حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل

باقر شريف القرشي

حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦
الجزء ١ الجزء ٢

جاهليتهم الأولى ، فقد أخذ بعضهم يفخر على بعض بالآباء ، والأنساب ، وقد لوحظت هذه الظاهرة في شعر ذلك العصر الذي يمثل انطباعات ذلك المجتمع فقد تسابق الشعراء إلى الافتخار بالأنساب ، وغدا للهجاء سوق كبير ، ويلحظ ذلك بصورة ظاهرة في شعر الفرزدق وجرير ، فأنك تجد أكثر ما أثر عنهما من الشعر قد كان في هذا الموضوع ، وقد انتهز هذه الفرصة شاعر العلويين الكميت فأشاد بمناقب قومه من مضر وفضلهم على القحطانيين فأثار بذلك الفتنة بين القبائل مما يعتبر عاملا أصيلا في الإطاحة بالحكم الأموي ، وكان مما قاله في مدح قومه وهجاء القحطانيين :

لنا قمر السماء وكل نجم

تشير إليه أيدي المهتدينا

وجدت الله إذ سمى نزارا

وأسكنهم بمكة قاطنينا

لنا جعل المكارم خالصات

وللناس القفا ولنا الجبينا

وما خربت هجائن من نزار

فوالح من فحول الاعجمينا

وما حملوا الحمير على عتاق

مطهمة فيلفوا مبغلينا (٢)

وما ولدت بنات بني نزار

حلائل أسودين وأحمرينا

بنى الأعمام أنكحنا الايامى

وبالآباء سمينا البنينا (٣)

لقد فخر بهذه الأبيات على اليمينة فعيرهم بأنهم يزوجون بناتهم للحبش والفرس فتولد بناتهم السود والحمر ، فكان هذا النسل يشبه تلقيح الحمير للخيل العتاق التي تنتج البغال.

__________________

(١) الهجائن : الحرات الكريمات ، الفوالخ : جمع فالخ ، ويراد به الزوج.

(٢) عتاق مطهمة : يراد بها النساء العربيات الشريفات.

(٣) مروج الذهب ٢ / ١٩٦.

١٤١

وقد أثار هذا الشعر حفائظ القحطانيين ، وأجج نار الفتنة بينهم وبين المضريين وقد انبرى للدفاع عنهم دعبل الخزاعي ، وأكاد أعتقد أنه على اتّفاق مع الكميت في ذلك لتأجيج نار الفتنة بين القبائل واضعافها وقد كانت القصيدة التي رد بها على الكميت قد بلغت ستمائة بيت (١) ومما جاء فيها :

أفيقي من ملامك يا ظغينا

كفاك اللوم مر الأربعينا

ألم تحزنك أحداث الليالي

يشبن الذوائب والقرونا

أحي الغر من سروات قومي

لقد حييت عنا يا مدينا

فإن يك آل إسرائيل منكم

وكنتم بالاعاجم فاخرينا

فلا تنسى الخنازير اللواتي

مسخن مع القرود الخاسئينا

بأيلة والخليج لهم رسوم

وآثار قدمن وما محينا

وما طلب الكميت طلاب وتر

ولكنا لنصرتنا هجينا

لقد علمت نزار أن قومي

إلى نصر النبوة فاخرينا

وتتابع فخر النزارية على اليمينة ، وفخر اليمنية على النزارية حتى تخربت البلاد وثارت العصبية في البدو والحضر (٢).

وعلى أي حال فإن الطابع العام للأدب في ذلك العصر كان هو التفاخر والتنابز ولم يكن يمثل وعيا ولا جدا في الفكر ، ولا فيه دعوة إلى الخير وإنما فيه دعوة إلى ما يضر الناس.

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ١٩٧.

(٢) مروج الذهب ٢ / ١٩٧.

١٤٢

الحياة السياسية :

أما الحياة السياسية في ذلك العصر فقد كانت بشعة للغاية ، فقد عمت الناس الفتن والاضطرابات وسادت الأحداث الرهيبة التي كان من أبرزها فقدان الأمن وانتشار الخوف ، وكان الناس يعيشون على أعصابهم من جراء الثورات الدامية التي ذهب ضحيتها آلاف من الناس ، وقد كانت من النتائج الحتمية لسوء السياسة الأموية التي لم تضع نصب أعينها مصلحة شعوبها ، وإنما استهدفت تحقيق أهدافها ومآربها ... ونلمح إلى بعض مظاهر الحياة السياسية في ذلك العصر.

الأحزاب السياسية

وتشكلت في ذلك العصر عدة أحزاب ، قد سار معظمها في المنعطفات ، واستخدمت جميع الطرق الدبلوماسية للوصول إلى الحكم من دون أن تعني بمصلحة الأمة ، وقد كان الصراع فيما بينها كأشد ما يكون الصراع الحزبي عنفا وقسوة ، وهذه بعض الأحزاب.

١ ـ الحزب الأموي :

وهو الحزب الحاكم في ذلك الوقت ، وقد توصل إلى الحكم بشتى ألوان الخداع والتضليل ، فقد اتّخذ الأمويون دم عثمان الذي سفكته القوى

١٤٣

الشعبية شعارا لنيل أهدافهم وقد أقاموا الدنيا وأقعدوها على دم عميدهم في حين أنهم هم الذين خذلوه ، وما نصروه حينما أحاط به الثوار مطالبين بتحقيق العدالة الاجتماعية ، وقد بقي أياما محاصرا وهو بمرأى من الأمويين ومسمع فلم يهبوا لنجدته حتى أجهز عليه الثوار ، وقد طبل الأمويون بدم عثمان للاستيلاء على السلطة والظفر بخيرات البلاد ، وحينما جاءهم الملك اعتمدوا في سياستهم على جميع الوسائل التي لا يقرها الدين وكان من بينها.

أ ـ إنهم خدعوا أهل الشام فأوهموا عليهم أنهم أقرب الناس إلى رسول الله (ص) وألصقهم به ، وقد اعتقد الشاميون بذلك ، ولم يستبن لهم الحال إلا بعد انقلاب الحكم الأموي ومجيء الحكم العباسي ، وقد نظم بعض الشعراء ذلك بقوله :

أيها الناس اسمعوا أخبركم

عجبا زاد على كل العجب

عجبا من عبد شمس أنهم

فتحوا للناس أبواب الكذب

ورثوا أحمد فيما زعموا

دون عباس بن عبد المطلب

كذبوا والله ما نعلمه

يحرز الميراث إلا من قرب(١)

ب ـ إنهم استخدموا لجان الوضع في افتعال الأخبار على لسان الرسول الأعظم (ص) من أن بني أمية هم سادة الخلق ، وأقرب الناس منزلة عند الله ، وقد بذل الأمويون الأموال الطائلة للوضاع تدعيما لملكهم وسلطانهم.

ج ـ إنهم استخدموا الشعراء في مدحهم والثناء عليهم ، وقد أجزلوا لهم العطاء ، ووهبوهم الثراء العريض لأن الشعر في ذلك العصر كان

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٧٣.

١٤٤

من أقوى وسائل الاعلام ، ويقول المؤرخون إن مروان بن محمد وهب شاعره أبا العباس الأعمى من الأموال ما أغنته أن يسأل أحدا من بعده وهو الذي مدحه بهذا الشعر الجزل :

ليت شعري أفاح رائحة المس

ك وما أخال بالخيف أنسي

حين غابت بنو أمية عنه

والبهاليل من بني عبد شمس

خطباء على المنابر فرسا

ن عليها وقالة غير خرس

لا يعابون صامتين وإن قا

لوا أصابوا ولم يقولوا بلبس

بحلوم إذا الحلوم تقضت

ووجوه مثل الدنانير ملس(١)

وممن استخدمه الأمويون بالمال أعشى ربيعة الشيباني ، فقد مدح عبد الملك بن مروان فقال :

وما أنا في أمري ولا في خصومتي

بمهتضم حقي ولا قارع سني

وفضلني في الشعر واللب أنني

أقول على علم وأعرف ما أعني

فأصبحت إذ فضلت مروان وابنه

على الناس قد فضلت خير أب وابن

فأحسن عبد الملك جائزته وقد اشترى منه ضميره فراح يكيل المدح والثناء لبني مروان بلا حساب (٢).

وممن أخلص لبني مروان عدي بن الرقاع لأنهم وهبوا له الثراء العريض فقد مدح الوليد بن عبد الملك وقال فيه :

هو الذي جمع الرحمن أمته

على يديه وكانوا قبله شيعا

إن الوليد أمير المؤمنين له

ملك عليه أعان الله فارتفعا

هو القائل فيه :

__________________

(١) الأغاني ١٥ / ٥٩ ـ ٦٣.

(٢) الأغاني ١١ / ٢٧١.

١٤٥

ولقد أراد الله إذ ولاكها

من أمة إصلاحها ورشادها

أعمرت أرض المسلمين فأقبلت

وكففت عنها من يروم فسادها

وأصبحت في أرض العدو مصيبة

عمت أقاصي غورها ونجادها

ظفرا ونصرا ما تناول مثله

أحد من الخلفاء كان أرادها(١)

وقد استخدم يزيد بن معاوية الأحوص فمنحه الأموال الطائلة فراح يقول فيه :

ملك تدين له الملوك مبارك

كادت لهيبته الجبال تزول

تجي له بلخ ودجلة كلها

وله الفرات وما سعى والنيل

إن هيبة يزيد التي تزول منها الجبال جاءته من إدمانه على الخمر ومز أملته للقرود والفهود ، وقتله لعترة رسول الله (ص) وإباحته لمدينة الرسول (ص).

وعلى أي حال فان الأمويين قد استخدموا الشعراء لدعم سياستهم وفرض حكمهم على الناس.

هذه بعض الوسائل التي استخدمها الحزب الأموي لاقامة سلطانهم.

٢ ـ الحزب الزبيري

ويرى هذا الحزب أن أسرة الزبير وعلى رأسها عبد الله بن الزبير هي أولى بالحكم ، وذلك لقربهم من النبي (ص) لأن الزبير أمه صفية عمة النبي (ص) كما أنه أحد المرشحين الستة للخلافة حسب برنامج الشورى الذي وضعه عمر بن الخطاب ، وأهم دعاة هذا الحزب وأنصاره الشاعر

__________________

(١) الاغاني ١٥ / ٥٩ ـ ٦٣.

١٤٦

الكبير ابن قيس الرقيات ، وهو الذي قال في مصعب بن الزبير :

إنما مصعب شهاب من الله تجلت عن وجه الظلماء

ملكه ملك قوة ليس فيه

جبروت منه ولا كبرياء

يتقي الله في الأمور وقد أف

لح من كان همه الاتقاء(١)

ودعا ابن قيس إلى الثورة العارمة على بني أمية قال :

كيف نومي على الفراش ولما

تشمل الشام غارة شعواء

تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي

عن براها العقلية العذراء

أنا عنكم بني أمية مزور

وأنتم في نفسي الأعداء

إن قتلى بالطف قد أوجعتني

كان منكم ـ لئن قتلتم ـ شفاء(٢)

ومن شعرائهم المناضلين عنهم النابغة الجعدي فقد قال في ابن الزبير :

حكيت لنا الصديق لما وليتنا

وعثمان والفاروق فارتاح معدم

وسويت بين الناس في العدل فاستووا

فعاد صباحا حالك اللون مظلم

أتاك أبو ليلى يشق به الدجى

دجى الليل جوّاب الفلا عثمثم(٣)

لترفع منه جانبا ذعذعت به

صروف الليالي والزمان المصمم (٤)

لقد أشاد النابغة بعبد الله بن الزبير وفخر بعدالته في الحكم وشبهه بأبي بكر وعمر وعثمان ، فهو جدير بالخلافة حسب ما يرى الجعدي وغيره من الدعاة ، ولكن هذا الحزب لم يدم طويلا فانه حينما قضى الحجاج على ابن الزبير تلاشى وذهب أدراج الرياح.

__________________

(١) ديوان ابن قيس الرقيات ( ص ١٧٦ ).

(٢) الاغاني ٥ / ٧٨.

(٣) عثمثم : الجمل الشديد.

(٤) ذعذعت : اذهبت ماله ، وفرقت حاله ، المصمم : المؤذي القاطع.

١٤٧

٣ ـ الخوارج

وهم الذين يؤمنون بضرورة الثورة على كل حكم قائم في البلاد الاسلامية إذا لم يحمل مبادئهم وأفكارهم ، وقد أشرنا في البحوث السابقة إلى بعض مبادئهم.

أما دعاتهم فكثيرون منهم الطرماح ، فقد أثنى عليهم ومجدهم كثيرا ومما قاله فيهم :

لله در الشراة إنهم

إذا الكرى مال بالطلا أرقوا

يرجعون الحسنين آونة

وإن علا ساعة بهم شهقوا

خوفا تبيت القلوب واجفة

تكاد عنها الصدور تنفلق

كيف أرجي الحياة بعدهم

وقد قضى مؤنسي فانطلقوا

قوم شحاح على اعتقادهم

بالفوز مما يخاف قد وثقوا(١)

ولهم شعراء أخر مجدوا مبادئهم ، ودعوا قومهم إلى الثورة على الحكومات القائمة آنذاك.

٤ ـ الشيعة

وانظم إلى هذا الحزب كبار الصحابة وأعلام الاسلام أمثال سلمان الفارسي ، وعمار بن ياسر ، وأبي ذر ، وذي الشهادتين وغيرهم من الذين ساهموا في بناء الاسلام ، وإقامة صروحه ، وقد آمن هذا الحزب

__________________

(١) ديوان الطرماح ( ص ١٥٧ ).

١٤٨

إيمانا لا يخامره شك في أن أهل البيت أحق بالخلافة ، وأولى بها من غيرهم لأنهم الثقل الأكبر وسفن النجاة وأمن العباد حسبما يقول الرسول (ص) بالاضافة إلى مواهبهم وعبقرياتهم التي لا تحد ، وكان لسانهم والناطق باسمهم في عصر الامام (ع) الكميت الأسدي فقد نافح عنهم ودافع واحتج وكان احتجاجه يعتمد على القرآن الكريم يقول :

وجدنا لكم في آل حميم آية

تأولها منا تقي ومعرب

وفي غيرها آيا وآيا تتابعت

لكم نصب فيها لذي الشك منصب

ويشير بذلك إلى الآيات التي وردت في حق أهل البيت (ع) ولكن القوم تأولوها وصرفوها عنهم.

لقد احتج الكميت للشيعة في هاشمياته التي تعتبر الوثيقة الرائعة لاحتجاجهم على ما يذهبون إليه ، وهي من أروع الثروات الفكرية في الاسلام ... وهنا ظاهرة في الشعر السياسي الشيعي وهو أن أصحابه قد مدحوا أهل البيت (ع) لا طمعا بالمال وإنما هو الاخلاص للحق.

وبهذا ينتهي الحديث عن الأحزاب السياسية في عصر الامام أبي جعفر (ع) وكان بينها صراع فكري كأعنف وأشد ما يكون الصراع ، وقد ذكرت مصادر التاريخ والأدب ألوانا كثيرة منه.

الفتن والاضطرابات :

ومنيت البلاد الاسلامية بالفتن والاضطرابات كانت نتيجة لسوء السياسة الأموية ، التي نشرت الفزع والارهاب ، وأذاعت الخوف في جميع أنحاء البلاد ، وقد وصف الشاعر الشهير الحارث بن عبد الله ما مني

١٤٩

به المسلمون من الأحداث بقوله :

أبيت أرعى النجوم مرتفقا (١)

إذا استقلت تجري أوائلها

من فتنة أصبحت مجللة (٢)

قد عم أهل الصلاة شاملها

من بخراسان والعراق ومن

بالشام كان شجاه (٣) شاغلها

فالناس منها في لون مظلمة

دهماء مثلجة غياطلها

يمسي السفيه الذي يعنف بالجه

ل سواء فيه وعاقلها

والناس في كربة يكاد لها

تنبذ أولادها حواملها

يغدون منها في كل مبهمة

عمياء تمني لها غوائلها

لا ينظر الناس في عواقبها

إلا التي لا يبين قائلها

كرغوة البكر أو كصيحة ح

بلى طوقت حولها قوابلها

فجاء فينا أزرى بوجهته

فيها خطوب حمر زلازلها(٤)

وقد جاء هذا الوصف رائعا ودقيقا للحياة العامة التي يعيشها الناس فقد عمتهم الفتن وسادهم الاضطراب ، وأصبحت الأوضاع المؤلمة الحديث الشاغل للناس ، ووصف حالة المجتمع شاعر آخر هو العباس بن الوليد بقوله الذي يخاطب به بني أمية :

إني أعيذكم بالله من فتن

مثل الجبال تسامى ثم تندفع

إن البرية قد ملت سياستكم

فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا

لا تلمحن ذئاب الناس أنفسكم

إن الذئاب إذا ما ألحمت رتعوا

__________________

(١) المرتفق : الواقف الثابت.

(٢) مجللة : أي شاملة.

(٣) الشجا الحزن.

(٤) حياة الامام موسى بن جعفر ١ / ٣١٩ ـ ٣٢٠.

١٥٠

لا تبقرن بأيديكم بطونكم

فثم لا حسرة تغني ولا جزع(١)

لقد كانت الفتن التي انصبت على المجتمع كالجبال ـ كما يقول ابن الوليد ـ ومن الطبيعي أنها كانت من جراء السياسة الأموية التي بنيت على الجور والظلم والتنكيل بالمواطنين ، مما أدى إلى انفجار شعبي أطاح بالحكم الأموي ، وقضى على معالم زهوه واستبداده.

حياة اللهو والترف.

وانغمس ملوك الأمويين باللهو والترف ، وتهالكوا على اللذة والمجون وأنفقوا خزينة الدولة على شهواتهم وملاذهم ، كما أن ذوي الثراء شايعوا الأمويين في التفنن بأنواع اللذة والمجون ، وانهم لم يتركوا لونا من ألوان الترف إلا استعملوه ، وقد شذوا بذلك عما كان سائدا في حياة المسلمين أيام عصر الرسول (ص) فقد كانت الحياة العامة تسودها التقشف والزهد في مباهج الحياة ، وقد سئلت عائشة عن ثوبها أيام الرسول (ص) فقالت : أما والله ما كان خزا ولا قزا ، ولا ديباجا ، ولا قطنا ولا كتانا ... إنما كان سداء من شعر ، ولحمته من أوبار الأبل (٢).

وتغيرت هذه الحياة تغيرا تاما في العصر الأموي ، فكان شباب بني مروان يرفلون في الوشي كأنهم الدنانير الهرقلية (٣) وكان مروان بن أبان بن عثمان يلبس سبعة أقمص كأنها درج بعضها أقصر من بعض ،

__________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٥ / ١٠٥.

(٢) العقد الفريد ١ / ٣٩٤.

(٣) الأغاني ١ / ٣١٠ طبع دار الكتب.

١٥١

وفوقها رداء عدني بألفي درهم (١) وكان عمر بن عبد العزيز أيام ولايته على المدينة يلبس الثوب بأربعمائة فيقول : ما أخشنه وأغلظه (٢) ويروي هارون بن صالح عن أبيه أنه قال : « كنا نعطي الغسال الدراهم الكثيرة حتى يغسل ثيابنا في أثر ثياب عمر بن عبد العزيز من كثرة الطيب الذي فيها (٣).

وتغيرت ثياب النساء في يثرب فكن يلبسن الديباج والحرير (٤) وغيرها كما أن الرجال أخذوا يلبسون المضرجات (٥) والممصرات والملونات (٦).

المغالات في المهور :

ومن مظاهر الترف في ذلك العصر المغالات في المهور فقد تزوجت السيدة عائشة بنت طلحة بعد وفاة زوجها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر بمصعب بن الزبير فأمهرها بألف ألف درهم (٧) ويقول المؤرخون عن ترفها أنها إذا حجت ذهبت ومعها ستون بغلة عليها الهوادج والرحائل

__________________

(١) الأغاني ١٧ / ٨٩.

(٢) طبقات ابن سعد ٥ / ٢٤٦.

(٣) الاغاني طبع دار الكتب ٩ / ٢٦٢.

(٤) طبقات ابن سعد ٨ / ٣٥٢.

(٥) المضرجة : هي الثياب المصبوغة بالحمرة الغير المشبعة بها وفوق الموردة

(٦) الاغاني طبع دار الكتب ٦ / ١٣.

(٧) الاغاني ١٠ / ٦٠.

١٥٢

فتعرض لها عروة بن الزبير فقال :

عائش يا ذات البغال الستين

أكل عام هكذا تحجين(١)

وعلى أي حال فان المغالات في المهر كانت أثرا من آثار الترف في ذلك العصر ، ولكنه خاص عند الأمويين ومن سار في ركابهم.

ترف النساء :

وكان من الطبيعي بعد حصول الثراء العريض عند الفئة الحاكمة ومن والاها أن يسود الترف عند النساء فقد روى المؤرخون أن عاتكة بنت يزيد بن معاوية استأذنت عبد الملك في الحج فقال لها : ارفعي حوائجك واستظهري ، فان عائشة بنت طلحة تحج ففعلت فجاءت بهيئة جهدت فيها ، فلما كانت بين مكة والمدينة إذا موكب قد جاء فضغطها ، وفرق جماعتها ، فقالت : أرى هذه عائشة بنت طلحة ، فسألت عنها ، فقالوا : هذه خازنتها ، ثم جاء موكب آخر أعظم من ذلك فقالوا : عائشة فضغطتهم ، فسألت عنه فقالوا : هذه ماشطتها ثم جاءت مواكب على هذه الهيئة إلى سننها ، ثم أقبلت كوكبة فيها ثلاثمائة راحلة عليها القباب والهوادج ، فقالت عاتكة ما عند الله خير وأبقى (٢).

وينقل الرواة والمؤرخون صورا كثيرة من ترف النساء في ذلك العصر كان منها أن مصعب أهدى إلى عائشة ثماني حبات من اللؤلؤ قيمتها عشرون ألف دينار ، فلما دخل عليها ليقدم هديته إليها وجدها نائمة

__________________

(١) الاغاني ١٠ / ٦٠.

(٢) الاغاني ١٠ / ٦٠.

١٥٣

فأيقضها فلما رأت الهذية لم تعن بها ، وقالت : كان النوم أحب إلي (١).

الغناء :

وشاع استعمال الغناء في العصر الأموي ، وكانت يثرب قد عنت بالغناء ، وكان ذلك أمرا مقصودا من قبل الحكم الأموي وذلك لاسقاط مكانة يثرب في نفوس المسلمين.

ويقول أبو الفرج : إن الغناء في المدينة لا ينكره عالمهم ، ولا يدفعه عابدهم (٢) وكان فقيه المدينة مالك بن أنس له معرفة تامة بالغناء فقد روى حسين بن دحمان الأشقر قال : كنت بالمدينة فخلا لي الطريق وسط النهار فجعلت أغني :

ما بال أهلك يا رباب

خزرا كأنهم غضاب

قال : فاذا خوخة قد فتحت ، وإذا وجه قد بدا تتبعه لحية حمراء فقال : يا فاسق أسأت التأدية ، ومنعت القائلة ، وأذعت الفاحشة ، ثم اندفع يغني فظننت أن طويا قد نشر بعينه فقلت له : أصلحك الله من أين لك هذا الغناء؟ فقال : نشأت وأنا غلام حدث أتبع المغنين وآخذ عنهم ، فقالت لي أمي : يا بني إن المغني إذا كان قبيح الوجه لم يلتفت إلى غنائه ، فدع الغناء واطلب الفقه فانه لا يضر معه قبح الوجه ، فتركت المغنين ، واتبعت الفقهاء ، فقلت له : فأعد جعلت فداك ، فقال لا ، ولا كرامة ، أتريد أن تقول : أخذته عن مالك بن أنس ، وإذا

__________________

(١) الأغاني ١٠ / ٥٧.

(٢) الأغاني ٣ / ٢٧٦.

١٥٤

هو مالك بن أنس ، ولم أعلم (١) ومن طريف ما ينقل أن دحمان المغني شهد عند القاضي لرجل من أهل المدينة على عراقي فأجازه القاضي فقال له العراقي : إنه دحمان فقال القاضي : أعرفه ، ولو لم أعرفه لسألت عنه ، قال العراقي : إنه يغني ويعلم الجواري الغناء! قال القاضي : غفر الله لنا ولك ، وأينا لا يغني (٢).

وهكذا انتشر الغناء في يثرب التي هي عاصمة الاسلام ، ومما لا شك فيه أن ذلك كان بوحي من الحكومة الأموية وتشجيع منها لاسقاط هيبة المدينة التي هي عاصمة الرسول (ص).

وقد شجعت الحكومة الأموية الغناء ووهبت الأموال للمغنين وقد روى المؤرخون أنه وفد على يزيد بن عبد الملك معبد ، ومالك بن أبي السمح وابن عائشة ، فأمر لكل واحد منهم بألف دينار (٣) وتوسع الوليد بن يزيد في جوائز المغنين فأعطى معبدا أثني عشر ألف دينار كما استقدم جميع مغني الحجاز وأجازهم جوائز كثيرة (٤) وقد راجت هذه الحرفة وأقبل الناس عليها حينما رءوا ملوك بنى أمية قد قربوا المغنين ، ووهبوهم الثراء العريض ومن طريف ما ينقل ما رواه المؤرخون أن الوليد بن يزيد لما ولي الخلافة استدعى عطرد من المدينة ، وكان جميل الوجه ، حسن الغناء طيب الصوت فغناه ، فشق الوليد حلة وشي كانت عليه ، ورمى بنفسه في بركة خمر ، فما زال بها حتى أخرج كالميت سكرا فلما أفاق قال

__________________

(١) الاغاني ٤ / ٢٢٢.

(٢) الاغاني ٦ / ٢١.

(٣) الاغاني ٥ / ١٠٩.

(٤) الاغاني ٥ / ١٦١.

١٥٥

له : كأني بك الآن قد أتيت المدينة فقمت في مجالسها ومحافلها وقلت : دعاني أمير المؤمنين فدخلت عليه فاقترح علي فغنيته ، وأطربته فشق ثيابه وفعل ، والله لئن تحركت شفتاك بشيء مما جرى فبلغني لأضربن عنقك ، ثم أعطاه ألف دينار فأخذها وانصرف إلى المدينة (١) وكثير من أمثال هذه الصور قد رواها المؤرخون وهي تدلل على خلاعة بني أمية واستهتارهم وإنهم قد انحرفوا عما ألزم به الاسلام من ترك حياة اللهو والعبث والمجون.

وضع الحديث :

وكان من أعظم ما عاناه المسلمون من المشاكل والخطوب هي الأحاديث المفتعلة التي وضعها من لا حريجة له في الدين ، لتشويه الواقع المشرق للاسلام ، وصرف المسلمين عن أحكام دينهم ، وتعاليم نبيهم ، وكان أول من تجرأ على الله ورسوله ، وفتح باب الوضع والافتعال هو معاوية ابن أبي سفيان ، فقد عمد إلى ذلك لتركيز أهدافه السياسية فشكل لجانا لوضع الحديث على لسان الرسول الأعظم (ص) وقد ذاعت تلك الأحاديث بين الناس وحفظها الرواة وهم لا يعلمون زيفها وعدم صحتها ، ولو علموا ذلك لنبذوها وطرحوها وقد أشار المدائني إلى ذلك بقوله :

« وظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة وكان أعظم الناس بلية في ذلك القراء المراءون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويقربوا مجلسهم ، ويصيبوا الأموال والضياع والمنازل

__________________

(١) الاغاني ٣ / ٣٠٧.

١٥٦

حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنون أنها حق ، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها » (١).

وكانت من أهم الدوافع لمعاوية وبني أمية في ذلك هو الحط من شأن العترة الطاهرة التي فرض الله مودتها في كتابه ، وقد عهدوا إلى لجان الوضع أن تضع الأحاديث في فضل الصحابة لارغام الهاشميين يقول المحدث ابن عرفة المعروف بنفطويه :

« إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت أيام بني أمية تقربا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم » (٢).

كما عهد معاوية إلى لجان الوضع أن تضع الأحاديث في ذم علي (ع) وتشويه سيرته قال ابن أبي الحديد :

« وذكر شيخنا أبو جعفر الاسكافي أن معاوية وضع قوما من الصحابة ، وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي تبتغي الطعن فيه ، والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله ، فاختلقوا ما أرضاه ، منهم أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير » (٣).

قال الامام أبو جعفر (ع) في عرض حديث له عن الأخبار الموضوعة : ويروون عن علي (ع) أشياء قبيحة ، وعن الحسن والحسين ما يعلم الله أنهم

__________________

(١) النهج ٣ / ١٦.

(٢) الفصائح الكافية ( ص ٧٤ ).

(٣) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ٦٣ ، ط دار احياء الكتب العربية.

١٥٧

قد رووا في ذلك الباطل ، والزور » (١).

وقد انتشر الكذب والافتعال بصورة مؤسفة ، يقول المحدث عاصم بن نبيل : ما رأيت الصالح يكذب في شيء أكثر من الحديث ، ويقول وكيع : إن زياد بن عبد الله مع شرفه في الحديث كان كذوبا ، ويقول يزيد بن هارون : إن أهل الحديث بالكوفة كانوا مدلسين حتى السفيانيين (٢) وكان من مظاهر ذلك الوضع ما رواه مسلم أن النبي (ص) أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد أو ماشية ، وقد أخبر ابن عمر أن أبا هريرة قد زاد أو كلب زرع فقال : إن له أرضا كان يزرعها (٣).

استغلال الزهري :

واستغلّ الأمويون المحدث الزهري فأخذ يضع لهم الحديث تدعيما لسياستهم ومن موضوعاته أنه روى عن النبي (ص) أنه قال : « لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مسجدي هذا ، والمسجد الحرام والمسجد الأقصى » وقد جعل بيت المقدس كالبيت الحرام مما يشد إليه الرحال ، وقد افتعل ذلك حينما حرم الأمويون السفر إلى بيت الله الحرام خوفا من الاختلاط بأهل الحجاز حينما كانوا خاضعين لحكومة ابن الزبير ، وقد حج أهل الشام إلى بيت المقدس بدلا من البيت الحرام (٤).

__________________

(١) سليم بن قيس ( ص ٤٥ ).

(٢) نظرة عامة في تاريخ الفقه الاسلامي ( ص ١٢٨ ).

(٣) صحيح مسلم كتاب الصيد.

(٤) نظرة عامة في تأريخ الفقه الاسلامي ( ص ١٢٩ ).

١٥٨

رواية مفتعلة على أبي جعفر :

ومن الروايات التي افتعلت على الامام أبي جعفر (ع) ما رواه أبو البختري قال : إن أبا حنيفة دخل على الامام أبي جعفر (ع) فقال له الامام : كأني بك وأنت تحي سنة جدي ، وقد اندرست ، وتكون معينا لكل ملهوف وغياثا لكل مهموم ، يسلك بك المتحيرون ، تهديهم إلى الواضح من الطريق إذا تحيروا فلك من الله العون والتوفيق حتى تشارك الربانيين في الطريق (١).

وهذه الرواية من موضوعات أبي البختري فقد ورد في ترجمته أنه أكذب من في البرية.

الكذابون على أبي جعفر :

وامتحن الامام أبو جعفر بجماعة من الخونة والمارقين الذين أخذوا يفتعلون الأحاديث على لسانه ، ويكذبون عليه ، ومن بينهم.

١ ـ بيان :

بيان بن سمعان النهدي من بني تميم (٢) كذاب مفتر على الله ورسوله

__________________

(١) مناقب الامام أبي حنيفة لابن البزاز ١ / ٣١ ط حيدرآباد.

(٢) لسان الميزان ٢ / ٦٩.

١٥٩

طلب الامام أبو جعفر وولده الامام الصادق (ع) من الشيعة التبري منه لأنه يكذب على الأئمة (ع) (١) روى زرارة عن أبي جعفر (ع) أنه قال : « لعن الله بنانا ـ أو بيانا ـ وأنه لعنه الله كان يكذب على أبي أشهد أن أبي علي بن الحسين كان عبدا صالحا « (٢) وقد ادعى بيان بعد وفاة أبي هاشم النبوة ، وكتب إلى أبي جعفر يدعوه إلى نفسه والاقرار بنبوته ، ويقول له : أسلم تسلم وترقق في سلم ، وتنح ، وتغنم فانك لا تدري أين جعل النبوة والرسالة وما على الرسول إلا البلاغ المبين ، وقد أعذر من أنذر » (٣).

ونسب إليه أنه كان يقول : بالهية علي والحسن والحسين (ع) ومحمد ابن الحنفية آله من بعدهم ، ثم من بعده ابنه أبو هاشم بنوع من التناسخ ومن أباطيله أنه كان يقول : إن الله تعالى يفنى جميعه إلا وجهه ، ويحتج بقوله تعالى : ( وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) وزعم أنه المراد بقوله تعالى : ( هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ ) (٤) وقد قتل هذا الخبيث على أباطيله وصلب (٥).

٢ ـ حمزة البربري :

حمزة بن عمارة البربري كان يكذب على الامام أبي جعفر الباقر (ع)

__________________

(١) رجال الكشي ( ص ٢٢٣ ).

(٢) معجم رجال الحديث ٣ / ٣٦٤.

(٣) فرق الشيعة ( ص ٣١ ).

(٤) تأريخ ابن الأثير ٤ / ٢٣١.

(٥) فرق الشيعة ( ص ٣١ ).

١٦٠