حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل

باقر شريف القرشي

حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦
الجزء ١ الجزء ٢

بل هاديا موفقا مهديا

واحفظه ربي واحفظ النبيا

فيه فقد كان له وليا

ثم ارتضاه بعده وصيا

وقال الأشعث بن قيس الكندي :

أتانا الرسول رسول الامام

فسر بمقدمه المسلمونا

رسول الوصي وصي النبي

له السبق والفضل في المؤمنينا

وقال النعمان بن العجلان شاعر الأنصار وأحد ساداتهم من قصيدة له يخاطب فيها ابن العاص :

وكان هوانا في علي وأنه

لأهل لها من حيث تدري ولا تدري

فذاك بعون الله يدعو إلى الهدى

وينهى عن الفحشاء والبغي والنكر

وصي النبي المصطفى وابن عمه

وقاتل فرسان الضلالة والكفر

وقال الفضل بن عباس :

ألا إن خير الناس بعد نبيهم

وصي النبي المصطفى عند ذي الذكر

وأول من صلى وصنو نبيه

وأول من أردى الغواة لدى بدر

وقال حسان بن ثابت :

حفظت رسول الله فينا وعهده

إليك ومن أولى به منك من ومن

ألست أخاه في الهدى ووصيه

واعلم منهم بالكتاب وبالسنن (١)

وتمثل هذه الجمهرة من الأدب ما كان يعتقده المسلمون في عصورهم الأولى من أن الامام أمير المؤمنين (ع) هو وصي رسول الله (ص) وخليفته من بعده.

__________________

(١) المراجعات للامام شرف الدين ( ص ٣٢٦ ـ ٢٢١ ) وقد ذكر أمثلة كثيرة من النصوص الأدبية التي أضفت على الامام لقب الوصاية عن النبي (ص).

١٠١

هذه بعض المرجحات للقائلين بأن نشأة التشيع كانت في عهد الرسول (ص) وأنه هو الذي وضعها وأقامها ، وذلك بنصبه للامام أمير المؤمنين (ع) خليفة من بعده يوم غدير خم فقد أمر المسلمين بمبايعته ، وأقامه علما من بعده حسبما ذكره المؤرخون.

الاسطورة السباية :

وعزا بعض الحاقدين على الشيعة إلى أن نشأة التشيع تستند إلى عبد الله ابن سبأ ، فقالوا : إنه هو الذي أقامها ووضع أصولها وتبنى الدعوة إليها وفيما يلي بعض الذاهبين لذلك :

١ ـ الملطي :

ومن الذاهبين إلى هذه الاسطورة الملطي فقال : إن منشأ التشيع من ابن سبأ ، وحكم بالحاد جميع فرق الشيعة (١) ولم يدعم ما ذكره بدليل وإنما أرسل ذلك ارسال المسلمات ، وهو من الآراء التي لاوزن لها في ميدان البحوث العلمية.

٢ ـ النشار :

ومن الحاقدين على أهل البيت والمبغضين لشيعتهم الدكتور النشار

__________________

(١) التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ( ص ٢٥ ).

١٠٢

قال : كان اليهود مؤسسي العقيدة الشيعية الغالية الحقيقيين ، فقد دخل بعض أحبارهم أو كهانهم في الاسلام ، وتقدموا إلى العالم الاسلامي ، منتهزين إبعاد علي عن الخلافة بفكرة الامام المعصوم أو خاتم الأوصياء وتكاد تجمع كتب العقائد الاسلامية على أن عبد الله بن سبأ ـ هو أول من دعا إلى فكرة القداسة التي نسبت إلى علي ـ كان يهوديا قبل الاسلام .. وأضاف يقول : من المؤكد أن هذه الفكرة لم تظهر على عهد أبي بكر وعمر ، ولكنها نشأت في خلافة عثمان على يد عبد الله ابن سبأ تيارا باطنيا من التيارات التي كانت تعمل على هدم العالم الاسلامي (١).

٣ ـ الشيخ أبو زهرة :

ومن الذاهبين إلى ذلك الشيخ أبو زهرة قال : « وكان الطاغوت الأكبر عبد الله بن سبأ الذي دعا إلى ولاية علي ووصايته وإلى رجعة النبي (ص) وأنه في ظل هذه الفتن نشأ المذهب الشيعي » (٢).

وهذه الأقوال من مهازل الفكر البشري وهي وصمة عار وخزي على أصحابها فقد طعنت في أعظم طائفة إسلامية تبنت حقوق المظلومين والمضطهدين ، ورفعت منار الكرامة الانسانية ، وسجلت فخرا للاسلام وعزا للمسلمين ، هذه الطائفة التي يتزعمها الامام أمير المؤمنين والسادة الهداة من أبنائه ، والتي تضم أعلام الإسلام أمثال عمار بن ياسر وأبي ذر وسلمان الفارسي ، وحجر بن عدي ، وأمثالهم ممن أضاءوا الحياة

__________________

(١) نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام ( ص ١٨ ).

(٢) المذاهب الاسلامية ( ص ٤٦ ).

١٠٣

الفكرية في الاسلام ، فكيف تتهم بأن ابن سبأ هو الذي أنشأها على أن بعض المحققين قد ذهب إلى أن ابن سبأ شخصية وهمية مختلقة لا أصل لها (١)

كما أن بعض المستشرقين ( قد شكك في وجوده فكريا أي من ناحية أثره في منشأ الفكر الشيعي إذ يقول : ولكن التحقيق الحديث قد أظهر أن هذا استباق للحوادث ، وأنه صورة مثل بها في الماضي ، وتخيلها محدثو القرن الثاني للهجرة من أحوالهم وأفكارهم السائدة حينئذ ، وقد أظهر فلها وزن فريد ليندر بعد دراسة المصادر دراسة نقدية بأن المؤامرة والدعوة المنسوبتين إلى ابن سبأ من اختلاق المتأخرين ، وبين كايتانى أن مؤامرة مثل هذه بهذا التفكير ، وهذا التنظيم لا يمكن أن يتصورها العالم العربي المعروف عام ( ٣٥ ه‍ ) بنظامه القبلي القائم على سلطان الأبوة ، وأنها تعكس أحوال العصر العباسي الأول بجلاء (٢).

وأفاد الدكتور طه حسين إلى أن حديث السبأية كان متكفلا ومنحولا ، قد اخترع حين كان الجدال بين الشيعة وغيرهم من الفرق الاسلامية أراد خصوم الشيعة أن يدخلوا في أصول هذا المذهب عنصرا يهوديا إمعانا في الكيد لهم والنيل منهم (٣) وعلى أي حال فان الاسطورة السبأية قد انتحلت للحط من شأن الشيعة والنيل منهم ، ولا علاقة للشيعة بابن سبأ وغيره من المنحرفين عن الحق.

__________________

(١) أنظر الجزء الأول من كتاب عبد الله بن سبأ للسيد العسكري ، فقد أثبت فيه وضع هذه الاسطورة.

(٢) نظرية الامامة لدى الشيعة الاثنى عشرية ( ص ٣٧ ـ ٣٨ ) نقلا عن أصول الاسماعيلية.

(٣) علي وبنوه ( ص ٩٨ ـ ٩٩ ).

١٠٤

الشيعة والغلو :

وأاهمت الشيعة بغير إنصاف بالغلو في أئمتهم مع أنهم براء من هذه التهمة ، ولا بد لنا من وقفة قصيرة للتحدث عن ذلك.

حقيقة الغلو

أما حقيقة الغلو فهي نسبة الأئمة الطاهرين (ع) إلى الألوهية ، وقد زعم بعض الغلاة في علي (ع) أنه ابن الله ، وفي ذلك يقول السيد الحميري في هجائهم.

قوم غلوا في علي لا أبا لهم

واجشموا أنفسا في حبه تعبا

قالوا : هو ابن الاله جل خالقنا

من أن يكون له ابن أو يكون أبا

(١) وقال المفيد بن سعيد : للامام أبي جعفر (ع) أقرر أنك تعلم الغيب حتى أجبي لك العراق ، فنهره الامام (ع) وطرده ، ثم جاء إلى ابنه جعفر (ع) فقال له مثل ذلك فقال : أعوذ بالله (٢).

براءة الشيعة من الغلاة

وتبرأ الشيعة من الغلاة ، ولا تعدهم من فرق الاسلام ، ويعاملونهم

__________________

(١) العقد الفريد

(٢) تأريخ ابن الأثير ٥ / ٢٠٩.

١٠٥

معاملة الكفار ، فقد أثر عن الامام الصادق (ع) أنه قال : لرزام قل : للغالية توبوا إلى الله فانكم فساق كفار مشركون ، وقال (ع) : في عبد الله ابن سبأ لعن الله عبد الله بن سبأ أنه ادّعى الربوبية في أمير المؤمنين ، وكان والله أمير المؤمنين قد عبد الله طائعا ، والويل لمن كذب علينا ، إن ذكرت عبد الله بن سبأ قامت كل شعرة في جسدي ، لقد ادعى أمرا عظيما ما له لعنه الله ، كان علي والله عبدا صالحا ، ما نال الكرامة من الله إلا بطاعته لله ولرسوله ، وما نال رسول الله (ص) الكرامة من الله إلا بطاعة الله (١).

قال كثير النواء : سمعت أبا جعفر الباقر (ع) يقول برىء الله ورسوله من المغيرة بن سعيد ، وبنان بن سمعان فانهما كذبا علينا أهل البيت (٢)

وقد أجمع فقهاء الشيعة على الحكم بنجاستهم ، ومعاملتهم معاملة الكفار في عدم جواز زواج المسلمة منهم ، وعدم جواز زواج المسلم منهم إلى غير ذلك من الأحكام التي تترتب على الكفار فقد افتوا بترتبها على الغلاة من دون أن يكون هناك أي فرق بينهما.

يقول الامام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء : « أما الشيعة فيبرءون من تلك الفرق براءة التحريم على أن تلك الفرق لا تقول بمقالة النصارى ، بل خلاصة مقالتهم بل ضلالتهم : إن الامام هو الله سبحانه ظهورا واتّحادا أو نحو ذلك مما يقول به كثير من متصوفة الاسلام ، ومشاهير مشايخ الطرق ، وقد ينقل عن الحلاج والكيلاني والرفاعي

__________________

(١) الامام الصادق والمذاهب الأربعة ١ / ٢٣٥.

(٢) لسان الميزان ٦ / ٧٦.

١٠٦

والبدوي وأمثالهم من الكلمات وإن شئت سمها كما يقولون : شطحات ما يدل بظاهره على أن لهم منزلة فوق الربوبية ، وأن لهم مقاما زائدا عن الالوهيه ( لو كان ثمة موضع لمزيد ) وقريب من ذلك ما يقول به أرباب وحدة الوجود أو الموجود.

أما الشيعة الامامية ، وأعني بهم جمهرة العراق وإيران وملايين المسلمين في الهند ومئات الألوف في سوريا والأفغان فان جميع تلك المقالات يعدونها من أبشع الكفر والضلالات ، وليس دينهم التوحيد المحض ، وتنزيه الخالق عن كل مشابهة للمخلوق أو ملابسة لهم في صفة من صفات النقص والامكان والتغيير والحدوث وما ينافي وجوب الوجود والقدم والأزلية إلى غير ذلك من التنزيه ، والتقديس المشحونة به مؤلفاتهم في الحكمة والكلام من مختصرة أو مطولة ).

نظرة الشيعة للائمة

أما نظرة الشيعة للأئمة (ع) فانها تتسم بالاعتدال فليس فيها غلو ولا إفراط في الحب ، فقد ذهبوا إلى أنهم عباد الله المكرمون الذين لا يسبقونه بالقول ، وهم بأمره يعملون ، وأنهم أهل الذكر ، وأولو الأمر ، وبقية الله في أرضه ، وخيرته في عباده ، وعيبة علمه ، قد عصمهم الله من الفتن ، وطهرهم من الدنس ، وأذهب عنهم الرجس ، وطهرهم تطهيرا ، ووصفهم سيدهم الامام أمير المؤمنين (ع) بقوله :

« هم عيش العلم ، وموت الجهل ، يخبركم حلمهم عن علمهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، وصمتهم عن حكم منطقهم ، لا يخالفون الحق ،

١٠٧

ولا يختلفون فيه ، هم دعائم الاسلام ، وولائج الاعتصام ، بهم عاد الحق في نصابه وانزاح الباطل عن مقامه ، وانقطع لسانه عن منبته ، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية ، لا عقل سماع ورواية فان رواة العلم كثير ورعاته قليل » (١).

ووصفهم شاعر الاسلام الكميت بقوله :

القريبين من ندى والبعيدين

من الجور في عرى الأحكام

والمصيبين باب ما أخطأ النا

س ومرسي قواعد الاسلام

والحماة الكفاة في الحرب إن لف

ضرام وقوده بضرام

والغيوث الذين إن أمحل النا

س فمأوى حواضن الأيتام

راجحي الوزن كاملي العدل في ال

سيرة طبين بالأمور الجسام

ساسة لا كمن يرى رعية النا

س سواء ورعية الأغنام

(٢) هذه نظرة الشيعة للائمة الطاهرين ليس فيها غلو ولا خروج عن المنطق ولا انحراف عن الدين.

حب الشيعة للائمة

وامتلأت قلوب الشيعة بالحب والولاء لآل البيت (ع) معتقدين أن ذلك من أهم الفروض الدينية ، فقد ألزمتهم النصوص الاسلامية بذلك فآية المودة وحديث الثقلين ، والسفينة وغيرها صريحة في إيجاب مودتهم على عموم المسلمين ، وقد آمنت الشيعة بذلك منذ فجر تأريخها ، فهذا أبو الأسود الدؤلي قد رد على من لامه في حبه لأهل البيت (ع) بهذين البيتين :

__________________

(١) نهج البلاغة محمد عبده ٢ / ٢٥٩.

(٢) الهاشميات.

١٠٨

أمفندي في حب آل محمد

حجر بفيك فدع ملامك أو زد

من لم يكن بحبالهم متمسكا

فليعترف بولاء من لا يرشد

(١) وقد عاب قوم على أبي الأسود تشيعه لآل البيت فرد عليهم بهذه الأبيات :

أحب محمدا حبا شديدا

وعباسا وحمزة والوصيا

وجعفر إن جعفر خير سبط

شهيد في الجنان مهاجريا

أحبهم كحب الله حتى

أجئ إذا بعثت على هويا

هوى أعطيته منذ استدارت

رحى الاسلام لم يعدل سويا

يقول الأرذلون بنو قشير

طوال الدهر لا تنسى عليا

فقلت لهم : وكيف يكون تركي

من الأعمال ما يقضي عليا

بنو عم النبي وأقربوه

أحب الناس كلهم إليا

فان يك حبهم رشدا أصبه

ولست بمخطئ إن كان غيا

هم أهل النصيحة من لدن

وأهل مودتي ما دمت حيا

رأيت الله خالق كل شيء

هداهم واجتبى منهم نبيا

هم أسوا رسول الله حتى

تربع أمره أمرا قويا

(٢) وهذا عبد الله بن كثير السهمي يرد على من يرى أن ولاءه لأهل البيت ذنبا ، بهذه الأبيات :

إن امرأ أمست معايبه

حب النبي لغير ذي ذنب

وبني أبي حسن ووالدهم

من طاب في الأرحام والصلب

أيعد ذنبا أن أحبهم

بل حبهم كفارة الذنب (٣)

__________________

(١) ديوان أبي الأسود ( ص ٢٥٣ )

(٢) ديوان أبي الأسود ( ص ١٧٦ ).

(٣) البيان والتبيين ٣ / ٣٦٠

١٠٩

وهذا حرب بن المنذر بن الجارود قد قنع من دنياه باليسير من الطعام ، زهدا في الدنيا وهو يعلن ظفره بولاء أهل البيت (ع) يقول :

فحسبي من الدنيا كفاف يقيمني

وأثواب كتان أزور بها قبري

وحبي ذوي قربى النبي محمد

فما سألنا إلا المودة من أجر (١)

إن ولاء الشيعة لآل البيت (ع) مما يتزودون به ، ويتقربون به إلى الله تعالى ويرجون به النجاة من العذاب يوم القيامة يقول السيد الحميري :

إني امرؤ حميري غير مؤتشب

جدي رعين وأخوالي ذو يزن

ثم الولاء أرجو النجاة به

يوم القيامة للهادي أبي حسن (٢)

وهذا الفرزدق يرى أن حبه لآل البيت (ع) دين وبغضهم كفر ومروق من الدين يقول :

من معشر حبهم دين وبغضهم

كفر وقربهم منجى ومعتصم

أن عد أهل التقى كانوا أئمتهم

أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

ويقول الكميت :

إليكم ذوي آل النبي تطلعت

نوازع من قلبي ظماء وألبب

فطائفة قد كفرتني بحبكم

وطائفة قالوا مسىء ومذنب

فما ساءني تكفير هاتيك منهم

ولا عيب هاتيك التي هي أعيب

يعبونني من خبهم وضلالهم

على حبكم بل يسخرون وأعجب

وقالوا : تر ابي هواه ورأيه

بذلك أدعى فيهم وألقب (٣)

لقد ملك حب أهل البيت قلوب الشيعة وعواطفهم ، ولكن ذلك

__________________

(١) البيان والتبيين ٣ / ٣٦٥

(٢) البيان والتبيين ٣ / ٣٦٠

(٣) الهاشميات ( ص ٣٧ ).

١١٠

الحب بعيد عن الغلو ، وبعيد عن كل ما عاب عليهم خصومهم.

مظاهر الولاء للائمة

أما مظاهر ولاء الشيعة للأئمة أهل البيت سلام الله عليهم فهي :

أولا ـ إن الشيعة تأخذ معالم الدين أصولا وفروعا عن أئمة أهل البيت (ع) وتجمع على لزوم العمل بأقوالهم وأفعالهم ، وأنها من السنة التي يجب العمل بها ، وبذلك فقد بنوا إطارهم العقائدي على ما أثر عن أئمة أهل البيت (ع) ولا يتعدون في المجالات التشريعية إلى غيرهم من بقية المذاهب الاسلامية ، ولم يكن عن تحزب أو تعصب ، وإنما النصوص القطعية التي أثرت عن الرسول (ص) هي التي قادتهم إلى ذلك ، ودفعتهم إلى الاقتصار على مذهب أهل البيت (ع) يقول الامام شرف الدين : « إن تعبدنا في الأصول بغير المذهب الأشعري ، وفي الفروع بغير المذاهب الأربعة لم يكن لتحزب أو تعصب ، ولا لريب في اجتهاد أئمة تلك المذاهب ولا لعدم عدالتهم ، وأمانتهم ونزاهتهم ، وجلالتهم علما وعملا.

لكن الأدلة الشرعية أخذت بأعناقنا إلى الأخذ بمذاهب الأئمة من أهل بيت النبوة ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومهبط الوحي والتنزيل فانقطعنا إليهم في فروع الدين وعقائده وأصول الفقه وقواعده ، ومعارف السنة والكتاب وعلوم الأخلاق والسلوك والآداب ، نزولا على حكم الأدلة والبراهين وتعبدا بسنة سيد النبيين والمرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجمعين.

ولو سمحت لنا الأدلة بمخالفة الأئمة من آل محمد (ص) أو تمكنا من تحصيل نية القربة لله سبحانه في مقام العمل على مذهب غيرهم لتعقبنا

١١١

أثر الجمهور ، وقوفنا إثرهم تأكيدا لعقد الولاء ، وتوثيقا لعرى الإخاء لكنها الأدلة تقطع على المؤمن وجهته ، وتحول بينه وبين ما يروم (١).

وأضاف بعد هذا يقول :

« وما أظن أحدا يجرأ على القول بتفضيلهم ـ أي أئمة المذاهب ـ في علم أو عمل على أئمتنا ، وهم أئمة العترة الطاهرة ، وسفن نجاة الأمة ، وباب حطتها ، وأمانها من الاختلاف في الدين ، وأعلام هدايتها ، وثقل رسول الله (ص) وقد قال (ص) :

فلا تقدموهم فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا ، فانهم أعلم منكم ، لكنها السياسة ، وما أدراك ما اقتضت في صدر الاسلام.

وقد أيد شيخ الأزهر هذا الجانب المشرق من حديث الامام شرف الدين ، قال :

« بل قد يقال إن أئمتكم الاثني عشر أولى بالاتباع من الأئمة الأربعة لأن الاثني عشر كلهم على مذهب واحد قد محصوه وقرروه باجماعهم بخلاف الأربعة فان الاختلاف بينهم شائع في أبواب الفقه كلها ، فلا تحاط موارده ، ولا تضبط ، ومن المعلوم أن ما يمحصه الشخص الواحد ، لا يكافئ في الضبط ما يمحصه اثنا عشر إماما ، هذا كله مما لم تبق فيه وقفة لمنصف ، ولا وجهة لمتعسف » (٢).

ومن الطبيعي أن هذه الظاهرة التي تمسكت بها الشيعة ، وأعلنتها في جميع المجالات ليس فيها أي جانب من الغلو أو الافراط في الحب ،

__________________

(١) المراجعات ( ص ٤٠ ـ ٤١ )

(٢) المراجعات ( ص ٤٤ )

١١٢

وإنما هي متسمة بالاعتدال والاستقامة (١).

ثانيا ـ إن من مظاهر الولاء الذي تكنه الشيعة لأئمتها أنها تقوم باحياء ذكراهم ، وتشيد بفضائلهم ، ومآثرهم ، وتنشر مكارم أخلاقهم وتقيم الحفلات التأبينية على ما أصابهم من عظيم الخطب وفادح الرزء ، كما تقوم بزيارة مراقدهم الطاهرة للتبرك بها والتقرب إلى الله تعالى فانها من أعظم مظاهر الود الذي فرضه الله تعالى في كتابه المجيد للعترة الطاهرة على جميع المسلمين.

هذه بعض مظاهر الولاء الذي تكنه الشيعة للأئمة الطاهرين وليس فيه أي شائبة للغلو ، وعلى هذا الاساس المعتدل أقامت الشيعة إطارها العقائدي في الولاء لأهل البيت (ع).

الشيعة والصحابة

وأاهمت الشيعة بتجريح الصحابة ، والقول بعدم عدالتهم ، وهو افتراء محض فان الشيعة تقدس صحابة النبي (ص) وتكن لهم أعمق الود ، والحب وترى لهم الحق على كل مسلم ومسلمة ، لأنهم نصروا الاسلام أيام محنته وغربته ، ولو لا جهودهم ، وجهادهم ، لما انتشر الاسلام وقام على سوقه عبل الذراع ، ولا بد لنا من وقفة قصيرة لنتحدث عن الصحابة ، وموقف الشيعة منهم.

__________________

(١) حياة الامام موسى بن جعفر ١ / ١٤

١١٣

تعريف الصحابة :

المراد بالصحابة : هم الذين صحبوا النبي (ص) وآمنوا به ، وماتوا على هديه ودينه ، وليس المراد بالصحابي كل من رأى النبي (ص) فان هذا التحديد يوجب دخول الأطفال والكفار الذين رأوا النبي (ص) في إطار الصحابة مع أنه لا أشكال في خروجهم عنه ، كما أنه بناء على اعتبار الرؤية تخرج بعض الصحابة عن هذا التعريف ممن فقدوا بصرهم كابن أم مكتوم ونحوه.

حكم الصحابة :

ولصحبة النبي (ص) منزلة عظيمة ، وكريمة عند الله ، ولكن الصحبة لا توجب العصمة عن الخطأ ولا توجب النجاة من النار إلا بالعمل الصالح الذي هو المقياس الصحيح عند الله فمن آمن واهتدى وعمل صالحا فان الجنة هي المأوى ، ومن انحرف عن الحق بعد ما تبين له الهدى فان مصيره إلى النار هذا هو حكم الاسلام في قرآنه يقول الله تعالى ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى ، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ) وقال تعالى : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) فقد أناط تعالى ثوابه بالعمل الصالح وأناط عقابه بالعمل السيئ ، والصحابة وغيرهم سواء ، وليس لأحد عند الله منزلة خاصة فجميع البشر عنده سواء ، وأقربهم عنده المطيع له ، وأبعدهم عنه العاصي له ، وهذه آراء بعض

١١٤

أعلام الشيعة في الصحابة.

رأي السيد علي خان :

قال سماحة المغفور له السيد علي خان المدني : « حكم الصحابة عندنا في العدالة حكم غيرهم ، ولا يتحتم الحكم بالايمان والعدالة بمجرد الصحبة ، ولا يحصل بها النجاة من عقاب النار وغضب الجبار إلا أن يكون مع يقين الايمان ، وخلوص الجنان فمن علمنا عدالته وإيمانه ، وحفظه وصية رسول الله (ص) في أهل بيته ، وانه مات على ذلك كسلمان الفارسي وأبي ذر وعمار واليناه ، وتقربنا إلى الله تعالى بحبه ، ومن علمنا انه انقلب على عقبه وأظهر العداوة لأهل البيت عاديناه لله تعالى ، وتبرأنا إلى الله منه ، ونسكت عن المجهولة حاله » (١).

وهذا الرأي وثيق للغاية فليس الحب لخيار الصحابة والتقدير لهم إلا حبا لله وتقربا إليه ، كما أن بغض المنحرفين منهم عن الحق إنما هو بغض للباطل وتقربا إلى الله تعالى الذي أمرنا بالابتعاد عن الباطل.

رأي الامام شرف الدين :

قال الامام شرف الدين : « إن من وقف على رأينا في الصحابة علم أنه أوسط الآراء إذ لم نفرط فيه تفريط الغلاة الذين كفروهم جميعا ، ولا أفرطنا إفراط الجمهور الذين وثقوهم جميعا ، فان الكاملية ، ومن

__________________

(١) الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة ( ص ١١ ).

١١٥

كان في الغلو على شاكلتهم ، قالوا : بكفر الصحابة كافة ، وقال أهل السنة : بعدالة كل فرد ممن سمع النبي أو رآه من المسلمين مطلقا ، واحتجوا بحديث ( كل من دب أو درج منهم أجمعين أكتعين ).

أما نحن فان الصحبة بمجردها وان كانت عندنا فضيلة جليلة لكنها بما هي من حيث هي غير عاصمة ، فالصحابة كغيرهم من الرجال فيهم العدول ، وهم عظماؤهم ، وعلماؤهم ، وفيهم البغاة وفيهم أهل الجرائم من المنافقين ، وفيهم مجهول الحال ، فنحن نحتج بعدولهم ، ونتولاهم في الدنيا والآخرة ، أما البغاة على الوصي وأخي النبي (ص) وسائر أهل الجرائم كابن هند ، وابن النابغة ، وابن الزرقاء ، وابن عقبة ، وابن أرطاة ، وأمثالهم فلا كرامة لهم ، ولا وزن لحديثهم ، ومجهول الحال نتوقف فيه حتى نتبين أمره ، هذا رأينا في حملة الحديث من الصحابة ، والكتاب والسنة بيننا على هذا الرأي ، كما هو مفصل في مظانه من أصول الفقه ، لكن الجمهور بالغوا في تقديس كل من يسمونه صحابيا حتى خرجوا عن الاعتدال فاحتجوا بالغث منهم والسمين ، واقتدوا بكل مسلم سمع من النبي (ص) أو رآه اقتداء أعمى ، وأنكروا على من يخالفهم في هذا الغلو ، وخرجوا من الانكار على كل حد من الحدود ، وما أشد إنكارهم علينا حين يروننا نرد حديث كثير من الصحابة مصرحين بجرحهم أو بكونهم مجهولي الحال عملا بالواجب الشرعي في تمحيص الحقائق الدينية والبحث عن الصحيح من الآثار النبوية ، وبهذا ظنوا بنا الظنون ، فاتهمونا بما اتّهمونا رجما بالغيب ، وتهافتا على الجهل ، ولو ثابت إليهم أحلامهم ورجعوا إلى قواعد العلم ، لعلموا أن أصالة العدالة في الصحابة مما لا دليل عليها ، ولو تدبروا القرآن الحكيم لوجدوه مشحونا

١١٦

بذكر المنافقين منهم ، وحسبك منه سورة التوبة والأحزاب » (١).

ويمثل رأي الامام شرف الدين عمق الفكر ، وأصالة الدليل فان الشيعة لم تقف مع الصحابة موقفا عاطفيا ، وإنما نظرت بعمق إلى أعمالهم فأكبرت كل من ساهم في بناء الاسلام وبقي صامدا أمام الاحداث التي أمتحن بها المسلمون كأشد ما يكون الامتحان بعد وفاة نبيهم ، كما لم تقم أي وزن لمن كان متهما في دينه كمروان بن الحكم وأبيه الحكم ، والوليد بن عقبة الذي سماه الله فاسقا ، وذي الثدية وثعلبة بن حاطب وأمثالهم من الذين عادوا الله ورسوله وانحرفوا عن الاسلام.

موقف الامام من الصحابة :

أما موقف الامام أبي جعفر (ع) من الصحابة فقد كان يتسم بالولاء والتقدير لخيارهم وصلحائهم ، وبالتوهين والازدراء لمن لا حريجة له في الدين منهم ، وقد روى في تجريحهم عدة أحاديث عن النبي (ص) كما أشار إلى بعض الأخبار الموضوعة التي وردت في الثناء عليهم ، وفيما يلي ذلك :

١ ـ إنه (ع) روى عن عبد الله بن أبي رافع عن أبي هريرة ، قال قال رسول الله (ص) : « يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلون عن الحوض فأقول : يا رب أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدّوا على أعقابهم القهقرى » (٢).

__________________

(١) المراجعات

(٢) المعرفة والتاريخ ١ / ٣٦٠ ، وأخرجه البخاري ٨ / ١٥٠.

١١٧

وبمضمون هذا الحديث وردت أحاديث كثيرة منها ما رواه أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود عن النبي (ص) أنه قال لأصحابه : « أنا فرطكم على الحوض ، ولأنازعن أقواما ثم لاغلبن عليهم فأقول : يا رب أصحابي ، فيقول : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك » (١) وأخرج الترمذي عن النبي (ص) أنه قال : ويؤخذ من أصحابي برجال ذات اليمين ، وذات الشمال فأقول : يا رب أصحابي فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فانهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ، فأقول : كما قال العبد الصالح : إن تعذبهم فانهم عبادك ... (٢).

إلى غير ذلك من الأخبار التي دلت على وجود المنحرفين من أصحاب النبي (ص) وإن الصحبة لا توجب العصمة من الخطأ ، والتحرج في الدين.

٢ ـ إن الامام (ع) أشار في حديث له مع جماعة من أعلام أصحابه إلى أن أكثر الأحاديث التي وردت في فضل بعض الصحابة كانت من الموضوعات أيام حكم معاوية فقد عهد إلى لجان الوضع بافتعال ذلك للحط من شأن العلويين ، وقد طلب أبان من الامام أن يسمي له بعض تلك الأخبار الموضوعة ، فقال (ع) : رووا

« إن سيدي كهول أهل الجنة أبو بكر وعمر » (٣)

« إن عمر محدث ـ بصيغة المفعول أي تحدثه الملائكة ـ »

__________________

(١) مسند أحمد ٥ / ٢٣١

(٢) صحيح الترمذي ٢ / ٦٨

(٣) وضع الحديث لمعارضة الخبر المتواتر عن النبي (ص) في حق السبطين الحسن والحسين إنهما سيدا شباب أهل الجنة ، وقد سئل الامام الجواد (ع) عنه فقال : والله ليس في الجنة كهول بل كلهم شباب مرد.

١١٨

« إن عمر يلقنه الملك »

« إن السكينة تنطق على لسان عمر »

« إن الملائكة لتستحي من عثمان » (١)

واسترسل الامام أبو جعفر في عرض الأخبار المفتعلة حتى عد أكثر من مائة رواية (٢) يحسبها الناس أنها حق ، وهي كذب وزور (٣).

إن وضع الحديث في فضل الصحابة كان له مضاعفاته السيئة والتي كان منها تقديس الجمهور لعامة الصحابة تقديسا أعمى ، وألغوا النظر في الأعمال التي أثرت عن بعضهم وهي لا تتفق مع روح الاسلام وواقعه.

الفكر السياسي الشيعي :

وتبنت الشيعة منذ فجر تأريخها العدل السياسي ، والعدل الاجتماعي ونادت بحقوق الانسان ، وإلغاء التمايز العنصري بين جميع الناس على اختلاف قومياتهم وأديانهم.

إن الفكر السياسي الذي تبنته الشيعة إنما هو امتداد ذاتي لواقع الاسلام الذي بني على العدل الخالص والحق المحض ، والذي جاء لتطور

__________________

(١) لا نعلم لما ذا تستحي الملائكة من عثمان بن عفان عميد الأسرة الأموية فهل إنها تعمل المنكر والقبيح حتى تستحي منه أو بالعكس ، إنا لا نتصور وجها لهذا الاستحياء المزعوم.

(٢) في رواية حتى عد أكثر من مائتي حديث.

(٣) حياة الامام الحسن ( ٢ / ١٦٨ ـ ١٦٩ ) نقلا عن سليم بن قيس الكوفي ( ص ٤٥ ).

١١٩

الحياة ، ورفع مستوى الانسان ، وازدهار حياته ، ونلمح إلى بعض معالمه الرئيسية.

الرخاء الاقتصادي

وآمنت الشيعة بضرورة توفير الرخاء الاقتصادي لجميع الناس ، واعتبرت الفقر كارثة اجتماعية مدمرة يجب القضاء عليها بكافة الوسائل فانه ليس من الاسلام في شيء أن يكون في المجتمع الاسلامي ظل للفقر أو شبح للحرمان ، ومن أجل ذلك ثار الزعيم الاسلامي الكبير أبو ذر على الحكم الأموي الذي بني على الاثرة والاستغلال وإشاعة الفقر بين الناس ، وقد قال أبو ذر : كلمته الخالدة « عجبت لمن لا يجد القوت أن لا يخرج شاهرا سيفه »

وقد ضاقت الحكومة الأموية منه ذرعا ، فقد أخذ هذا المصلح العظيم يوقض المشاعر ، ويلهب العواطف ، ويدفع الناس إلى الثورة والتمرد على الحكم الأموي ، وفرض عليه الأمويون الاقامة الجبرية في الربذة التي هي أقفر بقعة في الحجاز ، وظل أبو ذر يعاني البؤس والجوع حتى توفى مضطهدا جائعا في حين أن ذهب الأرض بيد بني أمية وآل أبي معيط.

وإن من بين الأهداف الأصيلة التي ثار من أجلها الامام العظيم الحسين (ع) هو إنقاذ الاقتصاد الاسلامي من الطغمة الأموية التي تلاعبت به ، وسخرته لاشباع شهواتها وتدعيم نفوذها وأغراضها ، في حين أن الاسلام قد احتاط كأشد ما يكون الاحتياط في أموال الدولة فألزم ولاة الأمور في إنفاقها على تطوير الحياة العامة ، وازدهار حياة الفرد والمجتمع

١٢٠