حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل

باقر شريف القرشي

حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦
الجزء ١ الجزء ٢

وإنعاشهم ، كما حرم على الولاة إنفاق القليل أو الكثير من المال في الأمور التي لا تعود على المسلمين بفائدة.

وعلى أي حال فان ازدهار الاقتصاد العام وتطويره وتنميته جزء من برامج الفكر السياسي الذي آمنت به الشيعة.

الغاء التمايز العنصري

وأعلن الاسلام منذ فجر تأريخه إلغاء التمايز العنصري ، واعتبره ضرورة اجتماعية لا تستغني عنه الحياة ، فان التمايز ينم عن مجتمع متخلف قد فقد عناصر الفكر والوعي.

إن الاسلام ـ بكل فخر واعتزاز ـ نظر إلى المجتمع الانساني بعمق وشمول فلم يميز عنصرا على عنصر ، ولا قوما على آخرين ، يقول الرسول الأعظم (ص) : « لا فضل لعربي على أعجمي ، ولا لأبيض على أسود ، كلكم لآدم ، وآدم من تراب » على هذا الأساس المتميز بالاصالة والوعي أقام الاسلام مجتمعه الذي أمد العالم بجميع مقومات الارتقاء والنهوض.

وتبنى الفكر الشيعي هذه الظاهرة ، يقول الامام أمير المؤمنين (ع) : في عهده السياسي لمالك الأشتر : « الناس صنفان : أما أخ لك في الدين أو شبيه لك في الخلق » وطبق (ع) ذلك تطبيقا كاملا حينما آل إليه الأمر فساوى في عطائه وصلاته بين العرب والموالي ، ولم يميز قوما على آخرين وهذا هو السبب في اعتناق الموالي للتشيع ، وتفانيهم في الولاء والحب للامام أمير المؤمنين (ع).

١٢١

بسط العدل

أما بسط العدل فهو من أهم ما عني به الاسلام ، فقد نشر الرسول الأعظم (ص) العدل بجميع رحابه ومفاهيمه بين الناس ، وكذلك وصيه ، وباب مدينة علمه الامام أمير المؤمنين فانه حينما تقلد الحكم سعى جاهدا إلى تطبيق العدل السياسي ، والعدل الاجتماعي ، وكان القريب والبعيد عنده في ذلك سواء ، وقد رأى الناس في عهده من صنوف العدل ما لم يشاهدوه في جميع مراحل التأريخ ، وقد حفل التأريخ الاسلامي بصور رائعة من ذلك العدل الذي نشره الامام (ع) مما يعتبر عاملا أصيلا في ازدهار الوعي الاجتماعي والسياسي في العالم الاسلامي على امتداد التأريخ.

الثورة على الظلم

من المبادئ الأساسية في الفكر السياسي الشيعي مقاومة الظلم ومناجزة الظالمين فقد انطلق أعلام هذه الطائفة أيام الحكم الأموي والعباسي إلى مقارعة الظلم ومناجزة الطغيان ، وكان أول من انطلق في هذا الميدان الامام أمير المؤمنين (ع) ثم تلميذه الوفي أبو ذر الغفاري صاحب رسول الله (ص) الذي قاوم الاستبداد الأموي والطغيان الفاجر ، ونادى بالعدالة الاجتماعية وتهيئة الفرص لجميع المواطنين.

ولما آل الأمر إلى الامام أمير المؤمنين تبنت حكومته القضايا المصيرية للأمة ، وتبنت العدل والمساواة وتحقيق الرخاء للأمة.

١٢٢

وقد خلق الامام أيام حكومته القصيرة الأمد وعيا أصيلا في نفوس شيعته يدعوهم إلى الثورة والتمرد على كل ظالم مستبد ، فقد ثار الزعيم العظيم حجر بن عدي مع الثوار من إخوانه في وجه معاوية الذئب الجاهلي الذي حول البلاد الاسلامية إلى مزرعة له ولبني أمية وسائر عملائهم وأذنابهم ، ولم تطق الحكومة المركزية في الكوفة صبرا على الهجمات التي يشنها عليها حجر فألقت القبض عليه وعلى إخوانه وسيرتهم إلى الشام فأعدموا في مرج عذراء وقد استشهدوا من أجل أداء رسالتهم الاسلامية الكبرى الهادفة إلى نشر العدل وتحقيق المساواة بين المسلمين.

ولم تمض الأيام حتى رفع علم الثورة الامام الحسين (ع) سبط الرسول الأعظم (ص) فقد نقم على الظلم السائد في عصره فثار في وجه حفيد أبي سفيان العدو الأول للاسلام.

وقد استشهد الامام العظيم في سبيل الاصلاح الاجتماعي وفي سبيل توزيع خيرات الأرض على الفقراء والمعوزين والمحرومين.

وغير أبو الأحرار بثورته الخالدة وجه التأريخ العربي والاسلامي ، فقد أخرج المسلمين من حياة الذل إلى حياة العز ، وفتح لهم أبواب المجد والكفاح ، فقد انطلقت الثورات المتلاحقة من أحفاد الحسين وأحفاد أخيه الحسن ، قد رفعت شعار العدل والمساواة بين المسلمين.

يقول الوردي : « الشيعة أول من حمل الثورة الفكرية في الاسلام ضد الطغيان ، وفي نظرياتها تكمن روح الثورة ، وإن عقيدة الامامة التي آمن بها الشيعة حملتهم على انتقاد الطبقة الحاكمة ومعارضتها في جميع مراحل تأريخهم ، وجعلتهم يرون كل حكومة غاصبة ظالمة مهما كان نوعها إلا إذا تولى أمرها إمام معصوم ، لذلك كانوا في ثورة مستمرة

١٢٣

لا يهدءون ولا يفترون » (١).

إن الثورات التي فجرتها الشيعة أيام الحكم الأموي والعباسي كانت صدى لفكرتهم التي آمنوا بها وهي تحقيق العدالة الاجتماعية في الأرض والقضاء على جميع ألوان الظلم وضروب الفساد ، وإزالة الغبن الاجتماعي لقد كانت الشيعة من أعظم الفرق والمذاهب الاجتماعية انطلاقا في ميادين الجهاد دفاعا عن كلمة الحق والعدل في الأرض.

جرأة وإقدام

وملكت قادة الشيعة رصيدا هائلا من الجرأة والاقدام ، فلم يتهيبوا السلطة ، ولم يخضعوا لجور الحكم وجبروته ، وإنما اندفعوا بكل بسالة وشجاعة إلى مقاومة المنكر وشجب الباطل ... فهذا عبد الله بن عفيف الأزدي صاحب الامام أمير المؤمنين (ع) قد ثار في وجه الطاغية ابن مرجانة حينما خطب بعد قتله لسيد شباب أهل الجنة الامام الحسين (ع) فأظهر الشماتة الآثمة بقتل الامام ، وأعلن سبه أمام تلك الوحوش الكاسرة فرد عليه الشيخ الأزدي وكان أعمى قائلا له :

« إنما الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك ، ومن استعملك وأبوه يا عبد بني علاج ، أتقتلون أبناء النبيين ، وتصعدون على منابر المسلمين!! أين أبناء المهاجرين والأنصار؟ لينتقموا منك ، ومن طاغيتك اللعين ابن اللعين ـ مشيرا إلى يزيد وأبيه معاوية ـ على لسان النبي الأمين ».

وترجمت هذه الكلمات المشرقة ما في عواطف الناس من الأمس المرير

__________________

(١) وعاظ السلاطين ( ص ٢٩٣ ).

١٢٤

والحزن العميق ، على قتل سيد الشهداء ، كما أبرزت للمجتمع واقع ابن مرجانة ، وإنه أقذر مخلوق ، وأشر إنسان وجد على هذه الأرض.

ومن بين أعلام الشيعة الذين قاموا المنكر ، وناهضوا الجور الكميت ابن زيد الأسدي ، فقد أعلن سخطه على الحكم الأموي بشعره الذي هو لسان الثورة على الأمويين ، وقد قال فيهم :

فقل لبني أمية حيث كانوا

وإن خفت المهند والقطيعا

إلا أف لدهر كنت فيه

هدانا طائعا لكم مطيعا

أجاع الله من أشبعتموه

وأشبع من بجوركم أجيعا

ويلعن فذ أمته جهارا

إذا ساس البرية والخليعا

بمرضي السياسة هاشمي

يكون حيا لأمته ربيعا

وليثا في المشاهد غير نكس

لتقويم البرية مستطيعا

يقيم أمورها ويذب عنها

ويترك جدبها أبدا مريعا

لقد جاهر الكميت بلعن الأمويين وتمنى زوال سلطانهم دون خوف من سلطانهم ، كما تمنى أن يلي أمور المسلمين أحد الهاشميين لتتم به نعمة الله على الناس فيقيم أمورهم. ويذب عنهم كوارث الدهر ، ويبسط فيهم العدل حتى يترك جدب الأرض أبدا مريعا.

وهجا الكميت الطاغية هشام بن عبد الملك بقوله :

مصيب على الأعواد يوم ركوبها

بما قال فيها مخطئ حين ينزل

كلام النبيين الهداة كلامنا

وأفعال أهل الجاهلية نفعل

واضطهده الأمويون فسجنوه وعذبوه ونكلوا به ، ولكن ذلك لم يثنه عن تصلبه لعقيدته ومبدئه.

ومن الذين انتصروا للحق ، واستهانوا بالأمويين الفرزدق ، وذلك

١٢٥

في مدحه للامام الأعظم زين العابدين (ع) وانتقاصه لهشام بن عبد الملك الذي تجاهل مكانة الامام وزعم أنه لا يعرفه فقال له :

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلهم

هذا التقي النقي الطاهر العلم

وليس قولك من هذا بضائره

العرب تعرف من أنكرت والعجم

وتعرض لسخط الأمويين ونقمتهم ، فأودعوه في السجن وقال وهو في السجن يهجو هشاما :

يقلب رأسا لم يكن رأس سيد

وعين له حولاء باد عيوبها

أجل لم يكن رأس هشام رأس سيد ، وإنما هو رأس صعلوك قد ولغ في دماء المسلمين ، وهو الذي ألجأ الشهيد العظيم زيد بن علي (ع) إلى إعلان الثورة عليه وذلك بالاستخفاف به ، مما اضطره إلى التمرد على حكومته.

وظهر في العصر العباسي شاعر من ألمع شعراء العربية وهو دعبل الخزاعي ، فقد وهب حياته لله فأعلن سخطه على الحكم العباسي الذي لا يقل في جوره وطغيانه عن الحكم الأموي ، وقد هجا الرشيد والأمين ، والمأمون ، والمعتصم ، وابراهيم بن المهدي ، وقد قال في المعتصم :

وقام إمام لم يكن ذا هداية

فليس له عقل وليس له لب

ملوك بني العباس في الكتب سبعة

ولم يأتنا عن ثامن لهم كتب

كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة خيار إذا عدوا وثامنهم كلب

واني لأعلي كلبهم عنك رفعة

لأنك ذو ذنب وليس له ذنب

وقد صور بهذه الأبيات المعتصم بأنه خال من الهداية والرشد وأنه إنسان تافه لا عقل له ولا تفكير ولا يملك قلبا وإن كلب أهل الكهف

١٢٦

خير منه لأنه لم يقترف ذنبا أما المعتصم فقد أغرق بالآثام والموبقات.

وظل دعبل منافحا عن مبادئه وهو مشرد عن وطنه يطارده الرعب والفزع ، وقد قال : « إني أحمل خشبتي على كتفي منذ أربعين سنة ، ولست أجد أحدا يصلبني عليها ».

إن تأريخ الشيعة حافل بالبطولات ، والتمرد على الظلم ، والنقمة على الجور والكفاح عن حقوق المظلومين والمضطهدين (١).

امتحان الشيعة

وامتحنت الشيعة امتحانا عسيرا وشاقا في تلك العصور فقد أمعنت السلطات الحاكمة في التنكيل بهم ، وعاملتهم بجميع ألوان القسوة والعذاب ، وقد اضطهدت اضطهادا رسميا أيام حكومة معاوية ، وقد روى الامام أبو جعفر (ع) عما جرى على الشيعة من المحن والخطوب في زمان معاوية قال (ع) « وقتلت شيعتنا بكل بلدة ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة ، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره » (٢).

وكانت شيعة الكوفة أشد الناس بلاء وأعظمهم محنة ويصور الشاعر الكبير عبد الله بن عامر المعروف بالعبلي الاضطهاد الذي عانه في حبه لأهل البيت بقوله :

شردوا بي عند امتداحي عليا

ورأوا ذاك في داءا دويا

__________________

(١) حياة الامام موسى بن جعفر ٢ / ١٨٢.

(٢) حياة الامام الحسن ٢ / ٣٥٧.

١٢٧

فو ربي ما أبرح الدهر حتى

تختلي مهجتي بحبي عليا

وبنيه لحب أحمد إني

كنت أحببتهم بحبي النبيا

حب دين لا حب دنيا وشر

الحب حب يكون دنياويا

صاغني الله في الذوابة منهم

لا ذميما ولا سنيدا دعيا

وسئل الامام أبو جعفر (ع) فقيل له :

ـ كيف أصبحت؟

ـ أصبحت برسول الله (ص) خائفا وأصبح الناس كلهم برسول الله (ص) أمنين (١).

فقد استعمل عليهم معاوية بعد هلاك المغيرة زياد بن أبيه اللصيق في نسبه ، المرتد عن دينه ، وقد أشاع فيهم القتل والاعدام ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وقطع أيديهم ، وأرجلهم ، وسمل عيونهم وصلبهم على جذوع النخل (٢) وكان من مظاهر ذلك الاضطهاد ما يلي :

١ ـ هدم دورهم.

٢ ـ عدم قبول شهادتهم.

٣ ـ سجنهم.

٤ ـ قتلهم.

ونسبت أبيات من الشعر إلى بعض أئمة أهل البيت (ع) يذكر فيها المحن الشاقة التي حلت بهم ، يقول :

نحن بنو المصطفى ذوو محن

يجرعها في الأنام كاظمنا

عظيمة في الأنام محنتنا

أولنا مبتلى وآخرنا

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٤ / ١٦٠.

(٢) حياة الامام الحسن ٢ / ٣٥٦.

١٢٨

يفرح هذا الورى بعيدهم

ونحن أعيادنا مآتمنا

إن الأعياد الاسلامية التي يفرح بها المسلمون كعيد الفطر والأضحى قد جعلها الأئمة مآتما لهم ، وذلك لما حل بهم من الكوارث والخطوب.

وأشار منصور النمري في بعض قصائده إلى الاضطهاد الذي عانته الشيعة لولائها لأهل البيت يقول :

آل النبي ومن بحبهم

يتطامنون مخافة القتل

أمن النصارى واليهود وهم

عن أمة التوحيد في عزل

وقال الطغرائي :

حب اليهود لآل موسى ظاهر

وولاؤهم لبني أخيه بادى

وإمامهم من نسل هارون الأولى

بهم اهتدوا ولكل قوم هاد

وكذا النصارى يكرمون محبة

لنبيهم نجرا من الأعواد

ومتى تولى آل أحمد مسلم

قتلوه أو وصموه بالالحاد

هذا هو الداء العضال

لمثله ضلت عقول حواضر وبواد

لم يحفظوا حق النبي محمد

في آله والله بالمرصاد

وصور شاعر آخر من شعراء الشيعة ما تعانيه الشيعة من صنوف التنكيل بقوله :

إن اليهود بحبها لنبيها

آمنت معرة دهرها الخوان

وذوو الصليب بحب عيسى أصبحوا

يمشون زهوا في قرى نجران

والمؤمنون بحب آل محمد

يرمون في الآفاق بالنيران

ويقول المؤرخون : إن الفضل بن دكين كان يتشيع فجاء إليه ولده ، وهو يبكي فقال له :

ـ مالك؟

١٢٩

ـ يا أبتي إن الناس يقولون : إنك تتشيع.

فأنشأ الفضل يقول :

وما زال كتمانيك حتى كأنني

برجع جواب السائلي لأعجم

لأسلم من قول الوشاة وتسلمي

سلمت وهل حي على الناس يسلم

(١) لقد كان الاتهام في التشيع في العصر الأموي مما يستوجب البطش والنقمة من المسئولين ، فقد روى المؤرخون أن ابراهيم بن هرثمة دخل المدينة فأتاه رجل من العلويين فسلم عليه فقال له ابراهيم : تنح عني لا تشط بدمي (٢) وقد عهدت السلطة الأموية إلى ولاتها بقتل كل مولود يسمى عليا ، ومن طريف ما ينقل أن علي بن رباح لما سمع ذلك خاف من القتل ، وجعل يقول : لا أجعل في حل من سماني عليا فاسمي علي ـ بضم العين ـ (٣).

لقد كانت محنة الشيعة في العصر الأموي شاقة وعسيرة فقد واجهت أعنف المشاكل السياسية والاجتماعية ، ومنيت بالاضطهاد والحرمان من جميع حقوقها.

الالتجاء الى التقية :

ونظرا لامعان السلطات الحاكمة في قتل الشيعة وإرهاقهم فقد شرع أئمة أهل البيت التقية وهي « كتمان الحق ، وستر الاعتقاد فيه ،

__________________

(١) تأريخ بغداد ١٢ / ٣٥١.

(٢) تأريخ بغداد ٦ / ١٢٧.

(٣) تهذيب التهذيب ٧ / ٣١٩.

١٣٠

ومكاتمة المخالفين ، وترك مظاهرتهم بما يعقب ضررا في الدين أو الدنيا » (١).

لقد شرع الأئمة التقية حفظا على دماء الشيعة التي استحلّها أولئك الجلادون من برابرة البشرية الذين خلقوا للجريمة والإساءة إلى الناس.

لقد اتّخذ الأئمة التقية قاعدة أساسية للسلوك السياسي والاجتماعي للشيعة ، ولو لا هذه القاعدة لما بقي للشيعة اسم ولا رسم نظرا لقسوة العذاب الذي لاقوه في تلك العهود السود التي لم تشهد الانسانية نظيرا لها في ظلمتها ومرارتها وقسوتها.

لقد شدد أئمة أهل البيت (ع) على شيعتهم بكتمان عقيدتهم ، وإخفاء المودة لهم خوفا عليهم ، وحفظا لأرواحهم ، وقد قال الامام أبو جعفر (ع) : « التقية ديني ، ودين آبائي ، ولا إيمان لمن لا تقية له » (٢).

لقد حفظت هذه الخطة الحكيمة مذهب أهل البيت (ع) ولولاها لذهب ذكرهم وما بقى لهم اسم على وجه الأرض ، فقد جهدت الحكومة الأموية والعباسية على محو ذكرهم وإزالة آثارهم ، يقول الشيخ الطوسي ، « لم تلق فرقة ولا بلي مذهب بما بليت به الشيعة من التتبع والقصد ، وظهور كلمة أهل الخلاف ، حتى أنا لا نكاد نعرف زمانا ـ تقدم ـ سلمت فيه الشيعة من الخوف ولزوم التقية ، ولا حالا عريت فيه من قصد السلطان وعصبته وميله وانحرافه » (٣).

إن التجاء الشيعة إلى التقية إنما هو دليل على مدى نضوج الفكر

__________________

(١) شرح عقائد الصدوق ( ص ٦٦ ) للمفيد.

(٢) وسائل الشيعة : كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(٣) تلخيص الشافي ١ / ٥٩.

١٣١

السياسي عندهم ، فقد حفظوا عقيدتهم من خصومهم الأقوياء الذين لا حريجة لهم ، في استحلال دمائهم وأموالهم.

وبهذا العرض الموجز ينتهي بنا الحديث عن بعض برامج الفكر السياسي عند الشيعة.

وحدة الشيعة :

ويرى بعض المؤلفين أن الشيعة قد امتازت بالوحدة الشاملة في عصر الامام أبي جعفر (ع) فلم يكن هناك أي انقسام مذهبي بين صفوفهم ، وإنما حدث الاختلاف بعد وفاة الامام (١) ولكن في ذلك موضع نظر فان الكيسانية التي ذهبت إلى إمامة محمد بن الحنفية قد ظهرت في أيام الامام أبي جعفر (ع) نعم الزيدية ، والاسماعيلية ، والواقفية قد ظهرت بعد وفاته.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن الشيعة ، وسائر الفرق الاسلامية الأخرى ، أما استيعاب البحث عن الشيعة ، وإبراز قيمهم ، فقد أعددنا له دراسة خاصة ، عسى أن نوفق إلى نشرها في أقرب وقت إن شاء الله تعالى.

الحياة العلمية :

عاش العرب قبل الاسلام قبائل متعددة يتبعون مواقع الغيث ، ومنابت الكلاء ، وكانت الأكثرية الساحقة منهم تعيش بائسة فقيرة في الصحراء ، ولما انبثق

__________________

(١) فرق الشيعة ( ص ٨٤ ).

١٣٢

فجر الاسلام انقلبت حياتهم رأسا على عقب ، فقد انتقلوا من الحياة البدوية إلى الحياة المدنية ، كما تبدلت أكثر أوضاعهم الراهنة آنذاك فقد تبدلت أحاسيسهم بالحياة القبلية إلى الشعور بالأخوة الاسلامية التي لا تعرف التعصب ، ولا تخضع للعادات الجاهلية.

ولما استقر الاسلام كان من أهم ما عنى به نشر الثقافة وتعميم العلم وإشاعته بين الناس ، باعتباره الركيزة الأولى إلى التطور الفكري للمجتمع الاسلامي ، وفي أيام الحكم الأموي لم تعر الأوساط الحاكمة آنذاك أي اهتمام للناحية العلمية ، ولكن في يثرب موطن الفكر الاسلامي قد تأسست مدرستان وهما :

مدرسة التابعين

وعنت هذه المؤسسة بعلوم الشريعة ، ولم تتجاوزها أما أعضاؤها فهم : سعيد بن المسيب ، عروة بن الزبير ، القاسم بن محمد بن أبي بكر ، أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، سليمان بن يسار ، عبيد الله بن عتبة بن مسعود ، خارجة بن زيد ، ونظم بعض الشعراء أسماءهم بقوله :

إذا قيل من في العلم سبعة أبحر

روايتهم ليست عن العلم خارجة

فقل : هم عبيد الله عروة قاسم

سعيد أبو بكر سليمان خارجة

وقال فيهم شاعر آخر :

ألا كل من لا يقتدي بأئمة

فقسمته ضيزى عن العلم خارجة

١٣٣

فخذهم عبيد الله عروة قاسم

سعيد سليمان أبو بكر خارجة (١)

ولا بد لنا من وقفة قصيرة لاعطاء ترجمة موجزة عن هؤلاء الأعلام ، وفيما يلي ذلك :

١ ـ سعيد بن المصيب :

سعيد بن المسيب بن حزن القرشي المخزومي ، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر (٢) ونلمح إلى بعض شئونه :

مكانته العلمية :

كان من أجل علماء عصره ، قال قتادة : ما رأيت أحدا قط أعلم بالحلال والحرام منه (٣) وروى محمد بن إسحاق عن مكحول قال : طفت الأرض كلها في طلب العلم فما لقيت أعلم منه (٤) ، وقال ابن المديني : لا أعلم في التابعين أوسع علما من سعيد بن المسيب (٥) وروى الليث عن عن يحيى بن سعيد قال : كان ابن المسيب يسمى راوية عمر كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته (٦).

ووردت أقوال مماثلة تدل على سمو مكانته العلمية ، وأنه من أفاضل علماء عصره.

__________________

(١) تأريخ أبي الفداء.

(٢) تهذيب التهذيب ٤ / ٨٧.

٣ و ٤ و ٥ و ٦ تهذيب التهذيب ٤ / ٨٥ ـ ٨٧.

١٣٤

وقد روى عن الامام زين العابدين (ع) الشيء الكثير ولازمه وأخذ عنه الكثير من مسائل الحلال والحرام.

وثاقته :

واختلف المترجمون له في وثاقته على أقوال ، فذهب بعضهم إلى وثاقته مستندا إلى بعض الأخبار الدالة على ذلك وذهب آخرون إلى تجريحه وعدم وثاقته ، ومال سيدنا الأستاذ الخوئي إلى التوقف في أمره ، وذلك لعدم تمامية سند المدح والقدح فيه (١) وروى عمرو بن ميمون عن أبيه قال : قدمت المدينة فسألت عن أعلم أهل المدينة فدفعت إلى سعيد بن المسيب (٢) ومعنى ذلك أن السلطة الأموية قد دفعته إلى السؤال عنه ، وأنها هي التي تبنته.

وقال أبو إسحاق : كنت أرى الرجل في ذلك الزمان ، وأنه ليدخل يسأل عن الشيء فيدفعه الناس من مجلس إلى مجلس حتى يدفع إلى مجلس سعيد بن المسيب كراهية للفتيا (٣) وكان سعيد بن المسيب ولعا بالغزل فكان ينشده في مسجد رسول الله (ص) (٤).

__________________

(١) معجم رجال الحديث ٨ / ١٤٠.

(٢) تهذيب التهذيب ٤ / ٨٤.

(٣) اعلام الموقعين ١ / ١٨.

(٤) الاغاني ٣ / ٩٣.

١٣٥

وفاته :

توفى في يثرب سنة ( ٩٤ ه‍ ) في خلافة الوليد وهو ابن خمس وسبعين سنة وقيل توفى سنة ( ٩٣ ه‍ ) (١).

٢ ـ عروة بن الزبير :

عروة بن الزبير بن العوام المدني أحد فقهاء المدينة السبعة وكان أعلم الناس بحديث عائشة ، وقد وعى جميع أخبارها وأحاديثها (٢) فهي خالته وقد حضر مع أبيه الزبير في حرب الامام أمير المؤمنين (ع) وكان عمره ١٣ سنة فاستصغره (٣) وكان عبد الملك بن مروان يشيد بذكره ومما قاله فيه : « من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى عروة بن الزبير (٤).

ومن كلماته قال : إذا رأيت الرجل يعمل الحسنة فاعلم أن لها عنده أخوات ، وإذا رأيته يعمل السيئة فاعلم أن لها عنده أخوات (٥).

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٤ / ٨٦.

(٢) تهذيب التهذيب ٧ / ١٨٢.

(٣) تهذيب التهذيب ٧ / ١٨٢.

(٤) شذرات الذهب ١ / ١٠٤.

(٥) تهذيب التهذيب ٧ / ١٨٣.

١٣٦

وفاته :

توفى سنة ( ٩١ ه‍ ) أو ( ٩٢ ه‍ ) (١).

٣ ـ عبيد الله بن عبد الله :

ابن عتبة بن مسعود الهذلي أبو عبد الله المدني ، قال العجلي : كان أعمى ، وكان أحد فقهاء المدينة تابعي ثقة ، رجل صالح ، جامع للعلم ، وهو معلم عمر بن عبد العزيز (٢) تغزل في امرأة من هذيل قدمت مكة ومن غزله فيها :

أحبك حبا لو علمت ببعضه

لجدت ولم يصعب عليك شديد

وحبك يا أم الصبي مدلهي

شهيدي أبو بكر فذاك شهيد

ويعلم وجدي القاسم بن محمد

وعروة ما القى بكم وسعيد

ويعلم ما أضعن سليمان علمه

وخارجة يبدي لنا ويعيد

متى تسألي عما أقول فتخبري

فللحب عندي طارق وتليد

فبلغت أبياته سعيد بن المسيب فقال : والله لقد أمن أن تسألنا ، وعلم أنها لو أستشهدت بنا لم نشهد لها بالباطل (٣) توفى سنة ( ٩٩ ه‍ ) (٤).

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٧ / ١٨٤.

(٢) تهذيب التهذيب ٧ / ٢٣.

(٣) الاغاني ٨ / ١٦.

(٤) تهذيب التهذيب ٧ / ٢٤.

١٣٧

٤ ـ عبد الرحمن :

ابن الحارث المخزومي أبو الحارث المدني روى عن جماعة منهم زيد ابن علي بن الحسين ، والحسن البصري ، وحكيم بن حكيم وغيرهم ، قال النسائي : ليس بالقوي ، ولكن ابن سعد قال : إنه ثقة ، وقال أحمد : متروك ، وضعفه علي بن المديني ، توفى في أول خلافة أبي جعفر المنصور (١).

٥ ـ سليمان :

ابن يسار الهلالي أبو أيوب المدني ، يقال كان مكاتبا لأم سلمة ، روى عنها وعن عائشة ، وكان من علماء الناس بعد ابن المسيب ، توفى سنة ( ١٠٧ ه‍ ) وهو ابن ( ٧٣ سنة ) وقيل غير ذلك (٢).

٦ ـ خارجة :

ابن زيد بن ثابت الأنصاري النجاري أبو زيد المدني روى عن جماعة ، كما روى عنه قوم ، قال ابن سعد : كان ثقة كثير الحديث (٣) ولم يذكره الذهبي في حفاظ الحديث.

٧ ـ القاسم :

ابن محمد بن أبي بكر أبو محمد ، روى عن أبيه وعمته عائشة وعن

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٦ / ١٥٥.

(٢) تهذيب التهذيب ٤ / ٢٢٩.

(٣) تهذيب التهذيب ٨ / ٣٣٤.

١٣٨

العبادلة وروى عنه قوم آخرون ، قال البخاري : قتل أبوه وبقي يتيما في حجر عائشة وفي رواية البخاري : أنه كان أفضل أهل زمانه ، وقال أبو الزناد : ما رأيت أحدا أعلم بالسنة منه ، ولا أحد ذهنا (١) وقد تزوج الامام الباقر (ع) بابنته أم فروة فأولدها الامام العظيم أبو عبد الله الصادق (ع) وقد عده الشيخ تارة في أصحاب السجاد (ع) وأخرى في أصحاب الباقر (ع).

توفى سنة ( ١٠٢ ه‍ ) وكانت وفاته بعد وفاة عمر بن عبد العزيز (٢) وبهذا ينتهي بنا الحديث عن الفقهاء السبعة الذين شكلوا مدرسة عرفت بمدرسة التابعين.

مدرسة أهل البيت :

وهي أول مدرسة فكرية أنشأت في الاسلام ، وقد عملت على تقدم المسلمين وتطوير حياتهم ، ولم تقتصر العلوم التي تلقى فيها على ما يخص التشريع الاسلامي ، وإنما تناولت جميع العلوم والمعارف من الفلسفة والحكمة والطب والكيمياء وعلم الكلام والسياسة والادارة والاقتصاد ، وغيرها.

وقد قامت هذه المؤسسة بدور مهم في تدوين العلوم ، وتأسيسها بعد أن منع الخليفة الأول والثاني تدوين الحديث ذاهبين إلى أن ذلك قد يؤثر على كتاب الله وهو اعتذار مهلهل لا واقع له.

ويذكر السيد حسن الصدر أن الشيعة هم أول من عنوا بالفقه

__________________

(١) معجم رجال الحديث ١٤ / ٤٨.

(٢) تهذيب التهذيب ٨ / ٣٣٥.

١٣٩

وتدوين بعض مسائله ، وقد ذكر منهم علي بن أبي رافع وهو من أعلام الشيعة وخيارهم في عصر الامام أمير المؤمنين كما كان كاتبا له ، وقد ألف كتابا في فنون الفقه : الوضوء والصلاة وسائر الأبواب.

كما كان من المؤلفين سليم بن قيس الهلالي الكوفي الذي هو من أصحاب الامام وعاش إلى زمن الحجاج في الدولة الأموية ، وقد أراد قتله الجلاد الحجاج فلجأ سليم إلى أبان بن عياش فآواه ، وحينما حضرته الوفاة أعطاه كتابه المشهور باسمه ، وهو أول كتاب ظهر للشيعة رواه أبان بن أبي عياش (١).

وعلى أي حال فان مدرسة أهل البيت (ع) قد عنت بجميع العلوم ولم تقتصر على علم خاص ، وقد كان المؤسس لها الامام أمير المؤمنين (ع) ثم من بعده الأئمة الطاهرون من ولده ، وفي عهد الامام الباقر (ع) قام برعايتها ، وقد التفّ حوله العلماء ينتهلون من نمير علومه وقد روى عنه الثقات مجموعة كبيرة من العلوم لا تختص بعلم واحد من العلوم وسنشير إلى ذلك عند عرض أصحابه ورواة حديثه.

أما البحث عن هذه المؤسسة فقد ذكرناه بالتفصيل في كتابنا حياة الامام موسى بن جعفر (ع) كما نشر في أعيان الشيعة ومجلة الأضواء

الحياة الثقافية العامة

أما الحياة الثقافية العامة في عصر الامام فقد كانت ضحلة للغاية ، فلم تعد هناك مقاييس للأخلاق والمثل التي جاء بها الاسلام ، وإنما عاد الناس إلى

__________________

(١) تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام.

١٤٠