حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل - ج ١

باقر شريف القرشي

حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل - ج ١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤
الجزء ١ الجزء ٢

« لا أزال على منهاج أبوي مؤتسيا بهما حتى القاهما ... »

وبهر جابر ، وأقبل على من حوله قائلا :

« ما رؤي من أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين إلا يوسف بن يعقوب ، والله لذرية الحسين أفضل من ذرية يوسف بن يعقوب!! إن منهم لمن يملأ الارض عدلا كما ملئت جورا ... » (٢٢)

لقد كان الامام زين العابدين امام المتقين والمنيبين فقد اجتهد في عبادته وأخلص في طاعته ، ولم يؤثر عن القديسين مثل ما أثر عنه من الاقبال على الله.

صدقاته وبره :

وكان الامام زين العابدين من أبر الناس بالضعفاء ، وأرفقهم بالمساكين ، وأرحمهم للبائسين ، وكان يؤثر اصحاب الفاقة على نفسه وأهله ، وقد اجمع المؤرخون انه كان يحمل جراب الخبز على ظهره فيتصدق به ، ويقول : إن صدقة السر تطفئ غضب الرب (٢٣) وكان يعول بمائة بيت في المدينة (٢٤) وكان اذا ناول الفقير الصدقة قبله ثم ناوله (٢٥) وإنما كان يفعل ذلك لئلا يبدو على الفقير أثر الذل والانكسار ، ويقول المؤرخون : ان الامام أبا جعفر (ع) لما غسل أباه نظر بعض من كان حاظرا تغسيله الى مواضع المساجد من ركبتيه ، وظاهر قدميه كأنهما مبارك البعير من كثرة

__________________

(٢٢) الامام زين العابدين ( ص ٧٢ ـ ٧٣ ) لاحمد فهمي ، مناقب ابن شهرآشوب ٤ / ١٤٨.

(٢٣) حلية الاولياء ٣ / ١٣٦.

(٢٤) حلية الاولياء ٣ / ١٣٦.

(٢٥) حلية الاولياء ٣ / ١٣٦.

٤١

سجوده إلا انهم نظروا الى عاتقه فوجدوا مثل ذلك الاثر عليه فسألوه عن ذلك فقال (ع) :

« اما انه لو كان حيا ما حدثتكم عنه ، كان لا يمر به يوم من الايام إلا اشبع فيه مسكينا فصاعدا ما أمكنه ، فاذا كان الليل نظر الى ما فضل عن قوت عياله يومهم ذلك فجعله في جراب فاذا هدأ الناس وضعه على عاتقه ، وتخلل المدينة وقصد قوما لا يسألون الناس الحافا فوصلهم من حيث لا يعلمون من هو ، ولا يعلم بذلك أحد من أهله غيري ، فانى كنت أطلعت على ذلك منه يرجو بذلك فضل اعطاء الصدقة بيده ، ودفعها سرا ، وكان يقول : صدقة السر تطفئ غضب الرب (٢٦).

ويروي الامام الباقر (ع) بعض مبرات أبيه فيقول : كان أبي ربما يشتري مطرف الخز بخمسين دينارا فيشتو فيه ، ويدخل به المسجد فاذا كان الصيف أمر فيتصدق به ، أو بيع فيتصدق بثمنه (٢٧).

لقد كان الامام زين العابدين (ع) نسخة لا ثاني لها في تأريخ الانسانية ، فان مقايسه الخلقية ، وفضائله النفسية لترفعه الى مستوى لم يبلغه أي انسان عدا آبائه.

رائعة الفرزدق :

وحج الامام زين العابدين (ع) بيت الله الحرام ، وكان قد حج هشام بن عبد الملك ، وقد جهد هشام على استلام الحجر فلم يستطع لزحام الناس على الحجر ، ونصب له منبر فجلس عليه ، وجعل ينظر الى طواف الناس ، واقبل الامام زين العابدين ليؤدي طوافه ، فلما بصر به الحجاج غمرتهم هيبته التي تحكي هيبة جده رسول الله (ص) وتعالت الاصوات

__________________

(٢٦) دعائم الاسلام ٢ / ١٨٨.

(٢٧) دعائم الاسلام ٢ / ١٥٦.

٤٢

بالتهليل والتكبير ، وانفرج الناس له سماطين ، وكان السعيد من يراه ، والسعيد من يقبل يده ، ويلمس كتفه ، فانه بقية الله في ارضه ، وذهل اهل الشام ، وبهروا ، وتطلعت إليه أعناقهم وأبصارهم فان هشام المرشح للخلافة بعد أبيه مع ما احيط به من هالة التكريم من أهل الشام واحتفاف الشرطة به ، فانه لم ينل أي لون من الوان الحفاوة من الحجاج ، وبادر أحد اصحابه فقال له :

« من هذا الذي هابه الناس هذه المهابة؟ »

وتميز هشام من الغيظ ، وانتفخت أوداجه فصاح بالرجل « لا اعرفه .. »

وإنما انكر معرفته للإمام مخافة أن يرغب فيه الناس ، وكان الفرزدق حاظرا ، فلم يملك أهابه فقال لاهل الشام :

« أنا اعرفه »

« من هو يا أبا فراس؟ »

وصاح هشام بالفرزدق قائلا :

« أنا لا أعرفه » « بلى تعرفه »

ونهض فانشد هذه الرائعة التي كانت أشد وقعا على هشام من ضرب السيوف وطعن الرماح قائلا :

هذا سليل حسين وابن فاطمة

بنت الرسول الذي انجابت به الظلم

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلهم

هذا التقي النقي الطاهر العلم

اذا رأته قريش قال قائلها :

الى مكارم هذا ينتهي الكرم

يرقى الى ذروة العز الذي قصرت

عن نيلها عرب الاسلام والعجم

٤٣

يكاد يمسكه عرفان راحته

ركن الحطيم اذا ما جاء يستلم

يغضي حياء ويغضى من مهابته

فلا يكلم إلا حين يبتسم

بكفه خيزران ريحها عبق

من كف أروع في عرينينه شمم

من جده دان فضل الأنبياء له

وفضل أمته دانت له الامم

ينشق نور الهدى عن نور غرته

كالشمس تنجاب عن اشراقها الظلم

مشتقة من رسول الله نبعته

طابت عناصرها والخيم والشيم

هذا ابن فاطمة ان كنت جاهله

بجده انبياء الله قد ختموا

الله شرفه قدما وفضله

جرى بذاك له في لوحه القلم

فليس قولك من هذا بضائره

العرب تعرف من انكرت والعجم

كلتا يديه غياث عم نفعهما

يستو كفان ولا يعروهما عدم

حمال اثقال أقوام اذا فدحوا

حلو الشمائل تحلو عنده نعم

لا يخلف الوعد ميمون نقيبته

رحب الفناء أريب حسين يعتزم

من معشر حبهم دين وبغضهم

كفر وقربهم منجى ومعتصم

إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم

أو قيل من خير أهل الارض قيل هم

لا يستطيع جواد بعد غايتهم

ولا يداينهم قوم وإن كرموا

هم الغيوث إذا ما ازمة ازمت

والاسد أسد الشرى والبأس محتدم

لا ينقص العسر بسطا من اكفهم

سيان ذلك ان أثروا وان عدموا

يستدفع السوء والبلوى بحبهم

ويسترد به الاحسان والنعم

مقدم بعد ذكر الله ذكرهم

في كل أمر ومختوم به الكلم

يأبى لهم أن يحل الذل ساحتهم

خيم كريم وأيد بالندى هضم

أي الخلائق ليست في رقابهم

لاولية هذا أولا نعم

من يشكر الله يشكر أولية ذا

فالدين من بيت هذا بابه الامم

وثار هشام وود أن الارض قد خاست به ، ولا يسمع هذه القصيدة

٤٤

العصماء التي دللت على واقع الامام العظيم ، وعرفته لاهل الشام الذين جهلوه وجهلوا آباءه ، وأمر بالوقت باعتقال الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة ، وبلغ ذلك الامام زين العابدين فبعث إليه باثني عشر الف درهم فردها الفرزدق ، واعتذر من قبولها ، وقال : إنما قلت فيكم غضبا لله ورسوله فردها الامام عليه فقبلها ، وجعل الفرزدق يهجو هشاما وكان مما هجاه به :

أيحبسني بين المدينة والتي

إليها قلوب الناس يهوى منيبها

يقلب رأسا لم يكن رأس سيد

وعين له حولاء باد عيوبها (*)

الحزن العميق :

ولم ينكب أحد في هذه الدنيا بمثل ما نكب به الامام زين العابدين عليه‌السلام فقد عانى أهوال كارثة كربلا ، وشاهد فصول تلك المأساة الخالدة في دنيا الاحزان ، وكان مريضا قد ألمت به العلل والامراض ، وقد ادمت قلبه تلك المشاهد الحزينة فكانت تبعثه على الاستمرار فى البكاء واللوعة ، وكان حزنه يزداد تحرقا وتأججا كلما تقدمت الايام حتى براه الحزن ، وبلغ من عظيم حزنه انه ما قدم له طعام ولا شراب إلا مزجه بدموع عينيه حزنا على أبيه (٢٨) وألح عليه بعض مواليه ان يخلد الى الصبر ويخفف لوعة المصاب فقال له : اني اخاف عليك أن تكون من الهالكين ، فاجابه الامام برفق ولطف قائلا :

« يا هذا إنما اشكو بثي وحزني الى الله ، واعلم ما لا تعلمون ، ان يعقوب كان نبيا فغيب الله عنه واحدا من اولاده وعنده اثنا عشر ولدا ، وهو يعلم أنه حي فبكى عليه حتى أبيضت عيناه من الحزن ، وأني نظرت

__________________

* نهاية الارب ٢١ / ٣٢٧ ـ ٣٣١.

(٢٨) حياة الامام الحسين ٣ / ٣٢٧.

٤٥

إلى أبي وإخوتي وعمومتي وصحبي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني؟! واني لا أذكر مصرع ابن فاطمة إلا خنقتني العبرة ، واذا نظرت الى عماتي وأخواتي ذكرت فرارهن يوم الطف من خيمة الى خيمة ، ومنادي القوم ينادي أحرقوا بيوت الظالمين .. »

لقد كانت تلك المشاهد المفجعة التي تم تمثيلها على صعيد كربلا تبعثه على الحزن والأسى حتى عد من البكائين الخمسة الذين مثلوا الحزن والبكاء على مسرح الحياة في جميع الاحقاب والآباد.

وكان الامام الباقر (ع) ينظر الى هذا الحزن المرهق الذي حل بأبيه فيجزع كأشد ما يكون الجزع وربما شاركه في بكائه ولوعته.

وصاياه لولده الباقر :

وزود الامام العظيم ولده الباقر وسائر ابنائه بوصايا تربوية حفلت بالآداب العالية والقيم الكريمة التي تضمن لمن عمل بها السلامة والراحة ، وتهيئ له جوا من الطمأنينة ، والبعد عن مشاكل هذه الحياة .. وهذه بعضها :

١ ـ قال (ع) لولده الباقر : « يا بني لا تصحبن خمسة ، ولا تحادثهم ، لا تصحبن الفاسق فانه يبيعك بأكلة فما دونها ، قلت : يا أبت وما دونها؟ قال : يطمع فيها ثم لا ينالها ، ولا تصحب البخيل فانه يقطع بك أحوج ما تكون إليه ، ولا تصحب الكذاب فانه بمنزلة السراب يبعد عنك القريب ، ويقرب منك البعيد ، ولا تصحب الاحمق فانه يريد أن ينفعك فيضرك ، وقد قيل : عدو عاقل خير من صديق أحمق ، ولا تصحب قاطع رحم فانه ملعون في كتاب الله في ثلاثة مواضع : في سورة محمد قال تعالى : ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ

٤٦

لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ ) (٢٩) وفي سورة الرعد حيث يقول تعالى : ( وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ). (٣٠)

وفي سورة الأحزاب حيث يقول الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً. ) (٣١) .. » (٣٢)

وقد حذر الامام (ع) في هذه الوصية من مزاملة هؤلاء الاشخاص المصابين في اخلاقهم خوفا من انتقال أمراضهم النفسية الى من يصحبهم فان للصحبة أثرا فعالا في تكوين السلوك الشخصي للفرد.

٢ ـ وأوصى (ع) ولده الامام الباقر بهذه الوصية القيمة قال له : « افعل الخير الى كل من طلبه منك فان كان أهلا فقد أصبت موضعه ، وإن لم يكن باهل كنت أنت اهله ، وان شتمك رجل عن يمينك ثم تحول الى يسارك واعتذر إليك فاقبل عذره ... » (٣٣).

وحفلت هذه الوصية بمكارم الاخلاق التي طبعت عليها نفوس أهل البيت (ع) فان الحث على فعل الخير ، والصفح عن المسيء كل ذلك من ذاتياتهم ومن أبرز ما عرفوا به.

٣ ـ قال الامام الباقر (ع) : كان أبي علي بن الحسين يقول لولده :

« اتقوا الكذب الصغير منه ، والكبير في كل جد وهزل لأن الرجل اذا

__________________

(٢٩) سورة محمد : آية ٢٢ و ٢٣.

(٣٠) سورة الرعد : آية ٢٥.

(٣١) سورة الأحزاب : آية ٥٧.

(٣٢) الاتحاف بحب الأشراف ( ص ٥٠ ).

(٣٣) تحف العقول ( ص ٢٨٢ ).

٤٧

كذب في الصغير اجترأ على الكبير ... » (٣٤).

لقد ربى الامام (ع) ولده بمحاسن الاعمال وغرس في نفوسهم النزعات الشريفة ، ونهاهم عن كل ما يوجب انحطاط الانسان في سلوكه.

٤ ـ وأوصى (ع) ولده الامام الباقر بهذه الوصية الرفيعة قال (ع) :

« يا بني العقل رائد الروح ، والعلم رائد العقل ، والعقل ترجمان العلم ، واعلم أن العلم ابقى ، اللسان أكثر هذرا ، وان اصلاح الدنيا بحذافيرها في كلمتين بهما اصلاح شأن المعايش ملء مكتال ثلثاه فطنة وثلثه تغافل (٣٥) لأن الإنسان لا يتغافل عن شيء قد عرفه ففطن له ، واعلم أن الساعات تذهب عمرك ، وأنت لا تنال نعمة إلا بفراق أخرى وإياك والأمل الطويل فكم من مؤمل لا يبلغه ، وجامع مال لا يأكله ، ومانع مال سوف يتركه ، ولعله من باطل جمعه ، ومن حق منعه اصابه حراما وورثه واحتمل اصره ، وباء بوزره وذلك هو الخسران المبين. » (٣٦)

هذه بعض وصاياه وقد حفلت بالآداب الرفيعة والحكم القيمة والتوجيه السليم ، ولم يضعها لأبنائه فقط ، وإنما وضعها للناس جميعا على اختلاف قومياتهم وأديانهم.

أدعيته لولده :

أما أدعية الامام على وجه العموم فانها تمثل جانبا أصيلا ومشرقا من جوانب التربية الاسلامية ، وهي من افضل الوسائل لتهذيب النفوس ، وتقويم الاخلاق.

لقد رأى الامام العظيم الأمة ـ في عصره ـ قد غمرتها سحب قاتمة من التدهور الديني والخلقي والاجتماعي فوضع أدعيته التي عرفت

__________________

(٣٤) وسائل الشيعة ٣ / ٢٣٢.

(٣٥) أثرت هذه الكلمة الذهبية في كثير من المصادر الى الامام الباقر.

(٣٦) كفاية الأثر ( ص ٣١٩ ) للخزاز.

٤٨

با ( السجادية ) ليعالج بها الأمراض النفسية ، ويعيد للأمة ما فقدته من أرصدتها الروحية والفكرية ، وهي من اثمن الثروات الاسلامية بعد القرآن الكريم ونهج البلاغة.

ان ادعية الامام (ع) تتفجر بالعلم والحكمة ، وتفيض بروح الايمان والاسلام ، وتمد الأمة بما تحتاجه من التعليم لضمان توازنها الاجتماعي والفردي ، .. وكان من بين ادعيته الشريفة هذا الدعاء الذي خص به ولده يقول (ع) : « اللهم ومنّ علي ببقاء ولدي ، وباصلاحهم لي ، وبامتاعي بهم ، الهي : امدد لي في اعمارهم ، وزد في آجالهم ، ورب لي صغيرهم ، وقولي ضعيفهم ، واصح لي أبدانهم واديانهم ، واخلاقهم ، وعافهم في أنفسهم وفي جوارحهم وفي كل ما عنيت به من أمرهم ، وادرر لي وعلى يدي ارزاقهم ، واجعلهم ابرارا اتقياء ، بصراء سامعين مطيعين لك ولأوليائك محبين مناصحين ولجميع اعدائك معاندين ومبغضين آمين.

اللهم أشدد بهم عضدي ، وأقم بهم أودي ، وكثر بهم عددي ، وزين بهم محضري ، واحي بهم ذكري ، واكفني بهم في غيبتي ، واعني بهم على حاجتي ، وأجعلهم لي محبين ، وعلى حدبين مقبلين ، مستقيمين لي مطيعين غير عاصين ، ولا عاقين ولا مخالفين ، ولا خاطئين ، واعني على تربيتهم وتأديبهم ، وهب لي من لدنك معهم أولادا ذكورا ، واجعل ذلك خيرا لي ، واجعلهم لي عونا على ما سألتك ، واعذني وذريتي من الشيطان الرجيم ، فانك خلقتنا وأمرتنا ونهيتنا ، ورغبتنا في ثواب ما أمرتنا ورهبتنا عقابه ، وجعلت لنا عدوا يكيدنا سلطته منا على ما لم تسلطنا عليه منه اسكنته صدورنا ، واجريته مجاري دمائنا ، لا يغفل ان غفلنا ، ولا ينسى ان نسينا ، يؤمننا عقابك ، ويخوفنا بغيرك ، إن هممنا بفاحشة شجعنا عليها ،

٤٩

وان هممنا بصالح ثبطنا عنه ، يتعرض لنا بالشهوات ، وينصب لنا بالشبهات ... إن وعدنا كذبنا ، وإن منانا اخلفنا ، وإلا تصرف عنا كيده يضلنا وإلا تقنا خباله يستزلنا.

اللهم : فاقهر سلطانه عنا بسلطانك حتى تحبسه عنا بكثرة الدعاء لك فنصبح من كيده في المعصومين بك ... اللهم فاعطني كل سؤلي ، واقض لي حوائجي ، ولا تمنعني الاجابة ، وقد ضمنتها لي ، ولا تحجب دعائي عنك وقد امرتني به ... وامنن عليّ بكل ما يصلحني في دنياي وآخرتي ما ذكرت منه وما نسيت ، أو أظهرت او اخفيت ، أو اعلنت أو اسررت ، واجعلني في جميع ذلك من المصلحين بسؤالي اياك ، المنجحين بالطلب إليك غير الممنوعين بالتوكل عليك ، المعوذين بالتعوذ بك ، والراغبين في التجارة عليك ، المجارين بعزك ، الموسع عليهم الرزق الحلال من فضلك ، الواسع بجودك وكرمك ، المعزين من الذل بك ، والمجارين من الظلم بعد لك ، والمعافين من البلاء برحمتك ، والمغنين من الفقر بغناك ، والمعصومين من الذنوب والزلل والخطأ بتقواك ، والموفقين للخير والرشد والصواب بطاعتك ، والمحال بينهم وبين الذنوب بقدرتك ، التاركين لكل معصيتك ، الساكنين في جوارك.

اللهم : اعطنا جميع ذلك بتوفيقك ورحمتك واعذنا من عذاب السعير واعط جميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات مثل الذي سألتك لنفسي ولولدي في عاجل الدنيا وآجل الآخرة انك قريب مجيب ، سميع عليم ، عفو ، غفور ، رءوف رحيم ، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار .. » (٣٧)

__________________

(٣٧) الصحيفة السجادية دعاء (٢٥).

٥٠

لقد وضع الامام العظيم مناهج التربية ، واخلاق الاسلام بهذا الدعاء الشريف الذي هو من نفحات النبوة ، ومن عبقات الامامة ، ومن الصفحات المشرقة من تراث أهل البيت (ع) ، فقد عنى فيه الامام بتربية ابنائه تربية تقوم على تهذيب الاخلاق ، وتطهير النفوس من الزيغ والآثام ... لقد دعا لهم بالصحة في الأديان ، والمعافاة من اقتراف ما حرمه الله ، ودعا لهم بالاستقامة والتوازن في سلوكهم ليكونوا قرة عين له ، وعونا له على شئون هذه الحياة ، ومن الطبيعي أن الأب إنما يسعد بولده فيما إذا استقامت اخلاقه وكان صالحا في هديه وسلوكه ، وأما إذا شذ عن ذلك فانه يحول حياة أبويه الى جحيم لا تطاق.

فى ذمة الخلود :

واجهد الامام العظيم نفسه في العبادة ، واخلص فى طاعته لله كأعظم ما يكون الاخلاص ، فلم ير الناس مثله في تقواه وورعه ، وشدة تحرجه في الدين ... لقد كانت حياته مدرسة للتقوى ومدرسة للأيمان ، ومنطلقا للتهذيب والاصلاح ، وقد اكبره الناس أي اكبار لأنه بقية النبوة ، وبقية الله فى أرضه ، فكان السعيد من يراه ، والسعيد من يحظى بمجالسته ، والحديث معه ، وشق ذلك على الامويين الذين كانوا من أحقد الناس على الأسرة النبوية ، فقد هالهم واقض مضجعهم اجماع الناس على اكباره وتحدثهم عن سعة علومه ومعارفه ، وذيوع مثله التي تعنو لها الجباه ، وكان من اعظم الحاقدين عليه الوليد بن عبد الملك فقد روى الزهري ان الوليد قال له : لا راحة لي وعلي بن الحسين موجود في دار الدنيا (٣٨) واجمع رأي

__________________

(٣٨) حياة الامام علي بن الحسين ( ص ٤٢٦ ).

٥١

هذا الخبيث الدنس على اغتيال الامام حينما آل إليه الملك والسلطان ، ونعرض فيما يلي الى ذلك مع ذكر الاحداث التي رافقت سم الامام.

سمه :

وقام الوليد بن عبد الملك بأخطر جريمة فى الاسلام ، فقد بعث سما قاتلا الى عامله على يثرب ، وأمره ان يدسه الى الامام (٣٩) ونفذ عامله ذلك ، وحينما سقى السم أخذ يعاني اقسى الآلام وأشدها ، وبقي حفنة من الايام على فراش المرض يبث شكواه الى الله ، وتزاحم الناس على عيادته ، وهو (ع) يحمد الله ويشكره على ما رزقه من الشهادة على يد شرار بريته.

نصه على امامة الباقر :

وعبد (ع) بالامامة الى ولده الباقر ونص عليه يقول الزهري دخلت إليه عائدا فقلت له :

« إن وقع من أمر الله ما لا بد منه ، فالى من نختلف بعدك؟ » فنظر الامام إليه برفق وقال له :

« الى ابني هذا ـ واشار الى ولده الباقر ـ فانه وصي ووارثي وعيبة علمي ، هو معدن العلم وباقره .. »

« هلا أوصيت الى أكبر ولدك؟ .. »

« يا أبا عبد الله ليست الامامة بالكبر والصغر ، هكذا عهد إلينا

__________________

(٣٩) نور الابصار ( ص ١٢٩ ) الفصول المهمة لابن الصباغ ( ص ٢٣٣ ) الاتحاف بحب الاشراف ( ص ٥٢ ) الصواعق المحرقة ( ص ٥٣ ) جدول مصباح الكفعمي ( ص ٢٧٦ ).

٥٢

رسول الله (ص) وهكذا وجدناه مكتوبا فى اللوح والصحيفة .. »

« يا ابن رسول الله عهد إليكم نبيكم أن تكونوا الأوصياء بعده؟ .. »

« وجدنا في الصحيفة واللوح اثنى عشر اسما مكتوبة في اللوح امامتهم واسماء آبائهم وامهاتهم ، ثم قال : ويخرج من صلب محمد ابني سبعة من الاوصياء منهم المهدي .. » (٤٠)

ودخل عليه جماعة من اعلام شيعته فدلهم على أمامة ولده الباقر ، ونصبه مرجعا وعلما لأمة جده ، ثم دفع إليه سفطا وصندوقا فيه مواريث الأنبياء ، وكان فيه سلاح رسول الله (ص) وكتبه (٤١).

وصيته لولده الباقر :

وعهد الامام زين العابدين (ع) الى وصيه وسيد ولده الامام الباقر (ع) بما أهمه وكان من جملة ما أوصى به.

١ ـ إنه قال له : اني حججت على ناقتي هذه عشرين حجة لم أقرعها بسوط ، فاذا نفقت فادفنها ، لا تأكل لحمها السباع ، فان رسول الله (ص) قال : ما من بعير يوقف عليه موقف عرفة سبع حجج إلا جعله الله من نعم الجنة ، وبارك في نسله ، ونفذ الامام الباقر ذلك (٤٢).

٢ ـ إنه أوصاه بهذه الوصية القيمة التي تكشف عن الجوانب المشرقة من نزعات أهل البيت (ع) فقد قال له : « يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة ، فقد قال لي : يا بني إياك وظلم من لا يجد

__________________

(٤٠) كفاية الأثر للخزّاز ، اثبات الهداة ٥ / ٢٦٤.

(٤١) بصائر الدرجات ( ص ١٤٦ ) اثبات الهداة ٥ / ٢٦٨.

(٤٢) محاسن البرقي ٢ / ٦٣٥.

٥٣

عليك ناصرا إلا الله » (٤٣).

٣ ـ إنه عهد إليه ان يتولى غسله وتكفينه (٤٤) وسائر شئونه حتى يواريه في مقره الأخير.

الى الرفيق الأعلى :

وثقل حال الامام ، واشتد به النزع ، وقد أخبر أهل بيته أنه في غلس الليل سوف ينتقل الى جنة المأوى ، وقد اغمي عليه ثلاث مرات فلما أفاق قرأ سورة ( الواقعة ) وسورة ( إنا فتحنا ) ثم قال (ع) : « الحمد لله الذي صدقنا وعده ، وأورثنا الجنة نتبوأ منها حيث نشاء فنعم أجر العاملين .. » (٤٥).

ثم ارتفعت تلك الروح العظيمة الى بارئها كما ترتفع أرواح الأنبياء والمرسلين ، تحفها ملائكة الرحمن ، وتحفها الطاف الله وتحياته ورضوانه.

لقد سمت روحه الى جنة المأوى بعد أن أضاءت آفاق هذا الكون ، وأشرقت بها عوالم الدنيا ، وذلك بما تركته من سيرة ندية يهتدى بها الحائر ، ويرشد بها الضال.

تجهيزه :

وقام الامام أبو جعفر بتجهيز جثمان أبيه فغسل جسده الطاهر ، وقد رأى الناس مواضع سجوده كأنها مبارك الأبل من كثرة سجوده لخالقه ، ونظروا الى عاتقه كأنه مبارك الأبل أيضا ، فسألوا الباقر عن ذلك فأخبرهم

__________________

(٤٣) الخصال ( ص ١٨٥ ) الامالي ( ص ١٦١ ).

(٤٤) الخرائج ( ص ٢٠ ).

(٤٥) روضة الكافي.

٥٤

أنه من أثر الجراب الذي كان يحمله على عاتقه ويضع فيه الطعام ويوزعه على الفقراء والمحرومين.

وبعد الفراغ من غسله أدرجه في اكفانه ، وصلى عليه الصلاة المكتوبة.

تشييعه :

وشيع الامام بتشييع حافل لم تشهد له يثرب نظيرا ، فقد شيعه البر والفاجر وبكاه الناس جميعا ، فقد فقدوا بموته الخير الكثير ، وفقدوا تلك الروحانية التي لم يخلق لها مثيل ، وقد ازدحم الناس على الجثمان المقدس فالسعيد من يحظى برفعه ، ومن الغريب ان سعيد بن المسيب أحد الفقهاء السبعة في المدينة لم يفز بتشييع الامام والصلاة عليه ، وانكر عليه حشرم مولى اشجع ، فقال له سعيد : أصلي ركعتين في المسجد أحب الى من ان اصلي على هذا الرجل الصالح في البيت الصالح (٤٦) وقد حرم سعيد من الفوز بتشييع الامام الذي هو اتقى انسان خلقه الله بعد آبائه الطاهرين.

فى مقره الأخير :

وجيء بالجثمان العظيم في وسط هالة من التكبير والتحميد الى بقيع الغرقد فحفروا له قبرا بجوار قبر عمه الزكي الامام الحسن بن علي سيد شباب أهل الجنة ، وأنزل الامام الباقر جثمان أبيه فواراه في مقره الأخير ، وقد وارى معه البر والتقوى والحلم ، ووارى روحانية الأنبياء والمتقين.

وبعد الفراغ من دفنه هرع الناس نحو الامام الباقر (ع) وهم يرفعون له تعازيهم الحارة ويشاركونه في لوعته واساه ، والامام مع أخوته وسائر بني هاشم يشكرونهم على ذلك.

وانصرف الامام أبو جعفر (ع) إلى بيته بعد أن وارى أباه في بقيع

__________________

(٤٦) رجال الكشي ( ص ٧٦ ).

٥٥

الغرقد وهو غارق في البكاء ، وقد احتف به بنو هاشم ، وابناء الصحابة ، وسائر وجوه المسلمين وهم يذرفون الدموع على الامام زين العابدين ، ويعددون مزاياه ومآثره ، ويذكرون بمزيد من الأسى الخسارة العظمى التي منى بها المسلمون بفقده.

وقد تسلم الامام الباقر (ع) بعد وفاة أبيه القيادة الروحية والمرجعية العامة للعالم الاسلامي ، فقد انتقلت إليه الامامة ، والزعامة الدينية عند الشيعة (٤٧) ، وأخذ منذ تلك اللحظة ينشر العلم ، ويلقى على العلماء الدروس الخاصة في شئون الشريعة الاسلامية واحكام الدين.

وقد عاش الامام الباقر (ع) في كنف أبيه ( ٣٩ سنة ) حسبما ذكره أكثر المؤرخين (٤٨) وقد وهم المستشرق روايت م. رونلدس حيث ذكر ان عمره حينما انتقلت إليه الامامة كان ( ١٩ سنة ) (٤٩) فان ذلك نشأ من قلة التتبع وعدم التثبت في شئون التأريخ الاسلامي.

اسطورة :

من الموضوعات ما رواه ابن عساكر في تأريخه بأسناده عن محمد بن جعفر السامري قال ما نصه : سمعت أبا موسى المؤدب يقول : قال قيس ابن النعمان : خرجت يوما الى بعض مقابر المدينة فاذا أنا بصبي جالس عند قبر يبكي بكاء شديدا ، وإن وجهه ليلقي شعاعا من نور فأقبلت

__________________

(٤٧) العقد الفريد ٥ / ٢٠٤.

(٤٨) جاء في تأريخ الأئمة ( ص ٥ ) لابن أبي الثلج البغدادي انه اقام مع أبيه ( ٣٥ سنة ) إلا شهرين.

(٤٩) عقيدة الشيعة ( ص ١٢٣ ).

٥٦

عليه ، فقلت : أيها الصبي ما الذي اعقلت له من الحزن حتى افردك بالخلوة في مجالب الموتى والبكاء على أهل البلاء ، وأنت بغرارة (٥٠) الحداثة مشغول عن اختلاف الأزمان ، وحنين الأحزان؟!! فرفع الصبي رأسه ، وطأطأه واطرق ساعة لا يحيد جوابا ثم رفع رأسه وهو يقول :

ان الصبي صبي العقل لا صغر

ازرى بذي العقل فينا لا ولا كبر

ثم قال لي : يا هذا إنك خلي الذرع من الفكر ، سليم الاحشاء من الحرقة ، آمنت تقارب الأجل بطول الأمل ، ان الذي أفردني بالخلوة في مجالب أهل البلاء يذكرني قول الله عز وجل « إذا هم من الاجداث الى ربهم ينسلون » فقلت : بأبي أنت وأمي من أنت؟ فاني لأسمع كلاما حسنا ، فقال : إن من شقاوة أهل البله قلة معرفتهم بأولاد الأنبياء ، أنا محمد بن علي بن الحسين ، وهذا قبر ابي فأي انس أنس من قربه؟ وأي وحشة تكون معه؟ ثم أنشأ يقول :

ما غاض دمعي عند نازلة

إلا جعلت لها البكا سببا

إني احل ثرى حللت به

من أن أرى بسواك مكتئبا

فاذا ذكرتك سانحتك به

من الدموع اذا ما فاض فأنسكبا

قال قيس : فانصرفت ، وما تركت زيارة القبور منذ ذاك (٥١) والذي يدلل على وضع هذه الرواية انها ذكرت ان الامام كان صبيا بعد وفاة أبيه ، ومما اجمع عليه المؤرخون ان عمره الشريف في ذلك الوقت كان تسعا وثلاثين سنة مع أن التأمل في فصولها يوحي بانها من الموضوعات.

__________________

(٥٠) الغرارة : هي الحداثة في السن.

(٥١) تأريخ ابن عساكر ٥١ / ٤٤ ـ ٤٥.

٥٧

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن الامام محمد الباقر في ظلال جده وأبيه ، وقد ورث منهما أجل ما تورثه الاصول للفروع ، فقد ورث منهما العلم والحكمة وفصل الخطاب.

٥٨

اخوته وابناؤه

٥٩
٦٠