حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل - ج ١

باقر شريف القرشي

حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل - ج ١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤
الجزء ١ الجزء ٢

اذا كان في احداهن : اذكرني اذا غضبت ، واذكرني اذا حكمت بين اثنين ، واذكرني مع امرأة خاليا ليس معكما أحد .. (٣٣٧)

وحقا ان ابليس انما يغزو الانسان في هذه المواطن الثلاثة فهي التي تجزه الى اقتراف الأثم والعصيان اعاذنا الله من شروره.

١٠ ـ موت سليمان :

وروى الامام أبو جعفر (ع) لأبي بصير موت نبي الله سليمان فقال : « أمر سليمان بن داود الجن فصنعوا له قبة من قوارير ، فبينما هو متّكئ على عصاه في القبة ينظر الى الجن كيف يعملون ، وهم ينظرون إليه إذ حانت منه التفاتة فاذا رجل معه في القبة قال : من أنت؟ قال : أنا الذي لا أقبل الرشا ، ولا أهاب الملوك أنا ملك الموت فقبضه وهو قائم متّكئ على عصاه في القبة ، والجن ينظرون إليه فمكثوا سنة يدأبون له حتى بعث الله عز وجل الارضة فأكلت منسأته وهي العصا ، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين. » (٣٣٨)

١١ ـ التقاء يعقوب بيوسف :

وروى الامام أبو جعفر قصة التقاء يعقوب بيوسف قال (ع) : إن يعقوب قال لولده : تحملوا إلى يوسف من يومكم هذا بأهليكم اجمعين فساروا إليه ، ويعقوب معهم ، وخالة يوسف أم يامين ، فحثوا السير فرحا وسرورا تسعة أيام الى مصر ، فلما دخلوا على يوسف في دار الملك اعتنق أباه وقبله ، وبكى ورفعه ورفع خالته على سرير الملك ، ثم دخل منزله

__________________

(٣٣٧) الخصال (١٢٨).

(٣٣٨) علل الشرائع ( ص ٧٤ ).

٢٦١

واكتحل وادهن ، ولبس ثياب العز والملك ، فلما رأوه سجدوا جميعا إعظاما له وشكرا لله عند ذلك ولم يكن يوسف في تلك العشرين سنة يدهن ، ولا يكتحل ، ولا يتطيب حتى جمع الله بينه وبين أبيه واخوته (٣٣٩).

١٢ ـ مدة حياة يعقوب بمصر :

وسأل محمد بن مسلم الامام أبا جعفر (ع) عن مدة حياة يعقوب بمصر فقال (ع) : عاش يعقوب مع يوسف بمصر حولين ، فقال له محمد بن مسلم : فمن كان الحجة لله في الارض يعقوب أم يوسف؟ قال عليه‌السلام : كان يعقوب الحجة ، وكان الملك ليوسف فلما مات يعقوب حمله يوسف في تابوت الى ارض الشام فدفنه في بيت المقدس ، فكان يوسف بعد يعقوب الحجة ، قال محمد : وكان يوسف رسولا نبيا؟ قال عليه‌السلام : نعم أما تسمع قوله عز وجل : ( لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ ) (٣٤٠).

هذا بعض ما أثر عنه من الروايات في احوال الأنبياء وسننهم.

مع السيرة النبوية :

وروى الامام أبو جعفر (ع) الشيء الكثير من شئون السيرة النبوية ، وقد أخذ عنه المدونون لها ، وفيما يلي بعض ما رووه عنه.

١ ـ استعارة النبي السلاح من صفوان :

وروى الطبري بسنده عن الامام أبي جعفر (ع) قال : لما اجمع رسول الله (ص) السير الى هوازن ليلقاهم ذكر له أن عند صفوان

__________________

(٣٣٩) مجمع البيان في تفسير القرآن ٦ / ٢٦٤.

(٣٤٠) مجمع البيان ٦ / ١٦٦.

٢٦٢

ابن أمية ادراعا وسلاحا ، فارسل إليه فقال : يا أبا أمية ـ وهو يومئذ مشرك ـ اعرنا سلاحك هذا نلق فيه عدونا غدا فقال له صفوان : اغصبا يا محمد؟ قال : بل عارية مضمونة ، حتى نؤديها إليك ، قال : ليس بهذا بأس ، فاعطاه مائة درع بما يصلحها من السلاح ، وزعموا أن رسول الله (ص) سأله أن يكفيه حملها ففعل.

قال الامام ابو جعفر : فمضت السنة ان العارية مضمونة (٣٤١) وقد المع الامام الى أن هذه الحادثة قد استفيد منها القاعدة الفقهية وهو ان العارية مضمونة مع التفريط ، فمن استعار شيئا فقد ضمنه حتى يؤديه الى صاحبه.

٢ ـ مسيرة خالد الى بني جذيمة :

وروى ابن هشام بسنده عن الامام أبي جعفر (ع) ان رسول الله (ص) بعث خالد بن الوليد الى بني جذيمة حين فتح مكة داعيا الى الله ، ولم يبعثه مقاتلا الا ان خالدا غار عليهم فاوجسوا منه خيفة فبادروا الى اسلحتهم فحملوها ، فلما رأى خالد ذلك قال لهم : ضعوا السلاح ، فان الناس قد اسلموا ، ووثقوا بقوله ، فوضعوا سلاحهم ، إلا إنه غدر بهم ، فأمر بتكتيفهم ثم عرضهم على السيف ، فقتل منهم من قتل ، ولما انتهى خبرهم الى النبي (ص) بلغ به الحزن اقصاه ورفع يديه بالدعاء ، وقال :

« اللهم اني ابرأ إليك مما صنع خالد .. »

ودعا النبي (ص) الامام أمير المؤمنين (ع) فقال له : ( اخرج الى هؤلاء القوم ، فانظر في أمرهم ، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك ) وخرج علي حتى جاءهم ، ومعه مال ، فودى لهم الدماء ، وما اصيب لهم

__________________

(٣٤١) تأريخ الطبري ٣ / ٧٣ طبع دار المعارف.

٢٦٣

من الأموال ، حتى انه ليدي ميلغة الكلب (٣٤٢) حتى اذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه ، وبقيت معه بقية من المال ، فقال لهم علي : هل بقي لكم بقية من دم أو مال لم يود لكم؟ قالوا : لا. قال : فاني اعطيكم هذه البقية من هذا المال ، احتياطا لرسول الله (ص) مما يعلم ولا تعلمون ، فأعطاهم ثم رجع الى رسول الله (ص) فأخبره الخبر ، فقال (ص) : أصبت واحسنت وقام رسول الله (ص) فاستقبل القبلة شاهرا يديه ، حتى كان يرى ما تحت منكبيه ، وهو يقول : « اللهم اني ابرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد » وكرر ذلك ثلاث مرات (٣٤٣).

هذه بعض رواياته عن السيرة النبوية ، أما ذكر جميع ما روي عنه فانه يستدعي الإطالة ، وقد آثرنا الايجاز في امثال هذه البحوث.

سيرة الامام علي :

وتحدث الامام أبو جعفر (ع) في كثير من احاديثه عن سيرة جده الامام أمير المؤمنين (ع) رائد الحق والعدالة في الارض ، وكان من بين ما رواه هذه البادرة.

روى زرارة بن أعين عن أبيه ، عن الامام أبي جعفر (ع) قال : كان علي (ع) إذا صلى الفجر لم يزل معقبا الى أن تطلع الشمس ، فاذا طلعت اجتمع إليه الفقراء والمساكين وغيرهم من الناس فيعلمهم الفقه والقرآن ، وكان له وقت يقوم فيه من مجلسه ذلك ، فقام يوما ، فمر برجل فرماه بكلمة هجر ـ ولم يم ابو جعفر ذلك الرجل ـ فرجع الامام ، وصعد المنبر ، وأمر فنودي الصلاة جامعة ، فلما حضر الناس ،

__________________

(٣٤٢) اليلغة : الاناء يلغ فيه الكلب أو يسقى فيه.

(٣٤٣) السيرة النبوية لابن هشام ٢ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠.

٢٦٤

حمد الله وأثنى عليه ، وصلى على نبيه ، ثم قال : أيها الناس انه ليس شيء أحب الى الله ، ولا أعم نفعا من حلم إمام وفقهه ، ولا شيء ابغض الى الله ، ولا أعم ضررا من جهل إمام وخرقه ، إلا وانه من لم يكن له من نفسه واعظ لم يكن له من الله حافظ إلا وانه من انصف من نفسه لم يزده الله الا عزا ، إلا وان الذل في طاعة الله اقرب الى الله من التعزز في معصيته ، ثم قال : اين المتكلم آنفا؟ فلم يستطع الانكار ، فقال : ها أنا ذا يا أمير المؤمنين ، فقال : أما اني لو أشاء لقلت : فقال : إن تعف وتصفح فأنت اهل لذلك فقال : قد عفوت وصفحت (٣٤٤).

وليس في تأريخ الانسانية على الاطلاق مثل الامام أمير المؤمنين (ع) في عدله ورحمته ، وصفحه عمن اساء إليه ... لقد كان المؤسس الأول بعد النبي (ص) لمكارم الاخلاق ونكران الذات ، وقد ساس الناس أيام خلافته سياسة قوامها العدل الخالص والحق المحض ، فآثر طاعة الله على كل شيء.

أخبار أمير المؤمنين بقتل الحسين :

وتواترت الاخبار عن الامام أمير المؤمنين بقتل ولده الامام الحسين (ع) ومن بين تلك الاخبار ما رواه الامام أبو جعفر (ع) ، فقد قال (ع) : خطب علي (ع) في الكوفة فلما قال : سلوني قبل أن تفقدوني ، فو الله لا تسألوني عن فئة تضل مائة ، وتهدى مائة ، إلا انبأتكم بناعقها وسائقها ، فقام إليه رجل فقال : اخبرني بما في رأسي ولحيتي من طاقة شعر ، فقال له علي : والله لقد حدثني خليلي ـ يعني رسول الله (ص) ـ ان على كل طاقة شعر من رأسك ملكا يلعنك ، وإن على كل طاقة شعر من لحيتك

__________________

(٣٤٤) شرح النهج ٤ / ١٠٩ ـ ١١٠.

٢٦٥

شيطانا يغويك ، وان في بيتك سخلا يقتل ابن رسول الله (ص) وكان ابنه قاتل الحسين يومئذ طفلا يحبو ، وهو سنان بن أنس النخعي (٣٤٥).

وتحقق ما اخبر به الامام امير المؤمنين (ع) فلم تمض حفنة من السنين واذا بالخبيث الدنس سنان بن انس كان من القتلة المجرمين لريحانة رسول الله (ص) وسبطه.

صفة الامام أمير المؤمنين :

وسأل اسحاق بن عبد الله بن أبي فروة الامام أبا جعفر عن صفة جده الامام أمير المؤمنين (ع) فقال (ع) : « رجل آدم شديد الأدمة ، ثقيل العينين عظيمهما ، ذو بطن ، اصلع هو الى القصر أقرب (٣٤٦).

أحداث صفين :

وروى الامام أبو جعفر (ع) الكثير من أحداث صفين ، وقد نقلها عنه نصر بن مزاحم ، والطبري وابن أبي الحديد ، وغيرهم من المؤرخين. وفيما يلي بعضها :

فك الحصار عن الماء :

وزحف معاوية بجنوده الى صفين قبل أن يقدم إليها جيش الامام ، وقد اجمع رأيه على احتلال الفرات فاحاطه بقوى مكثفة لمنع اصحاب الامام من الاستسقاء منه ، ولما قدمت جيوش الامام رأوا الفرات قد احتلته قوات معاوية ، وهي تمنعهم أشد المنع من الدنو منه ، وقد روى الامام أبو جعفر (ع) كيفية فك احتلاله من قبل جيش الامام (ع) قال (ع) : « ونادى الاشعث عمرو بن العاص ، فقال : ويحك يا ابن العاص! خل

__________________

(٣٤٥) شرح النهج ٢ / ٣٨٦.

(٣٤٦) تأريخ الطبري ٥ / ١٥٣.

٢٦٦

بيننا وبين الماء فو الله لئن لم تفعل لتأخذنا واياكم السيوف ، فقال عمرو : والله لا نخلي عنه حتى تأخذنا السيوف واياكم ، فيعلم ربنا أينا اصبر اليوم ، فترجل الاشعث والأشتر وذوو البصائر من اصحاب علي (ع) وترجل معهما اثنا عشر الفا فحملوا على عمرو وأبى الأعور ، ومن معهما من أهل الشام ، فأزالوهم عن الماء ، حتى غمست خيل علي سنابكها في الماء » (٣٤٧) ومن الجدير بالذكر أن جيش الامام لما احتل الفرات أرادوا أن يقابلوا اهل الشام بالمثل فيمنعونهم عنه ، كما صنعوا ذلك معهم ، الا ان الامام لم يسمح لهم بذلك ، وعاملهم معاملة المحسن الكريم فخلى بينهم وبين الماء.

معاوية مع ابن العاص :

وروى الامام أبو جعفر (ع) حديثا دار بين معاوية وعمرو بن العاص ، قال (ع) : « طلب معاوية الى عمرو بن العاص أن يسوي صفوف أهل الشام ، فقال له عمرو : على أن لي حكمي إن قتل الله ابن أبي طالب ، واستوسقت لك البلاد ، قال : أليس حكمك في مصر؟ قال : وهل مصر تكون عوضا عن الجنة ، وقتل ابن أبي طالب ثمنا لعذاب النار الذي لا يفتر عنهم ، وهم فيه مبلسون؟ فقال معاوية : إن لك حكمك أبا عبد الله إن قتل ابن أبي طالب ، رويدا لا يسمع الناس كلامك ، فقال لهم ـ أي لأهل الشام ـ عمرو : يا معشر أهل الشام سووا صفوفكم ، واعيروا ربكم جماجمكم ، واستعينوا بالله إلهكم ، وجاهدوا عدو

__________________

(٣٤٧) شرح ابن أبي الحديد ٣ / ٣٢٤.

٢٦٧

الله وعدوكم ، واقتلوهم قتلهم الله وأبادهم ( وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (٣٤٩).

وبهذا الخداع والتضليل استطاع معاوية أن يناجز الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام رائد الحكمة والحق في الأرض.

خطبة للامام بصفين :

وروى الامام ابو جعفر (ع) خطبة لجده الامام امير المؤمنين (ع) خطبها بصفين ، وقد تحدث فيها عن سمو اخلاق النبي العظيم (ص) ومدى الخسارة العظمى التي منيت بها الانسانية بفقده (ص) كما ذكر فيها مكانته ومنزلته عند النبي (ص) ثم دعا فيها الى جهاد عدوه معاوية ابن أبي سفيان ، وهذا نصها :

« الحمد لله على نعمه الفاضلة على جميع من خلق من البر والفاجر ، وعلى حججه البالغة على خلقه من اطاعه فيهم ، ومن عصاه ، إن رحم فبفضله ومنه ، وإن عذب فبما كسبت أيديهم ، وأن الله ليس بظلام للعبيد ، أحمده على حسن البلاء ، وتظاهر النعماء ، وأستعينه على ما نابنا من أمر دنيا أو آخرة ، وأومن به وأتوكل عليه ، وكفى بالله وكيلا ، وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له ، واشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ، ارتضاه لذلك ، وكان أهله ، واصطفاه على جميع العباد لتبليغ رسالته ، وجعله رحمة منه على خلقه ، فكان كعلمه فيه رءوفا رحيما ، اكرم خلق الله حسبا ، واجمله منظرا ، واسخاه نفسا وابره بوالد ، وأوصله لرحم ، وافضله علما ، واثقله حلما ، وأوفاه بعهد ،

__________________

(٣٤٩) وقعة صفين ( ص ٢٦٧ ).

٢٦٨

وآمنه على عقد ، لم يتعلق عليه مسلم ولا كافر بمظلمة قط ، بل كان يظلم فيغفر ، ويقدر فيصفح ، ويعفو حتى مضى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطيعا لله ، صابرا على ما اصابه ، مجاهدا في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين (ص) ، فكان ذهابه اعظم المصيبة على جميع اهل الأرض البر والفاجر ، ثم ترك كتاب الله فيكم يأمر بطاعة الله وينهى عن معصيته ، وقد عهد الي رسول الله (ص) عهدا فلست أحيد عنه ، وقد حضرتم عدوكم وقد علمتم من رئيسهم منافق ابن منافق ، يدعوهم الى النار ، وابن عم نبيكم معكم بين أظهركم يدعوكم الى الجنة والى طاعة ربكم ، ويعمل بسنة نبيكم (ص) فلا سواء من صلى قبل كل ذكر ، لم يسبقني بصلاتي مع رسول الله أحد ، وأنا من اهل بدر ، ومعاوية طليق ابن طليق ، والله إنكم لعلى حق ، وانهم لعلى باطل فلا يكونن القوم على باطلهم اجتمعوا عليه ، وتفرقون عن حقكم ، حتى يغلب باطلهم حقكم « قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ، فان لم تفعلوا يعذبهم بأيدي غيركم » فاجابه اصحابه قائلين : يا أمير المؤمنين انهض بنا الى عدونا وعدوك اذا شئت ، فو الله ما نريد بك بدلا نموت معك ، ونحيا معك ، فقال لهم علي : « والذي نفسي بيده لنظر الي رسول الله (ص) أضرب قدامه بسيفي ، فقال : « لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى الا علي ، وقال : « يا علي ، أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ، وموتك وحياتك يا علي معي » والله ما كذبت ، ولا كذبت ، ولا ضللت ولا ضل بي ، وما نسيت ما عهد الي ، واني لعلى بينة من ربي ، واني لعلى الطريق الواضح ، الفظه لفظا (٣٥٠).

__________________

(٣٥٠) وقعة صفين ( ص ٣٥٤ ـ ٣٥٦ ).

٢٦٩

يوم الهرير :

وكان من اعظم ايام صفين ، وأشدها محنة يوم الهرير ، وهو اليوم الأعظم ـ كما يسميه المؤرخون ـ فقد استعرت فيه نار الحرب ، وأشتد أوارها ، حتى خيم الفزع والموت على الناس وقد تحدث عنه الامام أبو جعفر (ع) قال : « لما كان اليوم الأعظم ، قال اصحاب معاوية : والله لا نبرح اليوم العرصة حتى نموت أو يفتح لنا ، فبادروا القتال غدوة في يوم من ايام الشعرى (٣٥١) طويل شديد الحر ، فتراموا حتى فنيت النبال ، وتطاعنوا حتى تقصفت الرماح ، ثم نزل القوم عن خيولهم ، ومشى بعضهم الى بعض بالسيوف ، حتى كسرت جفونها ، وقام الفرسان في الركب ، ثم اضطربوا بالسيوف ، وبعمد الحديد ، فلم يسمع السامعون إلا تغمغم القوم ، وصليل الحديد في الهام ، وتكادم الأفواه ، وكسفت الشمس وثار القتام ، وضلت الألوية والرايات ، ومرت مواقيت اربع صلوات ما يسجد فيهن لله إلا تكبيرا ، ونادت المشيخة فى تلك الغمرات ، يا معشر العرب الله ، الله في الحرمات من النساء والبنات. »

ولما انتهى ابو جعفر الى هذه الكلمات بكى (٣٥٢) فقد طافت به تلك الذكريات الحزينة التي تذيب من هولها القلوب ، فقد مثلت أمامه محنة جده الامام امير المؤمنين (ع) حينما ابتلى بتلك الزمرة الخائنة التي عملت على محو الاسلام ، وأزالة مكاسبه ، واعادة الحياة الجاهلية

__________________

(٣٥١) الشعرى : كوكب نير يقال له المرزم يطلع بعد الجوزاء ، وطلوعه في شدة الحر « اللسان ».

(٣٥٢) شرح النهج ٢ / ٢١٢ ـ ٢١٣ ، وقعة صفين ( ص ٥٤٧ ).

٢٧٠

في الارض.

ان من ابشع مهازل التأريخ البشري هي مكيدة ابن العاص في رفع المصاحف وقد وصفها ( راوحوست ميلر ) بأنها من اشنع المهازل واسوئها في التأريخ البشري (٣٥٣) فقد اشرف جيش الامام على الفتح ، وتفللت جميع قوى معاوية وأراد أن يلوذ بالفرار ، ولجأ الى ابن العاص يطلب منه الرأي فأشار عليه برفع المصاحف وهي مكيدة مدبرة قد حيكت أصولها ووضعت مخططاتها بين ابن العاص وبين الاشعث بن قيس الماكر الخبيث في جيش الامام.

وقد تحدث الامام أبو جعفر عن عدد المصاحف التي رفعت ، فقال عليه‌السلام : استقبلوا عليا بمائة مصحف ووضعوا في كل مجنبة (٣٥٤) مائتي مصحف فكان جميعها خمسمائة مصحف.

وقام فريق من اتباع معاوية ، فنادوا في المعسكر العراقي : « يا معشر العرب ، الله الله في النساء ، والبنات والابناء من الروم والأتراك وأهل فارس غدا إذا فنيتم ، الله الله في دينكم هذا كتاب الله بيننا وبينكم.

والتاع الامام ، وانبرى قائلا : اللهم إنك تعلم ما الكتاب يريدون فأحكم بيننا وبينهم انك أنت الحكم الحق المبين (٣٥٥).

وقد اطاحت هذه المكيدة بالنصر الذي أحرزه جيش الامام ، فقد انقلب على اعقابه وماج في الفتنة ، واضطرب كأشد ما يكون الاضطراب ، وكان من المتوقع أن تمنى حكومة الامام بانقلاب عسكري يتزعمه الأشعث

__________________

(٣٥٣) العقيدة والشريعة في الاسلام ( ص ١٩٠ ).

(٣٥٤) المجنبة : بكسر النون المشددة ميمنة الجيش وميسرته.

(٣٥٥) شرح النهج ٢ / ٢١٢ ، وقعة صفين ( ص ٥٤٦ ـ ٥٤٧ ).

٢٧١

ابن قيس ، وقد ادرك الامام هذا الوضع المتفجر فأبدى من الاناة والصبر ما لا يوصف ، فقد استجاب ـ على كره ـ الى إيقاف القتال ، وأوعز الى قائد قواته المسلحة الزعيم مالك الأشتر بالانسحاب عن ساحة الحرب بعد ان اشرف على الفتح ، وصار أمرا محتوما.

وثيقة التحكيم :

وبعد ان أجبر الامام على التحكيم الذي انقذ حكومة معاوية ، واطاح بحكومة الامام (ع) فقد تسابق زعماء الفتنة في جيش الامام مع اهل الشام الى تسجيل ما يرومونه من الشروط التي تنهي الحرب مؤقتا حتى يجتمع الحكمان ، وقد روى الامام أبو جعفر (ع) نص الوثيقة ، وأخذها عنه المؤرخون لهذه الاحداث وهذا نصها بعد البسملة :

« هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ، ومعاوية بن أبي سفيان ، قاضي علي بن أبي طالب على اهل العراق ، ومن كان معه من شيعته من المؤمنين والمسلمين ، وقاضي معاوية بن أبي سفيان على اهل الشام ، ومن كان معه من شيعته من المؤمنين والمسلمين ، اننا ننزل على حكم الله تعالى وكتابه ، ولا يجمع بيننا الا إياه ، وان كتاب الله سبحانه تعالى بيننا من فاتحته الى خاتمته ، نحيى ما احيا القرآن ، ونميت ما امات القرآن ، فان وجد الحكمان ذلك في كتاب الله اتبعاه ، وإن لم يجداه أخذا بالسنة العادلة غير المفرقة ، والحكمان عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص ، وقد أخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين انهما امينان على انفسهما وأموالهما وأهلهما ، والأمة لهما انصار ، وعلى الذي يقضيان عليه وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين عهد الله ان يعملوا بما يقضيان عليه مما وافق الكتاب والسنة ، وان الأمن والموادعة ووضع السلاح متفق عليه بين

٢٧٢

الطائفتين الى ان يقع الحكم ، وعلى كل واحد من الحكمين عهد الله ليحكمن بالأمة بالحق ، لا بالهوى ، وأجل الموادعة سنة كاملة ، فان احب الحكمان أن يعجلا الحكم عجلاه ، وان توفي أحدهما فلأمير شيعته أن يختار مكانه رجلا ، لا يألوا الحق والعدل ، وإن توفي أحد الأميرين كان نصب غيره الى اصحابه ممن يرضون أمره ، ويحمدون طريقته اللهم إنا نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة وأراد فيها إلحادا وظلما .. » (٣٥٦)

ووقع الفريقان على هذه الوثيقة ، ولم تتعرض الى مطالبة معاوية بدم عثمان ذلك الدم الذي اتخذه شعارا لتمرده وبغيه على حكومة الامام ، ومن المؤكد انه لم يكن يهتم بعثمان فقد استنجد به حينما حاصره الثوار فاعاره اذنا صماء حتى قتل ، فاتخذ قتله وسيلة لنيل اطماعه.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن روايات الامام ابي جعفر لأحداث صفين تلك الأحداث المؤلمة التي جرت للمسلمين اعظم المحن والخطوب ، والقتهم في شر عظيم.

مأساة الامام الحسين :

وفزع المسلمون كأشد ما يكون الفزع من مأساة الامام الحسين (ع) التي انتهكت فيها حرمة الرسول (ص) في ابنائه وعترته ، فقد عمد الجيش الاموي الى استئصال آل النبي (ص) واقترفوا معهم من الفضائع ما لم يمر مثلها في جميع مراحل هذه الحياة.

وكان الامام أبو جعفر (ع) صبيا يافعا قد حضر يوم الطف ، وشاهد المحن الكبرى التي تواكبت على آل البيت (ع) وقد وعاها ، وارتسمت فصولها الحزينة في اعماق نفسه ودخائل ذاته ، وظلت مناظرها الرهيبة ملازمة

__________________

(٣٥٦) شرح النهج ٢ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

٢٧٣

له ولأبيه الامام زين العابدين طوال حياتهما.

واقبل علماء المسلمين ورواتهم على الامام أبي جعفر (ع) وهم يسألونه عما شاهده وما سمعه من أبيه من رزايا كربلا ، وما جرى على العترة الطاهرة من صنوف القتل والتنكيل ، وكان (ع) يزودهم بمعلوماته عنها ، وهم يدونونها.

وقد دون العلماء في ذلك العصر وما تلاه حوالي ستين مؤلفا كلها بعنوان « مقتل الحسين ».

رواية عمار الدهني :

ويروي الطبري أن عمار الدهني وفد على الامام أبي جعفر (ع) يسأله عن مقتل الحسين فأجابه (ع) وقد روى الطبري الرواية متقطعة غير متصلة ، ونحن نجمع بين فصولها ولنا فيها مواقع للنظر نذكرها في آخر الرواية ، وهذا نصها :

« حدثني زكريا بن يحيى الضرير ، قال : حدثنا أحمد بن جناب المصيصي ـ ويكنى أبا الوليد ـ قال : حدثنا خالد بن يزيد بن أسد بن عبد الله القسري قال : حدثني عمار الدهني ، قال : قلت لأبي جعفر : حدثني بمقتل الحسين حتى كأنى حضرته.

قال (ع) : مات معاوية ، والوليد بن عتبة بن أبي سفيان على المدينة ، فارسل الى الحسين بن علي فقال له : اخرني ، وارفق فأخره ، فخرج الى مكة ، فأتاه أهل الكوفة ، ورسلهم انا قد حبسنا انفسنا عليك ، ولسنا نحضر الجمعة مع الوالي ، فأقدم علينا ، وكان النعمان بن بشير الانصاري على الكوفة ، قال : فبعث الحسين الى مسلم بن عقيل بن أبي طالب ابن عمه ، فقال له : سر الى الكوفة فانظر ما كتبوا به إلي ، فان

٢٧٤

كان حقا خرجنا إليهم ، فخرج مسلم حتى أتى المدينة فأخذ منها دليلين ، فمرا به في البرية فأصابهم عطش فمات أحد الدليلين ، وكتب مسلم الى الحسين يستعفيه ، فكتب إليه الحسين : أن امضى الى الكوفة ، فخرج حتى قدمها ، ونزل على رجل من أهلها يقال له ابن عوسجة (٣٥٧) قال : فلما تحدث أهل الكوفة بمقدمه دبوا إليه فبايعوه ، فبايعه اثنا عشر الفا. قال : فقام رجل ممن يهوى يزيد بن معاوية الى النعمان بن بشير فقال له : إنك ضعيف أو متضعف ، قد فسد البلاد ، فقال له النعمان : أن اكون ضعيفا ، وأنا في طاعة الله أحب إلي من أن اكون قويا في معصية وما كنت لأهتك سترا ستره الله.

فكتب بقول النعمان الى يزيد فدعا مولى يقال له : سرجون ـ وكان يستشيره ـ فأخبره الخبر ، فقال له : أكنت قابلا من معاوية لو كان حيا؟ قال : نعم ، قال : فاقبل مني فانه ليس للكوفة إلا عبيد الله بن زياد ، فولها اياه ـ وكان يزيد عليه ساخطا ، وكان همّ بعزله عن البصرة ـ فكتب إليه برضائه ، وانه قد ولاه الكوفة مع البصرة ، وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيل فيقتله إن وجده.

قال : فاقبل عبيد الله في وجوه أهل البصرة حتى قدم الكوفة متلثما ، ولا يمر على مجلس من مجالسهم فيسلم إلا قالوا : عليك السلام يا ابن بنت رسول الله ـ وهم يظنون انه الحسين بن علي (ع) ـ حتى نزل القصر فدعا مولى له فاعطاه ثلاثة آلاف وقال له : اذهب حتى تسأل عن الرجل الذي يبايع له أهل الكوفة فاعلمه أنك رجل من أهل حمص جئت لهذا الأمر ، وهذا مال تدفعه إليه ليتقوى ، فلم يزل يتلطف ويرفق به ، حتى

__________________

(٣٥٧) المعروف بين المؤرخين ان مسلم أول ما نزل في دار المختار.

٢٧٥

دل على شيخ من أهل الكوفة يلي البيعة ، فلقيه فأخبره ، فقال له الشيخ : لقد سرني لقاؤك إياي ، وقد ساءني ، فأما ما سرني من ذلك فما هداك الله له ، وأما ما ساءني فان أمرنا لم يستحكم بعد فادخله إليه فأخذ المال وبايعه ورجع الى عبيد الله فاخبره.

فتحول مسلم حين قدم عبيد الله بن زياد من الدار التي كان فيها الى منزل هانئ بن عروة المرادي ، وكتب مسلم بن عقيل الى الحسين بن علي (ع) يخبره ببيعة اثنى عشر الفا من أهل الكوفة ، ويأمره بالقدوم ، وقال عبيد الله لوجوه أهل الكوفة : مالي أرى هانئ بن عروة لم يأتني فيمن أتاني! قال : فخرج إليه محمد بن الاشعث في ناس من قومه ، وهو على باب داره ، فقالوا : إن الأمير قد ذكرك واستبطاك فانطلق إليه ، فلم يزالوا به حتى ركب معهم ، وسار حتى دخل على عبيد الله وعنده شريح القاضي ، فلما نظر إليه قال لشريح : « أتتك بحائن رجلاه » فلما سلم عليه ، قال : يا هانئ اين مسلم؟ قال : ما ادري ، فأمر عبيد الله مولاه صاحب الدراهم فخرج إليه ، فلما رآه قطع به ، فقال : أصلح الله الأمير ، والله ما دعوته الى منزلي ، ولكنه جاء فطرح نفسه علي ، قال ائتني به ، قال : والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه ، قال : ادنوه إلي ، فأدني فضربه على حاجبه فشجه ، قال : وأهوى هانئ الى سيف شرطي ليسله ، فدفع عن ذلك ، وقال : قد أحل الله دمك ، فأمر به فحبس في جانب القصر (٣٥٨).

وروى الطبري بعد هذا حديثا فيما يتعلق بتفصيل الحادثة ثم ذكر

__________________

(٣٥٨) تأريخ الطبري ٥ / ٣٤٧ ـ ٣٤٩ طبع دار المعارف بمصر تحقيق أبو الفضل ابراهيم.

٢٧٦

كلام الامام أبي جعفر (ع) قال : فبينا هو كذلك اذ خرج الخبر الى مذحج ، فاذا على باب القصر جلبة سمعها عبيد الله ، فقال : ما هذا؟ فقالوا : مذحج ، فقال لشريح : اخرج إليهم فأعلمهم أني انما حبسته لأسأله ، وبعث عينا عليه من مواليه يسمع ما يقول ، فمر بهانىء بن عروة ، فقال له هانئ : اتق الله يا شريح فانه قاتلي ، فخرج شريح حتى قام على باب القصر ، فقال : لا بأس عليه ، انما حبسه الأمير ليسأله ، فقالوا صدق ، ليس على صاحبكم بأس فتفرقوا ، فاتى مسلما الخبر ، فنادى بشعاره فاجتمع إليه اربعة آلاف من أهل الكوفة ، فقدم مقدمته ، وعبى ميمنته ، وميسرته وصار في القلب الى عبيد الله ، وبعث عبيد الله الى وجوه أهل الكوفة فجمعهم عنده في القصر ، فلما سار إليه مسلم فانتهى الى باب القصر أشرفوا على عشائرهم فجعلوا يكلمونهم ، ويردونهم ، فجعل أصحاب مسلم يتسللون حتى امسى في خمسمائة فلما اختلط الظلام ذهب اولئك أيضا.

فلما رأى مسلم انه قد بقي وحده جعل يتردد في الطرق فانى بابا فنزل عليه فخرجت إليه امرأة ، فقال لها : اسقيني فسقته ، ثم دخلت فمكثت ما شاء الله ، ثم خرجت فاذا هو على الباب ، قالت : يا عبد الله إن مجلسك مجلس ريبة ، فقم ، قال : إني مسلم بن عقيل فهل عندك مأوى؟ قالت : نعم ادخل ، وكان ابنها مولى لمحمد بن الأشعث ، فلما علم به الغلام انطلق الى محمد فأخبره ، فانطلق محمد الى عبيد الله فأخبره ، فبعث عبيد الله عمرو بن حريث المخزومي ـ وكان صاحب شرطه ـ إليه ومعه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، فلم يعلم مسلم حتى احيط بالدار ، فلما رأى ذلك مسلم خرج إليهم بسيفه فقاتلهم ، فاعطاه عبد الرحمن

٢٧٧

الامان فأمكن من يده ، فجاء به الى عبيد الله ، فأمر به فاصعد الى أعلى القصر فضربت عنقه والقى جثته الى الناس ، وأمر بهانىء فسحب الى الكناسة ، فصلب هنالك وقال شاعرهم في ذلك :

فان كنت لا تدرين ما الموت فانظري

الى هانئ في السوق وابن عقيل

أصابهما أمر الامام (٣٥٩) فأصبحا

أحاديث من يسعى بكل سبيل

أيركب أسماء الهماليج آمنا

وقد طلبته مذحج بذحول (٣٦٠)

ثم يذكر الطبري روايات أخرى عن أبي مخنف وغيره في تفصيل الأحداث ثم عقب ذلك بقوله : حدثنا خالد بن يزيد بن عبد الله القسرى ، قال : حدثنا عمار الدهني قال : قلت لأبي جعفر : حدثني عن مقتل الحسين حتى كأني حضرته قال :

« فاقبل حسين بن علي بكتاب مسلم بن عقيل كان إليه حتى اذا كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال ، لقيه الحر بن يزيد التميمي ، فقال له : اين تريد؟ قال : أريد هذا المصر قال له : ارجع فاني لم ادع لك خلفي خيرا أرجوه ، فهم أن يرجع ، وكان معه أخوة مسلم بن عقيل ، فقالوا : والله لا نرجع حتى نصيب بثأرنا أو نقتل ، فقال : لا خير في الحياة بعدكم ، فسار فلقيته أوائل خيل عبيد الله ، فلما رأى ذلك عدل الى كربلا فاسند ظهره الى قصباء وخلا كيلا يقاتل الا من وجه واحد ، فنزل وضرب أبنيته وكان اصحابه خمسة واربعين فارسا ، ومائة راجل وكان عمر بن سعد بن أبي وقاص قد ولاه عبيد الله بن زياد الري ، ، وعهد إليه عهده ، فقال : اكفني هذا الرجل ، قال : اعفني فأبى أن

__________________

(٣٥٩) في رواية « اصابهما بغي الأمير ».

(٣٦٠) تأريخ الطبري ٥ / ٣٤٩ ـ ٣٥١.

٢٧٨

يعفيه ، قال فانظرني الليلة فأخره فنظر في أمره ، فلما اصبح غدا عليه راضيا بما أمر به ، فتوجه إليه عمر بن سعد فلما أتاه قال له الحسين : اختر واحدة من ثلاث : أما أن تدعوني فانصرف من حيث جئت ، وأما أن تدعوني فاذهب الى يزيد وأما أن تدعوني فألحق بالثغور ، فقبل ذلك عمر فكتب إليه عبيد الله لا ولا كرامة ، حتى يضع يده في يدي ، فقال له الحسين : عشر شابا من أهل بيته ، وجاء سهم فاصاب ابنا له معه في حجره ، فجعل يمسح الدم عنه ويقول : اللهم احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا ، ثم أمر بحبرة فشقها ثم لبسها ، وخرج بسيفه ، فقاتل حتى قتل صلوات الله عليه قتله رجل من مذحج واحتز رأسه وانطلق به الى عبيد الله وقال :

اوقر ركابي فضة وذهبا

فقد قتلت الملك المحجبا

قتلت خير الناس أما وأبا

وخيرهم اذ ينسبون النسا

وأوفده الى يزيد بن معاوية ، ومعه الرأس فوضع رأسه بين يديه وعنده ابو برزة الأسلمي فجعل ينكت بالقضيب على فيه ويقول :

يفلقن هاما من رجال أعزة

علينا وهم كانوا أعق وأظلما

فقال له أبو برزة : ارفع قضيبك ، فو الله لربما رأيت فاه رسول الله (ص) على فيه يلثمه ، وسرح عمر بن سعد بحرمه وعياله الى عبيد الله ، ولم يكن بقى من أهل بيت الحسين بن علي عليه‌السلام إلا غلام كان مريضا مع النساء ، فأمر به عبيد الله ليقتل فطرحت زينب نفسها عليه ، وقالت : والله لا يقتل حتى تقتلوني!! فرق لها فتركه وكف عنه.

قال : فجهزهم ، وحملهم الى يزيد ، فلما قدموا عليه جمع من كان بحضرته من أهل الشام ، ثم ادخلوهم فهنئوه بالفتح ، قال رجل منهم

٢٧٩

ازرق أحمر ، ونظر الى وصيفة من بناتهم فقال : يا أمير المؤمنين هب لي هذه ، فقالت زينب : لا والله ، ولا كرامة لك ، ولا له إلا أن يخرج من دين الله ، قال فأعادها الأزرق ، فقال له يزيد كف عن هذا ، ثم أدخلهم على عياله فجهزهم ، وحملهم الى المدينة ، فلما دخلوها خرجت امرأة من بني عبد المطلب ناشرة شعرها ، واضعة كمها على رأسها تلقاهم ، وهي تبكي وتقول :

ما ذا تقولون : إن قال النبي لكم

ما ذا فعلتم وأنتم آخر الأمم

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي

منهم أسارى وقتلى ضرجوا بدم

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم

أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي (٣٦١)

وانتهت بذلك رواية عمار الدهني عن الامام أبي جعفر (ع) : ذكر كارثة كربلا.

المؤاخذات :

وتواجه هذه الرواية عدة من المؤاخذات منها ما يلي :

١ ـ إن عمار الدهني طلب من الامام (ع) أن يحدثه ـ بالتفصيل ـ عن مقتل الامام الحسين (ع) كأنه قد حضره ، أما الجواب فقد كان موجزا ، ولم يشر الى كثير من الأحداث لا بقليل ولا بكثير ، فقد طويت فيه اكثر فصول تلك المأساة ، ومن الطبيعي أن هذا لا يتناسب مع السؤال الذي يطلب فيه المزيد من المعلومات.

٢ ـ إنه جاء في هذه الرواية ان الامام الحسين (ع) حينما اجتمع بابن سعد طلب منه أحد هذه الامور :

أ ـ ان يسمحوا له بالرجوع الى يثرب.

__________________

(٣٦١) تاريخ الطبري ٥ / ٣٨٩ ـ ٣٩٠.

٢٨٠