حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل - ج ١

باقر شريف القرشي

حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل - ج ١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤
الجزء ١ الجزء ٢

وقد اذاع الرسول (ص) بين أمته هذا الفرض الديني المقدس ، والزم الأمة به ، وعنى به اكثر مما عني باي واجب دينى يقول الإمام أبو جعفر عليه‌السلام :

« بني الاسلام على خمس : الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، والولاية ، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه ـ يعني الولاية ـ. » (١٩٦)

ان الواجب على كل مسلم أن يكن في دخائل نفسه الولاء للأئمة الطيبين الذين هم مصدر النور في الأرض ، ومن أظهر الولاء لهم الأخذ بما أثر عنهم من الاحكام وقواعد الأخلاق والآداب.

الاشادة بالأئمة :

واشاد الامام أبو جعفر (ع) في كثير من أحاديثه بالأئمة الطيبين وتحدث عن سمو منزلتهم ، وكان من بين أحاديثه ما يلي :

١ ـ قال (ع) : « نحن ولاة أمر الله ، وخزان علم الله ، وورثة وحي الله ، وحملة كتاب الله ، طاعتنا فريضة ، وحبنا إيمان ، وبغضنا كفر ، محبنا في الجنة ، ومبغضنا فى النار .. » (١٩٧)

٢ ـ قال (ع) : « نحن جنب الله تعالى ، نحن صفوة الله ، نحن امناء الله ، نحن مستودع مواريث الأنبياء ، نحن حجج الله ، نحن حبل الله المتين ، نحن صراط الله المستقيم ، قال الله تعالى : ( وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ) نحن رحمة الله للمؤمنين ، بنا يفتح

__________________

(١٩٦) اصول الكافي ١ / ١٨٣.

(١٩٧) مناقب آل ابي طالب ٢ / ٣٣٦.

٢٠١

الله وبنا يختم الله ، من تمسك بنا نجا ، ومن تخلف عنا غوى ، نحن القادة الغر المحجلون ... من عرفنا ، وعرف حقنا ، وأخذ بأمرنا فهو منا وإلينا .. » (١٩٨)

٣ ـ قال (ع) : « نحن خزنة علم الله ، ونحن ولاة أمر الله ، بنا فتح الاسلام وبنا يختمه ومنا تعلموا ، فو الله الذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ما علم الله في احد إلا فينا وما يدرك ما عند الله إلا بنا .. » (١٩٩)

٤ ـ قال (ع) : « نحن أهل بيت الرحمة ، وشجرة النبوة ، ومعدن الحكمة وموضع الملائكة ، ومهبط الوحي .. » (٢٠٠)

٥ ـ قال (ع) : « والله إنا لخزان الله في سمائه وأرضه لا على ذهب ولا على فضة إلا على علمه .. » (٢٠١)

٦ ـ قال (ع) : « نحن خزان علم الله ، ونحن تراجمة وحي الله ، ونحن الحجة البالغة على من دون السماء ، ومن فوق الأرض .. » (٢٠٢)

وتضافرت الاخبار من النبي (ص) وهي تحمل هذا الطابع الخاص في فضل الأئمة الطاهرين وما منحهم الله من مزيد الفضل. فقد جعلهم (ص) ينابيع الحكمة ، وورثة علوم الأنبياء ، وخصهم بكل كرامة ، وهو حق لا شبهة فيه ، فان من راجع سيرتهم ، وما أثر عنهم من الهدي والصلاح وسائر الكمالات النفسية يؤمن بأنهم سادات الخلق ، وأوصياء

__________________

(١٩٨) عيون المعجزات ( ص ٣٤ ).

(١٩٩) اعلام الورى ( ص ٢٧٠ ).

(٢٠٠) روضة الواعظين ( ص ٢٧٥ ).

(٢٠١) اصول الكافي ١ / ١٩٢.

(٢٠٢) اصول الكافي ١ / ١٩٢.

٢٠٢

النبي (ص) وحملة علومه ، وليس في هذا القول أي غلو أو انحراف عن الحق ، فقد وهب الله انبياءه العلم والحكمة وفصل الخطاب ، وهم ليسوا بأفضل من أئمة أهل البيت (ع) الذين اخلصوا لله ، وقدموا في سبيل طاعته ودينه من التضحيات ما لم يقدمه أي مصلح في الأرض.

عدد الأئمة :

وأعلن الامام أبو جعفر (ع) عدد الأئمة الطاهرين الذين هم خلفاء النبي (ص) على أمته ، وأوصياؤه وحملة علومه ، وفيما يلي بعض ما روى عنه :

١ ـ روى زرارة عن أبي جعفر (ع) أنه قال : « الأئمة اثنا عشر اماما منهم الحسن والحسين ثم الأئمة من ولد الحسين .. » (٢٠٣)

٢ ـ روى أبو بصير أن الامام أبا جعفر (ع) قال : « نحن اثنا عشر محدثا » (٢٠٤).

٣ ـ روى عنه أبو بصير انه قال : « تكون تسعة أئمة بعد الحسين بن علي تاسعهم قائمهم .. » (٢٠٥)

وقد اذاع ذلك الرسول الأعظم (ص) وتواترت الاخبار عنه فقد روى سلمان الفارسي قال : كنا مع رسول الله (ص) والحسين بن علي على فخذه اذ تفرس في وجهه وقال له : « يا أبا عبد الله أنت سيد من سادتنا ، وأنت إمام ابن إمام أخو امام ، أبو أئمة تسعة تاسعهم قائمهم ، أعلمهم ، أحكمهم أفضلهم » (٢٠٦)

__________________

(٢٠٣) الاستنص ار ( ص ١٧ ) لمحمد بن علي الكراجكي.

(٢٠٤) الاستنصار ( ص ١٧ ).

(٢٠٥) الخصال ( ص ٣٨٨ ).

(٢٠٦) مقتضب الأثر لاحمد بن محمد المتوفى سنة ( ٤٠١ ه‍ ) من مخطوطات مكتبة الحسينية الشوشترية.

٢٠٣

وروى عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله (ص) يقول : « يكون خلفي اثنا عشر خليفة » (٢٠٧) وعلق الشيخ ابو عبد الله احمد بن عياش على هذا الحديث بقوله : « فاذا كانت هذه العدة المنصوص عليها لم توجد في القائمين بعد رسول الله (ص) ولا في بني أمية لأن عدة خلفائهم تزيد على اثني عشر ، ولا في القائمين من بعدهم إلا زائدة عليهم ، ولم تدع فرقة من فرق هذه الامة هذه العدة في أئمتها غير الامامية دل ذلك على أن أئمتهم هي المعتدة بها » (٢٠٨).

وقد عدهم الامام أمير المؤمنين (ع) وذكر اسماءهم واحدا بعد واحد حتى انتهى الى القائم (٢٠٩) ويقول بعض الشعراء :

ان الأئمة تسعة وثلاثة

نقلا عن الهادي البشير المنذر

لا زائد فيهم وليس بناقص

منهم كما قد قيل عد الاشهر

مثل النبوة صيرت في معشر

وكذا الامامة صيرت في معشر (٢١٠)

ويقول الشاعر عبد الله بن ايوب الخريبي مخاطبا للامام الجواد بعد وفاة أبيه :

يا ابن الذبيح ويا ابن أعراق الثرى

طابت ارومته وطاب عروقا

يا ابن الثمانية الأئمة غربوا

وأبا الثلاثة شرقوا تشريقا

ان المشارق والمغارب أنتم

جاء الكتاب بذلكم تصديقا (٢١١)

__________________

(٢٠٧) مقتضب الأثر.

(٢٠٨) مقتضب الأثر.

(٢٠٩) بصائر الدرجات ( ص ١٠٨ ) للصفار.

(٢١٠) غاية الاختصار ( ص ١٣١ ).

(٢١١) مقتضب الأثر.

٢٠٤

والشيء المحقق ان خلفاء النبي (ص) الاثني عشر الذين تواترت فيهم الاخبار انما هم الأئمة الطيبون من أهل البيت (ع) فهم الذين يمثلون هدي النبي (ص) وسمته.

محن الائمة :

وتحدث الامام أبو جعفر (ع) مع حمران عن المحن والخطوب التي ألمت بالأئمة الطاهرين من طواغيت زمانهم ، وانهم سلام الله عليهم لو سألوا الله تعالى أن يكشفها عنهم لاستجاب لهم ، ولكنهم لم يسألوه لينالوا المنزلة الكريمة عنده ، يقول (ع) :

« ولو انهم ـ أي الأئمة ـ يا حمران حيث نزل بهم ما نزل من أمر الله عز وجل ، واظهار الطواغيت عليهم سألوا الله عز وجل أن يدفع ذلك عنهم والحوافي ازالة تلك الطواغيت ، وذهاب ملكهم اذن لأجابهم ، ورفع ذلك عنهم ، ثم كان انقضاء مدة الطواغيت وذهاب ملكهم اسرع من رفع سلك منظوم انقطع فتبدد ، ما كان ذلك الذي اصابهم ـ يا حمران ـ لذنب اقترفوه ، ولا لعقوبة معصية خالفوا الله فيها ، ولكن لمنازل وكرامة من الله أن يبلغوها ، فلا تذهب فيك المذاهب فيهم .. » (٢١٢)

حثه على نشر مآثر الأئمة :

وكان (ع) يحث الرواة والمحدثين على اذاعة مآثر أئمة اهل البيت عليهم‌السلام ونشر فضائلهم لأنهم القدوة الحسنة لهذه الأمة ، يقول سعد الاسكاف : قلت : لأبي جعفر إني اجلس فأقص ، واذكر حقكم وفضلكم ، فشكر (ع) مساعيه وقال له :

__________________

(٢١٢) ناسخ التواريخ ٢ / ٢٠٢.

٢٠٥

« وددت على كل ثلاثين ذراعا قاصا مثلك » (٢١٣).

علم الأئمة :

وآمنت الشيعة منذ فجر تأريخها حتى يوم الناس هذا بأن أئمة أهل البيت (ع) قد وهبهم الله العلم والحكمة وفصل الخطاب ، كما وهب انبياءه ورسله ، ( ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ).

وقد اجمع المؤرخون والرواة على أن الأئمة (ع) كانوا يملكون طاقات هائلة من العلم لم يملكها أي أحد من الناس ، وانهم قد فاقوا بمواهبهم وعبقرياتهم جميع العلماء الذين عاصروهم وجيرهم ، وليس فى هذا الايمان ، ولا في هذه الدعوى أية مؤاخذة بعد ما توفرت الأدلة على ذلك ، ألم يذع سيد العترة وزعيمها الامام أمير المؤمنين (ع) من على منبر الكوفة قوله : « سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن طرق السماء فاني اعلم بها من طرق الأرض » ومعنى ذلك أن علومه ومعارفه قد تجاوزت شئون هذا الكوكب الذي يعيش عليه الانسان الى شئون الفضاء والمجرات وسائر الكواكب ، وانه قد احاط علما بأسرار الكون ، ودقائق الطبيعة.

ألم يقل هذا العملاق العظيم : ( لو ثنيت لي الوسادة لأفتيت أهل الانجيل بانجيلهم ، وأهل الزبور بزبورهم ، وأهل الفرقان بفرقانهم » وهذا يدل ـ بوضوح ـ على احاطته التامة بشئون جميع الشرائع والأديان ، ووقوفه على ما في تلك الكتب السماوية من احكام.

ألم يكن علي صاحب نهج البلاغة الذي هو أثرى كتاب عالمي عرفته الانسانية بعد القرآن الكريم ... هذا هو زعيم العترة الطاهرة باب

__________________

(٢١٣) رجال الكشي ( ص ١٨٧ ).

٢٠٦

مدينة علم النبي (ص) ووصيه الذي فاق جميع علماء الدنيا في مواهبه وعلومه ، وعلى هذا الطراز من سعة العلم الذي لا يحد سائر الأئمة الطاهرين (ع) فهذا الامام علي بن موسى الرضا (ع) حينما نصبه المأمون ولي عهده ، فاوعز الى جميع علماء الدنيا بالحضور الى خراسان لامتحان الامام واختباره ريثما يظهر عليه العجز فيتخذ ذلك وسيلة الى هدم مذهب التشيع وابطال ما ذهبت إليه الشيعة من أن الامام افضل اهل عصره ، واعلم اهل زمانه ، ولما اجتمع العلماء في خراسان أجزل لهم المأمون بالعطاء وندبهم الى مهمته ، وكان المدون لمسائلهم علي بن عيسى ، يقول وقد سئل الامام عن اربعة وعشرين الف مسألة ، وقد دونتها ، وتناولت علوما مختلفة من علم الفلك والنجوم والطب والفيزياء ، والفلسفة وعلم الكلام وغيرها ، وقد اجاب الامام عنها ، وما التقى به وفد من العلماء ، وخرج إلا وهو يقول بامامة الرضا ، وعقب علي بن عيسى كلامه بقوله : « ومن قال ان الله خلق افضل من علي بن موسى فلا تصدقه » (٢١٤).

وهذا ولده الامام محمد الجواد (ع) حينما آلت إليه الامامة بعد وفاة أبيه كان عمره الشريف لا يتجاوز العشر سنين فقربه المأمون وعظمه ، فحسده العباسيون ، وكلموا المأمون في أمره فعرفهم بامامته ، وان الله منحه العلم والفضل ، وميزه على الخلق اجمعين ، فانكروا ذلك عليه ، فعهد إليهم باختباره وامتحانه ، فخفوا الى يحيى بن اكتم الذي تقلد رئاسة القضاء ، وهو المع شخصية علمية في بغداد ، وطلبوا منه امتحان الامام (ع) فاجابهم الى ذلك ، وعقدوا مؤتمرا علميا في البلاط العباسي حضره كبار العلماء ، واقبل يحيى بن اكتم فسأل الامام عن اعقد المسائل واشكلها ،

__________________

(٢١٤) عيون اخبار الرضا.

٢٠٧

فأخذ الامام (ع) يحلل كل مسألة الى عدة فروع ، ويسأل يحيى عن أي فرع اراده ليجيبه عنه ، وذهل يحيى ، وبان عليه العجز ، وطلب من الامام ان يجيبه عن تلك الفروع التي شققها على مسألته ، فاجابه (ع) عنها ، وانفض المؤتمر ، وقد آمن جميع من حضر فيه بقدراته العلمية التي لا تحد ، وقد روى جميع المؤرخين هذه الباردة حتى ابن حجر ذكرها في صواعقه المحرقة ، فبأي شيء تعلل هذه الطاقات العلمية عند الامام الجواد وهو في سنه المبكرة؟

وعلى أي حال فان علم الأئمة (ع) كعلم الأنبياء من دون أن يكون اي فرق بينهما وقد عرض لذلك الامام أبو جعفر (ع) فقد قال لبعض شيعته :

ـ ما تقول الشيعة في علي وموسى وعيسى؟

ـ جعلت فداك عن أي الحالات تسألني؟

ـ اسألك عن العلم

ـ هو والله اعلم منهما

ـ أليس يقولون : ان لعلي ما لرسول الله (ص) من العلم؟

ـ ولكن لا يقدمون على أولي العزم من الرسل أحدا

ـ فخاصمهم بكتاب الله

ـ في أي موضع منه

ـ يقول تعالى لموسى : ( وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) (٢١٥) وقال لعيسى : ( وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) (٢١٦) بينما

__________________

(٢١٥) سورة الاعراف : آية ١٤٥.

(٢١٦) سورة الزخرف : آية ٦٣.

٢٠٨

قال لمحمد (ص) : ( وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ ) (٢١٧) كما قال في نفس الآية ( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) (٢١٨).

وقد تظافرت الاخبار ان علم الأئمة مستمد من علم جدهم الرسول (ص) فقد ورّث (ص) علومه الى وصيه وباب مدينة علمه الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام وقد ورثها من بعده الأئمة الطاهرون من ابنائه.

الملاحم التي اخبر عنها :

واجمع المؤرخون والرواة على أن أئمة اهل البيت (ع) قد أخبروا عن وقوع كثير من الملاحم والاحداث ، وتحققت بعد ذلك على مسرح الحياة ، كما أخبروا عنها ، فقد اخبر الامام أمير المؤمنين (ع) بما سيجري على الصحابي العظيم حجر بن عدي من صنوف القتل والتنكيل من قبل معاوية ، وجرى عليه ذلك ، واخبر (ع) عن حكومة مروان ابن الحكم القصيرة الأمد فقال (ع) : « ليحملن راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه ، وله امرة كلعقة الكلب أنفه » (٢١٩) وأخبر (ع) عن حكومة بني العباس فقد روى المبرد وغيره قال : لما ولد علي بن عبد الله ابن العباس جاء به ابوه الى الامام علي (ع) فقال له : ما سميته؟ فقال عبد الله : أو يجوز لي أن اسميه قبلك؟ فقال (ع) قد سميته باسمي ، وكنيته بكنيتي ، وهو أبو الاملاك (٢٢٠) واخبر (ع) عن مصرع ولده أبي الشهداء الامام الحسين (ع) فقد روى الاصبغ قال :

__________________

(٢١٧) سورة النحل : آية ٨٩.

(٢١٨) نظرية الامامة لدى الاثنى عشرية ( ص ١٤٧ ) نقلا عن الكافي.

(٢١٩) طبقات ابن سعد ٥ / ٣٠.

(٢٢٠) تهذيب التهذيب ٧ / ٣٥٨.

٢٠٩

أتينا مع علي (ع) فمررنا بموضع قبر الحسين (ع) فقال علي : هاهنا مناخ ركابهم ، وهاهنا موضع رحالهم ، وهاهنا مهراق دمائهم ، فتية من آل محمد (ص) يقتلون بهذه العرصة تبكي عليهم السماء والأرض (٢٢١) كما اخبر (ع) عن الاحداث التي تجري آخر الزمان ، وما يخترعه الانسان من الآلات والاجهزة الحديثة ، وسائر الوان التقدم التكنلوجي في العالم ، كل ذلك اخبر عنه الامام (ع).

ولم تقتصر هذه الظاهرة على الامام أمير المؤمنين (ع) وإنما شملت جميع أئمة اهل البيت (ع) فهذا الامام الصادق قد قال : للمنصور الدوانيقي تتلاعب بها ـ أي الخلافة ـ الصبيان من ولدك (٢٢٢) وقال عليه‌السلام : لابن عمه عبد الله بن الحسن انه لا يلي الخلافة وإنما يليها السفاح ، وتحقق جميع ما أخبر به.

وقد اعترف ابن خلدون بهذه الظاهرة لأئمة أهل البيت (ع) يقول : « واذا كانت الكرامة تقع لغيرهم ، فما ظنك بهم علما ودينا ، وآثارا من النبوة ، وعناية بالاصل الكريم تشهد لفروعه الطيبة ، والشريعة قد قررت ان البشر محجوبون عن الغيب إلا من أطلعه الله عليه من عنده في نوم أو ولاية وقد وقع لجعفر وأمثاله من اهل البيت كثير من ذلك مستندهم فيه والله اعلم الكشف بما كانوا من الولاية ، فهم أولى الناس بهذه الرتب الشريفة والكرامات الموهوبة » (٢٢٣).

أما الملاحم التي اخبر عنها الامام أبو جعفر فهذه بعضها.

__________________

(٢٢١) الرياض النضرة ٢ / ٢٢٢.

(٢٢٢) اثبات الوصية ( ص ١٨٢ ).

(٢٢٣) المقدمة ( ص ٢٣٢ ـ ٢٣٤ ).

٢١٠

١ ـ انه تنبأ بدولة بني العباس ، يقول أبو بصير : كنت مع محمد ابن علي إذ دخل المنصور وداود بن سليمان قبل ان يفضي الملك لبني العباس فجاء داود الى الامام محمد الباقر فسلم عليه ، فقال (ع) له :

« ما منع الدوانيقي أن يأتي؟ .. »

فاعتذر داود بن سليمان ، وقال : ان فيه جفاء ، واحاطه الامام (ع) علما بما يصير إليه المنصور قائلا :

« لا تذهب الأيام حتى يلي هذا الرجل أمر الخلق ، فيطأ اعناق الرجال ، ويملك شرقها وغربها ، ويطول عمره حتى يجمع من كنوز المال ما لا يجمع غيره .. »

وبادر داود نحو المنصور ، وهو يحمل إليه البشرى ، بما قاله الامام ، وخف المنصور مسرعا نحو الامام ليتبين مقالته فيه ، وأبدى للإمام معاذيره في عدم السلام عليه قائلا : ما منعني من الجلوس إليك إلا اجلالا لك ، ثم سأله عما اخبر به داود ، فقال (ع) :

« هو كائن .. »

وراح المنصور يطلب المزيد من الايضاح قائلا :

« ملكنا قبل ملككم؟. »

« نعم »

« ويملك أحد بعدي من ولدي.؟ »

« نعم »

« فمدة بني أمية أطول أم مدتنا؟. »

« مدتكم أطول ليلعبن بهذا الملك صبيانكم كما يلعبون بالكرة ، بهذا عهد إلي أبي .. »

٢١١

وانصرف المنصور وهو جذلان مسرور قد صار على يقين بأن الملك سيؤل إليه ، وظلت مقالة الامام تراوده في جميع أوقاته فلما صارت إليه الخلافة تعجب من تنبأ الامام (٢٢٤).

ويقول الدوانيقي : كنت هاربا من بني أمية أنا واخي أبو العباس فمررنا بمسجد النبي (ص) ومحمد بن علي جالس ، فقال (ع) : لرجل إلى جانبه كأني بهذا الأمر قد صار الى هذين ، وأشار إلينا ، فجاء الرجل وأخبرنا بمقالته ، فملنا إليه وقلنا له : يا ابن رسول الله ما الذي قلت؟ فقال (ع) : هذا الأمر صائر إليكم عن قريب ولكنكم تسيئون إلى ذريتي ، وعترتي فالويل لكم (٢٢٥) فكان كما اخبر (ع) وقد اساء المنصور حينما ولى الخلافة إلى ذرية رسول الله (ص) وعترته ، فنكل بهم كأفظع ما يكون التنكيل وقد قاست عترة رسول الله (ص) في عهد هذا الطاغية من صنوف العذاب ما لم تقاسيه في عهد الامويين فقد كانت أيامه عليهم كلها محنة والما وعذابا.

٢ ـ ومما انبأ عنه الامام أبو جعفر (ع) أنه أخبر عن الحجر الأسود وانه يعلق في الجامع الأعظم في الكوفة (٢٢٦) وتحقق ذلك أيام القرامطة فقد اخذوه من الكعبة ، وجعلوه في جامع الكوفة باعتقادهم أن الحج يدور مداره ، وقد أرادوا ان يكون الحج إلى مسجد الكوفة وبقي فيه مدة تقرب من عشرين عاما ثم ارجع إلى مكانه.

٣ ـ ومن الملاحم التي أخبر عنها غزو نافع بن الأزرق إلى يثرب ،

__________________

(٢٢٤) جامع كرامات الأولياء ١ / ٩٧ ، الدر المسلوك مخطوط.

(٢٢٥) دلائل الامامة ( ص ٩٦ ).

(٢٢٦) اتعاض الحنفاء للمقريزي ( ص ٢٤٥ ).

٢١٢

واباحتها لجنوده ، يقول الامام الصادق (ع) : كان أبي في مجلس عام إذ اطرق برأسه إلى الأرض ثم رفعه وقال : يا قوم كيف أنتم إذا جاءكم رجل يدخل عليكم مدينتكم في اربعة آلاف حتى يستعرضكم على السيف ثلاثة ايام متوالية ، فيقتل مقاتلكم ، وتلقون منه بلاء لا تقدرون عليه ولا على دفعه ، وذلك من قابل ـ أي السنة التي تأتي ـ فخذوا حذركم ، واعلموا أن الذي قلت لكم هو كائن لا بد منه ، فلم يلتفت أهل المدينة إلى كلامه ، وقالوا : لا يكون هذا أبدا ، فلما كانت السنة المقبلة حمل ابو جعفر عياله ، وصحب معه جماعة من بني هاشم ، وخرجوا من المدينة ، فجاء نافع بن الأزرق فدخلها في اربعة آلاف واستباحها ثلاثة أيام ، وقتل فيها خلقا كثيرا (٢٢٧) واستبان لأهل المدينة مدى صدق الامام في تنبوئه.

٤ ـ واخبر (ع) عن شهادة أخيه زيد الشهيد العظيم فقد روى زيد ابن حازم قال : كنت مع أبي جعفر (ع) فمر بنا زيد بن علي فقال لي ابو جعفر : أما رأيت هذا؟ ليخرجن بالكوفة ، وليقتلن ، وليطافن برأسه (٢٢٨) ولم تمض الايام حتى قتل زيد بالكوفة وطيف برأسه في الاقطار والامصار.

٥ ـ ومن الاحداث التي تنبأ عنها انه اخبر بهدم دار هشام بن عبد الملك ، وهي من اضخم الدور في يثرب ، وكان قد بناها باحجار الزيت ، قال

__________________

(٢٢٧) نور الابصار ( ص ١٣٠ ) جوهرة الكلام في مدح السادة الاعلام ( ص ١٣٤ ) الخرائج والجرائح ( ص ٨٠ ) من مخطوطات مكتبة الحكيم.

(٢٢٨) نور الابصار ( ص ١٣١ ).

٢١٣

عليه‌السلام : اما والله لتهدمن ، أما والله لتندر احجار الزيت ، يقول

أبو حازم : فلما سمعت هذا تعجبت منه وقلت : من يهدمها وامير المؤمنين هشام قد بناها!! فلما مات هشام وولي الخلافة من بعده الوليد امر بهدمها ، ونقل احجار الزيت منها حتى ندرت في يثرب (٢٢٩).

٦ ـ ومن الملاحم التي انبأ عنها ما رواه الفضيل قال : سألت أبا جعفر فقلت له : بلغنا أن لآل جعفر راية ، ولآل العباس رايتين فهل انتهى إليك من علم ذلك شيء؟ فقال (ع) :

« اما آل جعفر فليس لهم شيء ، ولا لأهل بيتي شيء ، واما آل العباس فان لهم ملكا عظيما ، يقربون فيه البعيد ، ويبعدون فيه القريب ، وسلطانهم عسر ليس فيه يسر حتى إذا آمنوا مكر الله ، وآمنوا عقابه صيح فيهم صيحة واحدة لا يبقى لهم منزل يجمعهم ، ولا اذن تسمعهم ، وهو قول الله عز وجل حتى إذا اخذت الارض زخرفها .. (٢٣٠)

هذه بعض البوادر من الملاحم التي اخبر عنها الامام (ع) وهي تلقي الأضواء على مدى سعة علوم الامام (ع) واحاطته بمثل هذه الأمور التي منحها الله تعالى للأنبياء وأوصيائهم ، ومن الطبيعي ان الاقرار للأئمة (ع) بهذه الظاهرة يحتاج إلى إيمان راسخ ويقين ثابت ، وقد اشار الامام ابو جعفر (ع) إلى ذلك بقوله : « ان حديثنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل او عبد امتحن الله قلبه للأيمان » (٢٣١).

__________________

(٢٢٩) دلائل الامامة ( ص ١١٠ ).

(٢٣٠) اثبات الهداة ٥ / ٣١٠.

(٢٣١) اعلام الورى من مخطوطات دار الآثار العراقية.

٢١٤

هذه بعض البحوث الكلامية واخباره عن المغيبات التي خاضها الامام (ع) وله بحوث أخرى في هذه المجالات سنذكرها عند البحث عن عصره.

علم الفقه :

أما فقه أهل البيت (ع) فقد أخذ معظمه من الامامين الباقر وولده الصادق (ع) وقد حفلت موسوعات الفقه الامامي ـ كالحدائق والجواهر ومستمسك العروة الوثقى ـ بالروايات الكثيرة التي أثرت عنهما ، وإليها يرجع فقهاء الامامية في استنباطهم للأحكام الشرعية ، وفي اصدارهم للفتوى ، أما موسوعات الحديث كوسائل الشيعة والتهذيب ، ومن لا يحضره الفقيه وغيرها فاغلب ما فيها من الاحاديث قد أخذت عنهما ، وقد شكلت تلك الموسوعات دائرة معارف للفقه الاسلامي هي من أروع وأثرى ما قنن في عالم التشريع.

لقد جهد الامام الباقر وولده الصادق (ع) على نشر الفقه الاسلامي وتبنياه بصورة إيجابية في وقت كان المجتمع الاسلامي غارقا في الأحداث السياسية ، وقد أهملت الحكومات في تلك العصور الشؤون الدينية اهمالا تاما ، فلم تعد الشعوب الاسلامية تفقه من أمور دينها القليل ولا الكثير ، يقول الدكتور علي حسن : « وقد أدى تتبعنا للنصوص التأريخية إلى امثلة كثيرة تدل على هذه الظاهرة ـ أي اهمال الشؤون الدينية ـ التي كانت تسود القرن الأول سواء لدى الحكام أو العلماء أو الشعب ، ونعني بها عدم المعرفة بشئون الدين ، والتأرجح وعدم الجزم والقطع فيها حتى في العبادات ، فمن ذلك ما روي أن ابن عباس خطب في آخر رمضان على منبر البصرة فقال : ( اخرجوا صدقة صومكم ) فكان الناس لا يعلمون ، فقال : من هاهنا من أهل المدينة ، فقوموا إلى إخوانكم فعلموهم ، فانهم

٢١٥

لا يعلمون من زكاة الفطرة الواجبة شيئا (٢٣٢) مما يدل على أن أهل البلاد الاسلامية لم يكونوا يعرفون شئون دينهم معرفة مفصلة ، وقد كان يوجد في بلاد الشام من لا يعرف عدد الصلوات المفروضة ، فراحوا يسألون الصحابة عن ذلك (٢٣٣) وهذه مسألة أوقات الصلاة لم تكن معروفة عند عمر بن عبد العزيز (٢٣٤) وبعض أهل العلم ، فكان العلماء يرون سنة مخصوصة في ذلك ، وكانت الحكومة ترى رأيا مخالفا ، وعلى هذا جاء الحديث « سيأتي في آخر الزمان أمراء يميتون الصلاة ، فأدوا الصلاة في وقتها » والمؤرخون المتقدمون إذا لم يعرفوا كيف يشرحون لنا هذه الحالة فانهم لم يجدوا أمامهم إلا سببا مفروضا ، وهو ان الامويين قد غيروا أوقات الصلاة برأيهم.

ولكن الحقيقة هو إنه في اثناء عصر بني أمية الذين كانوا لا يهتمون كثيرا بأمور الدين كان الشعب في الواقع قليل الفهم والمعرفة للفقه ومسائل الدين ، ولم يكن يعرف من هذه الشؤون إلا اهل المدينة وحدهم (٢٣٥) .. » (٢٣٦)

__________________

(٢٣٢) الاحكام في أصول الاحكام لابن حزم ٢ / ١٣١.

(٢٣٣) أبو داود ١ / ١٤٢ ، النسائي ١ / ٤٢.

(٢٣٤) ان خفاء أوقات الصلاة على عمر بن عبد العزيز من الموضوعات والمفتريات عليه ، وسنعرض لذلك عند البحث عن سيرته.

(٢٣٥) يراجع في كيفية صلاة عمر بن عبد العزيز طبقات ابن سعد ٥ / ٤٧ ، والامامة والسياسة ٢ / ١٤٣ ، ويراجع إلى عصر عبد الملك ابن مروان إنه لم تكن مسائل الحج قد عرفت تماما ، مصادر ذلك طبقات ابن سعد ٥ / ١٧٠ ، اليعقوبي ٢ / ٣٥٨.

(٢٣٦) نظرة عامة في تأريخ الفقه الاسلامي ( ص ١١٠ ).

٢١٦

ان الدور المشرق الذي قام به الامام الباقر والصادق في نشر الفقه وبيان احكام شريعة الله كان من اعظم الخدمات التي قدمت للعالم الاسلامي ولو لاها لخسر المسلمون اعظم ثروة دينية لهم.

وعلى أي حال فانه لما لم يكن في العالم الاسلامي ـ في تلك العصور ـ من هو أدرى بشئون الشريعة واحكام الدين غير الامامين (ع) فقد أسرع إلى الأخذ من علومهما ابناء الصحابة والتابعون ، ورؤساء المذاهب الاسلامية كأبي حنيفة ومالك وغيرهما ، وقد تخرج على يد الامام أبي جعفر جمهرة كبيرة من الفقهاء كزرارة بن اعين ، ومحمد بن مسلم وابان ابن تغلب ، وإليهم يرجع الفضل في تدوين أحاديث الامام (ع) كما كانوا من مراجع الفتيا بين المسلمين ، وبذلك فقد اعاد الامام أبو جعفر (ع) للإسلام نضارته وحافظ على ثرواته الدينية من الضياع.

ومن الجدير بالذكر أن الشيعة هي أول من سبق إلى تدوين الفقه يقول مصطفى عبد الرزاق : « ومن المعقول أن يكون النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة لأن اعتقادهم العصمة في أئمتهم أو ما يشبه العصمة كان حريا إلى تدوين أقضيتهم وفتاواهم » (٢٣٧) وبذلك فقد ساهمت الشيعة في بناء الصرح الاسلامي ، وحافظت على أهم ثرواته ... ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر في فقه أهل البيت (ع) الذي هو مستمد من الرسول الاعظم (ص).

مميزاته :

ويمتاز فقه أهل البيت (ع) بمميزات رائعة جعلته في قمة الفقه الاسلامي وغيره ، وهذه بعضها :

__________________

(٢٣٧) تمهيد لتأريخ الفلسفة الاسلامية ( ص ٢٠٢ ).

٢١٧

١ ـ اتصاله بالنبي (ص) :

والشيء المهم في فقه اهل البيت (ع) إنه يتصل اتّصالا مباشرا بالنبي (ص) فطريقه إليه أئمة اهل البيت (ع) الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وجعلهم النبي (ص) سفن النجاة ، وأمن العباد ، وعدلاء الذكر الحكيم حسبما تواترت الاخبار بذلك.

ومما لا شبهة فيه انهم سلام الله عليهم الصق الناس برسول الله (ص) وادرى بشئون شريعته وأحكامه من غيرهم فروايتهم عن جدهم (ص) ان صح طريق سندها إليهم فهي من أصح الروايات إليهم وأقربها إلى الواقعية وبراءة الذمة ، وهذا مما دعا فقهاء الامامية إلى الاقتصار على روايات الأئمة في استنباطهم للأحكام الشرعية ، باعتبارها قد حازت على وثاقة الدليل واصالته اللذين يعتمد عليهما الفقيه ، وقد عرض الامام أبو جعفر عليه‌السلام إلى روايات الأئمة (ع) وإنها لم تكن منهم وإنما هي مأخوذة عن النبي (ص) يقول (ع) : « لو إننا حدثنا برأينا ضللنا كما ضل من قبلنا ، ولكنا حدثنا ببينة من ربنا بينها لنبيه (ص) فبينها لنا » (٢٣٨)

وسئل عن الحديث الذي يرسله ، ولا يسنده فقال (ع) : « إذا حدثت بالحديث فلم أسنده فسندي فيه أبي زين العابدين عن أبيه الحسين الشهيد عن أبيه علي بن أبي طالب عن رسول الله (ص) عن جبرائيل عن الله » (٢٣٩) وهل هناك سند أشرق من هذا السند أو أصح منه؟ وهل يجد المسلم الذي يبتغي وجه الله والدار الآخرة طريقا يوصله إلى الله اسلم واضمن من هذا الطريق؟

__________________

٢٣٨ و ٢٣٩ اعلام الورى ( ص ٢٧٠ ).

٢١٨

٢ ـ مرونته :

وفقه أهل البيت يساير الحياة ، ويواكب التطور ، ولا يشذ عن الفطرة ويتمشى مع جميع متطلبات الحياة ، فليس فيه ـ والحمد لله ـ حرج ولا ضيق ، ولا ضرر ، ولا اضرار ، وإنما فيه الصالح العام ، والتوازن في جميع مناحي تشريعاته ، وقد نال اعجاب جميع رجال القانون ، واعترفوا بأنه من أثرى ما قنن في عالم التشريع عمقا واصالة وابداعا.

ان فقه أهل البيت (ع) ثبت يضيء للباحثين القوة التشريعية الدافعة المتقدم العلمي والحضاري وهو آية للعدل المطلق ، والحق المحض لأنه نابع من صميم الواقع فقد استعرض خلايا جسم الأمة ، فوضع الحلول الحاسمة لجميع مشاكلها.

٣ ـ فتح باب الاجتهاد :

والشيء الذي تميز به فقه أهل البيت (ع) عن بقية الفقه الاسلامي هو فتح باب الاجتهاد ، فقد دلل ذلك على اصالة فقه أهل البيت ، وتفاعله مع الحياة واستمراره في العطاء لجميع شئون الانسان ، وإنه لا يقف مكتوفا أمام الاحداث المستجد ، التي يبتلي بها الناس خصوصا في هذا العصر الذي استجدت فيه كثير من الأحداث التي لم تكن موجودة في العصور السابقة كالتلقيح الصناعي ، وغرس الاعضاء ، وغير ذلك من الأمور التي لا يوجد لها حل على غير مائدة فقه أهل البيت ، وقد أدرك كبار علماء المسلمين من الأزهر مدى الحاجة الملحة إلى فتح باب الاجتهاد ، ومتابعة الشيعة في هذه الظاهرة يقول احمد أمين : « وقد أصيب المسلمون بحكمهم على أنفسهم بالعجز ، وقولهم : بإقفال باب الاجتهاد لأن معناه لم يبق في الناس من تتوفر فيه شروط المجتهد ، ولا يرجى أن يكون ذلك

٢١٩

في المستقبل ، وإنما قال : هذا القول بعض المقلدين : لضعف ثقتهم بأنفسهم ، وسوء ظنهم بالناس .. » (٢٤٠)

ويقول السيد رشيد رضا :

« ولا نعرف في ترك الاجتهاد منفعة ما ، واما مضاره فكثيرة ، وكلها ترجع إلى إهمال العقل ، وقطع طريق العلم ، والحرمان من استغلال الفكر ، وقد أهمل المسلمون كل علم بترك الاجتهاد ، فصاروا إلى ما نرى .. » (٢٤١)

ان الاسلام ـ والحمد لله ـ قد نعى على الفكر الجمود ، ودعاه إلى الانطلاق في ميادين الفكر والعلم ، وليس من الحكمة في شيء اقفال باب الاجتهاد وفرض التقليد ، إذ ليس في الاجتهاد استحالة ، ولا فيه خروج على المنطق والدليل ، وأما اقفال بابه فقد كان في وقت خاص فرضته الحكومات القائمة في تلك العصور ـ حسبما يقوله المحققون ـ

٤ ـ الرجوع الى حكم العقل :

وانفردت فقهاء الامامية عن بقية المذاهب الاسلامية فاعتبرت العقل أحد المدارك الأربعة لاستنباط الاحكام الشرعية ، وقد اضفت عليه اسمى الوان التقديس فاعتبرته رسول الله الباطني ، وإنه مما يعبد به الرحمن ، ويكتسب به الجنان ، ومن الطبيعي ان الرجوع إلى حكم العقل إذا لم يكن في المسألة نص وإلا فهو حاكم عليه ، وان للعقل مسرحا كبيرا في علم الاصول الذي يتوقف عليه الاجتهاد ، إذ اكثر مسائل الفقه يستند فيها الفقهاء إلى ما تقتضيه القواعد الاصولية فيها ، وعلى ضوء حكم العقل

__________________

(٢٤٠) يوم الاسلام ( ص ١٨٩ ).

(٢٤١) الوحدة الاسلامية ( ص ٩٩ ).

٢٢٠