بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٩

رؤيته سبحانه ، وجعل الملاك للسماع هو الوجود ، كما جعل الملاك لوقوع الرؤية هو كون الشيء موجوداً.

وقد عرفت في الجزء الثاني عند عرض عقيدة الأشعري أنّ الكلام النفسي ليس شيئاً وراء العلم في الإخبار ، وليس وراء الإرادة والكراهة في الإنشاء ، والقائل به يريد أن يثبت وصفاً مغايراً للعلم والارادة.

كما عرفت بطلان كون المصحِّح للرؤية هو كون الشيء موجوداً ، وأنّ كلّ موجود يرى. هذا ، وإنّ ملاك السّماع ليس هو الوجود حتّى يستنتج منه أنّ كلّ موجود يسمع ، وهذا واضح لمن له أدنى إلمام بالعلوم الطّبيعيّة.

هذا هو عرض إجمالي لمذهب الامام الماتريدي ، وقد وقفت على مشخِّصات المنهج ، وعرفت الاُصول الّتي اختلف فيها الداعيان ، والاُصول الّتي اتّفقا فيها.

والتأمّل فيما ذكرناه من النصوص من نفس الماتريدي وتلاميذ منهاجه ، يدفع الإنسان إلى القول بأنّ الشيخين الأشعري والماتريدي كانا في سبيل واحد من الدّعوة ، وهو نصرة السنّة ومكافحة الاعتزال ، ومع ذلك كلّه فلكلّ واحد اُسلوب خاصّ، والقول بوحدة المنهاجين وكون الاختلاف جزئيّاً ، وأنّه في حلبة الدعوة إلى السنّة يقع الحافر على الحافر ، مداهنة جدّاً وإخفاء للحقيقة ، وإسدال الستر على وجهها.

أنصاره وأتباعه في الأجيال المتأخِّرة :

قد انتشر مذهب الأشعري في كثير من الحواضر الاسلاميّة لأنّه ظهر في مركز العالم الاسلامي ، وكثرت أنصاره وأعوانه ، بين مبيِّن مقاصده ، إلى ذابّ عن براهينه ودلائله ، إلى مكمِّل لاُصوله وقواعده ، وأمّا مذهب الماتريدي فقد نبت في نقطة بعيدة عن الحواضر ، فقلّت العناية بنقله وشرحه.

وهناك وجه آخر لقلّة انتشاره ، وهو أنّ لمذهب الماتريدي مع كونه بصدد نصر

٦١

السنّة ، طابع التعقّل ، وقد كثرت الدعاية في عصر ظهوره ، على ضدّ أهل التعقّل والتفكّر ، وصار العكوف على النقل المحض ، وترك التعقّل والبرهنة آية القداسة ، والإمام بما أنّه أعطى للعقل سلطاناً أكبر ممّا أعطاه الأشعري ، ووافق في عدّة من الاُصول ، منهاج المعتزلة ، فصار هذا وذاك سببين لقلّة انتشاره ، وندرة أنصاره.

ومع ذلك فقد شاع مذهبه بين علماء ماوراءالنهر فقاموا بنشر دعوته ومعاضدته ، فألّفوا حول منهاجه ، كتباً ورسائل منشورة وغير منشورة.

ولأجل ايقاف القارئ على أعلام الماتريديّين نأتي بترجمة عدّة منهم :

١ ـ أبواليسر محمّد البزدوي ( ٤٢١ ـ ٤٩٣ هـ )

إنّ أرباب المعاجم من الأحناف وغيرهم قد قصّروا ولم يؤدّوا حقّ الماتريدي في كتبهم ، فإذا كان هذا حال الاُستاذ فما ظنّك بحال التلامذة والأتباع ، ولأجل ذلك نجد أنفسنا أمام ظلام دامس يلفّ حياة البزدوي ، وأحسن مرجع للوقوف على حياته هو نفس كتابه « اُصول الدّين » الّذي حقّقه وقدّم له الدكتور « هانز بيتر لنس » ونشرته عام ( ١٣٨٣ هـ ) دار إحياء الكتب العربية في القاهرة ، ونقل محقّق الكتاب أنّه وجد عن طريق المصادفة في هامش كتاب خطّي لابن قطلوبغة « طبقات الحنفيّة » بجانب مَلْزَمة عن حياة البزدوي : روى السمعاني أنّه ـ أي البزدوي ـ ولد في عام ( ٤٢١ هـ ).

ويظهر من غير واحد من مواضع كتابه أنّه تلقّى العلوم على يد أبيه. يقول في مسألة : « هل الايمان مخلوق أو غير مخلوق ، ولا يجوز الاطلاق بأنّ الإيمان مخلوق » ونحن نختار هذا القول ، فإنّ هذا مذهب أبي حنيفة ، وهو ما رواه نوح بن أبي مريم الجامع ، عن « أبي حنيفة » روى لنا والدنا الشيخ الامام أبوالحسن محمّد بن الحسين بن عبد الكريم ـ رحمة الله عليه ـ هذا الحديث عن نوح بن أبي مريم (١).

__________________

١ ـ اُصول الدين ص ١٥٥ ـ ١٥٨.

٦٢

وقال في مسألة أنّ البعث حق : « وقد روى لنا الشيخ الامام محمد بن الحسين بن عبد الكريم حديثاً متّصلاً إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (١).

ولم يكتف في تلقّي العلم بوالده ، ويظهر من موضع من كتابه أنّه أخذ العلم عن غير واحد من أعلام عصره ، ومنهم أبوالخطّاب. قال في مسألة (٧٥) : هكذا سمعت الشيخ أبا الخطّاب (٢).

ثقافته :

ينتسب البزدوي إلى مدرسة الإمام أبي حنيفة ، وهو يعترف بالصّراحة بانتمائه إلى المذهب الحنفي ، كما ينتسب في العقيدة إلى مدرسة الماتريدي ، وهو اُستاذ جدّ أبيه « عبد الكريم » (٣) الّذي تلقّى العلوم بدوره عن الماتريدي.

ويظهر من مقدّمة كتاب اُصول الدّين أنّه قرأ أكثر الكتب المؤلّفة في ذلك العصر في الفلسفة والكلام ، لا سيّما للمعتزلة والأشاعرة. قال : « نظرت في الكتب الّتي صنّفها المتقدّمون في علم التوحيد فوجدت بعضها للفلاسفة مثل « إسحاق الكندي » و « الاسفزاري » وأمثالهما ، وذلك كلّه خارج عن الطريق المستقيم ، زائغ عن الدّين القويم.

ووجدت أيضاً تصانيف كثيرة في هذا الفن من العلم « للمعتزلة » مثل « عبد الجبّار الرازي » و « الجبّائي » و « الكعبي » و « النظّام » وغيرهم.

وكذلك « المجسّمة » صنّفوا كتباً في هذا الفنّ مثل « محمّد بن هيصم » وأمثاله ، ولا يحلّ النّظر في تلك الكتب ، وقد وجدت لأبي الحسن الأشعري كتباً وغيره ( غيرها ظ ) في هذا الفنّ من العلم ، وهي قريب من مائتي كتاب ، والموجز الكبير يأتي على عامّة ما في

__________________

١ ـ اُصول الدين ص ١٥٦.

٢ ـ اُصول الدين ص ٢٨.

٣ ـ نسبه هكذا : محمد بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم.

٦٣

جميع كتبه ، وقد صنّف الأشعري كتباً كثيرة لتصحيح مذهب « المعتزلة » ، فإنّه كان يعتقد مذهب الاعتزال في الابتداء ، ثمّ إنّ اللّه تعالى بيّن له ضلالة « المعتزلة » فتاب عمّا اعتقد من مذاهبهم ، وصنّف كتاباً ناقضاً لما صنّف للمعتزلة. وقد أخذ علمه أصحاب الشافعي بما استقرّ عليه « أبو الحسن الأشعري » وقد صنّف أصحاب الشافعي كتباً كثيرة على وفق ما ذهب إليه الأشعري إلاّ أنّ أصحابنا من أهل السنّة والجماعة خطّأوا أبا الحسن في بعض المسائل مثل قوله : « التكوين والمكوّن واحد » ونحوه على ما نبيّن في خلال المسائل إن شاءالله فمن وقف على المسائل الّتي أخطأ فيها أبوالحسن الأشعري ، وعرف خطأه ، فلا بأس بالنّظر في كتبه وإمساكها ، وقد أمسك كتبه كثير من أصحابنا ونظروا فيها ، الّذين هم رؤساء أهل السنّة والجماعة.

وقد صنّف أبومحمّد عبدالله بن سعيد بن كلاب القطّان (١) ، كتباً كثيرة في هذا النّوع من العلم وهو أقدم من أبي الحسن الأشعري ، فلم يقع في يدي شيء من كتبه ، وعامّة أقاويله توافق أقاويل أهل السنّة والجماعة إلاّ مسائل قلائل لاتبلغ عشرة مسائل ، فإنّه خالف فيها أهل السنّة والجماعة ، وقد أخطأ فيها على ما نبيّن في خلال المسائل إن شاء الله تعالى فلا بأس من إمساك كتبه ، والنظر فيها لمن وقف على ما أخطأ من المسائل.

وقد وجدت للشيخ الامام الزاهد « أبي منصور الماتريدي السمرقندي » كتاباً في علم التوحيد على مذهب أهل السنّة والجماعة ، وكان من رؤساء أهل السنّة والجماعة (٢).

وهذا يعرب عن عكوفه على دراسة الكتب للفرق الكلاميّة وعرضها على الاُصول الّتي تلقّاها أنّها اُصول السنّة والجماعة.

تلاميذه :

قد تلقّى عنه عدّة من أكابر علماء الحنفيّة أشهرهم نجم الدين عمر بن محمّد

__________________

١ ـ توفي عبد الله بن سعيد عام ٢٤٥ هـ .

٢ ـ اُصول الدين ١ ـ ٣ وقد عرفت ذيل كلامه في ما سبق.

٦٤

النسفي ( ٤٦٠ ـ ٥٣٧ هـ ) وهو يقول في حقّ اُستاذه : « كان أبواليسر شيخ أقراننا في بلاد ماوراءالنهر ، وكان إمام الأئمّة ، وكان يفد عليه الناس من كل فجّ وقد ملأ الشرق والغرب بمؤلفاته في الاُصول والفروع » (١).

مؤلفاته :

له مؤلفات منها :

١ ـ تعليقة على كتاب الجامع الصغير للشيباني.

٢ ـ الواقعات.

٣ ـ المبسوط في بعض الفروع (٢).

٤ ـ اصول الدين المطبوع.

٢ ـ النسفي ميمون بن محمّد ( ٤١٨ ـ ٥٠٨ هـ )

ميمون بن محمّد بن معبد بن مكحول ، أبو المعين النسفي الحنفي ، أحد المتكلّمين البارعين على منهاج الماتريدي كان بسمرقند سكن « بخارى ».

تآليفه : « بحر الكلام » وهو مطبوع ، و « تبصرة الأدلة » مخطوط ويقال إنّه الأصل للعقائد النسفية لأبي حفص النسفي ، توجد نسخة منه في القاهرة وغيرهما من الكتب.

وقد ترجم في الجواهر المضيئة ج ٢ : ١٨٩، وفي الأعلام لخير الدين الزركلي ج ٧ : ٣٤١، وريحانة الأدب للمدرسي ج ٦ ص ١٧٤، وذكر تآليفه الكاتب الجلبي في كشف الظنون.

__________________

١ ـ مقدمة اُصول الدين نقلاً من طبقات الحنفية لابن قطوبغة ، المخطوطة.

٢ ـ نفس المصدر.

٦٥

٣ ـ النسفي عمر بن محمّد ( ٤٦٠ ـ ٥٣٧ هـ ) :

عمر بن محمّد بن أحمد بن إسماعيل ، أبو حفص المعروف ب ـ « نجم الدين النسفي » ، ولد ب ـ « نسف » وتوفّي بسمرقند ، وكتابه المعروف « عقائد النسفي » من الكتب المشهورة الّتي يدور عليه رحى الدراسة منذ قرون إلى يومنا هذا. ولأجل ذلك كتبت عليه الشروح والتعليقات ، وهو على منهاج الماتريدي. وشرحه التفتازاني ، وله ترجمة في « الفوائد البهية في تراجم الحنفية » لمحمّد بن عبد الحي ، ص : ١٤٩ طبع في القاهرة عام ١٣٢٤ هـ . والجواهر المضيئة ج ١ : ص ٣٩٤، ولسان الميزان ج ٤ : ص ٣٢٧، والأعلام لخير الدين الزركلي ج ٥ : ص ٦٠ وريحانة الأدب للمدرسي ، ج ٦ : ص ١٧٣، وقد تقدّم تتلمذه على البزدويّ.

٤ ـ ابن الهمام : محمد بن عبد الواحد ( ٧٩٠ ـ ٨١٦ هـ ) :

محمّد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود السيواسي ثمّ الاسكندري ، كمال الدين المعروف بابن الهمام ، متكلّم حنفي ، له تآليف في الكلام والفقه ، وقد ألّف « المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة » ، في الكلام ، وهو مطبوع. حقّقه محمّد محي الدين عبد الحميد. ومن كتبه « فتح القدير » في شرح الهداية ، ثمانية مجلّدات في فقه الحنفية ، كما ألّف « التحرير » في اُصول الفقه وقد طبعا. له ترجمة في الفوائد البهية ص : ١٨، والجواهر المضيئة ، ج ٢ : ص ٨٦، وشذرات الذهب ج ٧ : ص ٢٨٩ والأعلام للزركلي ج ٢ : ص ٢٥٥ ، وغيرها.

٥ ـ البياضي : كمال الدين أحمد بن حسن الرومي الحنفي ـ ( القرن ١١ ) :

هو من بيت قضاء ، وفقه ، وعلم ، أخذ العلم ببلاده عن والده ، والعلامة يحيى المنقاري ، وغيرهما من أفاضلهم ، وقد أُسند إليه منصب القضاء بحاضرة حلب الشهباء سنة ١٠٧٧ هـ ، كما تولّى قضاء مكّة عام ١٠٨٣ هـ ، ومن تآليفه « إشارات المرام من

٦٦

عبارات الامام » الّذي طبع بتقديم محمّد زاهد بن الحسن الكوثري ، الذي هو من دعاة الماتريديّة في العصر الحاضر وبتحقيق يوسف عبد الرزاق سنة ١٣٦٨ هـ ، وقد وقفت على خصوصيات الكتاب في خلال الأبحاث السابقة.

هذا خلاصة القول في الفرقة الماتريدية الّتي انحسرت دعوتها عن الجامعات الإسلاميّة ، وقلّت الدعاة إليها ، ومنهاجها منهاج مزيج من منهاج أهل الحديث والمعتزلة ، بل قلّ الاهتمام بهم ودراسة منهاجهم ، والحقّ أنّها مدرسة فكريّة نبتت في المحيط الشرقي وترعرعت زمناً ، ثمّ تراجعت إلى حدّ لا نجد داعياً إليها في العصر الحاضر ، غير الشيخ الكوثري وأترابه ، ولا مناص لطلاّب الحريّة من شباب أهل السنّة من دراستها واعتناق اُصولها ، لكونها منهاجاً وسطاً بين العقليّة المحضة ، والنّقلية الخاصّة.

إنّ الظروف والشرائط المفروضة عليهم ، وإن كانت لا تسمح لهم الاجتهاد المطلق في الاُصول والعقائد ، ودراسة كلّ أصل في جوّ هادئ من دون أن يتقلّدوا رأي انسان غير معصوم من سنّة أو شيعة ، لكن في وسعهم الإجتهاد في المذاهب المنسوبة إلى أهل السنّة والجماعة ، فعلى طلاب الحريّة ، السعي والإجتهاد ، للتعرّف على الحق ، وإزهاق الباطل ، ولو في إطار المذاهب العقيديّة الرسميّة.

بيان لقادة الفكر في الأمة :

إنّ الغزو الفكري الّذي يشنّه أعداء الإسلام كلّ يوم من المعسكرين : الشرق والغرب ، لاجتياح العقيدة الاسلاميّة وإقصاء الشباب عن ساحة الإيمان ، وبالتّالي إفساد عقيدتهم وإحلالهم عن الدين ، وعن التفاني دونه ـ إنّ هذا الغزو ـ يفرض علينا الخروج عن إطار الجمود في تحليل العقائد وتقييمها ، وعدم الاقتصار على الروايات المنقولة عن « كعب الأحبار » ، و « تميم الداري » وأضرابهما ، وفتح باب التفكر بمصراعيه في وجه الناشئ وتدريبه وتمرينه بالبرهنة والاستدلال ، على مايعتنقه من العقائد ، لأنّه يضفي

٦٧

لاُصول الاسلام ثباتاً ودواماً وللشباب صموداً أمام الهجمات العنيفة ، الّتي توجّه إليهم كلّ يوم من المدارس الفكرية المادية المهزوزة وغيرها ، فإنّ في حرمان المسلم المستعدّ عن التفكر الصحيح ، مظنة جعله فريسة للمناهج الضالّة ، المتدرّعة بالسلاح العلمي المادي الفاتك.

ولا نهدف بذلك إلى دمج الدّين بالفلسفة اليونانيّة أو الغربيّة بل الغرض هو استخدام العقل السليم الفطري ـ الذي به عرفنا ربّنا ودعا إليه كتابه ـ لدرك الدين والدفاع عنه في المجالات الّتي للعقل إليها سبيل.

ولا شكّ أنّ بعض المشايخ لا يعرفون التوسّط في الحياة ، ولا الاعتدال في الرأي ، فهم بين غارق في العقليّات ، غير مقيم للنّقل وزناً في مجال العقيدة ، وبين متزمّت لا يعرف في أوضح الواضحات سوى رواية أحمد عن فلان ، وإن كان على خلاف الحسّ والعقل.

هذا وذاك كلاهما مرفوضان جدّاً ، وإنّما المأمول هو تقدير التعقّل ، واحترام حريّة الفكر ، وهذا أمر يجب علينا أن نروّض أنفسنا عليه.

ثمّ إنّ هنا كلاماً لبعض قادة الفكر ، يلقي ضوءاً على ما نتوخّاه ونطلبه بحماس من حاملي لواء الفكر الاسلامي ، ونخصُّ بالذكر أساتذة الجامعات الإسلاميّة حيث يقول :

« ممّا لا نرتاب فيه إنّ الحياة الانسانيّة حياة فكريّة لا تتمّ له إلاّ بالادراك الّذي نسمّيه فكراً ، وكان من لوازم ابتناء الحياة على الفكر ، إنّ الفكر كلّما كان أصحّ وأتم ، كانت الحياة أقوم ، فالحياة القيّمة ـ بأيّة سنّة من السنن أخذ الإنسان ، وفي أيّ طريق من الطرق المسلوكة وغير المسلوكة سلك الإنسان ـ ترتبط بالفكر القيّم وتبتني عليه ، وبقدر حظّها منه يكون حظّها من الاستقامة.

وقد ذكره اللّه سبحانه في كتابه العزيز بطرق مختلفة وأساليب متنوّعة كقوله : ( أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في النّاس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) ( الأنعام / ١٢٢ ). وقوله : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا

٦٨

يَعْلَمُونَ ) ( الزمر / ٩ ) وقوله : ( يَرْفَعُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ اُوتُوا العِلْمَ دَرَجَات ) ( المجادلة ١١ ) وقوله : ( فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَولَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ اُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللّهُ واُولئِكَ هُمُ اُولُوا الألْبَاب ) ( الزمر / ١٧ و١٨ ) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الّتي لا تحتاج إلى العرض ، فأمر القرآن في الدعوة إلى الفكر الصحيح ، وترويج طريق العلم ، ممّا لا ريب فيه.

ولم يعيّن في الكتاب العزيز هذا الفكر الصحيح القيّم الذّي يندب إليه ، إلاّ أنّه أحال فيه إلى مايعرفه الناس بحسب عقولهم الفطريّة ، وإدراكهم المركوز في نفوسهم.

إنّك لو تتبّعت الكتاب الإلهي ، ثمّ تدبّرت في آياته ، وجدت ما لعلّه يزيد على ثلاثمائة آية تتضمّن دعوة الناس إلى التفكر والتذكر والتعقّل ، وتلقين النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الحجّة لإثبات حق ، أو لإبطال باطل ، كقوله : ( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيئاً إنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ واُمَّهُ ) ( المائدة / ١٧ ) أو تحكي الحجّة عن أنبيائه وأوليائه ، كنوح وإبراهيم وموسى ، وسائر الأنبياء العظام ، ولقمان ومؤمن آل فرعون وغيرهما عليهم‌السلام كقوله : ( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمواتِ وَالأرْضِ ) ( إبراهيم / ١٠ ) وقوله : ( وإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) ( لقمان / ١٣ ) وقوله : ( وقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَونَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ وقَدْ جَاءَكُمْ بِالبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) ( غافر / ٢٨ ) وقوله حكاية عن سحرة فرعون : ( قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاض إِنَّمَا تَقْضِي هذِهِ الحَيَاءَ الدُّنْيَا ) ( طه / ٧٢ ) إلى آخر ما احتجّوا به.

ولم يأمر اللّه تعالى عباده في كتابه ، ولا في آية واحدة أن يؤمنوا به ، أو بشيء ممّا هو من عنده ، أو يسلكوا سبيلاً على العمياء ، وهم لا يشعرون ، حتّى إنّه علّل الشرايع والأحكام الّتي جعلها لهم ممّا لا سبيل للعقل إلى تفاصيل ملاكاته باُمور تجري مجرى الاحتجاجات كقوله : ( إِنَّ الصَّلوةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَر ) ( العنكبوت / ٤٥ ) وقوله : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ

٦٩

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة / ١٨٣ ) وقوله في آية الوضوء : ( مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نَعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( المائدة / ٦ ) إلى غير ذلك من الآيات (١).

يا اُمّه اثكليه (٢) :

قد بلغ إقصاء العقل عن ساحة العقائد ، والاكتفاء بالمرويّات الضعاف إلى حدّ استطاع أحد الشيوخ من الحنابلة أن يصعد منبر التوحيد ، وهو يرى أنّ لله نزولاً كنزول الإنسان ، وحركة وسكوناً كحركته وسكونه.

يعزّ على الاسلام أن يسمع قائلاً متسنّماً منصّة القيادة الروحية ، في جامع دمشق يهتف : أنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ـ ثمّ نزل درجة من درج المنبر ـ وإن كنت في شكّ مما نقول فاستمع إلى ما ينقل الرحالة ابن بطوطة فهو ينقل في رحلته ويقول : « وكان بدمشق من كبار الفقهاء تقي بن تيمية كبير الشام يتكلّم في الفنون إلاّ أنّ في عقله شيئاً .. فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكِّرهم ، فكان من جملة كلامه : إنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ، ونزل درجة من درج المنبر ، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء. وأنكر ما تكلّم به ، فقامت العامّة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتّى سقطت عمامته (٣).

اُنظر إلى الوهابيّة كيف اتّخذت هذا القائل شيخاً لإسلامهم وسنداً لمذهبهم ، ومعلّماً لتوحيدهم ، وإليه يرحلون ، وعن فتياه يصدرون ، وكأنّه صار صنماً يُعبد ، ويدور الحقّ مداره ، وهؤلاء لا يجوِّزون لأنفسهم الخروج عن خطوطه قدر شعرة ، كأنّه تدرّع بالعصمة والمصونيّة عن الخطأ والزّلل.

__________________

١ ـ الميزان ج ٥ ص ٢٧٣ ـ ٢٧٥.

٢ ـ مثل يضرب عند الدعاء على الانسان. لاحظ مجمع الأمثال ج ٢ ص ٤٢٦ حرف الياء.

٣ ـ رحلة ابن بطوطة ط دار صادر ، بيروت ص ٩٥.

٧٠

بالله عليكم أيّها السادة! يا قادة الفكر في الاُمّة! يا أصحاب رسالة هداية الشباب في العصر الحاضر! إذا كان الشابّ المسلم الجامعي لا يملك من العقيدة الاسلاميّة إلاّ ما تعلّمه من نظريّات ابن تيميّة ، فهل يستطيع أن يرفع رأسه ويدافع عن عقيدته ، وكيان نحلته ، في وجه هجمات الفلسفة الماديّة الخدّاعة الّتي رفعت عقيرتها بأنّ اُصولها مستمدّة من النظريات العلميّة الّتي فرضها العلم وأثبتتها التجربة.

فإذا دار الأمر في تفسير الكون وتبيين خلق العالم ، بين ما يثيره أبناء الحنابلة وأصحاب الحديث في انتهاء العوالم الوجوديّة إلى موجود كائن في العرش عال على السماوات والأرض ، لا ينفكّ عن الحركة والسكون ، وعن الجهة والمكان وغير ذلك من لوازم الجسم والجسمانيات ، وبين القول بقدم المادّة وانطوائها تحت سنن وقوانين نابعة عن ذاتها ، إمّا عن طريق الصدفة أو عن طريق آخر ، فهل يمكن لمفكّر أن يرجّح الأول على الثاني؟ أو أنّ العقول النيّرة الممارسة للعلوم الطبيعية والحسية لا ينظرون إلى الأول إلاّ بنظر الاستهزاء والسخرية؟

وليس ابن تيميّة أوّل بادئ بهذه المهزلة المحزنة ، بل سبقه أبناء لهذا المذهب كما لحقه أنصار.

ولأجل ايقاف القارئ على تطرّف الحنابلة في أقوالهم وآرائهم تطرّفاً أدّى بهم إلى التجسيم والتشبيه نأتي بأبيات لأحد شعرائهم في هذا المجال :

فإن كان تجسيماً ثبوت استوائه

على عرشه إنّي إذاً لمجسِّم

وإن كان تشبيهاً ثبوت صفاته

فمن ذلك التشبيه لا أتكتّم

وإن كان تنزيهاً جحود استوائه

وأوصافه أو كونه يتكلّم

فعن ذلك التنزيه نزّهت ربّنا

بتوفيقه والله أعلى وأعظم (١)

__________________

١ ـ الصواعق المرسلة ج ١ ص ١٧٠ كما في المعتزلة ص ٢٥٢.

٧١

وليس هذا الشاعر وحيداً في هذا المجال. بل الحنابلة يتشدّقون بالتجسيم ويفتخرون به بلا مبالاة وإليك القصيدة التالية الّتي نظمها حنبلي آخر أيّام محنة ابن حنبل في السجن :

علا في السماوات العلى فوق عرشه

إلى خلقه في البرّ والبحر ينظر

يداه بنا مبسوطتان كلاهما

يسحّان والأيدي من الخلق تقتر

نهينا عن التفتيش والبحث رحمة

لنا وطريق البحث يردي ويخسر

ولم نر كالتسليم حرزاً وموئلا

لمن كان يرجو أن يثاب ويحذر

وإنّ وليّ الله في دار خلده

إلى ربِّه ذي الكبرياء سينظر

ولم يحمد الله الجدال وأهله

وكان رسول الله عن ذاك يزجر

وسنّتنا ترك الكلام وأهله

ومن دينه تشديقه والتقعّر (١)

ومن أراد أن يقف على كلمات هؤلاء حول التجسيم والتشبيه فعليه بمراجعة كتاب « علاقة الاثبات والتفويض » تأليف رضا بن نعسان معطى بتقديم عبد العزيز بن باز.

فقد حشا فيه كلمات أبناء الحنابلة وغيرهم في مجال الصفات ، وادّعى أنّهم يقولون بكونه سبحانه فوق السماوات. وهؤلاء لغاية دفع عار التجسيم يتدرّعون بكلمة بلا كيف وتشبيه ، وهو بلا شبهة واجهة اتّخذتها أبناء التجسيم لستر ما يعاب بهم.

وهذه التوالي وليدة إقصاء العقل عن ساحة العقائد ، وإحلال النقل على وجه الاطلاق مكانه ، وإلاّ فالنقل الصحيح لا يكافح العقل أبداً.

تم الكلام في الماتريدية

والحمد لله ربّ العالمين.

____________

١ ـ مناقب الإمام أحمد بن حنبل لأبي الفرج ابن الجوزي ص ٤٢٥ ـ ٤٢٦ ط مصر ، الطبعة الأولى.

٧٢
٧٣

٢

المرجئة

المرجئة على وزن المرجعة بصيغة الفاعل من أرجأ الأمر : أخّره. وترك الهمزة لغة. قال في اللِّسان : أرجأت الأمر وأرجيته : إذا أخّرته. وقرئ أرجه ، وأرجئه قال تعالى : ( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ) ( الأحزاب / ٥١ ) و « الإرجاء » التأخير ، والمرجئة صنف من المسلمين والنّسبة إليه مرجئيّ مثال مرجعي (١).

وقال ابن الأثير في ( النِّهاية ) : المرجئة تهمز، ولاتهمز وكلاهما بمعنى التّأخير ، يقال : أرجأته وأرجيته : إذا أخّرته فنقول من الهمز رجل مرجئي ، وهم المرجئة وفي النسب : مرجئي مثال مرجع ومرجعة ومرجعي ، وإذا لم تهمز قلت : رجل مرج ومرجية ومرجيّ مثل معط ومعطية ومعطيّ (٢).

وظاهر كلامهما أنّها مأخوذة من الإرجاء بمعنى التّأخير ، ويحتمل أن يكون مأخوذاً من الرجاء أي الأمل. والمشهور هو الأوّل. وسرّ تسميتهم بالمرجئة بمعنى المؤخِّرة أحد الوجهين :

١ ـ طال التشاجر في معنى الإيمان في العصر الأوّل ، وحدثت آراء وأقوال حول حقيقته بين الخوارج والمعتزلة ، فذهبت المرجئة إلى أنّه عبارة عن مجرّد الإقرار بالقول

__________________

١ ـ لسان العرب مادة « رجأ ».

٢ ـ النهاية ج ٢ ص ٢٠٦ نفس المادة.

٧٤

والّلسان وإن لم يكن مصاحباً للعمل ، فأخذوا من الإيمان جانب القول ، وطردوا جانب العمل ، فكأنّهم قدّموا الأوّل وأخّروا الثاني واشتهروا بمقولتهم : « لاتضرّ مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة ».

وعلى هذا ، فهم والخوارج في هذه المسألة على جانبي نقيض ، فالمرجئة لا تشترط العمل في حقيقة الايمان ، وترى العاصي ومرتكب الذُّنوب ، صغيرها وكبيرها ، مؤمناً حتّى تارك الصلاة والصوم ، وشارب الخمر ، ومقترف الفحشاء.. والخوارج يضيّقون الأمر فيرون مرتكب الكبيرة كافراً ، ولأجل ذلك قاموا بتكفير عثمان للأحداث الّتي انجرّت إلى قتله وتكفير علي عليه‌السلام لقبوله التحكيم وإن كان عن اضطرار.

ويقابلهما المعتزلة أيضاً القائلون بأنّ مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا فاسق بل في منزلة بين الأمرين فزعمت أنّها أخذت بالقول الوسط بين المرجئة والخوارج.

والقول المشهور بين السنّة والشيعة أنّه مؤمن فاسق ، وسيوافيك القول في حقيقة الإيمان عند البحث عن عقائد المعتزلة والخوارج.

ولعلّه إلى ذلك الوجه أيضاً يرجع ما ذكره ابن الاثير في نهايته بأنّهم سمّوا مرجئة لاعتقادهم بأنّ الله أرجأ تعذيبهم على المعاصي ، أي أخّر عنهم.

يلاحظ على هذا الوجه : أنّ القوم وإن أخّروا العمل وأخرجوه عن كونه مقوّماً للايمان أو بعضه ، ولم يعتبروه جزءاً وشرطاً ، ولكن لم يتّفقوا على تفسيره بالقول المجرّد ، والاقرار باللّسان ، بل لهم آراء في ذلك.

فاليونسيّة منهم ( أتباع يونس بن عون ) زعمت أنّ الإيمان في القلب واللسان. وإنّه هو المعرفة بالله ، والمحبّة ، والخضوع له بالقلب ، والإقرار باللّسان ، أنّه واحد ليس كمثله شيء (١).

والغسّانية ( أتباع غسّان المرجئ ) زعمت أنّ الإيمان هو الاقرار أو المحبّة لله تعالى ،

__________________

١ ـ الفرق بين الفرق ص ٢٠٢ ط مصر.

٧٥

فاكتفت بأحد الأمرين من الإقرار أو المحبّة لله (١). إلى غير ذلك من الأقوال والآراء لهم في حقيقة الإيمان (٢).

وعلى ضوء هذا لا يصحّ أن يقال إنّ المرجئة هم الّذين قدّموا القول وأخّروا العمل. بل أخّروا العمل جميعاً وأمّا غيره فقد اكتفوا في تحقّق الايمان تارة بالاذعان القلبي ، وأُخرى بالاقرار باللسان ، هذه ملاحظة بسيطة حول هذه النظرية. وهناك ملاحظة أُخرى ربّما تبطل أصلها وهي :

أنّ التّاريخ يدلّ على أنّ أوّل من قال بالإرجاء هو الحسن بن محمّد بن الحنفيّة ، لا بمعنى تقديم القول أو الاذعان القلبي وتأخير العمل ، بل المراد تقديم القول في الشيخين وتصديقهما ، وتأخير القول في حقّ عثمان وعليّ وطلحة والزبير وإرجاء أمرهم إلى الله سبحانه ، والتوقّف فيهم. وإليك النّصوص التاريخيّة الّتي تدلّنا على أنّ أساس الإرجاء هوالتوقّف في حق الخليفتين الأخيرين والمقاتلين لهما.

قال ابن سعد : « كان الحسن بن محمّد بن الحنفيّة أوّل من تكلّم بالإرجاء وعن زاذان وميسرة أنّهما دخلا على الحسن بن محمّد بن علي ، فلاماه على الكتاب الّذي وضعه على الإرجاء. فقال لزاذان : « يا أبا عمرو لوددت أنّي كنت مِتُّ ولم أكتبه » وتوفّي في خلافة عمر بن عبد العزيز » ! (٣).

وقال ابن كثير في ترجمة الحسن : « وكان عالماً فقيهاً عارفاً بالاختلاف والفقه. وقال أيّوب السختياني وغيره : كان أوّل من تكلّم في الإرجاء ، وكتب في ذلك رسالة ، ثمّ ندم عليها. وقال غيرهم : كان يتوقّف في عثمان وطلحة والزّبير ، فلا يتولاّهم ، ولا يذمّهم. فلمّا بلغ ذلك أباه محمّد بن الحنفيّة ضربه فشجّه وقال : ويحك ألاّ تتولّى أباك عليّاً. وقال أبوعبيد : توفّي سنة خمس وتسعين. وقال خليفة : توفّي أيّام عمر بن عبد العزيز

____________

١ ـ الفرق بين الفرق ص ٢٠٢ ط مصر.

٢ ـ فصل الأشعري في المقالات اختلافهم في الايمان ، وجعلهم اثنتا عشرة فرقة لاحظ ص ١٣٥ ـ ١٣٦.

٣ ـ الطبقات الكبرى ج ٥ ص ٣٢٨.

٧٦

والله أعلم » (١).

وقال ابن عساكر في تاريخه : « قال عثمان بن إبراهيم بن حاطب : أوّل من تكلّم في الإرجاء هو الحسن بن محمّد. كنت حاضراً يوم تكلّم ، وكنت مع عمّي في حلقته ، وكان في الحلقة جحدب وقوم معه. فتكلّموا في عليّ وعثمان وطلحة والزبير ، فأكثروا ، والحسن ساكت ، ثمّ تكلّم فقال : قد سمعت مقالكم. أرى أن يرجأ عليّ وعثمان وطلحة والزبير فلا يتولّى ولايتبرّأ منهم. ثمّ قال : فقمنا ، فقال لي عمر : يا بنيّ ليتخذنّ هؤلاء هذا الكلام إماماً. فبلغ أباه محمّد بن الحنفيّة ما قال ، فضربه بعصا فشجّه وقال : ألاّ تتولّى أباك عليّاً. ودخل ميسرة عليه فلامه على الكتاب الّذي وضعه في الإرجاء ، فقال : لوددت أنّي كنت مِتّ ولم أكتبه » (٢).

وقال ابن حجر في ( تهذيب التهذيب ) في ترجمة الحسن ما هذا خلاصته :

« قال ابن حبان : كان الحسن من علماء الناس بالاختلاف وقال سلام بن أبي مطيع عن أيّوب : أنّا أتبرّأ من الإرجاء. إنّ أوّل من تكلّم فيه رجل من أهل المدينة يقال له الحسن بن محمّد. وقال عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة أنّهما دخلا على الحسن بن محمّد فلاماه على الكتاب الّذي وضعه في الإرجاء ، فقال لزاذان : يا أبا عمرو لوددت أنّي كنت مِتُّ ولم أكتبه. قلت ( ابن حجر ) : المراد بالإرجاء الّذي تكلّم الحسن بن محمّد فيه ، غير الارجاء الّذي يعيبه أهل السنّة المتعلّق بالايمان ، وذلك أنّي وقفت على كتاب الحسن بن محمّد المذكور ، أخرجه ابن أبي عمر العدني في كتاب الايمان له في آخره قال : حدّثنا إبراهيم بن عيينة عن عبد الواحد بن أعين قال : كان الحسن بن محمّد يأمرني أن أقرأ هذا الكتاب على النّاس : أما بعد ، فإنا نوصيكم بتقوى الله. فذكر كلاماً في الموعظة والوصيّة لكتاب الله واتّباع ما فيه وذكر اعتقاده ـ ثمّ قال في آخره : ونوالي أبا بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ونجاهد فيهما ، لأنّهما لم تقاتل عليهما الأمّة ولم نشكّ في أمرهما ، ونرجئ من

__________________

١ ـ البداية والنهاية ج ٩ ص ١٤٠.

٢ ـ تاريخ ابن عساكر ج ٤ ص ٢٤٦ طبع دمشق ١٣٣٢ هـ .

٧٧

بعدهما ممّن دخل الفتنة ، فنكل أمرهم إلى الله ـ إلى آخر الكلام. فمعنى الّذي تكلّم فيه الحسن أنّه كان يرى عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتتلتين في الفتنة بكونه مخطئاً أو مصيباً وكان يرى أنّه يرجئ الأمر فيهما ، وأمّا الإرجاء الّذي يتعلّق بالايمان فلم يعرج عليه فلا يلحقه بذلك عاب » (١).

هذا التاريخ المتضافر يدلّنا على اُمور :

١ ـ إذا كان الحسن بن محمّد الحنفيّة هو الأصل في الإرجاء فيرجع أصل الارجاء وتاريخه إلى الربع الأخير من القرن الأوّل للهجرة ، وقد توفّي محمّد بن الحنفيّة والد المؤسِّس عام ثمانين أو إحدى وثمانين ، عن عمر يناهز خمساً وستين سنة ، وقد توفّي ولده الحسن ( أصل الارجاء ) عام تسعة وتسعين أو قبله أو بعده بقليل ، وعليه يعود ظهور الإرجاء إلى حوالي عام سبعين من الهجرة ، أو ما يقاربه.

٢ ـ إنّ الحسن بن محمّد هو وليد البيت الهاشمي العريق في الولاء والمحبّة لأميرالمؤمنين وشيعته ومحبّيه وأصحابه ، وعند ذاك كيف يكون مثل هذا الشخص أساساً للإرجاء بهذا المعنى ، ولعلّه أظهر هذه الفكرة في بداية الأمر ( وإن ندم عليه في أواخر عمره وتمنّى الموت قبل كتابة ما كتبه ) لغاية توحيد الكلمة ، وإيقاف الهجمة على جدّه أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث كان الخطباء ووعّاظ السلاطين يسبّونه على صهوات المنابر أعواماً مديدة ، فأراد وليد البيت الهاشمي إيقاف السبّ بهذه الفكرة ، وإلاّ فمن البعيد جدّاً أن لا يطّلع الحسن بن الحنفيّة على انحراف النّاكثين والقاسطين والمارقين الّذين ابتزّوا أمر الخلافة ، وتطلّعوا إلى أمر ، هم أقصر منه فحاول لنيل غايته بالقول بأنّا نتكلّم في الشيخين ولا نتكلّم في غيرهما ممّن جاءوا بعدهما بشيء من المدح والقدح.

والرجل وإن كان حسن النيّة لكنّه كان سيّىء العمل لما ترتّبت على هذا العمل من التوالي الفاسدة ، ولعلّ ندامته في آخر العمر لأجل ما رأى من المفاسد الّتي ترتّبت

__________________

١ ـ تهذيب التهذيب : ج ٢، ص ٣٢٠ ـ ٣٢١.

٧٨

على هذه الفكرة.

٣ ـ لو كان الحسن بن محمّد بن الحنفيّة هو الأصل في الإرجاء ، فقد عرفت تاريخ حياته وأنّه قام بزرعه في الربع الأخير من القرن الأول ، وعلى ذلك لايصحّ ما نقله أحمد أمين المصري عن ابن عساكر : « أنّهم هم الشكّاك الّذين شكّوا وكانوا في المغازي ، فلمّا قدموا المدينة بعد قتل عثمان وكان عهدهم بالناس وأمرهم واحد ، ليس بينهم اختلاف قالوا : تركناكم وأمركم واحد ليس بينكم اختلاف ، وقدمنا عليكم وأنتم مختلفون فبعضكم يقول : قتل عثمان مظلوماً ، وكان أولى بالعدل أصحابه ، وبعضكم يقول : كان عليّ أولى بالحق ، وأصحابه كلّهم ثقة وعندنا مصدّق ، فنحن لا نتبرّأ منهما ، ولا نلعنهما ، ولا نشهد عليهما ، ونرجئ أمرهما إلى الله حتّى يكون الله هو الذي يحكم بينهما » (١).

يلاحظ عليه : أنّه قتل عثمان أواخر عام (٣٥) من الهجرة ، واستشهد الامام أميرالمؤمنين في شهر رمضان عام ( ٤٠ هـ ) ، ومقتضى ما ذكره الدكتور ، تكوّن الإرجاء في العقد الرابع من القرن الأوّل. وهذا لايتّفق مع ذلك التاريخ المتضافر في أنّ أصل الإرجاء هو الحسن بن محمّد بن الحنفيّة لتأخّر عصره ، وقد كان لوالده محمّد بن الحنفية يوم قتل عثمان من العمر خمس عشرة ويوم استشهد الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام عشرون سنة ، وكان الحسن بن محمّد في أصلاب الآباء وأرحام الاُمّهات ، وغاية ما يمكن أن يوجّه به هذا النقل ، هو أنّ ـ الأحوال الحاضرة بعد قتل الخليفتين وقدوم المسلمين الغزاة ، أوجدت أرضيّة لتكوّن هذه الفكرة ، ولكنّها كانت خاملة تدور في الذاكرة ، وأوّل من أظهرها وطرحها بصورة علميّة وكتب فيها رسالة هو الحسن بن محمّد ولذلك قال عمّ عثمان بن ابراهيم بن حاطب لابن أخيه : يا بنيّ : ليتخذنّ هؤلاء هذا الكلام إماماً.

٤ ـ وأبعد من هذا الكلام ما ذكره ذلك الكاتب حيث قال : إنّ نواة هذه الطائفة كانت موجودة في الصحابة في الصدر الأوّل ، بحجّة أنّنا نرى أنّ جماعة من

__________________

١ ـ فجر الاسلام : ص ٢٧٩، نقلاً عن تاريخ ابن عساكر.

٧٩

أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امتنعوا أن يدخلوا في النزاع الذي كان في آخر عهد عثمان مثل « أبي بكرة » و « عبدالله بن عمر » و « عمران بن حصين » وروى أبوبكرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي .. » (١).

٥ ـ قد عرفت أنّ من المحتمل أن يكون الحافز لمؤسّس هذه الفكرة ، هو إيقاف الهجمة على جدّه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولكنّ العامل المؤثّر في نشوء هذه البذرة ونموّها هو اشتداد الدعاية من جانب الأمويين لتبرئة عثمان من الأحداث المؤلمة المنسوبة إليه ، وتنزيه الناكثين ومن انضمّت إليهم من اُمّهات المؤمنين في نقض البيعة ، والخروج على الإمام المفترض الطاعة ، وإكثار الوقيعة في الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقد أثّرت تلك الدّعايات والروايات الّتي كذبوا بها على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بسطاء القوم وسذّاجهم بحيث أخذت تلك الأكاذيب صورة الحجاج ، فلم يكن لهم بدُّ أمام هذه الدعايات من أحد أمرين : إمّا الإجتهاد ، وخرق الحجب ، وشهود الحقائق بعين الفكر والعقل. وإمّا الوقوف على الرأي الوسط والتوقّف عن التكلّم في حقّ هؤلاء ، وإرجاء الأمر إلى الله ، والفرض الأوّل كان أمراً غير ميسور لبساطة الفهم وسذاجته ، فصار الثاني متعيّناً.

يقول أحد المصريين حول الدعايات الفارغة بعد عهد عثمان : « ومن هنا وهناك تألّفت سلسلة الموضوعات والخرافات والأساطير الّتي ابتلى بها المسلمون ، وانتشرت بينهم التلبيسات الملتوية والشبه ، فشوّهت جمال الشريعة المطهّرة ، حتى أصبحت وبالاً على الدّين ، وشرّاً على المسلمين ، وحائلاً دون نهضتهم وتقدّمهم ، وعائقاً أمام الوصول إلى كثير من الحقائق التاريخيّة والعلميّة والدينية » (٢).

٦ ـ يعتقد الكاتب المصري « أحمد أمين » أنّ المرجئة تكوّنت ، بصورة حزب سياسي لا يريد أن يغمس يده في الفتن ولايريق دماء حزب ، بل ولا يحكم بتخطئة فريق

__________________

١ ـ فجر الاسلام ص ٢٨٠.

٢ ـ عثمان بن عفان للاُستاذ صادق إبراهيم عرجون ص ٤١، كما في الغدير ، ج ٨.

٨٠