوة وأبدى التوابون من البسالة والصمود ما يعجز عنه الوصف ، واستشهد في تلك المعارك قادة التوابين كسليمان ابن صرد والمسيب بن نجبة وعبد الله بن سعد وغيرهم ، ورأى التوابون أن لا قدرة لهم على مناجزة أهل الشام فتركوا ساحة القتال ، ورجعوا في غلس الليل البهيم إلى الكوفة ، ولم تتعقبهم جيوش أهل الشام وقد مضى كل جندي إلى بلده ، وانتهت بذلك معركة التوابين إلا أنها قد ملئت قلوب السفكة المجرمين فزعا ورعبا كما أدخلت السرور والفرح على أهل البيت (ع) الذين أثكلهم الخطب بمصيبة سيد الشهداء (ع) وهم ينتظرون بفارغ الصبر أن ينتقم الله من الظالمين ، ويأخذ بثأرهم من السفكة المجرمين.

ثورة المختار :

المختار ألمع شخصية عرفها التأريخ العربي والاسلامي ، فقد كان من أبرز السياسيين في رسم المخططات ، ووضع المناهج للتغلب على الأحداث ، وقد كان على جانب كبير من الدراية بعلم النفس ، والالمام بوسائل الدعاية والاعلام ، وكان يخاطب عواطف الناس ، كما كان يخاطب عقولهم ، وكان لا يكتفي بوسائل الدعاية المعروفة حينئذ كالخطابة

١٧٤

والشعر بل لجأ إلى وسائل كثيرة للدعاية منها التمثيل والمظاهرات والاشاعات (١).

وهو من أعلام الشيعة وسيف من سيوف آل رسول الله (ص) ولم يفجر المختار ثورته طمعا في الحكم ، وإنما لأخذ الثأر لآل النبي (ص) ويرى بعض المستشرقين ان المختار كان مخلصا في دعوته وانتصاره للشيعة كما ان حركته وما انطوت عليه من مساواة الموالي للعرب قد أتاحت للاسلام أن ينتشر فيما بعد بين الشعوب غير العربية (٢) وقد شكك ولها وزن فيما نسب إلى المختار من أنه إنما اتخذ المطالبة بدم الحسين وسيلة للظفر بالحكم (٣).

وقد اتهم هذا العملاق العظيم باتهامات رخيصة كادعاء النبوة وغيرها من النسب الباطلة التي هي بعيدة عنه ، وإنما اتهموه بذلك لأنه أخذ بثأر الامام العظيم أبي الأحرار (ع) وأسقط بثورته هيبة الحكم الأموي ، كما أنه ساوى بين العرب والموالي فلم يميز أحدا على أحد ، وقد رام أن يسلك في سياسته على ضوء سياسة الامام أمير المؤمنين (ع) ويقتدي بهديه في السياسة الاقتصادية ، والاجتماعية.

وكان على جانب كبير من التقوى والحريجة في الدين ويقول المؤرخون انه كان في أيام حكومته القصيرة الأمد يكثر من الصوم شكرا لله تعالى لأنه وفقه للأخذ بثأر العترة الطاهرة وإبادته للأرجاس من أتباع الأمويين

__________________

(١) المختار ( ص ٤٣ ).

(٢) دائرة المعارف الاسلامية ٣ / ٧٦٥ من الطبعة الفرنسية.

(٣) الخوارج والشيعة ( ص ٢٣٧ ).

١٧٥

فزع السفكة المجرمين :

وساد الرعب ، وعم الخوف والفزع أولئك المجرمين الذين قتلوا سيد الأحرار والأباة الإمام الحسين ، وقد فر بعضهم إلى عبد الملك بن مروان ليحميه من المختار وقد خاطبه شخص منهم فقال له :

ادنوا لترحمني وترتق خلتي

وأراك تدفعني فأين المدفع(١)

وانهزم عبد الملك بن الحجاج التغلبي فلجأ إلى عبد الملك فقال له :

« إني هربت إليك من العراق »

فصاح به عبد الملك :

« كذبت ليس لنا هربت ، ولكن هربت من دم الحسين ، وخفت على دمك فلجأت إلينا » (٢).

وهرب بعضهم إلى ابن الزبير فانظم إلى جيشه ، وقاتل معه خوفا من المختار.

وعلى أي حال فقد أشاع المختار الفزع والارهاب في بيوت الأوغاد الجبناء من قتلة الامام الحسين (ع) وملأ قلوبهم رعبا ، وممن ناله الفزع والرعب أسماء بن خارجة أحد الذين اشتركوا في قتل الحسين (ع).

فقد قال المختار : « لتنزلن من السماء نار دهماء ، فلتحرقن دار أسماء » فنقل قوله إلى أسماء فهرب فزعا وهو يقول : « أوقد سجع بي

__________________

(١) حياة الامام الحسين ٣ / ٤٥٥.

(٢) عيون الأخبار لابن قتيبة ١ / ١٠٣.

١٧٦

أبو اسحاق هو والله محرق داري » فتركه وترك الدار وهرب من الكوفة.

الابادة الشاملة :

وأسرع المختار إلى تنفيذ حكم الاعدام بلا هوادة بكل من اشترك في قتل سيد شباب أهل الجنة الامام الحسين فقتل المجرم الخبيث ابن مرجانة ، وعمر بن سعد ، مع ولده حفص ، وبعث برءوسهم إلى يثرب هدية لأهل البيت (ع) وقد نالت سرورهم ، وحكى لنا الامام أبو عبد الله الصادق (ع) مدى فرحهم بقوله : « ما امتشطت فينا هاشمية ، ولا اختضبت حتى بعث المختار إلينا برءوس الذين قتلوا الحسين (١) وأثنى عليه الامام أبو جعفر (ع) فقد قال للحكم بن المختار : رحم الله أباك ما ترك لنا حقا عند أحد.

وبعث المختار بعشرين ألف دينار إلى الامام زين العابدين فقبلها وبنى بها دور بني عقيل التي هدمتها بنو أمية (٢).

لقد كان المختار من حسنات عصره ومن مفاخر الأمة الاسلامية بتقواه وحريجته في الدين ، وقد شفى الله بثورته صدور المؤمنين فقد قضى على تلك الزمرة الخائنة ، وأذاقها وبال ما جنت أيديها ومما لا شبهة فيه أنه قد استهدف بثورته الخالدة القضايا المصيرية للأمة من نشر المساواة والعدالة الاجتماعية بين الناس وإعادة سيرة الامام أمير المؤمنين (ع) وسياسته المشرقة بين المسلمين ... وبهذا العرض الموجز ينتهي بنا

__________________

(١) الكشي.

(٢) سفينة البحار ١ / ٤٣٥.

١٧٧

الحديث عن ثورة المختار.

ثورة ابن الزبير :

أما ثورة ابن الزبير فلم تهدف إلى صالح الأمة وإسعادها وإنما جاءت لنقل الخلافة والملك إلى آل الزبير الذين لم يفكروا قط في غير مصلحتهم ويدلل على ذلك ما قاله عبد الله بن عمر لزوجته حينما ألحت عليه بمبايعته قال لها : « أما رأيت بغلات معاوية التي كان يحج عليها الشهباء؟ فان ابن الزبير ما يريد غيرهن » (١).

لقد كان ابن الزبير يبغي الملك والسلطان ، ولا يبغي بثورته وجه الله ومصلحة الأمة وقد تسلح للاستيلاء على السلطة بكل وسيلة فكان يظهر النسك والعبادة لاغراء السذج والبسطاء يقول الامام أمير المؤمنين فيه : « ينصب حبالة الدين لاصطفاء الدنيا » (٢) ونعرض لبعض شئونه :

بخله :

ومن أبرز ذاتياته البخل ، فقد غلت يده إلى عنقه من شدة حرصه وشحه ، وكانت هذه الظاهرة من أهم الأسباب في الاطاحة بحكومته وسلطانه.

وقد روى المؤرخون صورا كثيرة من بخله وشحه كان منها : أن الشاعر عبد الله بن الزبير الأسدي ، وفد عليه يطلب منه أن يجود عليه

__________________

(١) حياة الامام الحسين ٢ / ٣١٠.

(٢) شرح النهج ٧ / ٢٤.

١٧٨

فقال يستعطفه :

« يا أمير المؤمنين إن بيني وبينك رحما من قبل فلانة ... » وظن أنه بذلك يجلب عطفه فينعم عليه ، فرد عليه ابن الزبير قائلا :

« نعم هذا كما ذكرت ، وإن فكرت في هذا أصبت أن الناس بأسرهم يرجعون إلى أب واحد ، وإلى أم واحدة ... »

ولما رأى الأسدي أن هذا لا يجدي معه قال له :

« يا أمير المؤمنين إن نفقتي نفدت ... »

ولم يخجل ابن الزبير وراح يقول له :

« ما كنت ضمنت لأهلك أنها تكفيك إلى أن ترجع إليهم »

وراح الأسدي يتوسل إليه ويستعطفه قائلا :

« يا أمير المؤمنين ناقتي قد نقبت ... »

فنهره ابن الزبير وقال :

« انجد (١) بها تبرد خفها ، وارفعها بسبت (٢) واخفضها بهلب (٣) وسر عليها البردين (٤) ... »

وضاق الأسدي ذرعا وطفق يقول له :

« يا أمير المؤمنين إنما جئتك مستحملا ، ولم آتك مستوصفا ، لعن الله ناقة حملتني إليك ... »

__________________

(١) انجد بها : أي عد بها إلى بلدك نجد.

(٢) السبت : الجلد المدبوغ ، ويراد به السوط والمعنى إذا أردت أن تسرع بك فاضربها بسوط.

(٣) الهلب : الشعر.

(٤) البردان : الغداة والعشي.

١٧٩

فصاح به ابن الزبير :

« إن وراكبها ... »

وخرج الأسدي وهو يقول :

أرى الحاجات عند أبي خبيب

نكدن ولا أمية في البلاد(١)

من الأعياص (٢) أو من آل حرب

أغر كغرة الفرس الجواد

وقلت لصحبتي أدنوا ركابي

أفارق بطن مكة في سواد

ومالي حين أقطع ذات عرق (٣)

إلى ابن الكاهلية (٤) من معاد(٥)

وعاب عليه مولاه أبو حرة شحه قال :

إن الموالي أمست وهي عاتبة

على الخليفة تشكو الجوع والحربا

ما ذا علينا وما ذا كان يرزؤنا

أي الملوك على ما حولنا غلبا

وكان ابن الزبير يقول : إنما بطني شبر فما عسى أن يسع ذلك من الدنيا؟ وأنا العائذ بالبيت ، والمستجير بالرب (٦) وقد أثارت عليه هذه الكلمة السخرية من جميع الأوساط ، وقد تهكم به الضحاك بن فيروز الديلمي قال :

تخبرنا أن سوف تكفيك قبضة

وبطنك شبر أو أقل من الشبر

وأنت إذا ما نلت شيئا قضمته

كما قضمت نار الغضا حطب السدر

__________________

(١) أبو خبيب : كنية عبد الله بن الزبير.

(٢) الاعياص : أولاد أمية بن عبد شمس.

(٣) ذات عرق : أحد مواقيت الحج وهو ميقات أهل العراق.

(٤) ابن الكاهلية : هو ابن الزبير ، وقد عيره الشاعر بذلك.

(٥) تأريخ الخلفاء للسيوطي ( ص ٢١٣ ).

(٦) الأغاني ١ / ٢٢.

١٨٠