حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل - ج ١

باقر شريف القرشي

حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل - ج ١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤
الجزء ١ الجزء ٢

ولم يغضب الامام ، وإنما قابله باللطف قائلا :

« إن كنت صدقت غفر الله لك ، وان كنت كذبت غفر الله لك .. »

وبهت الكتابي ، وبهر من معالي اخلاق الامام التي تضارع اخلاق الأنبياء ، فاعلن اسلامه (٧) ورجع الى حظيرة الحق.

٢ ـ ومن تلك الصور الرائعة المدهشة من حلمه أن شاميا كان يختلف الى مجلسه ، ويستمع الى محاضراته ، وقد أعجب بها ، فأقبل يشتد نحو الامام وقال له :

« يا محمد إنما أخشى مجلسك لا حبا منى إليك ، ولا أقول : إن أحدا أبغض إلي منكم أهل البيت ، واعلم ان طاعة الله ، وطاعة أمير المؤمنين في بغضكم ، ولكني أراك رجلا فصيحا لك أدب وحسن لفظ ، فانما أختلف إليك لحسن ادبك!! »

ونظر إليه الامام بعطف وحنان ، واخذ يغدق عليه ببره ومعروفه حتى استقام الرجل وتبين له الحق ، فتبدلت حالته من البغض الى الولاء للإمام ، وظل ملازما له حتى حضرته الوفاة فأوصى ان يصلي عليه (٨).

وحاكى الامام بهذه الاخلاق الرفيعة جده الرسول (ص) الذي استطاع بسمو اخلاقه أن يؤلف ما بين القلوب ، ويوحد ما بين المشاعر والعواطف ويجمع الناس على كلمة التوحيد بعد ما كانوا فرقا واحزابا ( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )

الصبر :

لقد كان الصبر من الصفات الذاتية للأئمة الطاهرين من أهل البيت (ع)

__________________

(٧) اعيان الشيعة ٤ / ق ١ / ٥٠٤.

(٨) بحار الانوار ١١ / ٦٦.

١٢١

ففد صبروا على مكاره الدهر ، ونوائب الأيام ، وصبروا على تجرع الخطوب التي تعجز عنها الكائنات ، فقد كان الامام الحسين (ع) على صعيد كربلا يستقبل المحن الشاقة التي تذهل كل كائن حي ، وهو يقول : « صبرا على قضائك يا رب لا معبود سواك. » وصبر الامام الباقر (ع) كآبائه على تحمل المحن والخطوب ، وقد كان منها ما يلي :

١ ـ انتقاص السلطة لآبائه الطاهرين ، واعلان سبهم على المنابر والمآذن ، وهو (ع) يسمع ذلك ، ولا يتمكن أن ينبس ببنت شفة فصبر على كظم الغيظ ، وأوكل الأمر الى الله الحاكم بين عباده بالحق.

٢ ـ ومن بين المحن الشاقة التي صبر عليها التنكيل الهائل بشيعة أهل البيت (ع) وقتلهم تحت كل حجر ومدر بأيدي الجلادين من عملاء السلطة الاموية ، وهو لا يتمكن أن يحرك ساكنا ، قد فرضت عليه السلطة الرقابة الشديدة ، واحاطته بمباحثها ، ولم تستجب لأي طلب له في شأن شيعته.

٣ ـ وروى المؤرخون عن عظيم صبره انه كان جالسا مع أصحابه إذ سمع صيحة عالية في داره ، فاسرع إليه بعض مواليه فأسره فقال (ع) :

« الحمد لله على ما اعطى ، وله ما أخذ انههم عن البكاء ، وخذوا في جهازه ، واطلبوا السكينة ، وقولوا لها : لا ضير عليك أنت حرة لوجه الله لما تداخلك من الروع .. »

ورجع الى حديثه ، فتهيب القوم سؤاله ، ثم اقبل غلامه فقال له : قد جهزناه ، فأمر اصحابه بالقيام معه للصلاة على ولده ودفنه ، واخبر اصحابه بشأنه فقال لهم : انه قد سقط من جارية كانت تحمله فمات (٩)

__________________

(٩) عيون الاخبار وفنون الآثار ( ص ٢١٨ ).

١٢٢

تدول الدول ، وتفنى الحضارات ، وهذه الاخلاق العلوية أحق بالبقاء ، وأجدر بالخلود من كل شيء لأنها تمثل شرف الانسانية وقيمها الكريمة.

٤ ـ ويقول المؤرخون : إنه كان للإمام ولد وكان أثيرا عليه فمرض فخشي على الامام لشدة حبه له ، وتوفي الولد فسكن صبر الامام ، فقيل له : خشينا عليك يا ابن رسول الله (ص) ، فأجاب بالاطمئنان والرضا بقضاء الله قائلا :

« انا ندعو الله فيما يحب فاذا وقع ما نكره لم نخالف الله فيما يحب .. » (١٠)

لقد تسلح الامام بالصبر وقابل نوائب الدنيا وكوارث الدهر بارادة صلبة ، وايمان راسخ ، وتحمل الخطوب في غير ضجر ولا سأم محتسبا في ذلك الأجر عند الله.

تكريمه للفقراء :

ومن معالي أخلاقه أنه كان يبجل الفقراء ، ويرفع من شأنهم لئلا يرى عليهم ذل الحاجة ، ويقول المؤرخون : انه عهد لأهله اذا قصدهم سائل ان لا يقولوا له : يا سائل خذ هذا ، وإنما يقولون له : يا عبد الله بورك فيك (١١) وقال : سموهم باحسن اسمائهم (١٢).

انها اخلاق النبوة التي جاءت لتسمو بالانسان ، وتغذيه بالعزة والكرامة وتنفي عنه الخنوع والذل.

__________________

(١٠) تأريخ دمشق ٥١ / ٥٢ ، عيون الاخبار لابن قتيبة ٣ / ٥٧.

(١١) عيون الاخبار ٣ / ٢٠٨.

(١٢) البيان والتبيين ( ص ١٥٨ ) اعيان الشيعة ق ١ / ٤ / ٤٧٢.

١٢٣

عتقه للعبيد :

وكان الامام العظيم شغوفا بعتق العبيد ، وانقاذهم من رق العبودية ، فقد اعتق أهل بيت بلغوا أحد عشر مملوكا (١٣) وكان عنده ستون مملوكا فأعتق ثلثهم عند موته (١٤).

صلته لأصحابه :

وكان أحب شيء للإمام في هذه الدنيا صلته لإخوانه فكان لا يمل من صلتهم وصلة قاصديه وراجيه ومؤمليه (١٥) وقد عهد لابنه الامام الصادق ان ينفق من بعده على اصحابه وتلاميذه ليتفرغوا الى نشر العلم واذاعته بين الناس.

صدقاته على فقراء المدينة :

وكان الامام (ع) كثير البر والمعروف على فقراء يثرب ، وقد أحصيت صدقاته عليهم فبلغت ثمانية آلاف دينار (١٦) وكان يتصدق عليهم في كل يوم جمعة بدينار ويقول : « الصدقة يوم الجمعة تضاعف الفضل على غيره من الايام » (١٧).

__________________

(١٣) شرح شافية ابي فراس ٢ / ١٧٦ من مصورات مكتبة الحكيم.

(١٤) شرح شافية أبي فراس ٢ / ١٧٦.

(١٥) شرح شافية أبي فراس ٢ / ١٧٦.

(١٦) شرح شافية أبي فراس ٢ / ١٧٦.

(١٧) اعيان الشيعة ٤ / ق ١ / ٤٧١.

١٢٤

كرمه وسخاؤه :

أما الكرم فهو من العناصر الاولية لأئمة أهل البيت (ع) فقد بسطوا أيديهم بسخاء نادر الى الفقراء والسائلين ، وفيهم يقول الشاعر :

لو كان يوجد عرف مجد قبلهم

لوجدته منهم على اميال

إن جئتهم أبصرت بين بيوتهم

كرما يقيك مواقف التسآل

نور النبوة والمكارم فيهم

متوقد في الشيب والاطفال (١٨)

ويقول فيهم الكميت :

والغيوث الليوث إن أمحل

الناس فمأوى حواضن الايتام

ويقول الكميت :

إذا انشأت منهم بارض سحابة

فلا النبت محظور ولا البرق خلب

وما ابدع ما قيل مما ينطبق عليهم :

كرموا وجاد قبيلهم من قبلهم

وبنوهم من بعدهم كرماء

فالناس ارض في السماحة والندى

وهم إذا عد الكرام سماء

لقد فطر الامام على حب الخير وصلة الناس وادخال السرور عليهم يقول ابن الصباغ : « كان محمد بن علي بن الحسين مع ما هو عليه من العلم والفضل والرئاسة والامامة ظاهر الجود في الخاصة والعامة ، مشهور بالكرم في الكافة معروف بالفضل والاحسان مع كثرة عياله وتوسط حاله » (١٩).

ويقول المؤرخون : انه كان اقل أهل بيته مالا وأعظمهم مئونة (٢٠)

__________________

(١٨) زهر الآداب ١ / ٩٤.

(١٩) الفصول المهمة ( ص ٢٢٧ ).

(٢٠) اعيان الشيعة ٤ / ق ١ / ١٧٦.

١٢٥

ومع ذلك فكان يجود بما عنده لانعاش الفقراء والمحرومين ، وقد نقل الرواة بوادر كثيرة من كرمه ومن بينها :

١ ـ حدث كل من عبد الله بن عبيد وعمرو بن دينار قالا : ما لقينا أبا جعفر محمد بن علي إلا وحمل إلينا النفقة والكسوة ، ويقول : هذه معدة لكم قبل أن تلقوني (٢١).

٢ ـ روى سليمان بن قرم قال : كان أبو جعفر يجيزنا الخمسمائة درهم الى الستمائة درهم الى الألف ، وكان لا يمل من صلة الأخوان وقاصديه وراجيه (٢٢).

٣ ـ قال الحسن بن كثير : شكوت الى أبي جعفر محمد بن علي الحاجة وجفاء الاخوان فتأثر (ع) وقال : بئس الأخ يرعاك غنيا ، ويقطعك فقيرا ، ثم أمر غلامه فاخرج كيسا فيه سبعمائة درهم ، وقال : استنفق هذه فاذا نفذت فاعلمني .. (٢٣)

٤ ـ وكان (ع) يحبو قوما يغشون مجلسه من المائة الى الالف ، وكان يحب مجالستهم منهم عمرو بن دينار ، وعبد الله بن عبيد ، وكان يحمل إليهم الصلة والكسوة ، ويقول : هيأناها لكم من أول السنة (٢٤).

٥ ـ روت مولاته سلمى قالت : كان يدخل عليه إخوانه فلا يخرجون من عنده حتى يطعمهم الطعام الطيب ، ويلبسهم الثياب الحسنة ، ويهب لهم الدراهم وقد عذلته سلمى عن ذلك فقال لها : يا سلمى ما يؤمل في

__________________

(٢١) الارشاد ( ص ٢٩٩ ).

(٢٢) الارشاد ( ص ٢٩٩ ).

(٢٣) صفة الصفوة ٢ / ٦٣.

(٢٤) عيون الاخبار وفنون الآثار ( ص ٢١٧ ).

١٢٦

الدنيا بعد المعارف والاخوان .. (٢٥) وكان يقول : « ما حسنت الدنيا إلا صلة الاخوان والمعارف (٢٦) هذه بعض البوادر التي أثرت عن كرمه وسخائه ، وهي تكشف عن أن الاحسان والبر كانا من عناصره ومن مقوماته.

عبادته :

كان الامام ابو جعفر (ع) من أئمة المتقين في الاسلام ، فقد عرف الله معرفة استوعبت دخائل نفسه ، فاقبل على ربه بقلب منيب ، واخلص في طاعته كاعظم ما يكون الاخلاص ، اما مظاهر عبادته.

أ ـ خشوعه فى صلاته :

وروى المؤرخون أنه اذا اقبل على الصلاة اصفر لونه (٢٧) خوفا من الله وخشية منه ، فقد عرف عظمة الله تعالى ، خالق الكون وواهب الحياة فعبده عبادة المتقين والمنيبين.

ب ـ كثرة صلاته :

وكان كثير الصلاة فكان ـ فيما يقول الرواة ـ يصلي في اليوم والليلة مائة وخمسين ركعة (٢٨) ولم تشغله شئونه العلمية ، ومرجعيته العامة للأمة عن كثرة الصلاة ، فقد كانت اعز شيء عنده لانها الصلة بينه

__________________

(٢٥) اعيان الشيعة ق ١ / ٤ / ٥٠٦ ، صفة الصفوة ٢ / ٦٣.

(٢٦) صفة الصفوة ٢ / ٦٣ ، اعيان الشيعة ق ١ / ٤ / ٥٠٦.

(٢٧) تاريخ ابن عساكر ٥١ / ٤٤.

(٢٨) تذكرة الحفاظ ١ / ١٢٥ ، تأريخ ابن عساكر ٥١ / ٤٤ ، حلية الاولياء ٣ / ١٨٢.

١٢٧

وبين الله.

ج ـ دعاؤه فى سجوده :

جاء في الحديث أقرب ما يكون العبد الى ربه وهو ساجد ، فكان الامام (ع) في سجوده يتجه بقلبه وعواطفه نحو الله ويناجيه بانقطاع واخلاص ، وقد أثرت عنه بعض الادعية وهذه بعضها.

١ ـ ما رواه اسحاق بن عمار عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال :

كنت أمهد لأبي فراشه فانتظره حتى يأتي ، فاذا آوى الى فراشه ونام قمت الى فراشي ، وقد ابطأ علي ذات ليلة فأتيت المسجد في طلبه وذلك بعد ما هدأ الناس ، فاذا هو في المسجد ساجد ، وليس في المسجد غيره فسمعت حنينه وهو يقول :

« سبحانك اللهم ، أنت ربي حقا حقا ، سجدت لك يا ربي تعبدا ورقا ، اللهم إن عملي ضعيف فضاعفه لي .. اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك ، وتب عليّ انك أنت التواب الرحيم .. » (٢٩)

٢ ـ ما رواه أبو عبيدة الحذاء قال : سمعت أبا جعفر يقول : وهو ساجد.

« أسألك بحق حبيبك محمد (ص) إلا بدلت سيئاتي حسنات ، وحاسبني حسابا يسيرا. »

ثم قال : في السجدة الثانية.

« اسألك بحق حبيبك محمد (ص) إلا ما كفيتني مؤونة الدنيا ، وكل

__________________

(٢٩) فروع الكافي ٣ / ٣٢٣.

١٢٨

هول دون الجنة ».

ثم قال في الثالثة :

« اسألك بحق حبيبك محمد لما غفرت الكثير من ذنوبي والقليل ، وقبلت مني العمل اليسير ».

ثم قال في الرابعة :

« اسألك بحق حبيبك محمد (ص) لما ادخلتني الجنة ، وجعلتني من سكانها ، ولما نجيتني من سفعات النار » (٣٠) برحمتك ، وصلى الله على محمد وآله .. » (٣١)

وكشفت هذه الادعية عن شدة تعلقه بالله ، وعظيم انابته إليه ، وتمسكه بطاعته.

د ـ دعاؤه فى قنوته :

وأثرت عنه بعض الأدعية التي كان يدعو بها فى قنوته وهي :

١ ـ « اللهم ان عدوي قد استسن في غلوانه ، واستمر في عدوانه ، وأمن بما شمله من الحلم عاقبة جرأته عليك ، وتمرد في مباينتك ، ولك اللهم لحظات سخط بياتا وهم نائمون ، ونهارا وهم غافلون ، وجهرة وهم يلعبون ، وبغتة وهم ساهون ، وان الخناق قد اشتد ، والوثاق قد احتد ، والقلوب قد محيت ، والعقول قد تنكرت ، والصبر قد أودى ، وكادت تنقطع حبائله ، فانك لبالمرصاد من الظالم ، ومشاهدة من الكاظم ، لا يعجلك فوت درك ، ولا يعجزك احتجاز محتجز ، وانما مهل استثباتا ، وحجتك على الاحوال البالغة الدامغة ، وبعبيدك ضعف البشرية وعجز الانسانية ، ولك سلطان الإلهية وملكة البرية ، وبطشة الاناة ، وعقوبة التأبيد.

__________________

(٣٠) سفعات النار : هي لفحات السعير التي تغير بشرة الانسان لشدة حرارتها.

(٣١) فروع الكافي ٣ / ٣٢٢.

١٢٩

اللهم ان كان في المصابرة لحرارة المعان من الظالمين ، وكمد من يشاهد من المبدلين لك ، ومثوبة منك فهب لي مزيدا من التأييد ، وعونا من التسديد الى حين نفوذ مشيئتك فيمن اسعدته واشقيته من بريتك ، وامنن علي بالتسليم لمحتومات أقضيتك ، والتجرع لصادرات اقدارك ، وهب لي محبة لما احببت في متقدم ومتأخر ، ومتعجل ومتأجل ، والايثار لما اخترت في مستقرب ومستبعد ، ولا تخلنا مع ذلك من عواطف رحمتك ... وحسن كلائتك .. » (٣٢)

لا اكاد أعرف وثيقة سياسية حفلت بتحديد الاوضاع الراهنة في البلاد في ذلك العصر ، كهذا الدعاء الذي تحدث فيه الامام عن الازمات السياسية التي عاناها المسلمون أيام الحكم الاموي المعاصر له خصوصا عهد الطاغية عبد الملك بن مروان الذي جهد على اذلال المسلمين ، وارغامهم على ما يكرهون ، وقد سلط عليهم الطاغية الحجاج بن يوسف الثقفي الذي عاث في دينهم ودنياهم ، وسعى في الارض فسادا ، فلم يترك لونا من الوان الظلم إلا صبه على المسلمين حتى طاشت الاحلام ، وبلغت القلوب الحناجر ، وأودى الصبر ، وانقطعت حبائله ، والامام يطلب من الله ان ينقذ المسلمين من محنتهم ، وينزل عقابه الصارم بالمردة الظالمين.

٢ ـ كان (ع) يدعو بهذا الدعاء في قنوته « بمنك وكرمك يا من يعلم هواجس السرائر ومكامن الضمائر ، وحقائق الخواطر ، يا من هو لكل غيب حاضر ، ولكل منس ذاكر ، وعلى كل شيء قادر ، والى الكل ناظر ، بعد المهل وقرب الاجل ، وضعف العمل ، وأراب الامل.

وأنت يا الله الآخر كما أنت الاول مبيد ما أنشأت ، ومصيرهم الى

__________________

(٣٢) مهج الدعوات ( ص ٥١ ).

١٣٠

البلى ، وتقلدهم أعمالهم ، ومحملها ظهورهم الى وقت نشورهم من بعثة قبورهم عند نفخة الصور ، وانشقاق السماء بالنور ، والخروج بالمنشر الى ساحة المحشر ، لا ترتد إليهم أبصارهم وافئدتهم هواء ، متراطمين في غمة مما أسلفوا ، ومطالبين بما احتقبوا ، ومحاسبين هناك على ما ارتكبوا ، الصحائف في الاعناق منشورة ، والاوزار على الظهور مأزورة ، لا انفكاك ولا مناص ولا محيص عن القصاص قد اقحمتهم الحجة وحلوا في حيرة المحجة وهمس الضجة ، معدول بهم عن المحجة ، الا من سبقت له من الله الحسنى فنجا من هول المشهد وعظيم المورد ، ولم يكن ممن في الدنيا تمرد ، ولا على أولياء الله تعند ، ولهم استعبد ، وعنهم بحقوقهم تفرد.

اللهم : فان القلوب قد بلغت الحناجر ، والنفوس قد علت التراقي والاعمار قد نفذت بالانتظار لا عن نقص استبصار ، ولا عن اتهام مقدار ، ولكن لما تعاني من ركوب معاصيك ، والخلاف عليك في أوامرك ونهيك ، والتلعب باوليائك ، ومظاهرة اعدائك.

اللهم : فقرب ما قد قرب ، وأورد ما قد دنى ، وحقق ظنون الموقنين وبلغ المؤمنين تأميلهم من اقامة حقك ونصر دينك واظهار حجتك .. » (٣٣)

وحفل هذا الدعاء الشريف باعطاء صورة عن سعة علم الله ، واحاطته بكل شيء الظاهر والخفي ، كما حفل بذكر المعاد ، وحشر الناس جميعا يوم القيامة لعرضهم للحساب أمام الله ، وهم يحملون على ظهورهم وزر ما عملوه في دار الدنيا ، وانهم مطالبون بما اقترفوه ، ومحاسبون على ما عملوه ، ولا ينجو من أهوال ذلك المشهد الرهيب إلا من سبقت له من الله الحسنى ، ولم يكن من المتمردين في دار الدنيا ، ولا من المستعبدين لعباد الله ،

__________________

(٣٣) مهج الدعوات ( ص ٥٢ ).

١٣١

وفيه تعريض بحكام الامويين الذين اتخذوا مال الله دولا ، وعباد الله خولا ، وان القلوب قد بلغت الحناجر ، من ظلمهم وجورهم حسبما يقول (ع).

حجه :

وكان الامام أبو جعفر (ع) اذا حج البيت الحرام انقطع الى الله واناب إليه وتظهر عليه آثار الخشوع والطاعة ، وقد روى مولاه أفلح قال : حججت مع أبي جعفر محمد الباقر فلما دخل الى المسجد رفع صوته بالبكاء فقلت له :

« بأبي أنت وأمي إن الناس ينتظرونك فلو خفضت صوتك قليلا. »

فلم يعن به الامام وراح يقول له :

« ويحك يا أفلح اني ارفع صوتي بالبكاء لعل الله ينظر إلي برحمة فافوز بها غدا .. »

ثم انه طاف بالبيت ، وجاء حتى ركع خلف المقام ، فلما فرغ واذا بموضع سجوده قد ابتل من دموع عينيه (٣٤) وحج (ع) مرة وقد احتف به الحجاج ، وازدحموا عليه وهم يستفتونه عن مناسكهم ويسألونه عن أمور دينهم ، والامام يجيبهم ، وبهر الناس من سعة علومه ، وأخذ بعضهم يسأل بعضا عنه فأنبرى إليهم شخص من اصحابه فعرفه لهم قائلا :

« إلا ان هذا باقر علم الرسل ، وهذا مبين السبل ، وهذا خير من رسخ في أصلاب أصحاب السفينة ، هذا ابن فاطمة الغراء العذراء الزهراء ، هذا بقية الله في أرضه ، هذا ناموس الدهر ، هذا ابن محمد وخديجة

__________________

(٣٤) صفة الصفوة ٢ / ٦٣ ، تأريخ ابن عساكر ٥١ / ٤٤ ، مرآة الزمان ٥ / ٧٩ نور الابصار ( ص ١٣٠ ).

١٣٢

وعلي وفاطمة ، هذا منار الدين القائمة .. » (٣٥).

ولم تذكر المصادر التي بأيدينا عدد حجه الى بيت الله الحرام ، فقد أهملت ذلك.

مناجاته مع الله :

كان الامام (ع) يناجي الله تعالى في غلس الليل البهيم ، وكان مما قاله في مناجاته :

« أمرتني فلم آتمر ، وزجرتني فلم انزجر ، ها أنا ذا عبدك بين يديك. » (٣٦)

ذكره لله :

ويقول المؤرخون : إنه كان دائم الذكر لله ، وكان لسانه يلهج بذكر الله في أكثر أوقاته ، فكان يمشي ويذكر الله ، ويحدث القوم ، وما يشغله ذلك عن ذكره تعالى ، وكان يجمع ولده ويأمرهم بذكر الله حتى تطلع الشمس كما كان يأمرهم بقراءة القرآن ، ومن لا يقرأ منهم أمره بذكر الله (٣٧).

زهده في الدنيا :

وزهد الامام أبو جعفر (ع) في جميع مباهج الحياة وأعرض عن زينتها فلم يتخذ الرياش في داره ، وإنما كان يفرش في مجلسه حصيرا (٣٨)

__________________

(٣٥) مناقب ابن شهرآشوب ٤ / ١٨٣.

(٣٦) حلية الاولياء ٣ / ١٨٢ ، صفة الصفوة ٢ / ٦٣ ، نور الابصار ( ص ١٣٠ ).

(٣٧) اعيان الشيعة ٤ / ق ١ / ٤٧١.

(٣٨) دعائم الاسلام ٢ / ١٥٨.

١٣٣

لقد نظر الى الحياة بعمق وتبصر فى جميع شئونها فزهد في ملاذها ، واتجه نحو الله تعالى بقلب منيب ، يقول جابر بن يزيد الجعفي : قال لي محمد ابن علي :

« يا جابر إني لمحزون ، واني لمشتغل القلب .. »

فأنبرى إليه جابر قائلا :

« ما حزنك ، وما شغل قلبك؟ » فاجابه (ع) بما احزنه وزهده في هذه الحياة قائلا :

« يا جابر إنه من دخل قلبه صافي دين الله عز وجل شغله عما سواه ، يا جابر ما الدنيا؟ وما عسى أن تكون ، هل هي إلا مركب ركبته أو ثوب لبسته أو امرأة أصبتها .. » (٣٩)

وأثرت عنه كلمات كثيرة في الحث على الزهد ، والاقبال على الله ، والتحذير من غرور الدنيا ، وآثامها يعرض لها هذا الكتاب ، وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض مظاهر شخصيته المشرقة.

__________________

(٣٩) البداية والنهاية ٩ / ٣١٠.

١٣٤

مواهبه وعبقريّاته

١٣٥
١٣٦

وتفجرت مواهب الامام أبي جعفر (ع) وعبقرياته بطاقات هائلة من العلم شملت جميع أنواع العلوم والمعارف من الحديث والفلسفة وعلم الكلام والفقه والحكم العالية والآداب السامية مضافا الى الملاحم وهي الاحداث التي اخبر عنها قبل وقوعها ، ثم تحققت بعد ذلك على مسرح الحياة ... والذي يدلل على مدى سعة علومه أنه مع كثرة ما انتهل العلماء من نمير علومه فانه كان يجد في نفسه ضيقا وحرجا لكثرة ما عنده من العلوم التي لم يجد لبثها ونشرها سبيلا فكان ـ فيما يقول الرواة ـ يصعد آهاته ، ويقول بحسرات :

« لو وجدت لعلمي الذي آتاني الله عز وجل. لنشرت التوحيد والاسلام والدين والشرائع ... وكيف لي بذلك ، ولم يجد جدي أمير المؤمنين (ع) حملة لعلمه حتى كان يتنفس الصعداء ، ويقول على المنبر : سلوني قبل أن تفقدوني فان بين الجوانح علما جما ... » (١)

واجمع المؤرخون والرواة على أنه كان من أثرى رجال الفكر والعلم في عصره في مواهبه وقدراته العلمية ، وانه ممن رفع منار العلم ، وأبرز حقائقه واظهر كنوزه حسبما أدلى به المترجمون له ، كما ألمعنا الى ذلك في البحوث السابقة ... وقبل البحث عن العلوم التي خاضها نتعرض الى بعض النقاط التي ترتبط بالموضوع :

الحياة العلمية فى عصره :

ومنيت الحركة العلمية ـ في عصر الامام ـ بكثير من الجمود والخمول فلم يعد لها أي ظل على واقع الحياة ، فقد جرفت الناس التيارات السياسية ، وتهالكت البيوتات الرفيعة على الظفر بالحكم ، فزجت بطاقاتها البشرية

__________________

(١) سفينة البحار ٢ /

١٣٧

والمالية في حروب طاحنة مريعة ومذهلة منيت الأمة فيها بأفدح الخسائر وافظع النكبات.

لقد اتجهت الأمة اتجاها عسكريا مدمرا فيما بينها ، ولم يكن فيها أي بصيص لنور العلم والفكر ، فقد خبأ ذلك النور الذي فجره الاسلام في العالم ، وأراد للبشرية أن تسير على ضوئه لتحقق أهدافها من الأمن والرخاء والتطور ...

الدور المشرق للامام :

أطل الامام أبو جعفر (ع) على عالم ملئ بالفتن والاضطراب والاحداث ، ورأى الأمة الاسلامية قد فقدت جميع مقوماتها ، ولم تعد كما يريدها الله في وحدتها وتكاملها ، وتطورها في ميادين العلم والانتاج .. ووجه الامام بحكم قيادته الروحية جهده لإعادة مجد الأمة ، وبناء كيانها الحضاري ، فرفع منار العلم ، واقام صروح الفكر ، وقد انصرف عن كل تحرك سياسي ، واتجه صوب العلم وحده متفرغا له يقول المستشرق « روايت م. رونلدس » « وعاش مكرما متفرغا للعلم في عزلته بالمدينة ، وكان الناس يأتونه فيسألونه عن الامامة » (٢).

وقد خف إليه زمرة من اعيان الأمة لتلقي العلوم منه ، وكان ممن وفد عليه العالم الكبير جابر بن يزيد الجعفي فقد قال له الامام في أول التقائه به :

ـ من أين أنت؟

ـ من اهل الكوفة.

ـ ممن؟

__________________

(٢) عقيدة الشيعة ( ص ١٢٣ ).

١٣٨

ـ من جعف.

ـ ما أقدمك هنا؟

ـ طلب العلم.

ـ ممن؟

ـ منك (٣).

وقد أخذت الوفود العلمية تترى إليه لتأخذ عنه العلوم والمعارف ، يقول الشيخ ابو زهرة : « وما قصد أحد من العلماء مدينة النبي (ص) إلا عرج عليه ليأخذ عنه معالم الدين » (٤) وقد أخذ عنه أهل الفقه ظاهر الحلال والحرام (٥).

وعلى أي حال فقد استمد العالم الاسلامي من الامام جميع مقومات نهوضه وارتقائه ، ولم يقتصر المد الثقافي الذي يستند إليه على عصره وإنما امتد الى سائر العصور التي تلت بعده ، فقد تبلورت الحياة العلمية ، وتطورت العلوم تطورا هائلا مما ازدهرت به الحياة العلمية في الاسلام.

إن الحياة الثقافية في الاسلام مدينة لهذا الامام العظيم فهو الباعث والقائد لها على امتداد التأريخ.

العلوم التي بحثها :

وخاض الامام عدة علوم في بحوثه التي القاها على العلماء في الجامع النبوي أو في بهو بيته ، وكان من بينها.

__________________

(٣) المناقب ٣ / ٣٣١.

(٤) الامام زيد ( ص ٢٢ ).

(٥) عيون الاخبار وفنون الآثار (٢١٣).

١٣٩

الحديث :

وأولى الامام أبو جعفر (ع) المزيد من اهتمامه في الحديث الوارد عن جده رسول الله (ص) وعن آبائه الأئمة الطيبين (ع) فهو المصدر الثاني للتشريع الاسلامي بعد القرآن الكريم وله الاهمية البالغة في الشريعة الاسلامية فهو يتولى تخصيص عمومات الكتاب ، وتقييد مطلقاته ، وبيان ناسخه من منسوخه ، ومجمله من مبينه ، كما يعرض لاحكام الفقه من العبادات والمعاملات ، واعطاء القواعد الكلية التي يتمسك بها الفقهاء في استنباطهم للحكم الشرعي ، وبالاضافة الى ذلك كله فان فيه بنودا مشرقة لآداب السلوك ، وقواعد الاجتماع ، وتنظيم الأسرة ، وصيانتها من التلوث بجرائم الآثام ، الى غير ذلك مما يحتاج إليه الناس في حياتهم الفردية والاجتماعية. فلذلك عنى به الامام أبو جعفر (ع) ، وتبناه بصورة إيجابية ، وقد روى عنه جابر بن يزيد الجعفي سبعين الف حديث ، وأبان بن تغلب مجموعة كبيرة ، كما روى عنه غيرهما من أعلام أصحابه طائفة كبيرة من الاخبار.

والشيء المهم ان الامام أبا جعفر (ع) قد اهتم بفهم الحديث ، والوقوف على معطياته ، وقد جعل المقياس في فضل الراوي هو فهمه للحديث ومعرفة مضامينه ، فقد روى يزيد الرزاز عن أبيه عن أبي عبد الله عن أبيه انه قال له :

« اعرف منازل الشيعة على قد رواياتهم ، ومعرفتهم ، فان المعرفة هي الدراية للرواية ، وبالدراية للرواية يعلو المؤمن الى أقصى درجات الايمان .. إني نظرت في كتاب لعلي فوجدت في الكتاب أن قيمة كل امرئ وقدره معرفته ان الله تعالى يحاسب الناس على قدر ما آتاهم من

١٤٠