بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٩

وتصويب آخر.

وما ذكره حدس لا أساس له ، ولقد استنتجه ممّا نقلناه عنه سابقاً من أنّ فكرة الإرجاء ترجع إلى الغزاة القادمين إلى المدينة بعد قتل الخليفتين .. وعرفت أنّه لا ينطبق مع ما تضافر في التاريخ.

والظاهر أنّ فكرة الإرجاء نشأت في أحضان الدعايات الأمويّة ، والفضائل المفتعلة لجملة من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فغشيت وجه الحقيقة ، وعاقت البسطاء عن الخوض في الأبحاث الخطيرة ، واقتحام المعارك المدلهمّة ، ممّا نقم به على هؤلاء من الطامّات والأحداث وما قيل في براءتهم ، فتخيّل لهم أنّ الأصلح والرأي الأوسط هو عدم الجنوح إلى جانب دون آخر. وهؤلاء وإن كانوا غير معذورين في هذا الأمر ، لكنّهم ـ في زعمهم ـ أخذوا جانب الإحتياط في مقابل الناقمين.

٧ ـ إنّ أصل الإرجاء هو التوقّف وترك الكلام في حقّ بعض الصحابة. لكنّ هذا الأصل قد نسي في الآونة اللاحقة ، وأخذ أصل آخر مكانه ، بحيث لم يبق من الأصل الأوّل أثر بين المرجئة اللاحقة وفرقهم المختلفة ، وهو البحث عن تحديد الإيمان والكفر ، والمؤمن والكافر.

فصار تحديد الإيمان بالاقرار دون العمل ، أو المعرفة القلبيّة دون القيام بالأركان ، ركناً ركيناً لهذه الطائفة بحيث كلّما أطلقت المرجئة ، لا يتبادر من هذه الكلمة إلاّ من تبنّى هذا المعنى.

وقد أنهاهم أبو الحسن الأشعري في « مقالات الإسلاميين » في فصل خاصّ إلى اثنتي عشرة طائفة اختلفوا في حقيقة الإيمان بعد اتّفاقهم على إبعاد العمل عن ساحته وحقيقته.

وهذا يوضح صحّة ما قلناه من أنّ الإرجاء ـ يوم تكوُّنه ـ لم يظهر بصورة حزب سياسيّ. بل ظهر بصورة منهج فكري دينيّ التجأ إليه أصحابه ، خضوعاً للدعايات

٨١

الفارغة ، وتسليماً لها ، وبما أنّ الإرجاء على كلا الأصلين كان لصالح السلطة من الأمويين ، كانت السلطة يومذاك تؤيّدهم لأنّ في تبنّي كل من الأصلين ، صلاحهم ودعم عروشهم.

فالأصل الأوّل يدعو إلى أنّ الإنسان قاصر عن تشخيص المصيب والمخطئ، بل يترك أمر المخطئين إلى الله ، وهذا التسليم هو نفس ما يطلبه أصحاب السلطة ، حتّى يجتنب الناس عن القضاء في يزيد الخمور ، وعبد الملك السفّاك ، وعامله الحجّاج بن يوسف الثقفي ، ممّن عاشوا قبل الفكرة أو بعدها ، وسوّدوا صحيفة تاريخهم.

والأصل الثاني يعرب عن أنّ الشهادة اللّفظية بالتوحيد أو المعرفة القلبيّة يكفي في دخول الإنسان في عداد المؤمنين ، فيحرم قتاله ونضاله بل يكون نفسه وماله مصونين من الإعتداء ، وهذا أيضا كان اُمنية الأمويين ، إذ على ضوء ذلك ، يكون يزيد الخمور والحجّاج الظلوم من المؤمنين ، ويكون دمهما ومالهما مصونين من الإعتداء.

عقيدة المرجئة :

لا تجد للمرجئة رأياً خاصّاً في أبواب المعارف والعقائد سوى باب الايمان والكفر ، فكلامهم يدور حول هذين الموضوعين وأُسّ نظريّتهم أنّ الايمان هوالتصديق بالقلب ، أو التصديق بالقلب والإقرار باللسان ، أو ما يقرب من ذلك ، فأخرجوا العمل من حقيقة الايمان ، واكتفوا بالتصديق القلبي ونحوه ويترتّب على ذلك الأصل اُمور :

١ ـ إنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأنّ أمر التصديق دائر بين الوجود والعدم ، ومثله تفسير الإيمان بالإقرار باللسان ، فهو أيضاً كذلك وليس العمل داخلاً في حقيقته حتّى يقال : إنّ العمل يكثر ويقلّ وسيوافيك نظرنا فيه.

٢ ـ إنّ مرتكب الكبيرة مؤمن حقيقة ، لكفاية التصديق القلبي أو الإقرار باللسان في الإتصاف بالايمان ، وهؤلاء في هذه العقيدة يخالفون الخوارج والمعتزلة. أمّا الاُولى :

٨٢

فلأنّهم يعدّون العمل عنصراً مؤثراً في الايمان بحيث يكون تارك العمل كافراً ، وقد اشتهر عنهم بأنّ مرتكب الكبائر كافر ، وليس المؤمن إلاّ من تحرّز من الكبائر.

وأماّ الثانية : فلأنهّم يعتقدون أنّ مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين ، لا مؤمن ولا كافر. والمعتزلة أخفّ وطأة من الخوارج ، وإن كانت الطائفتان مشتركتين في إدخال العمل في حقيقة الايمان.

٣ ـ إنّ مرتكب الكبيرة لا يخلّد في النار وإن لم يتب ، ولا يحكم عليه بالوعيد والعذاب قطعاً لاحتمال شمول عفوه سبحانه له ، خلافاً للمعتزلة الّذين يرون أنّ صاحب الكبيرة يستحقّ العقوبة إذا لم يتب وإنّ من مات بلا توبة يدخل النّار ، وقد كتبه الله على نفسه فلا يعفو (١).

هذه عقيدة المرجئة عرضناها على وجه الإجمال. وقد تأثّر أهل السنّة ببعض هذه الفروع كالقول بعدم تخليد عصاة المؤمنين في النار ، وجواز تخلّف الوعيد دون الوعد.

وهيهنا سؤال وهو أنّه إذا كانت حقيقة الإرجاء هو الاكتفاء في الحكم بالايمان بالتصديق القلبي ، أو الإقرار باللسان ، فما هو الوجه في لعنهم والتبرّي منهم ، اذ ليست هذه النظرية بمجرّدها سبباً للّعن والتحاشي والتبرّي بهذه الدرجة.

والإجابة عنه : هي إنّ التبرّي منهم ليس لأجل هذه النّظرية ، بل لأجل أنهّم جرّدوا الأعمال من الايمان ولم يعتقدوها من الفرائض (٢) ولم يتقيّدوا بها في مجال الفعل والترك ، ولأجل ذلك أصبح الايمان عندهم يتلخّص في التصديق القلبي ، والإقرار اللّفظي.

ولا يخفى أنّ هذه العقيدة خاطئة جدّاً ، إذ لو صحّت فعندئذ لا يتجاوز الايمان عن التصديق القلبي أو الإقرار باللسان ، فما أسهل الإسلام وأيسره لكلّ من انتسب إليه ولو انتساباً شكليّاً.

__________________

١ ـ ذكر الشيخ الأشعري فروعاً آخر لهم في هذا المجال. لاحظ مقالات الإسلاميين ص ١٢٦ ـ ١٤٧.

٢ ـ كنز الفوائد ص ١٢٥ ط بيروت.

٨٣

قال الصاحب بن عبّاد : ادّعت المرجئة أنّ قاتل النفس بغير الحق ، وسارق المال ، ومخيف السبل ومرتكب الزنا ، وشارب الخمر ، لايقطع أنّهم من أهل النار ، وإن ماتوا مصرّين. وقالت العدليّة : بل هم من أهل النار مخلّدون لا يجدون عنها حولاً ، لأنّ الله أخبر ( وإِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيم ) ( الانفطار / ١٤ ) ولم يخصّ فاجراً عن فاجر ، فقال عزّ وجلّ : ( إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيم * وَإِنَّ الفُجّارَ لَفِي جَحِيمٌ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدّين * ومَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ) ( الانفطار / ١٣ ـ ١٦ ) وقال تعالى : ( ومَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا وغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) ( النساء / ٩٣ )

فإن قالوا فقد قال الله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذِلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) ( النساء / ٤٨ ) فالجواب أنّه تعالى قال في هذه الآية : « لمن يشاء » والمشيئة مغيّبة عنّا ، إلى أن نعرفها بالأدلّة ، وقد بيّن « من يشاء » بقوله : ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) ( النساء / ٣١ ) فهو يكفّر الصغائر بتجنّب الكبائر ، والكبائر بالتوبة ، قال سبحانه : ( وأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلُ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) ( الزمر / ٥٤ ) (١).

وهنا وجه آخر للعنهم وهو يرجع إلى قولهم بالإرجاء بالمعنى الأوّل أعني التوقّف في أمر الامام عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام وعدم الحكم بشيء فيه من الإيمان وضدّه. وأيّ مصيبة أعظم من التوقّف في ايمان أخي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصنوه ووزيره ، وهو الصدّيق الأكبر ، وأوّل المؤمنين. قال ـ صلوات الله عليه ـ : « ولقد كنت أتّبعه ( الرسول ) اتّباع الفصيل أثر اُمّه ، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً ، ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يجاور في كلّ سنة ( حراء ) ب ـ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخديجة وأنا ثالثهما. أرى نور الوحي والرسالة وأشمّ ريح النبوّة » (٢).

__________________

١ ـ الابانة عن مذهب أهل العدل بحجج القرآن والعقل للصاحب ( ٣٨٥ هـ ) ص ٢٣ المطبوع ضمن نفائس المخطوطات.

٢ ـ نهج البلاغة : الخطبة القاصعة ج ٣ ص ١٦١ ـ ١٨٢ بالرقم ١٨٧.

٨٤

أفي مثله يتوقّف الإنسان المنصف في الحكم بإيمانه؟

فإن كنت لاتدري فتلك مصيبة

وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تبيين حقيقة الإيمان وتحديده لغةً وكتاباً وسنّةً.

آراء ونظريات حول الإيمان :

اختلف العلماء في ماهيّة الإيمان ولهم أقوال أربعة نعرضها مع التحليل :

١ ـ الايمان هو معرفة الله بالقلب فقط ، وإن أظهر اليهوديّة ، والنصرانية ، وسائر أنواع الكفر بلسانه ، فإذا عرف الله بقلبه فهو مؤمن. نسب إلى الجهم بن صفوان وغيره.

٢ ـ إنّ الايمان هو إقرار باللّسان بالله تعالى وشريعته ، وإن اعتقد الكفر بقلبه ، فإذا فعل ذلك فهو مؤمن ، وهو قول محمد بن كرّام السجستاني.

٣ ـ الإيمان معرفة بالقلب ، وإقرار باللسان ، وأنّ الأعمال ليست إيماناً ، ولكنّها شرائع الايمان ، وهو قول جماعة من الفقهاء وهو الأقوى كما سيوافيك.

٤ ـ الايمان هو المعرفة بالقلب ، والإقرار باللسان ، والعمل بالجوارح ، وأنّ كلّ طاعة واجبة ، بل الأعمّ منها ومن النافلة فهي إيمان وكلّما ازداد الإنسان عملاً إزداد ايماناً ، وكلّما نقص نقص إيمانه (١).

وإليك تحليل الآراء والأقوال :

ما هوالايمان لغةً وكتاباً :

إنّ الإيمان لغة هو التصديق ، وهو على وزن « إفعال » من الأمن بمعنى سكون النفس واطمئنانها لعدم وجود سبب الخوف ، فحقيقة قوله « آمن به » : أذعن به ، وسكنت نفسه ، واطمأنّت بقبوله فيؤول « الباء » في الحقيقة إلى السببية ، وهو تارة يتعدّى

__________________

١ ـ الفصل ج ٣ ص ١٨٨، ونسب إلى محمد بن زياد الحريري الكوفي قول خامس ساقط جداً ، ومن شاء فليرجع إليه.

٨٥

بالباء كما في قوله تعالى : ( آمنّا بما أنْزَلْت ) « آل عمران / ٥٣ ) واُخرى باللام كقوله سبحانه : ( وما أنتَ بِمُؤْمِن لَنا ) ( يوسف / ١٧ ) وقوله تعالى : ( فآمَنَ لَهُ لُوطٌ ) ( العنكبوت / ٢٦ ).

فإذا كان الإيمان بمعنى التّصديق لغة ، فهل يكفي التصديق لساناً فقط ، أو جناناً فقط ، أو لا يكفي هذا ولا ذاك ، بل يشترط الجمع ، والظّاهر من الكتاب العزيز هو الأخير. فالإيمان بمقتضى الآيات عبارة عن التّصديق بالقلب ، الظّاهر باللسان ، أو ما يقوم مقامه ، ولا يكفي واحد منهما وحده. أمّا عدم كفاية التصديق القلبي فلقوله تعالى : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُم ظُلْماً وعُلُوّاً ) ( النمل / ١٤ ) وقوله سبحانه : ( فَلَمّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ) ( البقرة / ٨٩ ) فأثبت لليهود المعرفة وفي الوقت نفسه الكفر. وهذا يعرب عن أنّ الاستيقان النفساني لا بدّ له من مظهر كالإقرار باللسان ، أو الكتابة ، أو الإشارة كما في الأخرس.

ويمكن أن يقال إنّه يكفي التّصديق القلبي ، ولكنّ الإنكار باللسان مانع ، فلو علم أنّه مذعن قلباً ، ولم ينكره لساناً ، لكفى في الحكم بالايمان ، كما كفى في تحقّقه واقعاً.

وأمّا عدم كفاية التّصديق اللّساني فلقوله تعالى : ( قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ولمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلوبِكُمْ ) ( الحجرات / ١٤ ) والأعراب صدّقوا بألسنتهم ، وأنكروه بقلوبهم أو شكّوا فيه. وهؤلاء جروا في توصيف أنفسهم بالايمان على مقتضى اللّغة ، وادّعوا أنّهم مصدّقون قلباً وجناناً ، فردّ الله عليهم بأنّهم مصدّقون لساناً ، لا جناناً ، وأسماهم مسلمين ، ونفى كونهم مؤمنين.

وعلى ضوء هذه الآيات يتبيّن فساد القولين الأولين وتظهر قوةّ القول الثالث وهو كون الايمان لغة : هو التّصديق القلبي ، لكنّ الكتاب العزيز دلّ على عدم كفاية التصديق القلبي وأنّه يشترط أن يكون معه إقرار أو ما يقوم مقامه من الكتابة والإشارة يدلّ على التسليم الباطني ، وقد عرفت ما احتملناه أخيراً.

وأمّا الأثر المترتّب على الإيمان بهذا المعنى في الدنيا فهو حرمة دمه وعرضه وماله

٨٦

إلاّ أن يرتكب قتلاً أو يأتي بفاحشة. وأمّا الأثر المترتّب عليه في الآخرة فهو صحّة أعماله واستحقاق الثواب عليها ـ لو قام بها ـ وعدم الخلود في النار ، واستحقاق العفو والشفاعة.

وأمّا السّعادة الاُخرويّة فهي رهن العمل كما يأتي بيانه. فمن صدّق لساناً وجناناً ، ولكن تجرّد عن العمل والامتثال ، فهو مؤمن فاسق ، وليس بكافر ( خلافاً للخوارج ) ولا هو في منزلة بين المنزلتين أي بين الايمان والكفر ( خلافاً للمعتزلة ) ولا يكفي في النّجاة ، بل ـ إن لم يتب ـ يدخل النار ويعذّب فيها.

وهذه هي النقطة الّتي يفترق فيها أهل الحقّ عن المرجئة ، فإنّهم يقولون إنّ التصديق لساناً أو جناناً أو معاً ، يكفي في النجاة من النار ودخول الجنّة ، ويثيرون في العصاة روح الطغيان على المُثل والأخلاق ، اعتماداً على أنّهم مؤمنين وإن فعلوا الكبائر وارتكبوا الموبقات. هذا هو الحقّ القراح ، وإليك تحليل أدلّة سائر الأقوال على ضوء الأقوال الّتي سردناها في صدر البحث.

هل الايمان هو التصديق القلبي؟

استدلّ القائل بأنّ الإيمان هو التّصديق القلبي مضافاً إلى ما مرّ من الآيات في صدر البحث (١) بأنّ القرآن نزل بلسان عربيّ مبين ، وخاطبنا الله بلغة العرب ، وهو في اللغة التصديق ، والعمل بالجوارح لايسمّى ايماناً.

يلاحظ عليه : أنّه يكفي في إثبات خروج العمل عن حقيقة الايمان ، وأمّا كون التصديق بالقلب كافياً في صدق الايمان فلا يثبته ، كيف وقد دلّت الآية على أنّ الجحد لساناً أو بغيره ، والاستيقان قلباً يوجب دخول الجاحد في عداد الكفّار. قال سبحانه : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا ظُلْماً وَعُلُوّاً ) ( النمل / ١٤ ).

__________________

١ ـ ( وما أنت بمؤمن لنا ) ( يوسف / ١٧ ) ( فآمن له لوط ) ( العنكبوت / ٢٦ ).

٨٧

غاية ما يمكن أن يقال ما عرفت من أنّ التصديق القلبي كاف في تحقّق الايمان ، والجحد لساناً مانع ، فلو تحقّق التصديق القلبي ولم يقترن بالجحد عناداً لكفى في كون الرجل مؤمناً ثبوتاً وواقعاً ، وأمّا الحكم بكونه مؤمناً إثباتاً فيحتاج إلى إظهاره باللسان ، أو بالعمل ، أو العلم بكونه معتقداً بطريق من الطّرق.

ثمّ إنّ ابن حزم الظاهري ( ت ٤٥٦ هـ ) أورد على هذا القول بوجهين :

الأوّل : أنّ الإيمان في اللغة ليس هو التصديق ، لأنّه لا يسمّي التصديق بالقلب دون التصديق باللسان ايماناً في لغة العرب ، وما قال قطّ عربيّ إنّ من صدّق شيئاً بقلبه فأعلن التكذيب بلسانه ، أنّه يسمّى مصدّقاً به ولا مؤمناً به. وكذلك ما سمّى قطّ التصديق باللسان دون التصديق بالقلب إيماناً في لغة العرب أصلاً.

الثاني : لو كان ما قالوه صحيحاً لوجب أن يطلق إسم الايمان لكلّ من صدّق بشيء ما ، ولكان من صدّق بإلهيّة الحلاّج والمسيح والأوثان مؤمنين ، لأنّهم مصدّقون بما صدّقوابه (١).

يلاحظ عليه : أنّ الوجه الأوّل صحيح لو رجع إلى ما ذكرنا من كون الإنكار باللسان مانعاً وإلاّ فلو صدّق قلباً ولم ينكره بلسانه فهو مؤمن لغةً وقرآناً. غير أنّ الحكم في مقام الإثبات يحتاج إلى الدليل من الإقرار باللسان ، أو الكتابة باليد ، أو الإشارة بالجوارح.

وأمّا الوجه الثّاني ، فهو من الوهن بمكان لا يحتاج إلى البيان وكم لهذا الرجل من كلمات واهية. أضف إليه ما في كتابه من بذاءة في الكلام وتحرّش بالسباب وتحكّك بالوقيعة.

هل الايمان هو الإقرار باللسان؟

إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ومن بعدهم ، اتّفقوا على أنّ من أعلن بلسانه بشهادة

__________________

١ ـ الفصل : ج ٣، ص ١٩٠

٨٨

الإسلام فإنّه عندهم مسلم محكوم له بحكم الإسلام.

أضف إليه قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السوداء « اعتقها فإنّها مؤمنة » (١)

يلاحظ عليه : أنّ الحكم لهم بالايمان كان بحسب الظّاهر لا الحكم بأنّه مؤمن عند الله واقعاً ، ولذلك لو علم عدم مطابقة اللّسان مع الجنان يحكم عليه بالنفاق. قال سبحانه : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وبِاليَوْمِ الآخِرِ ومَا هُمْ بِمُؤمِنِينَ ) ( البقرة / ٨ ). ولمّا كان الرسول وأصحابه مأمورين بالحكم بحسب الظاهر قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أُمرت أن اُقاتل الناس حتّى يشهدوا أن لا إله الاّ الله ويؤمنوا بما اُرسلت به ، فإذا عصموا منّي دماءُهم وأموالهم إلاّ بحقّها ، وحسابهم على الله » وبذلك يظهر وجه حكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السوداء « بأنّها مؤمنة ».

روى ابن حزم عن خالد بن الوليد أنّه قال : ربّ رجل يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي لم اُبعث لأشقّ عن قلوب الناس.

إلى هنا تبيّن فساد القولين الأوّلين ، وأنّ الحقّ هو القول الثالث ، وعرفت الأثر المترتّب عليه ، إنّما المهم هو نقد القول الرابع الّذي يجعل العمل جزءاً من الإيمان وإليك البحثفيه :

ليس العمل جزءاً من الايمان :

إذا كانت المرجئة في جانب التّفريط ، فالخوارج المكفّرة لمرتكبي الكبائر ، والمعتزلة القائلة بأنّ من فقد العمل ، فهو في منزلة بين المنزلتين ، لا مؤمن ولا كافر ، في جانب الإفراط. فإنّ الذكر الحكيم ـ مع الدعوة المؤكّدة إلى العمل ـ لايرى العمل جزءاً من الإيمان بل يعطفه عليه ، ويراه كمالاً له ، لا عنصراً دخيلاً فيه. ويكفي في ذلك الآيات التالية :

__________________

١ ـ نفس المصدر ، ص ٢٠٦.

٨٩

١ ـ ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحَاتِ ) ( البقرة / ٢٧٧ ) فالعطف يقتضي المغايرة ، فلو كان العمل داخلاً فيه لزم التكرار ، واحتمال كون المقام من قبيل ذكر الخاص بعد العام يحتاج الى وجود نكتة لذكره بعده ، إلاّ أن يقال : إنّ الصالحات جمع معرّف يشمل الفرض والنفل ، والقائل بكون العمل جزءاً من الإيمان يريد بها خصوص فعل الواجبات واجتناب المحرّمات ، فحينئذ يصحّ عطف الخاص على العام لحصول المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه.

نعم ، الآية تصلح دليلاً على ردّ مقالة من جعل مطلق العمل ـ فرضاً كان أو نفلاً ـ جزءاً من الإيمان.

٢ ـ ( ومَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وهُوَ مُؤْمِنٌ ) ( طه / ١١٢ ) والجملة حالية والمقصود : عمل صالحاً حال كونه مؤمناً ، وهذا يقتضي المغايرة.

٣ ـ ( وإِنْ طِائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إْحْدَاهُمَا عَلَى الاُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللّهِ ) ( الحجرات / ٩ ) فأطلق المؤمن على الطائفة العاصية وقال ما هذا معناه : « فان بغت احدى الطائفتين من المؤمنين على الطائفة الاُخرى منهم » إلاّ أن يقال : إنّ اطلاق المؤمن بلحاظ حال التلبّس أي بما أنّهم كانوا مؤمنين قبل القتال ، لا بلحاظ حال الجري والتكلّم.

٤ ـ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ ) ( التوبة / ١١٩ ). فأمر الموصوفين بالايمان ، بالتقوى ، أي الاتيان بالطاعات والاجتناب عن المحرّمات ، فدلّ على أنّ الايمان يجتمع مع عدم التقوى وإلاّ كان الأمربه لغواً وتحصيلاً للحاصل ، إلاّ أن يحمل الأمر على الإستدامة فيخرج عن كونه تحصيلاً للحاصل.

٥ ـ الآيات الدالّة على كون القلب محلاّ للايمان.

منها قوله تعالى : ( اُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ) ( المجادلة / ٢٢ ). ولو كان العمل جزءاً منه لما كان القلب محلا لجميعه. وقوله سبحانه : ( وَلمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي

٩٠

قُلُوبِكُمْ ) ( الحجرات / ١٤ ) وقوله تعالى : ( وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالإيمَانِ ) ( النحل / ١٠٦ ).

٦ ـ آيات الطّبع والختم ، فإنّها تشعر بأنّ محلّ الإيمان هو القلب ، ولأجل ذلك من طبع أو ختم على قلبه لا يؤمن أبداً.

قال تعالى : ( اُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِم ) ( النحل / ١٠٨ ) وقال سبحانه : ( وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّهِ ) ( الجاثية / ٢٣ ).

فإن قلت : دلّ الكتاب على أنّ الايمان عبارة عن التصديق الظّاهر بالإقرار باللّسان أو نحوه. فعندئذ كيف يكون محلّه هو القلب مع أنّ جزءاً منه الإظهار باللّسان ونحوه.

قلت : قد عرفت أنّ الايمان لغة هو التّصديق قلباً ، غاية الأمر دلّ الدّليل على عدم كفايته إذا أنكره وجحده باللّسان وإن أذعن به في القلب. بل يمكن أن يقال : إنّ الايمان هو التّصديق المورث للسكون والسكينة والتسليم. والجاحد بلسانه لا تحصل له تلك الحالة وإن حصل له العلم ، لكن ليس كلّ علم ملازماً للإيمان بل هو أخصّ منه. ولأجل ذلك قال سبحانه : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) ( النساء / ٦٥ ) فالايمان هو المعرفة المورثة للسكون ، الباعثة إلى التسليم ، ولا تحصل تلك الحالة للجاحد الحاقد.

هذا هو مقتضى الكتاب ، ويؤيّده الإجماع حيث جعلوا الإيمان شرطاً لصحّة العبادات ، ولا يكون الشيء شرطاً لصحّة جزئه.

وأمّا السنّة فهناك روايات تدلّ على أنّ الإقرار المقترن بالعرفان ، ايمان. وإليك بعضها :

روى الصدوق بسند صحيح عن جعفر الكناسي قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما أدنى ما يكون به العبد مؤمناً؟ قال : يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده و

٩١

رسوله ، ويقرّ بالطّاعة ، ويعرف إمام زمانه ، فإذا فعل ذلك فهو مؤمن (١).

ومثله غيره.

وأمّا زيادة الايمان ونقصانه ، فالظّاهر من المتكلّمين أنّ الإيمان لو كان هو التّصديق فلا يزيد ولا ينقص، بخلاف ما لو جعلنا العمل جزءاً منه فهو يزيد وينقص بزيادته ونقصانه.

والتّحقيق ـ كما سيأتي ـ خلافه ، فهو على كلا القولين يزيد وينقص، لأنّ التصديق ذو مراتب ، والتسليم مثله ذو درجات ، وليس تسليم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لله ، ولأحكامه ، ولفروضه ، ولسننه ، أو معرفتهم ، وإذعانهم كتسليم ومعرفة سائر الناس ، ومن أنكر ذلك فإنّما ينكره بلسانه ولكن قلبه مطمئنّ ببطلانه.

هل العمل جزء من الايمان؟

احتجّ القائل بأنّ العمل جزء من الإيمان بآيات :

١ ـ قوله سبحانه : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيماناً مَعَ إِيْمَانِهِمْ ) ( الفتح / ٤ ). ولو كانت حقيقة الايمان هي التّصديق ، لما قبل الزيادة والنقيصة ، لأنّ التصديق أمره دائر بين الوجود والعدم. وهذا بخلاف ما لو كان العمل جزءاً من الايمان. فعندئذ يزيد وينقص حسب زيادة العمل ونقيصته. والزيادة لا تكون إلاّ في كمّية عدد لا في ما سواه ، ولا عدد للاعتقاد ولا كمّية له (٢).

يلاحظ عليه : أنّ الايمان بمعنى الإذعان أمر مقول بالتّشكيك. فلليقين مراتب ، فيقين الإنسان بأنّ الإثنين نصف الأربع ، يفارق يقينه في الشدّة والظهور ، بأنّ نور القمر مستفاد من الشّمس ، كما أنّ يقينه الثاني ، يختلف عن يقينه بأنّ كلّ ممكن فهو زوج

__________________

١ ـ البحار ( ج ٦٦ : ص ١٦ ) كتاب الايمان والكفر نقلاً عن ( معاني الاخبار ).

٢ ـ الفصل ج ٣ ص ١٩٤.

٩٢

تركيبي له ماهيّة ووجود ، وهكذا يتنزّل اليقين من القوّة إلى الضّعف ، إلى أن يصل إلى أضعف مراتبه الّذي لو تجاوز عنه لزال وصف اليقين ، ووصل إلى حدّ الظن ، وله أيضاً مثل اليقين درجات ومراتب ، ويقين الإنسان بالقيامة ومشاهدها في هذه النشأة ليس كيقينه بعد الحشر والنشر ، ومشاهدتها بأُمّ العين. قال سبحانه : ( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَة مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَومَ حَدِيد ) ( ق / ٢٢ ) فمن ادّعى بأنّ أمر الايمان بمعنى التّصديق والإذعان ، دائر بين الوجود والعدم ، فقد غفل عن حقيقته ومراتبه. فهل يصحّ لنا أن ندّعي أنّ ايمان الأنبياء بعالم الغيب ، كإيمان الانسان العادي ، مع أنّ مصونيّتهم من العصيان والعدوان رهن علمهم بآثار المعاصي وعواقبه ، الّذي يصدّهم عن اقتراف المعاصي وارتكاب الموبقات. فلو كان إذعانهم كإذعان سائر الناس ، لما تميّزوا بالعصمة عن المعصية. وما ذكره من أنّ الزيادة تستعمل في كمّية العدد منقوض بآيات كثيرة استعملت الزيادة فيها في غير زيادة الكمّية. قال سبحانه : ( ويَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ ويَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) ( الاسراء / ١٠٩ ). وقال : ( ولَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا القُرآنِ لِيَذَّكَّرُوا ومَا يَزِيدُهُمْ إلاّ نُفُوراً ) ( الاسراء / ٤١ ). والمراد شدّة خشوعهم ونفورهم ، لا كثرة عددهما ، إلى غير ذلك من الآيات الّتي استعمل فيها ذلك اللّفظ في القوّة والشدّة لا الكثرة العدديّة.

٢ ـ قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) ( البقرة / ١٤٣ ) وإنّما عنى بذلك صلاتهم إلى بيت المقدس قبل أن تنسخ بالصّلاة إلى الكعبة.

يلاحظ عليه : أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، ولا نشكّ في أنّ العمل أثر للاذعان وردّ فعل له ، ومن الممكن أن يطلق السبب ويراد به المسبّب. إنّما الكلام في أنّ الإيمان لغةً وكتاباً موضوع لشيء جزؤه العمل وهذا ممّا لا يثبته الإستعمال. أضف إليه أنّه لو أخذنا بظاهرها الحرفي ، لزم أن يكون العمل نفس الايمان لا جزءاً منه ، ولم يقل به أحد.

٣ ـ قوله سبحانه : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً ممّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) ( النساء / ٦٥ ). أقسم سبحانه

٩٣

بنفسه أنّهم لا يؤمنون إلاّ بتحكيم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتسليم بالقلب وعدم وجدان الحرج في قضائه. والتحكيم غير التصديق والتسليم ، بل هو عمل خارجي.

يلاحظ عليه : أنّ المنافقين ـ كما ورد في شأن نزول الآية ـ كانوا يتركون النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويرجعون في دعاويهم إلى الأحبار و ـ مع ذلك ـ كانوا يدّعون الايمان بمعنى الإذعان والتسليم للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت الآية بأنّه لايقبل منهم ذلك الإدّعاء حتّى يرى أثره في حياتهم وهو تحكيم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المرافعات ، والتسليم العملي أمام قضائه ، وعدم إحساسهم بالحرج ممّا قضى. وهذا ظاهر متبادر من الآية وشأن نزولها. فمعنى قوله سبحانه : ( فلا وربّك لا يؤمنون ) ، أنّه لا يقبل ادّعاء الايمان منهم إلاّ عن ذلك الطّريق. وبعبارة ثانية; إنّ الآية وردت في سياق الآيات الآمرة بإطاعة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) ( النساء / ٦٤ ) والمنافقون كانوا يدّعون الايمان ، وفي الوقت نفسه كانوا يتحاكمون إلى الطّاغوت. فنزلت الآية ، وأعلنت أنّ مجرّد التصديق لساناً ليس إيماناً. بل الايمان تسليم تامّ باطني وظاهري. فلا يستكشف ذلك التسليم التام ، إلاّ بالتسليم للرّسول ظاهراً ، وعدم التحرّج من حكم الرّسول باطناً ، وآية ذلك ترك الرُّجوع إلى الطّاغوت ورفع النزاع إلى النّبي ، وقبول حكمه بلا حرج. فأين هو من كون نفس التحكيم جزءاً من الإيمان؟

٤ ـ قوله سبحانه : ( وَللّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ سَبِيلاً ومَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ ) ( آل عمران / ٩٧ ) سمّى سبحانه تارك الحجّ كافراً.

يلاحظ عليه : أنّ المراد إمّا كفران النّعمة وأنّ ترك المأمور به كفران لنعمة الأمر ، أو كفر الملة لأجل جحد وجوبه.

٥ ـ قوله سبحانه : ( وَمَا اُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ويُقِيمُوا الصَّلوةَ ويُؤْتُوا الزَّكَوةَ وذَلِكَ دِينُ القَيِّمَة ) ( البيّنة / ٥ ). والمشار اليه بلفظة « ذلك » جميع ما جاء بعد « إلاّ » من إقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة ، فدلّت هذه الآية على دخول العبادات في ماهية الدين.

٩٤

والمراد من الدّين ، هو الإسلام لقوله سبحانه ( إنّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسلام ) ( آل عمران / ١٩ ).

وعلى ضوء هذا ، فالعبادات داخلة في الدّين حسب الآية الاُولى ، والمراد من الدين هو الإسلام حسب الآية الثانية ، فيثبت أنّ العبادات داخلة في الإسلام ، وقد دلّ الدّليل على وحدة الإسلام والإيمان وذلك بوجوه :

الف ـ الإسلام هو المبتغى لقوله : ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ) ( آلعمران / ٨٥ ) والايمان أيضاً هو المبتغى ، فيكون الإسلام والايمان متّحدين.

ب ـ قوله سبحانه : ( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلامَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للإيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ( الحجرات / ١٧ ) فجعل الاسلام مرادفاً للايمان.

ج ـ قوله سبحانه : ( فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ المؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْت مِنَ المُسْلِمِينَ ) ( الذاريات / ٣٥ ـ ٣٦ ) وقد اُريد من المؤمنين والمسلمين معنى واحداً ، فهذه الآيات تدل على وحدة الإسلام والايمان. فإذا كانت الطّاعات داخلة في الإسلام فتكون داخلة في الإيمان أيضاً لحديث الوحدة (١).

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّه من المحتمل قوياً أن يكون المشار إليه في قوله ( وذلك دين القيّمة ) هو الجملة الاُولى بعد « إلاّ » أعني ( ليعبدوا الله مخلصين له الدّين ) لا جميع ما وقع بعدها من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والمراد من قوله ( ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) هو إخلاص العبادة لله ، كإخلاص الطّاعة (٢) له ، والشّاهد على ذلك قوله سبحانه : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ الناسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذِلِكَ الدّينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( الروم / ٣٠ ). فإنّ وزان قوله ( ذلك الدّين القيّم ) وزان قوله ( ذلك دين القيّمة ) والمشار إليه في الجملة الاُولى هو

__________________

١ ـ الفصل : ج ٣ ص ٢٣٤، والبحار : ج ٦٦ ص ١٦ ـ ١٧.

٢ ـ المراد من الدين في قوله « مخلصين له الدين » هو الطاعة.

٩٥

الدّين الحنيف الخالص عن الشرك ، بإخلاص العبادة والطّاعة له سبحانه.

ثانياً : يمنع كون العبادات داخلة في الإسلام حتّى في قوله سبحانه : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسلام ) وقوله تعالى : ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلامِ دِيناً ... ) لأنّ المراد منه هو التّسليم أمام الله وتشريعاته ، بإخلاص العبادة والطّاعة له في مقام العمل دون غيره من الأوثان والأصنام ، وبهذا المعنى سمّي إبراهيم « مسلماً » في قوله تعالى : ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً ولانَصْرانِياً وَلكِنْ حَنِيفاً مُسْلِماً ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران / ٦٧ ) وبهذا المعنى طلب يوسف من ربّه أن يميته مسلماً قال سبحانه حكاية عنه : ( تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ ) ( يوسف / ١٠١ ) إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول إخلاص العبادة له ، والتجنّب من الشّرك ، فلو فرض أنّ العبادة داخلة في مفهوم الدّين ، فلا دليل على دخولها في مفهوم الإسلام.

ثالثاً : نمنع كون الإسلام والايمان بمعنى واحد ، فالظّاهر من الذّكر الحكيم اختلافهما مفهوماً. قال سبحانه : ( قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلِكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ولمّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلوبِكُمْ ) ( الحجرات / ١٣ ) فلو استعمل الإسلام أو المسلمين وأُريد منهما الإيمان والمؤمنين في مورد أو موردين ، فهو لوجود قرينة تدلّ على أنّ المراد من العامّ هو الخاصّ.

إلى غير ذلك من الآيات الّتي جمعها ابن حزم في « الفصل » (١) ولا دلالة فيها على ما يرتئيه ، والإستدلال بهذه الآيات يدلّ على أنّ الرّجل ظاهريّ المذهب إلى النّهاية يتعبّد بحرفيّة الظواهر ، ولا يتأمّل في القرائن الحافّة بالكلام وأسباب النّزول.

نعم هناك روايات عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام تعرب عن كون العمل جزءاً من الإيمان وإليك بعضها :

١ ـ روى الكراجكي عن الصّادق أنّه قال : « ملعون ملعون من قال : الإيمان قول

__________________

١ ـ الفصل : بكسر الفاء وفتح الصاد بمعنى النخلة المنقولة من محلّها الى محلّ آخر لتثمر ، كقصعة وقصع.

٩٦

بلا عمل » (١).

٢ ـ روى الكليني عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : « قيل لأمير المؤمنين عليه‌السلام : من شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله كان مؤمناً؟ قال : فأين فرائض الله؟ قال : وسمعته يقول : كان عليّ عليه‌السلام يقول : لو كان الإيمان كلاماً لم ينزل فيه صوم ، ولا صلاة ، ولا حلال ، ولا حرام ، قال : وقلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إنّ عندنا قوماً يقولون : إذا شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله فهو مؤمن قال : فلم يضربون الحدود؟ ولم تقطع أيديهم؟ وما خلق الله عزّ وجلّ خلقاً أكرم على الله عزّ وجلّ من المؤمن ، لأنّ الملائكة خدّام المؤمنين وأنّ جوار الله للمؤمنين ، وأنّ الجنّة للمؤمنين ، وأنّ الحور العين للمؤمنين ، ثمّ قال : فما بال من جحد الفرائض كان كافراً » (٢).

والمراد من « جحد الفرائض » تركها عمداً بلا عذر ، لا جحدها قلباً وإلاّ لما صلح للاستدلال.

٣ ـ روى الكليني عن محمّد بن حكيم قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : الكبائر تخرج من الايمان؟ فقال : نعم وما دون الكبائر ، قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يزني الزاني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق وهو مؤمن (٣).

٤ ـ وروى أيضاً عن عبيد بن زرارة قال : دخل ابن قيس الماصر وعمر بن ذرّ ـ وأظنّ معهما أبو حنيفة ـ على أبي جعفر عليه‌السلام ، فتكلّم ابن قيس الماصر فقال : إنّا لا نخرج أهل دعوتنا وأهل ملّتنا من الايمان في المعاصي والذنوب. قال : فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : يا ابن قيس أمّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد قال : لا يزني الزاني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق وهو مؤمن ، فاذهب أنت وأصحابك حيث شئت (٤).

__________________

١ ـ البحار ج ٦٩ ص ١٩، الحديث ١.

٢ ـ الكافي ج ٢ ص ٣٣، الحديث ٢، والبحار ج ٦٦ ص ١٩، الحديث ٢.

٣ ـ الكافي ج ٢ ص ٢٨٤ ـ ٢٨٥، الحديث ٢١.

٤ ـ الكافي ج ٢ ص ٢٨٥، الحديث ٢٢.

٩٧

٥ ـ وعن الرضا عن آبائه ـ صلوات الله عليهم ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الايمان معرفة بالقلب ، وإقرار باللسان وعمل بالأركان (١).

إلى غير ذلك من الرّوايات الّتي جمعها العلاّمة المجلسي قدس‌سره في بحاره ، باب « الايمان مبثوث على الجوارح » (٢).

أقول : الظّاهر أنّها وردت لغاية ردّ المرجئة الّتي تكتفي في الحياة الدينية بالقول والمعرفة ، وتؤخّر العمل وترجو رحمته وغفرانه مع عدم القيام بالوظائف ، وقد تضافر عن أئمّة أهل البيت عليه‌السلام لعن المرجئة.

روى الكليني عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : لعن الله القدريّة ، لعن الله الخوارج ، لعن الله المرجئة ، لعن الله المرجئة ، فقلت : لعنت هؤلاء مرّة مرّة ولعنت هؤلاء مرّتين قال : إنّ هؤلاء يقولون : إنّ قَتَلَتَنا مؤمنون ، فدماؤنا متلطّخة بثيابهم إلى يوم القيامة. إنّ الله حكى عن قوم في كتابه : ( ألاّ نُؤْمِنُ لِرَسُول حَتّى يَأْتِينَا بِقُرْبَان تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُموهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) قال : كان بين القاتلين والقائلين خمسمائة عام فألزمهم الله القتل برضاهم ما فعلوا (٣).

وروى أيضاً عن أبي مسروق قال : سألني أبو عبدالله عليه‌السلام عن أهل البصرة ما هم؟ فقلت : مرجئة وقدريّة وحروريّة ، قال : لعن الله تلك الملل الكافرة المشركة الّتي لا تعبد الله على شيء (٤).

إلى غير ذلك من الرِّوايات الواردة في ذمّ هذه الفرقة الّتي كانت تثير روح العصيان والتمرّد على الأخلاق والمثل بين الشباب ، وتحرّضهم على اقتراف الذنوب والمعاصي رجاء المغفرة.

__________________

١ ـ عيون أخبار الرضا ج ١ ص ٢٢٦.

٢ ـ بحار الأنوار ج ٦٩ الباب ٣٠ من كتاب الكفر والايمان ص ١٨ ـ ١٤٩.

٣ ـ الكافي ج ٢، ص ٤٠٩، الحديث ١.

٤ ـ الكافي ، ج ٢، ص ٤٠٩، الحديث ٢. والآية ١٨٣ من سورة آل عمران.

٩٨

والّذي يظهر من ملاحظة مجموع الأدلّة ، هو أنّ الايمان ذو مراتب ودرجات ، ولكل أثره الخاصّ.

١ ـ مجرّد التصديق بالعقائد الحقّة ، وقد عرفت ثمرته وهي حرمة دمه وعرضه وماله ، وبه يناط صحّة الأعمال واستحقاق الثّواب ، وعدم الخلود في النار ، واستحقاق العفو والشفاعة.

٢ ـ التصديق بها مع الاتيان بالفرائض الّتي ثبت وجوبها بالدّليل القطعي كالقرآن ، وترك الكبائر الّتي أوعد الله عليها النّار ، وبهذا المعنى أطلق الكافر على تارك الصلاة ، ومانع الزّكاة ، وتارك الحج ، وعليه ورد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « لا يزني الزاني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق وهو مؤمن » وثمرة هذا الايمان عدم استحقاق الإذلال والإهانة والعذاب في الدنيا والآخرة.

٣ ـ التصديق بها مع القيام بفعل جميع الواجبات وترك جميع المحرّمات. وثمرته اللّحوق بالمقرّبين ، والحشر مع الصّديقين وتضاعف المثوبات ، ورفع الدّرجات.

٤ ـ نفس ما ذكر في الدّرجة الثالثة لكن بإضافة القيام بفعل المندوبات ، وترك المكروهات ، بل بعض المباحات ، وهذا يختصّ بالأنبياء والأوصياء (١).

ويعرب عن كون الإيمان ذا درجات ومراتب ، ما رواه الكليني عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبدالله عليه‌السلام في حديث قال : « قلت : ألا تخبرني عن الإيمان؟ أقولهو وعمل ، أم قول بلا عمل؟ فقال : الايمان عمل كلّه ، والقول بعض ذلك العمل ، بفرض من الله بيّن في كتابه ، واضح نوره ، ثابتة حجّته ، يشهد له به الكتاب ، ويدعوه إليه ، قال : قلت : صفه لي جعلت فداك حتّى أفهمه ، قال : الايمان حالات ودرجات وطبقات ، ومنازل : فمنه التامّ المنتهى تمامه ، ومنه النّاقص البيّن نقصانه ، ومنه الراجح الزائد رجحانه.

__________________

١ ـ البحار ج ٦٩ ص ١٢٦ ـ ١٢٧.

٩٩

قلت : إن الايمان ليتمّ وينقص ويزيد؟ قال : نعم ، قلت : كيف ذلك؟ قال : لأنّ الله تبارك وتعالى فرض الايمان على جوارح ابن آدم وقسّمه عليها وفرّقه فيها ، فليس من جوارحه جارحة إلاّ وقد وكلت من الايمان بغير ما وكلت به اُختها ... الخ » (١).

ويعرب عنه أيضاً ما رواه الصدوق عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس الايمان بالتحلّي ، ولا بالتمنّي ، ولكنّ الإيمان ما خلص في القلب ، وصدّقه الأعمال (٢).

والمراد بالتحلّي التزيّن بالأعمال من غير يقين بالقلب ، كما أنّ المراد من التمنّي هو تمنّي النجاة بمحض العقائد من غير عمل.

وفي ما رواه النّعماني في كتاب القرآن عن أمير المؤمنين عليه‌السلام شواهد على ذلك التقسيم (٣).

خاتمة المطاف

إنّ البحث في أنّ العمل هل هو داخل في الإيمان أم لا ، وإن كان مهمّاً قابلاً للمعالجة في ضوء الكتاب والسنّة ، كما عالجناه ، إلاّ أنّ للبحث وجهاً آخر لا تقلّ أهميته عن الوجه الأول وهو تحديد موضوع ما نطلبه من الآثار. فإذا دلّ الدليل على أنّ الموضوع لهذا الأثر أو لهذه الآثار هو نفس الاعتقاد الجازم ، أو هو مع العمل ، يجب علينا أن نتّبعه سواء أصدق الإيمان على المجرّد أم لا؟ سواء كان العمل عنصراً مقوّماً أم لا؟

مثلاً; إنّ حقن الدماء وحرمة الأعراض والأموال يترتّب على الإقرار باللسان سواء أكان مذعناً في القلب أم لا ، ما لم تعلم مخالفة اللسان مع الجنان. ولأجل ذلك نرى أنّ كلّ عربيّ وعجميّ وأعرابيّ وقرويّ أقرّ بالشهادتين عند الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكم عليه

__________________

١ ـ البحار ج ٦٩ ص ٢٣ ـ ٢٤ لاحظ تمام الرواية وقد شرحها العلامة المجلسي.

٢ ـ البحار ج ٦٩ ص ٧٢ نقلاً عن معاني الاخبار ص ١٨٧.

٣ ـ البحار ج ٦٩ ص ٧٣ ـ ٧٤ نقلاً عن تفسير النعماني.

١٠٠