بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٩

وذكراً وإيماناً ونوراً وهدىً ومباركاً وعربياً وقصصاً فقال : ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القُصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِليكَ هذا القرآن ) وقال : ( قُلْ لِئنِ اجْتَمَعَت الإنْسُ والجنُّ على أَن يأْتُوا بِمِثلِ هذا القرآن لا يأَتُونَ بمثلهِ ) وقال : ( قُلْ فَأْتُوا بعشرِ سِوَر مَثْلهُ مُفْتَريات ) وقال : ( لا يَأْتيهِ الباطل مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) فجعل له أوّلاً وآخراً ، ودلّ عليه أنّه محدود مخلوق ، وقد عظّم هؤلاء الجهلة بقولهم في القرآن الثلم في دينهم والحرج في أمانتهم ، وسهّلوا السّبيل لعدوّ الإسلام ، واعترفوا بالتّبديل والالحاد على قلوبهم حتّى عرّفوا ووصفوا خلق الله وفعله بالصّفة الّتي هي للّه وحده وشبّهوه به ، والأشباه أولى بخلقه وليس يرى أمير المؤمنين لمن قال بهذه المقالة حظّاً في الدّين ولا نصيباً من الإيمان واليقين .... إلى أن قال : فاقرأ على جعفر بن عيسى وعبدالرحمن بن إسحاق القاضي كتابَ أمير المؤمنين بما كتب به إليك وانصصهما عن علمهما في القرآن وأعلمهما أنّ أميرالمؤمنين لا يستعين على شيء من أُمور المسلمين إلاّ بمن وثق بإخلاصه وتوحيده ، وأنّه لاتوحيد لمن لم يقرّ بأنّ القرآن مخلوق. فإن قالا : بقول أميرالمؤمنين في ذلك فتقدّم إليهما في امتحان من يحضر مجالسهما في الشّهادات على الحقوق ونصّهم عن قولهم في القرآن ، فمن لمن يقل منهم إنّه مخلوق أبطلا شهادته ولم يقطعا حكماً بقوله وإن ثبت عفافه بالقصد والسّداد في أمره ، وافعل ذلك بمن في سائر عملك من القضاة وأشرف عليهم إشرافاً يزيد الله به ذا البصيرة في بصيرته ويمنع المرتاب من إغفال دينه واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون منك في ذلك إن شاء الله » (١).

دعوة المحدّثين والقضاة لسماع كتاب الخليفة

ولما جاءت الرسالة الثالثة إلى إسحاق بن إبراهيم ، أحضر لفيفاً من المحدّثين منهم ١ ـ أبو حسّان الزيادي ، ٢ ـ وبشر بن وليد الكندي ، ٣ ـ وعليّ بن أبي مقاتل ،

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٧، ص ١٩٨ و١٩٩و ٢٠٠، حوادث سنة ٢١٨.

٤٤١

٤ ـ والفضل بن غانم ، ٥ ـ والذيال بن الهيثم ، ٦ ـ وسجّادة ، ٧ ـ والقواريري ، ٨ ـ وأحمد بن حنبل ، ٩ ـ وقتيبة ، ١٠ ـ وسعدويه الواسطي ، ١١ ـ وعليّ بن الجعد ، ١٢ ـ وإسحاق بن أبي إسرائيل ، ١٣ ـ وابن الهرش، ١٤ ـ وابن عليّة الأكبر ، ١٥ ـ ويحيى بن عبدالرحمان العمري ، ١٦ ـ وشيخاً آخر من ولد عمر بن الخطّاب ، كان قاضي الرقّة ، ١٧ ـ وأبو نصر التمّار ١٨ ـ وأبو معمر القطيعي ، ١٩ ـ ومحمّد بن حاتم بن ميمون ، ٢٠ ـ ومحمّدبن نوح المضروب ، ٢١ ـ وابن الفرخان ، ٢٢ ـ والنّضر بن شميل ، ٢٣ ـ وابن عليّ بن عاصم ، ٢٤ ـ وأبو العوام البزاز، ٢٥ ـ وابن شجاع ، ٢٦ ـ وعبدالرّحمان بن إسحاق.

فقرأ عليهم رسالة المأمون مرّتين حتّى فهموه ، ثمّ سأل كلّ واحد عن رأيه في خلق القرآن.

فنجد في الأجوبة عيّاً وغباوة ، لا يتطلّبون الحقّ. وإليك نصّ محاورة إسحاق مع بعض هؤلاء.

١ ـ إسحاق بن إبراهيم ، مخاطباً بشر بن الوليد : ما تقول في القرآن؟

بشر : القرآن كلام الله.

إسحاق : لم أسألك عن هذا ، أمخلوق هو ، قال الله : ( خالق كلّ شيء ) ما القرآن شيء؟

بشر : هو شيء.

إسحاق : فمخلوق؟

بشر : ليس بخالق.

إسحاق : ليس أسألك عن هذا ، أمخلوق هو؟

بشر : ما أُحسن غير ما قلتُ لك ، وقد استعهدت أمير المؤمنين أن لا أتكلّم فيه ، وليس عندي غير ما قلت لك.

محاورته مع عليّ بن أبي مقاتل

إسحاق بن إبراهيم : القرآن مخلوق؟

٤٤٢

عليّ بن أبي مقاتل : القرآن كلام الله.

إسحاق : لم أسألك عن هذا.

ابن أبي مقاتل : هو كلام الله.

محاورته مع أبي حسّان الزيادي

إسحاق : القرآن مخلوق هو؟

أبو حسّان : القرآن كلام الله ، والله خالق كلّ شيء ، وما دون الله مخلوق ، وأمير المؤمنين إمامنا وبسببه سمعنا عامّة العلم ، وقد سمع ما لم نسمع ، وعلم ما لم نعلم ، وقد قلّده الله أمرنا ، فصار يقيم حجّنا وصلاتنا ونؤدّي إليه زكاة أموالنا ، ونجاهد معه ، ونرى إمامته إمامة ، وإن أمرنا ائتمرنا ، وإن نهانا انتهينا ، وإن دعانا أجبنا.

إسحاق : القرآن مخلوق هو؟

أبو حسّان : ( أعاد كلامه السابق ).

إسحاق : إنّ هذه مقالة أمير المؤمنين.

أبو حسّان : قد تكون مقالة أمير المؤمنين ولا يأمر بها الناس ولا يدعوهم إليها ، وإن أخبرتني أنّ أمير المؤمنين أمرك أن أقول ، قلت ما أمرتني به ، فإنّك الثقة المأمون عليه فيما أبلغتني عنه من شيء فإن أبلغتني عنه بشيء صرت إليه.

إسحاق : ما أمرني أن أبلغك شيئاً.

قال « علي بن أبي مقاتل : قد يكون قوله كاختلاف أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الفرائض والمواريث ، ولم يحملوا النّاس عليها ».

أبو حسّان : ما عندي إلاّ السّمع والطاعة ، فمرني أئتمر.

إسحاق : ما أمرني أن آمرك وإنّما أمرني أن أمتحنك.

محاورته مع أحمد حنبل

إسحاق : ما تقول في القرآن؟

٤٤٣

أحمد : هو كلام الله.

إسحاق : أمخلوق هو؟

أحمد : هو كلام الله ، لا أزيد عليها.

إسحاق : ( قرأ عليه رقعة وفيها : أشهد أن لا إله إلاّ الله أحداً فرداً لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء ، ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه ). فلمّا أتى إسحاق إلى قوله : « ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير » (١) ، وأمسك عن قوله : « لا يشبهه شيء ، من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه » ، فاعترض عليه ابن البكاء الأصغر (٢) فقال : أصلحك الله ، إنّه ( أحمد ) يقول : سميع من اذن ، بصير من عين.

فقال إسحاق : ما معنى قوله سميع بصير؟

أحمد : هو كما وصف نفسه.

إسحاق : فما معناه؟

أحمد : لا أدري ، هو كما وصف نفسه.

ثمّ إنّ إسحاق دعا بهم رجلاً رجلاً ، كلّهم يقولون : القرآن كلام الله إلاّ هؤلاء النفر : قتيبة وعبيد الله بن محمّد بن الحسن ، وابن علية الأكبر ، وابن البكاء ، وعبدالمنعم بن إدريس ، والمظفّر بن مرجا ، ورجلاً ضريراً ليس من أهل الفقه ولا يعرف بشيء منه إلاّ أنّه دسّ في ذلك الموضع ، ورجلاً من ولد عمر بن الخطّاب قاضي الرّقة ، وابن الأحمر. فأمّا ابن البكاء الأكبر فإنّه قال : القرآن مجعول لقول الله تعالى : ( إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً ) والقرآن محدث لقوله : ( ما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدث ).

قال له إسحاق : فالمجعول مخلوق؟

قال : نعم.

__________________

١ ـ سقط قوله : « ليس كمثله شيء وهو السميع البصير » من الرقعة التي نقلها ص ٢٠٠ ولكن نقله ص ٢٠١.

٢ ـ في المصدر « أصغر » والصحيح ما أثبتناه.

٤٤٤

قال إسحاق : فالقرآن مخلوق؟

قال : لا أقول مخلوق ، ولكنّه مجعول ، فكتب مقالته.

فلمّا فرغ من امتحان القوم وكتبت مقالاتهم رجلاً رجلاً ووجّهت إلى المأمون ، فمكث القوم تسعة أيّام ثمّ دعا بهم وقد ورد كتاب المأمون جواب كتاب إسحاق بن إبراهيم في أمر هؤلاء.

الرسالة الرابعة للمأمون إلى إسحاق

كتب المأمون في جواب رسالته كتاباً مفصّلاً نأخذ منها مايلي :

« أمّا بعد فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك ، جوابَ كتابه كان إليك فيما ذهب إليه متصنّعة أهل القبلة وملتمسو الرِّئاسة فيما ليسوا له بأهل من أهل الملّة من القول في القرآن وأمرك به أمير المؤمنين من امتحانهم وتكشيف أحوالهم وإحلالهم محالّهم ».

ثمّ تكلّم المأمون في حقِّ الممتنعين عن الاعتراف بكون القرآن مخلوقاً والرِّسالة مفصّلة (١) والملفَت للنّظر فيها أمران :

الأوّل : أمر المأمون رئيس الشّرطة بضرب عنق بشر بن الوليد ، وإبراهيم المهدي إذا لم يتوبا بعد الاستتابة ، وحمل الباقين موثّقين إلى عسكر أمير المؤمنين وتسليمهم إلى من يؤمن بتسليمهم إليه لينصّهم أمير المؤمنين ، فإن لم يرجعوا ويتوبوا حملهم جميعاً على السّيف.

الثاني : تذكّر بعض أفعال الممتنعين بالاعتراف بخلق القرآن ، بوجه يعرب أنّهم لم يكونوا أهل صلاح وفلاح ، بل كانوا من مقترفي المعاصي نقتطف منها مايلي :

« وأمّا الذيّال بن الهيثم فأعلمه أنّه كان فى الطّعام الّذي كان يسرقه في الأنبار ، وفيما يستوي عليه من أمر مدينة أمير المؤمنين أبي العبّاس ما يشغله وأنّه لو كان مقتفياً

__________________

١ ـ لاحظ تاريخ الطبري ٧ : ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

٤٤٥

آثار سلفه وسالكاً مناهجهم ومهتدياً سبيلهم لما خرج إلى الشرّك بعد إيمانه.

وأمّا أحمد بن حنبل وما تكتب عنه فاعلمه أنّ أمير المؤمنين قد عرف فحوى تلك المقالة وسبيله فيها واستدلّ على جهله وآفته بها.

وأمّا الفضل بن غانم فأعلمه أنّه لم يخف على أمير المؤمنين ما كان منه بمصر ، وما اكتسب من الأموال في أقلّ من سنة ، وما شجر بينه وبين المطّلب بن عبدالله في ذلك ، فإنّه من كان شأنُه شأنَه ، وكانت رغبته في الدّنيا والدِّرهم رغبته فليس بمستنكر أن يبيع إيمانه طمعاً فيهما وايثاراً لعاجل نفعهما.

وأمّا الزّيادي فأعلمه أنّه كان منتحلاً ، ولا أوّل دعيّ كان في الإسلام خولف فيه حكم رسول الله وكان جديراً أن يسلك مسلكه.

وأمّا الفضل بن الفرخان فأعلمه أنّه حاول بالقول الّذي قاله في القرآن أخذ الودائع الّتي أودعها إيّاه عبدالرّحمان بن إسحاق وغيره تربّصاً بمن استودعه وطمعاً في الاستكثار لما صار في يده ولا سبيل عليه عن تقادم عهده وتطاول الأيّام به.

وأمّا محمد بن حاتم وابن نوح والمعروف بأبي معمر فأعلمهم أنّهم مشاغيل بأكل الرّبا عن الوقوف على التوحيد ، وإنّ أمير المؤمنين لو لم يستحلّ محاربتهم في الله ومجاهدتهم إلا لإربائهم وما نزل به كتاب الله في أمثالهم لاستحلّ ذلك ، فكيف بهم وقد جمعوا مع الإرباء شركاً وصاروا للنصارى مثلاً ».

ثمّ وقّع في الوقيعة في كلّ واحد من الممتنعين ما يشمئزّ القلم من نقله ، فلو كانت تلك النّسب على وجهها فويل لهم مما كسبت أيديهم من عظائم المحرّمات وما كسبت قلوبهم من الشِّرك (١).

فلمّا وصل كتاب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم دعا القوم وقرأ عليهم كتاب المأمون ، فأجاب القوم الممتنعون كلّهم ، واعترفوا بأنّ القرآن مخلوق إلاّ أربعة نفر منهم

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ٧ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

٤٤٦

أحمد بن حنبل ، وسجادة ، والقواريري ، ومحمّد بن نوح المضروب ، فأمر بهم إسحاق بن إبراهيم فشدّوا في الحديد. فلمّا كان من الغد دعا بهم جميعاً يساقون في الحديد فأعاد عليهم المحنة فأجابه سجادة إلى أنّ القرآن مخلوق فأمر باطلاق قيده وخلّى سبيله وأصرّ الآخرون على قولهم.

فلمّا كان من بعد الغد عاودهم أيضاً فأعاد عليهم القول ، فأجاب القواريري إلى أنّ القرآن مخلوق فأمر بإطلاق قيده وخلّى سبيله ، وأصرّ أحمد بن حنبل ومحمّد بن نوح على قولهما ولم يرجعا فشدّا جميعاً في الحديد ووجِّها إلى طرسوس وكتب معهما كتاباً بإشخاصهما.

ثمّ لمّا اعترض على الرّاجعين من عقيدتهم برّروا عملهم بعمل عمّار بن ياسر حيث أكره على الشِّرك وقلبه مطمئنّ بالإيمان (١) وقد كُتب تأويلهم إلى المأمون ، فلأجل ذلك ورد كتاب مأمون بأنّه قد فهم أمير المؤمنين ما أجاب القوم إليه ، وأنّ بشر بن الوليد تأوّل الآية الّتي أنزل الله تعالى في عمّار بن ياسر وقد أخطأ التّأويل إنّما عني الله عزّوجلّ بهذه الآية من كان معتقد الإيمان مظهر الشرك ، فأمّا من كان معتقد الشِّرك مظهر الإيمان فليس هذه له ، فأشخصهم جميعاً إلى طرسوس ليقيموا بها إلى خروج أمير المؤمنين من بلاد الرّوم.

فأخذ إسحاق بن إبراهيم من القوم الكفلاء ليوافوا بالعسكر بطرسوس ، فأشخص كلّ من ذكرنا أسماءهم ، فلمّا صاروا إلى الرّقة بلغتهم وفاة المأمون ، فأمر بهم عنبسة بن إسحاق ـ وهو والي الرقة ـ إلى أن يصيروا إلى الرقة ، ثمّ أشخصهم إلى إسحاق بن إبراهيم بمدينة السّلام ( بغداد ) مع الرّسول المتوجّه بهم إلى أمير المؤمنين ، فسلّمهم إليه فأمرهم إسحاق بلزوم منازلهم ثمّ رخّص لهم ذلك في الخروج (٢).

وما ذكرناه هو خلاصة محنة أحمد ومن كان على فكرته في زمن المأمون وليس فيه

__________________

١ ـ إشارة الى قوله سبحانه ( إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ) ( النمل / ١٠٦ ).

٢ ـ تاريخ الطبري : ج ٧، ص ١٩٥ إلى ٢٠٦ بتلخيص منّا.

٤٤٧

إلاّ إشخاص أحمد ومحمّد بن نوح موثّقين في الحديد إلى طرسوس وإشخاص غيرهما مطلقين ، ولمّا بلغهم وفاة المأمون رجعوا من الرقّة ولم يسيروا إلى طرسوس.

هذا وقد ذكر القصّة اليعقوبي بصورة مختصرة وقال :

« وصار المأمون إلى دمشق سنة ( ٢١٨ هـ ) وامتحن النّاس في العدل والتّوحيد وكتب في إشخاص الفقهاء من العراق وغيرها فامتحنهم في خلق القرآن وأكفر من امتنع أن يقول ـ : القرآن غير مخلوق ، وكتب أن لا تقبل شهادته ، فقال كلّ بذلك إلاّ نفراً يسيراً » (١).

هذا تفصيل المحنة أيّام المأمون ، وأمّا ما وقع في أيّام الخليفتين : المعتصم والواثق ، فسيوافيك بيانه بعد تعليقتنا.

تعليق على محنة خلق القرآن

إنّ هنا أُموراً لا بدّ من الإلفات إليها :

١ ـ لم يظهر من كتب الخليفة إلى صاحب الشّرطة وجه إصراره على أخذ الاعتراف من المحدِّثين بخلق القرآن. فهل كان الحافز إخلاصه للتوحيد ، وصموده أمام الشِّرك ، أو كان هناك مرمى آخر لإثارة هذه المباحث ، حتّى ينصرف المفكِّرون بسبب الاشتغال بهذه المباحث عن نقد أفعالهم وانحرافاتهم ، وبالتّالي إيقاف الثّورة أو إضمارها. فإنّ القلوب إذا اشتغلت بشيء ، منعت عن الاشتغال بشيء آخر.

٢ ـ لو كانت الرِّسالة مكتوبة بيد الخليفة أو باملائه ، فهي تحكي عن عمق تفكيره في المباحث الكلاميّة ، وإحاطته بأكثر الايات وقد جاء في المقام بأسدِّ الدّلائل وأتقنها ، حيث استدلّ تارة بتعلّق الجعل بالقرآن ، وأُخرى باحاطة اللّوح المحفوظ به ، ولا يحاط إلاّ بمخلوق ، وثالثة بتوصيفه ب ـ « محدث » ، ورابعة بتوصيفه بصفات كلّها صفات

__________________

١ ـ تاريخ اليعقوبي : ج ٢، ص ٤٦٨، ط دار صادر.

٤٤٨

المخلوق من تعلّق النّزول به ونهي النّبي عن العجلة بقراءته ، والدّعوة إلى الاتيان بمثله ، وأنّ له أماماً وخلفاً ، إلى غير ذلك.

٣ ـ إنّ الرِّسالة كشفت القناع عن السّبب الّذي أدخل هذه المسألة في أوساط المسلمين ، وقال : « إنّ القائلين بقدم القرآن يضاهئون قول النّصارى في أنّ المسيح كلمة وليس بمخلوق » ، وهو يعرب عن أنّ الفكرة دخلت إلى أوساط المسلمين بسبب احتكاك المسلمين بهم. وما يقال من أنّ اليهود هم المصدر لدخول هذه الفكرة بينهم غير تامّ والمأمون أعرف بمصدر هذه الفكرة.

٤ ـ لو صحّ ما ذكره الطّبري من صورة المحاورة الّتي دارت بين رئيس الشّرطة والمحدِّثين ، فإنّه يكشف عن جمود المجيبين وعيّهم في الجواب ، فإنّهم اتّفقوا على أنّ القرآن ليس بخالق ، ولكنّهم امتنعوا عن الاعتراف بأنّه مخلوق ، وبالتّالي جعلوا واسطة بين الخالق والمخلوق أو بين النّفي والاثبات ، وهو كما ترى.

ولو كان عذرهم في عدم الاعتراف بأنّ القرآن مخلوق ، هو الخوف من أن يكون هذا الاعتراف ذريعة للملاحدة حتّى ينسبوا إلى المسلمين بأنّهم يقولون إنّ القرآن مخلوق أي مختلق ومزوّر أو مخلوق للبشر ، فيمكن التخلّص منه بالتّصريح بأنّه مخلوق لله سبحانه لاغير ، والله هو خالقه وجاعله ليس غير.

٥ ـ لا شكّ أنّ عمل الخليفة كان أشبه بعمل محاكم التّفتيش في القرون الوسطى حيث كان البابا والبطارقة والقساوسة ، يتحرّون عقائد الناس لا سيّما المكتشفين أمثال غاليلو ، وكان ذلك وصمة عار على حياة الخليفة وبالتّالي على المعتزلة الّذين كان الخليفة يلعب بحبالهم ، ويلحقهم وزر أعماله ، وما يترك في المجتمع من ردّ فعل سيّىء. ومن المعلوم أنّ أخذ الاعتراف بكون القرآن مخلوقاً في جوّ رهيب ، لا يوافق تعاليم المعتزلة ، كما لا يوافق تعاليم الإسلام ، على أنّه لا قيمة لهذا الاعتراف عند العقل والنّقل فكيف رضي القوم بهذا العمل.

٦ ـ العجب من تلوّن الخليفة في قضائه في حقّ الممتنعين عن الاعتراف بخلق

٤٤٩

القرآن ، فيرى أنّ بشر بن الوليد ، وإبراهيم المهدي مستحقّان لضرب العنق إذا استتيبا ولم يتوبا ، والباقين مستحقّون للإشخاص إلى عسكره ، مع أنّ الجرم واحد ، والكلّ كانوا محدِّثين فهماء ، ولم يكن الأوّلان قائدي الشرك ، والباقون مقتفيه. فلو كان القول بعدم خلق القرآن أو قدمه موجباً للردّة والرجوع إلى الشرّك فالحكم الإلهي هو القتل وإلاّ فلا ، وهذا يعرب عن أنّ جهاز القضاء كان أداة طيّعة بأيدي الخلفاء ، يستغلّونه حسب أهوائهم.

٧ ـ إنّ محنة القائلين بعدم خلق القرآن ، تمّت في زمن الخليفة المأمون بالإشخاص والإبعاد من دار السّلام إلى طرسوس. غير أنّ التأريخ يذكر إشخاص اثنين موثّقين إلى عسكر الخليفة ، وإشخاص الباقين بلا قيود ولا ضرب ولا قتل إلى الخليفة. ولم يحدّث التاريخ هنا عن ضرب وقتل.

ولكنّ المحنة لم تنته بموت المأمون ، بل استمرّت في خلافة أخيه المعتصم ، فالواثق ابنه ولكن بصورة سيّئة ، حدث عنها التّاريخ.

قضى المأمون نحبه وجاء بعده أخوه المعتصم ( ٢١٨ ـ ٢٢٧ هـ ) فضيّق الأمر على القائلين بعدم خلق القرآن.

يقول اليعقوبي : « وامتحن المعتصم أحمد بن حنبل في خلق القرآن ، فقال أحمد : أنا رجل علمت علماً ولم أعلم فيه بهذا ، فأحضر له الفقهاء وناظره عبدالرّحمان بن إسحاق وغيره ، فامتنع أن يقول إنّ القرآن مخلوق ، فضرب عدّة سياط. فقال إسحاق بن إبراهيم : ولِّني يا أمير المؤمنين مناظرته فقال : شأنك به.

إسحاق بن ابراهيم : هذا العلم الّذي علمته نزل به عليك ملك أو علمته من الرجال؟

ابن حنبل : علمته من الرِّجال.

إسحاق : علمته شيئاً بعد شيء أو جملة؟

ابن حنبل : علمته شيئاً بعد شيء.

٤٥٠

إسحاق : فبقي عليك شيء لم تعلمه؟

ابن حنبل : بقي عليّ.

إسحاق : فهذا ممّا لم تعلمه وقد علّمكه أمير المؤمنين.

ابن حنبل : فإنّي أقول بقول أمير المؤمنين.

إسحاق : في خلق القرآن؟

ابن حنبل : في خلق القرآن.

فأشهد عليه وخلع عليه وأطلقه إلى منزله (١).

هذا ما كتبه ذلك المؤرخ المتوفّى ( عام ٢٩٠ هـ ).

وأمّا الطبري فلم يذكر في حياة المعتصم ما يرجع إلى مسألة خلق القرآن.

وقال المسعودي : « وفيها ( سنة ٢١٩ هـ ) ضرب المعتصم أحمد بن حنبل ثمانية وثلاثين سوطاً ليقول بخلق القرآن » (٢).

نعم ذكر الجزري في كامله في حوادث سنة ( ٢١٩ هـ ) وقال : « وفيها أحضر المعتصم أحمد بن حنبل وامتحنه بالقرآن ، فلم يجب إلى القول بخلقه ، فأمر به فجلد جلداً عظيماً حتّى غاب عقله وتقطّع جلده وحبس مقيّداً » (٣).

وروى الجاحظ أنّه لم يكن في مجلس الامتحان ضيق ، ولا كانت حاله حالاً مؤيساً ، ولا كان مثقّلاً بالحديد ، ولا خلع قلبه بشدّة الوعيد ، ولقد كان ينازع بألين الكلام ويجيب بأغلظ الجواب ويرزنون ويخفّ ويحلمون ويطيش » (٤).

هذا ولكن المتحيّزين إلى الحنابلة يذكرون المحنة بشكل فظيع. هذا أبو زهرة قد لخّص مقالهم بقوله :

« وقد تبيّن أنّ أحمد بن حنبل كان مقيّداً مسوقاً عند ما مات المأمون ، فأُعيد إلى

__________________

١ ـ تاريخ اليعقوبي : ج ٢، ص ٤٧٢.

٢ ـ مروج الذهب : ٣ / ٤٦٤ ط دار الاندلس.

٣ ـ الكامل ، ج ٥، ص ٢٣٣.

٤ ـ الفصول المختارة على هامش الكامل للمبرد : ج ٢، ص ١٣٩.

٤٥١

السجن ببغداد حتّى يصدر في شأنه أمر ، ثمّ سيق إلى المعتصم واتّخذت معه ذرايع الاغراء والارهاب ، فما أجدى في حمله ترغيب ولا ترهيب ، فلمّ ـ ا لم يجد القول رغباً ورهباً ، نفّذوا الوعيد فأخذوا يضربونه بالسياط ، المرّة بعد الأُخرى ، ولم يترك في كلِّ مرّة حتّى يغمى عليه وينخس بالسيف فلا يحسّ. فتكرّر ذلك مع حبسه نحواً من ثمانية وعشرين شهراً فلمّا استيأسوا منه وثارت في نفوسهم بعض نوازع الرّحمة أطلقوا سراحه وأعادوه إلى بيته وقد أثخنه الجراح وأثقله الضّرب المبرح المتوالي والالقاء في غيابات السِّجن » (١).

وليس لما ذكره أبو زهرة مصدر سوى « مناقب الامام أحمد بن حنبل » للحافظ أبي الفرج عبدالرّحمان بن الجوزي ومن تبعه مثل الحافظ ابن كثير في « البداية والنهاية » (٢).

والنّاظر في هذين الكتابين يرى تحيّزهما لأحمد بن حنبل وأنّهما يريدان نحت الفضائل له وعند ما قصرت أيديهما عنها لجأوا إلى المنامات ، فلا يمكن الاعتماد عليهما فيما يرويان من التّفاصيل في هذه المحنة. وقد عرفت التضارب في التاريخ بين قائل بأنّ أحمد رجع عن رأيه أثناء الضّرب كاليعقوبي ، وقائل بأنّه بقي على إنكاره.

محنة خلق القرآن والواثق

قضى المعتصم نحبه وخلفه ابنه الواثق ( ٢٢٣ ـ ٢٢٧ هـ ) (٣) وكان للمعتزلة في عصره قوّة وقدرة ونشاط وسيطرة.

قال اليعقوبي : « وامتحن الواثق النّاس في خلق القرآن فكتب إلى القضاة أن يفعلوا ذلك في سائر البلدان وأن لا يجيزوا إلاّ شهادة من قال بالتوحيد ، فحبس بهذا السبب عالماً كثيراً » (٤).

____________

١ ـ ابن حنبل ـ حياته وعصره ـ أبو زهرة ، ص ٦٥.

٢ ـ البداية والنهاية ، ج ١٠، ص ٢٣٠ الى ٣٤٣.

٣ ـ البداية والنهاية : ج ١٠، ص ٢٩٧.

٤ ـ تاريخ اليعقوبي : ج ٢، ص ٤٨٢.

٤٥٢

يقول الحافظ ابن كثير :

« وأمر الواثق بامتحان الأسارى الّذين فودوا من أسر الفرنج ، بالقول بخلق القرآن وأنّ الله لا يرى في الآخرة ، فمن أجاب إلى القول بخلق القرآن وأنّ الله لا يرى في الآخرة فودى وإلاّ ترك في أيدي الكفّار. وهذه بدعة صلعاء ، شنعاء ، عمياء ، صمّاء لا مستند لها من كتاب ولا سنّة ولا عقل صحيح » (١).

ولكن تحيّز ابن كثير للحنابلة وأصحاب القول بعدم خلق القرآن واضح في كتابه. فالاعتماد على ما ينقل من المحنة في حقِّ الحنابلة إن لم تؤيّده سائر الآثار مشكل ، وبما أنّ في الكتاب ، مغالاة في الفضائل ، ومحاولة لجعله اسطورة في التّأريخ بنقول مختلفة ، نكتفي بما يذكره الطبري في المقام.

يقول : « إنّ مالك بن هيثم الخزاعي كان أحد نقباء بني العبّاس ، وكان حفيده أحمد بن نصر بن مالك ، يغشاه أصحاب الحديث كيحيى بن معين وابن الدورقي وابن خيثمة ، وكان يظهر المباينة لمن يقول : القرآن مخلوق ، مع منزلة أبيه من السّلطان في دولة بني العبّاس ، ويبسط لسانه فيمن يقول ذلك مع غلظة الواثق على من يقول ذلك. فحرّك أصحاب الحديث وكلّ من ينكر القول بخلق القرآن أحمد بن نصر وحملوه على الحركة لانكار القول بخلق القرآن ، والغاية من هذه الحركة ، الثورة في بغداد على الخليفة الواثق ، وخلعه من الخلافة ، غير أنّ هذه المحاولة فشلت فأخذوا وحملوا إلى سامراء ، الّتي كانت مقرّاً للواثق ، فحضر القوم واجتمعوا عنده ، فلمّا اُتي بأحمد بن نصر قال له : ياأحمد ما تقول في القرآن؟ قال : كلام الله ، قال أفمخلوق هو؟ قال : هو كلام الله ، قال : فما تقول في ربِّك أتراه يوم القيامة؟ قال : يا أمير المؤمنين جاءت الآثار عن رسول الله أنّه قال : ترون ربّكم يوم القيامة كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته ، فنحن على الخبر.

فقال الواثق لمن حوله : ما تقولون فيه؟ فقال عبدالرحمان بن إسحاق : يا أمير

__________________

١ ـ البداية والنهاية : ج ١٠، ص ٣٠٧.

٤٥٣

المؤمنين هو حلال الدم. وقال ابن أبي دؤاد : يا أمير المؤمنين ، كافر يستتاب لعلّ به عاهة ، أو تغيّر عقلي ، فقال الواثق ، إذا رأيتموني قد قمت إليه فلا يقومنّ أحد معي ، فإنّي أحتسب خطاي إليه ، ودعا بالصمصامة ، سيف عمرو بن معديكرب ، فمشى إليه وهو في وسط الدّار ، ودعا بنطع فصير في وسطه حبل فشدّ رأسه ، ومدّ الحبل ، فضربه الواثق ضربة ، فوقعت على حبل العاتق ، ثمّ ضربه أُخرى على رأسه ، ثمّ انتضى سيما الدمشقي سيفه ، فضرب عنقه وحزّ رأسه » (١).

هذه خلاصة القصّة. ومن المعلوم أنّ هذه القسوة من الخليفة كانت مبرّرة عنده ، لا لأجل قوله بخلق القرآن ورؤية الله ، بل لما قام به من الثّورة عليه.

ويقول أيضاً : « أمر الواثق بامتحان أهل الثّغور في القرآن ، فقالوا بخلقه جميعاً إلاّ أربعة نفر ، فأمر الواثق بضرب أعناقهم إن لم يقولوه » (٢).

وقام الواثق بنفس العمل الّذي قام به أبوه في امتحان أسرى المسلمين ، فمن قال إنّ القرآن مخلوق فودي به ، ومن أبى ذلك ترك في أيدي الرّوم وأمر لطالب بخمسة آلاف درهم ، وأمر أن يعطوا جميع من قال إنّ القرآن مخلوق ممن فودي به ديناراً لكلِّ إنسان من مال حمل معهم (٣).

وكانت المحنة مستمرّة ، والضيق على أصحاب القول بعدم خلق القرآن متواصلاً إلى أن وافاه الأجل ومات الواثق عام ٢٣٢.

وقد اتّفقت كلمة أهل السّير على أنّ الخلفاء كانوا يلعبون بحبال عدّة من المعتزلة الّذين كسبوا منزلة عظيمة لدى الخلفاء ، وهم ثمامة بن أشرس وأحمد بن أبي دؤاد الزيّات وغيرهم. وبموت الخليفة وتسنّم ابنه المتوكّل على الخلافة ، غاب نجم المعتزلة وانحدروا من الأوج إلى الحضيض ومن العزِّ إلى الذّلّة ، وإليك هذا القسم من التّاريخ.

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٧، حوادث سنة ٢٣١، ص ٣٢٨، ٣٢٩.

٢ ـ المصدر السابق : ص ٣٣١.

٣ ـ المصدر السابق : ص ٣٣٢.

٤٥٤

قصّة المحنة وخلافة المتوكّل

قضى الواثق نحبه وقام مقامه المتوكّل وأمر الناس بترك النظر والبحث والجدال وترك ما كانوا عليه في أيّام الخلفاء الثلاث : المأمون والمعتصم والواثق ، وأمر شيخ المحدِّثين بالتحديث وإظهار السنّة (١).

قال اليعقوبي : « نهى المتوكِّل النّاس عن الكلام في القرآن وأطلق من كان في السّجون من أهل البلدان ، ومن أخذ في خلافة الواثق ، فخلاّهم جميعاً وكساهم ، وكتب إلى الآفاق كتباً ينهي عن المناظرة والجدل » (٢).

هذه هي الضّربة الأُولى الّتي وجّهها المتوكِّل إلى المعتزلة ، وأقفل باب البحث والمناظرة الّذي كان لصالح المعتزلة على ضدِّ أهل الحديث ، حيث كان المعتزلة يتفوّقون على خصمائهم في مجال النِّقاش. ومع ذلك كلّه لم يكن ذلك ضربة قاضية لنظام الاعتزال ، ولأجل ذلك لم يعزل أحمد بن دؤاد عن قضاء القضاة ولا عن مظالم العسكر ، بل أبقاه على منصبه إلى أن عجز عن القيام بالعمل لإصابته بالفالج عام ٢٣٣ واختار بعده ولده محمّد بن أحمد.

يقول الخطيب : « فلمّا فلج أحمد بن أبي دؤاد في جمادي الآخرة سنة ٢٣٣... ولّى المتوكِّل ابنه محمّد بن أحمد أبا الوليد القضاء ومظالم العسكر مكان أبيه » (٣).

ومن المعلوم أن أحمد بن أبي دؤاد هو العامل المؤثِّر في دعوة الخلفاء على ضدِّ أهل الحديث القائلين بقدم القرآن أو كونه غير مخلوق.

ويظهر من ابن الجوزي في كتاب مناقب الإمام أحمد أنّ المتوكِّل وجّه إلى المعتزلة ضربة ثانية مؤثِّرة في إبعادهم عن ساحة المساجد والمدارس وإشخاص أهل الحديث

__________________

١ ـ مروج الذهب : ج ٤، ص ١.

٢ ـ تاريخ اليعقوبي : ج ٢، ص ٤٨٤ ـ ٤٨٥.

٣ ـ تاريخ بغداد : ج ١، ص ٢٩٨.

٤٥٥

ودعوتهم إليها. يقول : « في سنة ٢٣٤ أشخص المتوكِّل الفقهاء والمحدِّثين ، وأمرهم أن يجلسوا للنّاس وأن يحدِّثوا بالأحاديث فيها الردّ على المعتزلة والجهميّة ، وأن يحدِّثوا في الرّؤية ، فجلس عثمان بن أبي شيبة فى مدينة المنصور ، ووضع له منبر واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً من الناس ، وجلس أبوبكر بن أبي شيبة في مسجد الرصافة واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً » (١).

والتّاريخ يعرب عن شدّة تفاقم أمر المعتزلة سنة بعد سنة وانجذاب المتوكِّل إلى أهل الحديث ، وتخطئة عمل أبيه الواثق ، حيث إنّ أباه قتل بسيفه أحمد بن نصر لأجل قوله بعدم خلق القرآن وصلبه وكانت جثّته باقية على الصّليب إلى عام ٢٣٧، ولكنّ المتوكِّل أمر بإنزال جثّته وهو نوع تخطئة لعمل أبيه أوّلاً ، وإمضاء لمنهج أهل الحديث ثانياً.

يقول الطبري : « وقد كان المتوكِّل لمّا أفضت إليه الخلافة ، نهى عن الجدال في القرآن وغيره ، ونفذت كتبه بذلك إلى الآفاق ، وهمّ بإنزال أحمد بن نصر عن خشبته ، فاجتمع الغوغاء والرّعاع إلى موضع تلك الخشبة وكثروا وتكلّموا ، فبلغ ذلك المتوكّل ، فوجّه إليهم نصربن اللّيث ، فأخذ منهم نحواً من عشرين رجلاً فضربهم وحبسهم ، وترك إنزال جثّة أحمد بن نصر من خشبته لما بلغه من تكثير العامّة في أمره ، وبقي الّذين أُخِذوا بسببه في الحبس حيناً ... فلمّا دفع بدنه إلى أوليائه في الوقت الّذي ذكرت ، حمله ابن أخيه موسى إلى ( بغداد ) وغسل ودفن وضمّ رأسه إلى بدنه » (٢).

ومع ذلك لم يكتف في قطع جذور المعتزلة عن بلاطه وصار بصدد الانتقام من آل ابن أبي دؤاد. يقول الطبري : « وفي سنة ٢٣٧ غضب المتوكِّل على ابن أبي دؤاد وأمر بالتّوكيل على ضياع أحمد بن أبي دؤاد لخمس بقين من صفر ، وحبس يوم السبت لثلاث خلون من شهر ربيع الأوّل ابنه أبا الوليد محمّد بن أحمد بن أبي دؤاد في ديوان الخراج

__________________

١ ـ مناقب الامام أحمد : ص ٣٧٥ ـ ٣٨٥.

٢ ـ تاريخ الطبري : ج ٧، حوادث سنة ٢٣٧، ص ٣٦٨ ـ ٣٦٩.

٤٥٦

وحبس إخوته عند عبيد الله بن السريّ خليفة صاحب الشرطة » (١).

والظّاهر من الخطيب في تاريخه أنّ عزل محمّد بن أحمد كان يوم الأربعاء بعشر بقين من صفر سنة ٢٤٠ وصُدرت أمواله ، ومات أبو الوليد محمّد بن أحمد ببغداد في ذي القعدة سنة ٢٤٠ ومات أبوه أحمد بعده بعشرين يوماً (٢).

ثمّ إنّ إبعاد المعتزلة عن ساحة القدرة فسح للشعب إظهار حقده وإبداء كامل غيظه في مناسبات شتّى. منها ما عرفت عند إنزال جثّة أحمد بن نصر ، ومنها ما فعلوه في تشييع جنازة أحمد بن حنبل ، فقد شيّعه جماعة كثيرة وإن غالى ابن الجوزي ـ كما هو شأنه ـ في حقِّ إمامه وقال : « وعن بعض الشهود أنّه مكث طول الأسبوع رجاء أن يصل إلى القبر فلم يتمكّن إلاّ بشقِّ النّفس لكثرة ازدحام النّاس عليه » (٣). وأخذ الشعراء يهجون المعتزلة. يقول شاعرهم :

أفلت سعود نجومك ابن دؤاد

و بدتْ نحوسك في جميع إياد

فرحت بمصرعك البريّة كلّها

من كان منها موقتاً بمعاد

كم من كريمة معشر أرملتَها

ومحدِّث أوثقتَ بالأقياد

كم مجلس لله قد عطّلتَه

كيلا يحدّث فيه بالاسناد

كم من مساجد قد منعتَ قضاتها

من أن يعدّل شاهد برشاد

كم من مصابيح لها أطفأتها

كيما تزلّ عن الطّريق الهادي (٤)

وأخذ أهل الحديث يجلسون في المساجد ويروون الأحاديث ضدّ الاعتزال ويكفّرون المعتزلة. سأل أحدهم أحمد بن حنبل عمّن يقول إنّ القرآن مخلوق ، فقال : كافر. قال : فابن دؤاد؟ قال كافر بالله العظيم (٥).

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٧، حوادث سنة ٢٣٧، ص ٣٦٧ ـ ٣٦٨.

٢ ـ تاريخ بغداد : ج ١، ص ٢٩٨، ولاحظ الكامل لابن الاثير ج ٥، حوادث سنة ٢٤٠، ص ٢٩٤.

٣ ـ مناقب الامام أحمد : ص ٤١٨.

٤ ـ تاريخ بغداد : ج ٤، ص ١٥٥.

٥ ـ تاريخ بغداد : ج ٣، ص ٢٨٥.

٤٥٧

عند ذلك شعرت المعتزلة بأنّ الظّروف قاسية وأنّ السّلطة والأكثريّة الساحقة من أهل السنّة يريدون أن يقضوا عليهم ويشفوا غيظ صدورهم منهم ، ومع ذلك كلّه كانت عندهم طاقة يردّون بها عن أنفسهم الّتي رشقوا بها ويتمسّكون بكلِّ طحلب وحشيش. فقام الجاحظ أحد أُدباء المعتزلة فألّف كتاباً باسم « فضيلة المعتزلة » فأثنى عليهم وعدّ فضائلهم وكان الكتاب من حيث الصياغة والتعبير بمكان توجّهت إليه أبصار الخاصة والعامّة ، وبالتّالي ظهر عليه ردّ أو ردود ، أشهرها ما كتبه أحمد بن يحيى الراوندي ( م ٣٤٥ هـ ) الّذي كان من المعتزلة ، ثمّ رجع عنهم فألّف كتابه « فضيحة المعتزلة » ولم يبرح زمان حتّى جاء أبو الحسين عبدالرحمن بن محمّد بن عثمان الخيّاط فألّف « الانتصار » انتصر فيه للجاحظ على ابن الرّاوندي والموجود من هذه الكتب الثّلاثة هو الأخير.

ثمّ إنّ ممّا أعان على انقراضهم هو تشتّت مذاهبهم وفرقهم ، فإنّ القوم تفرّقوا إلى مدرستين ، مدرسة معتزلة بغداد ومدرسة معتزلة البصرة ، ولم تكن حتّى في نفس كلِّ واحدة منهما وحدة في التّفكير ، فصاروا فرقاً ينوف على العشرين وعند ذلك بلغوا الى درجة من الضّعف والانحلال ، وإن كان ينجم بينهم رجال مفكّرون كأبي عليّ الجبائي ( م ٣٠٣ هـ ) وولده أبي هاشم ( م ٣٢١ هـ ).

وجاءت الضّربة الأخيرة من جانب أبي الحسن الأشعريّ الّذي كان ربيب أبي عليّ الجبّائي وتلميذه ، ورجوعه عن الاعتزال بالتحاقه بأهل الحديث ، فقد رقى في البصرة يوم الجمعة كرسيّاً ونادى بأعلى صوته : « من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا اعرّفه بنفسي أنا فلان بن فلان ، كنت أقول بخلق القرآن ، وأنّ الله لا تراه الأبصار ، وأنّ أفعال الشّرّ أنا أفعلها وأنا تائب مقلع ، معتقد للردّ على المعتزلة ، مخرج لفضائحهم ومعايبهم » (١).

فقد كان لرجوع من كان من أكابر تلاميذ أبي عليّ الجبّائي أثر بارز في النّفوس

__________________

١ ـ فهرس ابن النديم ، الفن الثالث من المقالة الخامسة ص ٢٣١، ووفيات الاعيان ، ج ٣، ص ٢٧٥.

٤٥٨

وبذلك أخذ الدهر يقلب عليهم ظهر المجن ، تقلّب لجّة البحر بالسفن المشحونة والفلك المصنوعة ، بين بالغ إلى ساحل النّجاة وهالك في أمواج الدّهر. هذا هو القادر بالله أحد خلفاء العبّاسيين قام في سنة ( ٤٠٨ هـ ) بنفس العمل الّذي قامت به المعتزلة في عصر المعتصم والواثق. يقول الحافظ ابن كثير : « وفي سنة ( ٤٠٨ هـ ) ، استتاب القادر بالله الخليفة فقهاء المعتزلة فأظهروا الرّجوع وتبرّأوا من الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام ، وأخذت خطوطهم بذلك وأنّهم متى خالفوا أحلّ فيهم من النّكال والعقوبة ما يتّعظ به أمثالهم ، وامتثل محمود بن سبكتكين أمر أمير المؤمنين في ذلك واستنّ بسنّته في أعماله الّتي استخلفه عليها من بلاد خراسان وغيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيليّة والقرامطة والجهميّة والمشبّهة وصلبهم وحبسهم ونفاهم وأمر بلعنهم على المنابر وأبعد جميع طوائف أهل البدع ونفاهم عن ديارهم وصار ذلك سنّة في الإسلام » (١).

قال الخطيب : « وصنّف القادر بالله كتاباً في الأُصول ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أصحاب الحديث وأورد في كتابه فضائل عمر بن عبدالعزيز وإكفار المعتزلة والقائلين بخلق القرآن وكان الكتاب يقرأ كلّ جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي ويحضر النّاس سماعه » (٢).

أقول : وهذا الكتاب هو المعروف « بالبيان القادري » وصار هذا الكتاب محوراً لتمييز الحقِّ عن الباطل والصّحيح عن الزّائف.

وقال ابن الجزري في حوادث سنة ( ٤٢٠ هـ ) : « ولمّا ملك محمود بن سبكتكين الري .. نفى المعتزلة إلى خراسان وأحرق كتب الفلسفة ومذاهب الاعتزال والنّجوم وأخذ من الكتب ما سوى ذلك مائة حمل » (٣).

__________________

١ ـ البداية والنهاية : ج١٢ ص٦.

٢ ـ تاريخ بغداد : ج ٤، ص ٣٧ و٣٨.

٣ ـ الكامل : ج ٧، حوادث سنة ٤٢٠.

٤٥٩

وقال ابن كثير في حوادث سنة ( ٤٥٦ هـ ) ناقلاً عن ابن الجوزي : « وفي يوم الجمعة ثاني عشر شعبان هجم قوم من أصحاب عبدالصمد على أبي عليّ بن الوليد المدرس للمعتزلة فسبّوه وشتموه لامتناعه من الصلاة في الجامع وتدريسه للنّاس بهذا المذهب وأهانوه وجرّوه ولعنت المعتزلة في جامع المنصور وجلس أبو سعيد بن أبي عمامة وجعل يلعن المعتزلة » (١).

وقال في حوادث سنة ( ٤٧٧ هـ ) : « إنّ أبا عليّ بن الوليد شيخ المعتزلة كان مدرّساً لهم فأنكر أهل السنّة عليه فلزم بيته خمسين سنة إلى أن توفّي في ذي الحجّة منها ».

ويقول أيضاً في حوادث ( ٤٦١ هـ ) : « وفيها نقمت الحنابلة على الشيخ أبي الوفاء عليّ بن عقيل وهو من كبرائهم بتردّده إلى أبي عليّ بن الوليد المتكلّم المعتزلي واتّهموه بالاعتزال » (٢).

ويقول في حوادث سنة ( ٤٦٥ هـ ) : « وفي يوم الخميس حادي عشر المحرّم حضر إلى الديوان أبو الوفاء عليّ بن محمّد بن عقيل العقيلي الحنبلي وقد كتب على نفسه كتاباً يتضمّن توبته من الاعتزال » (٣).

وبذلك حقّق التّاريخ السنّة المعروفة « كما تدين تدان » وأخذت الطّائفتان ، الحنابلة والمعتزلة يتصارعان ويقتتلان قتال موت أو حياة ، فصارالانتصار لأصحاب الحديث ، والهلاك والاضطهاد للمعتزلة ، فلم يظهر بعد هذه القرون إلاّ آحاد ينجمون في الفينة بعد الفينة والفترة بعد الفترة لا تجد لهم ذكراً بارزاً في ثنايا التاريخ.

إنّ تكامل الأُمم وبلوغها الذّروة من العظمة ، ثمّ انحدارها إلى هاوية الضعف والانحلال سنّة إلهيّة قضى بها على جميع الأُمم ، فلم يكن ارتقاء المعتزلة بلا سبب ، كما أنّه لم يكن ضعفهم بلا علّة. فيجب على الباحث المتأمِّل في ثنايا القضايا التّاريخية تحليل هذه الظاهرة تحليلاً علميّاً يوافق الأُصول المسلّمة في تحليل هذه المباحث.

__________________

١ ـ البداية والنهاية : الجزء ١٢، ص ٩١.

٢ ـ المصدر نفسه : ص ٩٨ و١٠٥.

٣ ـ المصدر نفسه : ص ٩٨ و١٠٥.

٤٦٠