حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل - ج ١

باقر شريف القرشي

حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل - ج ١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤
الجزء ١ الجزء ٢

أما البحث عن شئون السادة من أخوان الامام الباقر وابنائه ، ومدى علاقتهم معه فانه ضروري حسب الدراسات الحديثة لأنه يكشف جانبا من جوانب حياته في ظلال أسرته التي تعد من المكونات التربوية للشخص ـ حسبما يقول علماء التربية ـ وفيما يلي ذلك.

أخوته :

أما علاقة الامام بأخوته فقد كانت وثيقة للغاية تسودها المحبة والألفة واجتناب هجر الكلام ومره ، وقد قيل له :

« أي اخوانك أحب إليك؟ »

فأجاب (ع) أنه لا يفرق بينهم ، وأنه يكن لهم جميعا اعظم المودة والاخلاص قائلا :

« أما عبد الله فيدي التي ابطش بها (١) واما عمر فبصري الذي ابصر به ، وأما زيد فلساني الذي انطق به ، وأما الحسين فحليم يمشي على الأرض هونا ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا : سلاما .. » (٢).

لقد توفرت في اخوان الامام (ع) جميع النزعات الكريمة من الورع والتقوى ، والصلاح ، قد غذاهم أبوهم الامام زين العابدين (ع) بهديه ، وأفاض عليهم أشعة من روحه فأنارت قلوبهم بجوهر الاسلام وواقع الايمان ، ونقدم عرضا موجزا لبعض شئونهم :

زيد الشهيد :

أما زيد الشهيد فهو ملئ فم الدنيا في فضله وعلمه وشممه وإبائه ،

__________________

(١) عبد الله : هو أخو الامام الباقر لأمه وأبيه.

(٢) سفينة البحار ٢ / ٢٧٣.

٦١

وهو أحد أعلام الأسرة النبوية الذين رفعوا كلمة الله عالية في الأرض ، وقدموا أرواحهم قرابين خالصة لوجه الله ليحققوا العدالة الاسلامية ، ويعيدوا بين الناس حكم القرآن ، ويقضوا على معالم الظلم الاجتماعي التي أوجدها الحكم الاموي بين الناس ، ونلمع الى بعض سيرته وشئونه.

ولادته :

كانت ولادة زيد الشهيد سنة ( ٧٨ ه‍ ) (٣) وقيل سنة ( ٧٥ ه‍ ) (٤) ولما بشر به أبوه الامام زين العابدين (ع) أخذ القرآن الكريم وفتحه متفائلا به فخرجت الآية الكريمة ( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ) (٥) فطبقه وفتحه ثانيا فخرجت الآية ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (٦) وطبق المصحف ثم فتحه فخرجت الآية ( وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ ) (٧) وبهر الامام وراح يقول :

« عزيت عن هذا المولود وانه لمن الشهداء .. » (٨)

لقد تنبأ الامام (ع) بشهادة ولده واحاط أصحابه علما بها ، فلم يخامرهم شك في ذلك.

__________________

(٣) تهذيب ابن عساكر ٦ / ١٨.

(٤) الحدائق الوردية ١ / ١٤٣.

(٥) سورة التوبة : آية ١١١.

(٦) سورة آل عمران : آية ١٦٩.

(٧) سورة النساء : آية ٩٥.

(٨) الروض النضير ١ / ٥٢.

٦٢

نشأته :

نشأ زيد في بيوت النبوة والامامة ، وتغذى بلباب الحكمة ، فكان أبوه الامام زين العابدين الذي هو أفضل انسان في عصره يتعاهده بالآداب ، ويرسم له طرق الهداية والخير ، فتأثر بسلوكه ، وانطبعت في دخائل نفسه نزعاته المشرقة ، فكان البارز من صفاته ـ فيما يقول المؤرخون ـ الزهد والورع ، والتحرج في الدين ، فلم يتبع قيادة نفسه وإنما آثر رضا الله وطاعته على كل شيء.

وقد لازم منذ نعومة اظفاره أخاه الامام الباقر الذي هو خليفة أبيه ووصيه ، ووارث علومه ، ومن الطبيعي ان لهذه الصحبة أثرا فعالا في سلوكه وتكوين شخصيته ، فقد كان في هديه يضارع هدي آبائه الذين طهرهم الله من الرجس والزيغ وأبعدهم عن مآثم هذه الحياة.

عبادته وتقواه :

وأخلص زيد في العبادة والانابة لله ، فكان من أبرز المتقين في عصره يقول عاصم بن عبيد العمري : « رأيته وهو شاب بالمدينة يذكر الله فيغشى عليه ، حتى يقول القائل ما يرجع الى الدنيا » (٩) وكان يعرف عند أهل المدينة بحليف القرآن (١٠) وقد أثر السجود بوجهه (١١) لكثرة صلاته طوال الليل (١٢) لقد اتجه بعواطفه ومشاعره نحو الله ، وسلك

__________________

(٩) مقاتل الطالبين ( ص ١٢٨ ).

(١٠) مقاتل الطالبين ( ص ١٣٠ ).

(١١) مقاتل الطالبين ( ص ١٢٨ ).

(١٢) الخرائج والجرائح ( ص ٣٢٨ ).

٦٣

كل ما يقربه إليه زلفى.

علمه وأدبه :

وكان زيد من علماء عصره البارزين ، وكان موسوعة في الحديث والفقه والتفسير واللغة والأدب ، وعلم الكلام ، وقد سأل جابر الامام الباقر (ع) عن زيد فأجابه (ع) « سألتني عن رجل ملئ ايمانا وعلما من أطراف شعره الى قدمه. » (١٣).

وقال (ع) فيه : « ان زيدا أعطي من العلم بسطة » (١٤) وقد تحدث زيد عن سعة علومه ومعارفه حينما أعد نفسه لقيادة الأمة ، والثورة على الحكم الأموي ، يقول :

« والله ما خرجت ، ولا قمت مقامي ، هذا ، حتى قرأت القرآن ، وأتقنت الفرائض واحكمت السنة والآداب ، وعرفت التأويل كما عرفت التنزيل ، وفهمت الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه ، والخاص والعام ، وما تحتاج إليه الأمة في دينها مما لا بد لها منه ، ولا غنى عنه وأني لعلى بينة من ربي ... » (١٥).

لقد كان زيد من اعلام الفقهاء ومن كبار رواة الحديث ، وقد أخذ علومه من أبيه الامام زين العابدين (ع) ومن أخيه الامام الباقر (ع) الذي بقر العلم حسبما أخبر عنه جده الرسول (ص) وقد غذياه بانواع العلوم وأخذ عنهما أصول الاعتقاد والفروع والتفسير ، فكان من الطراز الأول في فضله وعلمه ...

__________________

(١٣) مقدمة مسند الامام زيد ( ص ٨ ).

(١٤) مقدمة مسند الامام زيد ( ص ٧ ).

(١٥) الخطط والآثار للمقريزي ٢ / ٤٤٠.

٦٤

وإن من أوهى الاقوال ما ذهب إليه الشهرستاني من انه تتلمذ لواصل بن عطاء واخذ عنه الاعتزال يقول : « أراد ـ يعني زيدا ـ أن يحصل الاصول والفروع حتى يتحلى بالعلم فتتلمذ في الاصول لواصل بن عطاء رأس المعتزلة مع اعتقاد واصل بأن جده علي بن أبي طالب (ع) في حروبه التي جرت بينه وبين أصحاب الجمل وأصحاب الشام ما كان على يقين من الصواب ، وان أحد الفريقين منهما كان على خطأ لا بعينه فاقتبس منه الاعتزال .. » (١٦)

أما هذا الرأي فلا يحمل أي طابع من التوازن والتحقيق فان زيدا لم يقتبس علومه من واصل ، وإنما أخذها من أبيه وأخيه اللذين أضاءا الحياة الفكرية والعلمية في الاسلام.

وقد استمد الفقهاء ورؤساء المذاهب الاسلامية علومهم مما أخذوه من أئمة اهل البيت (ع) أما مباشرة او من أحد تلامذتهم ، فكيف يذهب زيد الى واصل (١٧) لأخذ العلم عنه؟ ويذهب الشيخ أبو زهرة الى ان التقاء زيد بواصل كان التقاء مذاكرة وليس التقاء تلميذ عن استاذ فان السن متقاربة ، وزيد كان ناضجا ... واضاف قائلا : إنه تلقى فروع

__________________

(١٦) الملل والنحل المطبوع على هامش الفصل ٢ / ٢٠٨.

(١٧) كان واصل بن عطاء الثغ قبيح اللثغة في الراء ، فكان يخلص كلامه من الراء وفيه يقول الشاعر :

ويجعل البر قمحا في تصرفه

وخالف الراء حتى احتال للشعر

ولم يطق مطرا والقول يعجله

فعاد بالغيث اشفاقا من المطر

جاء ذلك في وفيات الاعيان ٥ / ٦٠.

٦٥

الاحكام من أسرته ، وفي المدينة مهد علم الفروع (١٨).

لقد أخذ زيد علومه من أبيه وأخيه ، وكان من اعلام الفقهاء في عصره وقد روى عنه أبو خالد الواسطي مجموعة في الفقه تتناول العبادات والمعاملات اسماها ( مسند الامام زيد ) وقد ذكرنا ما يواجه هذا الكتاب من المؤخذات في درستنا عن عقائد الزيدية (١٩).

أما مكانة زيد الأدبية فقد كان من الطراز الأول في الأدب والبلاغة وكان يشبه جده الامام أمير المؤمنين (ع) في فصاحته وبلاغته (٢٠) ويقول المؤرخون : إنه جرت بين زيد وبين جعفر بن الحسن منازعة في وصية فكانا إذا تنازعا انثال الناس عليهما ليسمعوا محاورتهما فكان الرجل يحفظ على صاحبه اللفظة من كلام جعفر ويحفظ الآخر اللفظة من كلام زيد فاذا انفصلا وتفرق الناس فيكتبون ما قالاه : ثم يتعلمونه كما يتعلم الواجب من الفرض والنادر من الشعر والسائر من المثل وكانا أعجوبة دهرهما واحدوثة عصرهما (٢١) وكان سيبويه يحتج بما أثر عن زيد من الشعر ، ويستشهد به فيما يذهب إليه واعترف خصمه الطاغية هشام بقدراته الأدبية ، وبراعته في الكلام فقال : « إنه حلو اللسان ، شديد البيان ، خليق بتمويه الكلام » (٢٢) وقد حفلت مصادر الأدب والتأريخ

__________________

(١٨) الامام زيد ( ص ٢٢٥ ) لمحمد أبو زهرة.

(١٩) طبع بعض هذا الكتاب في المسائل الدينية التي تصدر في كربلا والبعض الآخر لا يزال مخطوطا.

(٢٠) الحدائق الوردية ١ / ١٤٤.

(٢١) زهر الآداب ١ / ٨٧.

(٢٢) تأريخ اليعقوبي ٢ / ٣٩٠.

٦٦

بالشيء الكثير من روائع حكمه وهي من غرر الكلام العربي.

اكبار الامام الباقر لزيد :

وكان الامام الباقر (ع) يجل أخاه زيدا ويكبره ، ويحمل له في دخائل نفسه أعمق الود ، وخالص الحب لأنه من افذاذ الرجال ، وصورة حية للبطولات النادرة ، وقد روى المؤرخون صورا من ألوان ذلك الود والاكبار ، وهذه بعضها :

١ ـ إنه قال له : « لقد انجبت أم ولدتك يا زيد ، اللهم اشدد ازري بزيد » (٢٣) وهذا يدل على مدى إكبار الامام وتعظيمه لزيد.

٢ ـ روى سدير الصيرفي قال : كنت عند أبي جعفر الباقر (ع) فدخل زيد بن علي فضرب أبو جعفر على كتفه وقال له : « هذا سيد بني هاشم إذا دعاكم فأجيبوه وإذا استنصركم فانصروه » (٢٤) ودل ذلك على دعوة الامام الى نصرته والذب عنه ، والحكم بشرعية ثورته.

٣ ـ روى المؤرخون عن رجل من بني هاشم قال : كنا عند محمد بن علي بن الحسين وأخوه زيد جالس فدخل رجل من أهل الكوفة فقال له محمد بن علي : إنك لتروى طرائف من نوادر الشعر فكيف قال الانصاري لأخيه؟ فانشده :

لعمرك ما أن أبو مالك

بوان ولا بضعيف قواه

ولا بألد له نازع

يعادي أخاه اذا ما نهاه

__________________

(٢٣) عمدة الطالب ٢ / ١٢٧ من مصورات مكتبة الامام الحكيم تسلسل ٤٢.

(٢٤) عمدة الطالب ٢ / ١٢٧ ، غاية الاختصار ( ص ٣٠ ).

٦٧

ولكنه غير مخلافة

كريم الطبائع حلو ثناه (٢٥)

وإن سدته سدت مطواعة

ومهما وكلت إليه كفاه

فوضع أبو جعفر يده على كتف زيد وقال له :

« هذه صفتك يا أخي واعيذك بالله أن تكون قتيل العراق » (٢٦).

ومعنى هذه الأبيات التي وصف بها الامام أخاه أنه كان قوي الشكيمة صلب الارادة ، ماضي العزيمة ، وانه منقاد لأخيه ، كريم في طبائعه ، وإنه مهما وكل إليه من أمر عظيم فانه اهل للقيام به ، ولا يتصف بهذه الصفات إلا أفذاذ الناس ، وعمالقة الدهر.

لقد اضفى الامام (ع) على أخيه اسمى النعوت ، ومنحه وده الخالص ، ولم يكن بذلك مدفوعا بدافع الأخوة فان مقامه الروحي بعيد كل البعد من الاندفاع وراء العواطف والرغبات ، وإنما رأى أخاه من أروع صور التكامل الانساني فمنحه هذا اللون من الود والتكريم.

مع هشام بن عبد الملك :

وعرف هشام بن عبد الملك بالحقد على الأسرة النبوية ، والبغض لها ، وقد عهد للمباحث ورجال الأمن بمراقبة العلويين والتعرف على تحركاتهم والوقوف على نشاطاتهم السياسية ، وقد احاطته استخباراته علما بسمو مكانة زيد ، وأهمية مركزه الاجتماعي ، وما يتمتع به من القابليات الفذة التي اوجبت احتفاف الجماهير حوله ، وتطلعهم الى حكمه ، وأخذ هشام يبغي له الغوائل ويكيد له في غلس الليل وفي وضح النهار ، وعهد الى عامله على يثرب بأشخاصه إليه ، ولما شخص الى دمشق حجبه عنه

__________________

(٢٥) وفي رواية ( حلو نثاه ).

(٢٦) زهر الآداب ١ / ١١٨.

٦٨

مبالغة في توهينه والاستهانة به ، وقد احتف به أهل الشام لما رأوا ما اتصف به من سمو الخلق ، وبليغ النطق وقوة الحجة ، والتحرج في الدين ، وبلغ ذلك هشاما فتميز من الغيظ فاستشار بعض مواليه ، وطلب منه الرأي للحط من شأنه وتوهينه أمام أهل الشام فأشار عليه أن يأذن للناس اذنا عاما ، ويحجب زيدا ثم يأذن له في آخر الناس فاذا دخل عليه وسلم فلا يرد عليه سلامه ولا يأمره بالجلوس ، وحسب أن ذلك موجب للحط من شأنه والتوهين بشخصيته وفعل هشام ذلك ، فلما دخل زيد وسلم لم يرد عليه سلامه فثار زيد في وجهه ـ فيما يقول بعض المؤرخين ـ وخاطبه بعنف قائلا :

« السلام عليك يا أحول فانك ترى نفسك أهلا لهذا الاسم ... » (٢٧) ونسفت هذه الكلمات جبروت الطاغية ، واطاحت بغلوائه ، فصاح بزيد : « بلغني أنك تذكر الخلافة ، وتتمناها ، ولست أهلا لها ، وأنت ابن أمة .. »

وانبرى زيد يسخر منه ، ويدلي بحجته في تفنيد قول هشام قائلا : « ان الامهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات ، وقد كانت أم اسماعيل أمة لأم اسحاق فلم يمنعه ذلك أن بعثه الله نبيا ، وجعله أبا للعرب ، وأخرج من صلبه خير الأنبياء محمد (ص) ... » (٢٨).

وفقد هشام توازنه امام هذا المنطق الفياض ، وسرت الرعدة في أوصاله فراح يتهجم على الامام محمد الباقر (ع) فقال له :

« ما يصنع أخوك البقرة؟ .. »

__________________

(٢٧) تهذيب ابن عساكر ٦ / ٢٢.

(٢٨) الكامل لابن الأثير ٥ / ٨٤.

٦٩

ولا يلجأ الى هذا المنطق الرخيص إلا كل جاهل يعوزه الدليل ، والبرهان وشعر زيد بألم حينما سب أخاه فالتفت الى الطاغية قائلا :

« سماه رسول الله الباقر ، وتسميه البقرة ، لشد ما اختلفتما لتخالفنه في الآخرة كما خالفته في الدنيا فيرد الجنة وترد النار .. » (٢٩)

وزعزعت هذه الكلمات عرش الطاغية وابرزته امام أهل الشام كأقذر مخلوق لا يستحق أن يكون شرطيا فكيف يكون خليفة على المسلمين؟ مع مخالفته لرسول الله (ص)؟ وفقد هشام صوابه فصاح بجلاوزته ان يخرجوا زيدا من مجلسه (٣٠) وخرج زيد وقد ملئ قلب هشام غيظا والما ، وراح الطاغية يقول لأسرته :

« ألستم تزعمون أن أهل هذا البيت قد بادوا ، لا لعمري ما انقرض قوم هذا خلفهم ... » (٣١)

وخرج زيد وقد امتلأت نفسه حماسا وعزما على اعلان الثورة على الحكم الأموي الذي كفر بجميع القيم الانسانية واستهان بكرامة الناس ، وقد أعلن زيد شرارة الثورة بكلمته الخالدة التي اصبحت شعارا للثوار ونشيدا لهم على الخوض في ميادين الكفاح والنضال قائلا :

« ما كره قوم حر السيوف إلا ذلوا .. »

وقد جرت هذه المقابلة بين زيد وبين هشام في حياة الامام الباقر (ع) ولم تشر المصادر التي بايدينا الى السنة التي وقعت فيها وعلى أي حال فمنذ تلك اللحظة عزم زيد على الثورة ، والقيام بمناهضة الحكم الأموي ،

__________________

(٢٩) شرح النهج ١ / ٣١٥ ، عمدة الطالب ( ص ٨٣ ).

(٣٠) الكامل ٥ / ٨٤.

(٣١) عمدة الطالب.

٧٠

يقول بعض شيعته دخلت عليه فسمعته يتمثل بقول الشاعر :

ومن يطلب المجد للمنع بالقنا

يعش ماجدا أو تخترمه المخارم

متى تجمع القلب الذكي وصارما

وآنفا حميا تجتنبك المظالم

وكنت اذا قوم غزوني غزوتهم

فهل أنا في ذا يا آل همدان ظالم (٣٢)

ودل هذا الشعر على تصميمه على الثورة ، والخوض في ميدان الكفاح المسلح ليعش ماجدا كريما تجتنبه المظالم ، ويصد عنه كيد المعتدين ... لست أيها الثائر العظيم ظالما ولا باغيا وإنما أنت منقذ ومحرر للأمة العربية والاسلامية من الظلم والجور والاستبداد.

مشروعية الثورة :

والشيء المحقق ان زيدا لم يفجر ثورته الكبرى أشرا ولا بطرا ، ولا ظالما ، ولا مفسدا ، وإنما كان يبغي وجه الله ، ويلتمس الدار الآخرة ، فقد رأى ظلما شائعا ، وجورا شاملا ، ورأى حكام بني أمية لم يبقوا لله حرمة إلا انتهكوها ، فخرج داعيا الى الله ، وطالبا بالحق ، يقول الرواة : إنه لما ازمع على الخروج جاءه جابر بن يزيد الجعفي فقال له : إني سمعت أخاك أبا جعفر يقول : إن أخي زيد بن علي خارج ومقتول ، وهو على الحق ، فالويل لمن خذله ، والويل لمن حاربه ، والويل لمن يقتله ، فقال له زيد :

« يا جابر لم يسعن أن أسكت ، وقد خولف كتاب الله تعالى ، وتحوكم بالجبت والطاغوت ، وذلك اني شاهدت هشاما ، ورجل عنده يسب رسول الله (ص) فقلت : للساب ، ويلك يا كافر اما اني لو تمكنت منك

__________________

(٣٢) مقاتل الطالبين ( ص ١٢٩ ).

٧١

لاختطفت روحك وعجلتك الى النار ، فقال لي هشام : مه جليسنا يا زيد ، فو الله لو لم يكن إلا أنا ويحيى ابني لخرجت عليه ، وجاهدته حتى افنى .. » (٣٣)

وأثنى الامام أبو عبد الله الصادق (ع) على عمه ثناء عاطرا ، ومجّد ثورته الاصلاحية فكان فيما يقول الرواة : قد قال لاصحابه : لا تقولوا : خرج زيد ، فان زيدا كان عالما ، وكان صدوقا ، ولم يدعكم الى نفسه ، إنما دعاكم الى الرضا من آل محمد (ع) ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه انما خرج الى سلطان مجتمع لينقضه (٣٤) وقد دفع (ع) الى عبد الرحمن بن سيابة ألف دينار وأمره أن يقسمها في عيال من أصيب مع زيد (٣٥).

ولو كانت الثورة غير مشروعة لما صنع ذلك فان شأنه أسمى من أن يندفع وراء التيارات العاطفية.

وشجبت بعض الروايات ثورة زيد ، ووسمتها بأنها غير مشروعة إلا ان سيدنا الاستاذ الامام الخوئي قد عرض (٣٦) إليها فأثبت ان سندها ضعيف لا يمكن التعويل عليها في الطعن بشخصية زيد وثورته.

وعلى أي حال فقد أحدثت ثورة زيد تحولا اجتماعيا وفكريا في المجتمع الاسلامي وهيأته الى الثورة على الحكم الأموي فلم تمر إلا سنين يسيرة

__________________

(٣٣) تيسير المطالب ( ص ١٠٨ ـ ١٠٩ ).

(٣٤) روضة الكافي.

(٣٥) الأمالي للمجلسي ٥٤.

(٣٦) معجم رجال الحديث ٧ / ٣٥٠ ـ ٣٥٨.

٧٢

وإذا بالرايات السود تخفق في خراسان ، وهي تزحف الى احتلال الاقاليم الاسلامية ، وتطهرها من عملاء السلطة الاموية حتى اطاحت بالعرش الأموي ، وقضت على معالم زهوه وجبروته.

الثورة الكبرى :

وثار زيد على الحكم الأموي بوحي من عقيدته التي تمثل روح الاسلام وهديه ، فقد رأى باطلا يحيى ، وصادقا يكذب ، وأثرة بغير تقى ، ورأى جورا شاملا ، واستبدادا في أمور المسلمين فلم يسعه السكوت ، يقول بعض شيعته : خرجت معه الى مكة فلما كان نصف الليل ، واستوت الثريا قال لي :

« أما ترى هذه الثريا؟ أترى أحدا ينالها؟ ... »

« لا ».

« والله لوددت أن يدي ملصقة بها فاقع الى الارض أو حيث أقع فاتقطع قطعة قطعة ، وان الله يصلح بين أمة محمد (ص) ... » (٣٧)

ودل حديثه على مدى نزعته الاصلاحية واخلاصه العظيم لأمة جده (ص) وتفانيه في سبيل الاصلاح العام.

وروى عيسى بن عبد الله عن جده محمد بن عمر بن علي (ع) قال : كنت مع زيد بن علي حين بعث بنا هشام الى يوسف بن عمر ، فلما خرجنا من عنده ، وسرنا حتى كنا بالقادسية قال زيد : اعزلوا متاعي عن أمتعتكم ، فقال له ابنه : ما تريد أن تصنع؟ قال : أريد أن ارجع الى الكوفة ، فو الله لو علمت أن رضى الله عز وجل عني في أن أقدح نارا

__________________

(٣٧) مقاتل الطالبيين ( ص ١٢٩ ).

٧٣

بيدي حتى اذا اضطرمت رميت نفسي فيها لفعلت!! ولكن ما أعلم شيئا ارضى لله عز وجل عني من جهاد بني أمية (٣٨).

إنه لم يفجر ثورته الكبرى طمعا بالخلافة والملك ، وإنما كان يبغي وجه الله والدار الآخرة ، وقد رأى أن مناهضة اولئك الظالمين من اعظم ما يقربه الى الله.

ويمم زيد وجهه نحو الكوفة لأنها المركز العام للشيعة ، وان أهلها طلبوا منه القدوم إليهم ليأخذ منهم البيعة على مناهضة الحكم الاموي والاطاحة به ، ويقول المؤرخون إن جماعة من المخلصين لزيد حذروه من القدوم الى الكوفة ، وعذلوه من الوثوق بالكوفيين لما عرفوا به من الغدر ونقض العهود إلا انه لم يعن بذلك فانه لم يجد موطنا تتوفر فيه الإستراتجية للثورة سوى الكوفة ، وجعل زيد يتمثل بقول عنترة العبسي :

بكرت تخوفني المنون كأنني

اصبحت عن عرض الحياة بمعزل

فأجبتها أن المنية منهل

لا بد أن أسقى بكأس المنهل (٣٩)

ودل هذا الشعر على عزمه وتصميمه على الخوض في ميادين الكفاح المسلح ، وانه يسعى بكل جرأة واقدام ليحتسي كأس المنية ولا يعيش ذليلا مضاما شأنه شأن جده الامام الحسين سيد الاحرار والأباة في الاسلام.

ولما انتهى زيد الى الكوفة بادر أهلها إليه فرحبوا به ترحيبا حارا ، وأسرعوا إليه يبايعونه حتى بلغ عدد المبايعين خمسة عشر الفا ، وقيل اكثر من ذلك وبايعه الفقهاء والقضاة واعلام الفكر والأدب كالاعمش ، وسعد

__________________

(٣٨) تيسير المطالب ( ص ١٠٨ ـ ١٠٩ ).

(٣٩) الروض النضير ١ / ٧٥.

٧٤

ابن كدام ، وقيس بن الربيع والحسن بن عمارة وغيرهم (٤٠) وسئل ابو حنيفة عن خروج زيد فقال : « ضاهى خروج رسول الله (ص) يوم بدر » وقال : « لو علمت أن الناس لا يخذلونه كما خذلوا أباه لجاهدت معه لأنه أمام بحق ، ولكن اعينه بمال » (٤١).

أما صيغة البيعة التي أخذها زيد على من بايعه فهي : « إنا ندعوكم الى كتاب الله ، وسنة نبيه ، وجهاد الظالمين ، والدفع عن المستضعفين ، وإعطاء المحرومين ، وقسم هذا الفيء بين أهله ، ورد المظالم ، ونصرة أهل الحق ... » (٤٢).

وتعطي هذه الصيغة صورة عن المبادئ الاصلية التي ثار من أجلها زيد وهي :

١ ـ الدعوة الى احياء كتاب الله ، وسنة نبيه ، فقد اقصتهما السياسة الأموية عن واقع الحياة.

٢ ـ جهاد الظالمين من حكام بني أمية الذين ساسوا المسلمين بالظلم والجور وارغموهم على ما يكرهون.

٣ ـ الدفاع عن حقوق المستضعفين ، وتوفير العطاء للمحرومين ، فقد حرموا من جميع حقوقهم الشرعية طيلة الحكم الأموي.

٤ ـ قسمة الفيء ، وسائر الحقوق المالية على المسلمين بالسواء ، فقد نهبها الامويون ، وانفقوها على ملاذهم ورغباتهم الخاصة.

٥ ـ نصرة دعاة الحق الذين يعنون بشئون الأمة ، ويسهرون على

__________________

(٤٠) مقاتل الطالبيين.

(٤١) الكامل ٥ / ٥٦.

(٤٢) مقاتل الطالبيين.

٧٥

صالحها ، وهم الهداة من أهل البيت (ع).

لقد ثار زيد من أجل أن يحقق هذه الاهداف العظيمة في ربوع الوطن الاسلامي الكبير ، وينقذ الأمة من عسف الامويين وظلمهم وبطشهم.

وبعد ما توفرت لزيد القوة العسكرية الهائلة التي يبلغ عددها ـ فيما يقول بعض المؤرخين ـ أربعين الفا ، رأى أن يفجر الثورة ، ويزحف بجيوشه الى احتلال الكوفة والاطاحة بالحكم الأموي.

وانطلقت جيوشه من جبانة سالم (٤٣) وهي تهتف بجياة زعيمها العظيم زيد وسقوط الحكم الاموي ، وتنادي بشعار الشيعة « يا منصور امت » (٤٤) ولما رأى زيد الرايات تخفق على رأسه قال : « الحمد لله الذي هداني والله اني كنت استحي من رسول الله (ص) أن أرد الحوض ولم آمر بمعروف » (٤٥) وخطب في جيوشه فقال لهم : « عليكم بسيرة أمير المؤمنين علي بالبصرة والشام لا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ، ولا تفتحوا مغلقا ، والله على ما نقول وكيل. » (٤٦).

وبدأت الحرب في ليلة شديدة البرد (٤٧) لسبع بقين من المحرم سنة ( ١٢٢ ه‍ ) وجرت مناوشات واصطدام مسلح بين اتباع زيد وبين الجيوش الاموية تحت قيادة والي الكوفة يوسف بن عمر.

__________________

(٤٣) انساب الاشراف ٣ / ٢٠٣.

(٤٤) الطبري ٨ / ٢٧٣.

(٤٥) عمدة الطالب ٢ / ورقة ١٢٧ من مصورات مكتبة الحكيم.

(٤٦) الحدائق الوردية ١ / ١٤٨.

(٤٧) انساب الاشراف ٣ / ٢٠٢.

٧٦

الخيانة والغدر :

وخان أهل الكوفة بزيد وغدروا به بعد ما عاهدوا الله على نصرته والذب عنه فقد اسلموه عند الوثبة ، وتركوه مع القلة من اصحابه في ميدان الجهاد ، ولما رأى زيد تخاذلهم راح يقول :

« فعلوها حسينية ».

لقد غدروا به كما غدروا بجده الحسين من قبل ، وايقن زيد بفشل ثورته ، واستبان له ان لا ذمة لأهل الكوفة ، ولا وفاء لهم ، وقد خاض مع اصحابه الحرب في شوارع الكوفة وازقتها ، وابلى في المعركة بلاء حسنا ، وما رأى الناس قط فارسا اشجع منه (٤٨).

فى ذمة الخلود :

وأبدى زيد من البسالة والبطولة ما يفوق حد الوصف ، فقد اخذ يلاحق الجيوش وينزل بها أفدح الخسائر ، ولم يستطع الجيش الاموي أن يصمد أمام الضربات المتلاحقة التي يصبها عليهم زيد ، وكان يحمل عليهم ويتمثل بقول الشاعر :

أذل الحياة وعز الممات

وكلا أراه طعاما وبيلا

فان كان لا بد من واحد

فسيري الى الموت سيرا جميلا

لقد آثر زيد عز الممات على ذل الحياة كما أثر ذلك آباؤه فلم يخضع للذل والعبودية ومات عزيزا تحت ظلال السيوف والرماح.

ولما جنح الليل رمي زيد بسهم غادر فأصاب جبهته (٤٩) ووصل الى

__________________

(٤٨) انساب الاشراف ٣ / ٢٠٢.

(٤٩) يراجع في تفصيل الحادث المؤلم الى زيد الشهيد للمقرم ، وثورة زيد بن علي لناجي حسن ، والى عقائد الزيدية للمؤلف.

٧٧

دماغه الشريف الذي ما فكر إلا في صالح الانسان وسعادته.

وحلت الكارثة بأصحابه ، وهاموا في تيارات مذهلة من الأسى والحزن ، وطلبوا له طبيبا فانتزع منه السهم فتوفى من فوره ، وقد انطفئت بذلك الشعلة الوهاجة التي كانت تضيء الطريق وتوضح القصد للمسلمين.

لقد استشهد زيد من أجل أن يحقق العدالة الاجتماعية في الارض ، ويحقق للمسلمين الفرص المتكافئة ، ويوزع خيرات الارض على الفقراء والمحرومين الذين كفرت السلطة الأموية بجميع حقوقهم.

ويقول المؤرخون : إن أصحاب زيد حاروا في مواراة جثمانه خوفا عليه من السلطة التي لا تتورع من التمثيل الآثم به ، وبعد المداولة صمموا على مواراته في نهر هناك فانطلقوا الى النهر فقطعوا ماءه وحفروا فيه قبرا وواروا الجسد الطاهر فيه ، ثم أجروا الماء ، وانصرفوا وهم يذرفون الدموع على القائد العظيم الذي تبنى حقوق المظلومين والمضطهدين.

وكان مع أصحاب زيد أحد عيون السلطة يراقب تحركاتهم فبادر مسرعا الى الكوفة واخبر حاكمها بموضع الدفن ، فأمر بنبش القبر واخراجه منه فاخرج ، وحمل الى قصر الكوفة ، وأمر بصلبه منكوسا في سوق الكناسة وعمدوا الى احتزاز رأسه الشريف ، وارسل هدية الى طاغية الشام هشام ابن عبد الملك ، وأمر الرجس بوضع الرأس في مجلسه ، وأمر جميع من يدخل عليه أن يطأه بحذائه (٥٠) مبالغة في توهينه ، وجعلت الدجاج تنقر دماغه وفي ذلك يقول الشاعر :

أطردوا الديك عن ذؤابة زيد

طال ما كان لا تطأه الدجاج (٥١)

__________________

(٥٠) شرح ابن أبي الحديث.

(٥١) النزاع والتخاصم ( ص ٧ ).

٧٨

ابن بنت النبي اكرم خل

ق الله زين الوفود والحجاج

حملوا رأسه الى الشام ركضا

بالسرى والبكور والادلاج (٥٢)

وأمر الطاغية بنصب الرأس الشريف على باب دمشق ، ثم أرسل الى المدينة (٥٣) فنصب عند قبر النبي (ص) يوما وليلة (٥٤) ثم أرسله الى مصر كل ذلك لاذاعة الخوف والارهاب بين الناس ، واعلامهم على قدرة السلطة على سحق أية معارضة تقوم ضدها.

وكتب طاغية دمشق الى السفاك يوسف بن عمر حاكم الكوفة بان يبقى زيدا مصلوبا ، ولا ينزله عن خشبته قاصدا بذلك اذلال العلويين والاستهانة بشيعتهم ، وقد فاته ان ذلك قد أوقد نار الثورة في نفوسهم ، وزادهم عزما وتصميما على التضحية في سبيل مبادئهم.

وقد افتخر الامويون بابقاء جثة زيد مصلوبة ، وقد اعتز بذلك وغد من عملائهم وهو الحكيم بن عياش يقول :

صلبنا لكم زيدا على جذع نخلة

ولم نر مهديا على الجذع يصلب

وقستم بعثمان عليا سفاهة

وعثمان خير من علي وأطيب

حفنة من التراب في فيه فان زيدا إنما صلب دفاعا عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، وصلب من أجل أن يحقق العدالة الاجتماعية في الارض ، ويقضي على الغبن الاجتماعي والتلاعب بمقدرات الأمة وخيراتها.

ولما بلغ هذا الشعر الامام أبا عبد الله الصادق تألم كأشد ما يكون التألم ورفع يديه بالدعاء قائلا : « اللهم ان كان عبدك كاذبا فسلط

__________________

(٥٢) أنساب الاشراف ٣ / ٢٩٢.

(٥٣) الطبري ٨ / ٧٧.

(٥٤) عمدة الطالب ( ص ٢٥٨ ).

٧٩

عليه كلبك » واستجاب الله دعاء الامام فافترسه أسد وهو يدور في سكك الكوفة ولما انتهى خبره الى الامام سجد لله شاكرا وهو يقول : الحمد لله الذي أنجزنا وعده (٥٥).

التنكيل بأنصار زيد :

وامعنت السلطة الاموية بعد ما قضت على ثورة زيد في اشاعة الذعر والخوف في الكوفة ، فأخذت البريء بالسقيم ، والمقبل بالمدبر ، وعمدت الى التنكيل القاسي بانصار زيد فاشاعت فيهم القتل والاعدام ، واسرفت في ذلك الى حد بعيد ، وتعدى التنكيل من الرجال الى النساء ، وكان ذلك محظورا حتى في العرف الجاهلي إلا ان الامويين قد استباحوا ذلك في سبيل أهدافهم السياسية ، ويقول المؤرخون : ان الطاغية السفاك يوسف ابن عمر أمر بالقاء القبض على امرأة كانت قد اعانت زيدا ، ولما مثلت عنده أمر بقطع يدها ورجلها ، فطلبت قطع رجلها أولا حتى تجمع عليها ثيابها فما استجابوا لها فقطعوا يدها ورجلها ، وأخذ ينزف دمها حتى ماتت ، ثم انه أمر باحضار زوجها وضرب عنقه ، فنفذ فيه ذلك (٥٦) كما أوعز بالقاء القبض على امرأة كانت قد زوجت بنتها الى زيد ، فأمر بشق ثيابها ، وجلدها بالسياط ، فجلدت وتوفيت تحت السياط ، ورموا بجثتها في الصحراء ، فأخذها قومها ودفنوها في مقابرهم (٥٧).

واقترف الطاغية كثيرا من أمثال هذه الجرائم التي تنم عن انسان ممسوخ ، ميت الضمير والاحساس.

__________________

(٥٥) السيرة الحلبية ١ / ٣٢٧.

(٥٦) انساب الاشراف ٣ / ٢٥٥.

(٥٧) أنساب الاشراف ٣ / ٢٥٥.

٨٠