بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٩

واستمراره ثابتان ، غير أَنّ المولى سبحانه ، تَفَضّلاً منه ، عفا عن عبده لفعله الطّاعات.

قال سبحانه : ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَونَ عَنْهُ نُكَفِّر عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ ونُدْخِلُكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ) ( سورة النساء : الآية ٣١ ).

وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً ويُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ وَالله ذُو الفَضْلِ العَظِيم ) ( سورة الأنفال : الآية ٢٩ ).

وقال سبحانه : ( والّذينَ آمَنوُا وعَمِلوا الصالحاتِ وآمَنُوا بما نُزِّلَ على مُحَمّد وهُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفّرَ عَنْهُمْ سيِّئاتِهِمْ وأَصْلَحَ باَلُهمْ ) ( سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآية ٢ ).

ولا يمكن استفادة الإطلاق من هذه الآيات ، وأَنّ كلّ معصية تكفَّر ، لأنّها بصدد بيان تشريع التّكفير ، وأمّا شروطه وبيان المعاصي الّتي تكفّر دون غيرها ، فلا يستفاد منها ، وإنّما الظاهر من الآية الأُولى هو اشتراط تكفير الذنوب الصغيرة باجتناب الكبيرة منها ، ومن الآية الثانية ، اشتراط تكفير السّيئات بالتّقوى ومن الثالثة ، تكفير السيّئات للّذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نُزِّل على الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

روى الكراجكي بسنده عن الإمام علي عليه‌السلام أنّه قال : « وإنْ كان عليه فضل ، وهو من أَهل التّقوى ، ولم يشرك بالله تعالى ، واتّقى الشرك به ، فهو من أَهل المغفرة ، يغفر الله له برحمته إن شاء ويتفضّل عليه بعفوه » (١).

__________________

١ ـ البحار ، ج ٥، ص ٣٣٥.

٤٢١

الأصل الرابع

المنزلة بين المنزلتين

إنّ هذا الأصل يهدف إلى أنّ صاحب الكبيرة لا يسمّى مؤمناً ، كما عليه جمهور المسلمين ولا كافراً ، كما عليه الخوارج ، وإنّما يسمّى فاسقاً. فهو من حيث الإيمان والكفر في منزلة بين المنزلتين.

قال القاضي : « لا يكون اسمه اسم الكافر ولا اسمه اسم المؤمن ، وإنّما يسمّى فاسقاً. وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر ولا حكم المؤمن ، بل يفرد له حكم ثالث وهذا الحكم الّذي ذكرناه هو سبب تلقيب المسألة بالمنزلة بين المنزلتين. فإنّ صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان ، فليست منزلته منزلة الكافر ، ولا منزلة المؤمن ، بل له منزلة بينهما » (١).

ثمّ إنّه قسّم المكلّف من حيث استحقاق الثّواب والعقاب إلى قسمين : إمّا أن يكون مستحقّاً للثّواب فهو من أولياء الله ، وإمّا أن يكون مستحقّاً للعقاب فهو من أعداء الله.

ثمّ الثّاني إمّا أن يكون مستحقّاً للعقاب العظيم فهو الكافر والمنافق والمرتدّ. وإن استحقّ عقاباً دون ذلك سمّي فاسقاً « وهو المرتكب للكبيرة ».

ثمّ إنّ الأساس لاخراج الفاسق عن المؤمن هو جعل العمل جزءاً من الإيمان ،

____________

١ ـ شرح الأصول الخمسة : ص ٦٩٧.

٤٢٢

وعلى هذا فإذا ترك فريضة أو ارتكب حراماً يخرج من عداد المؤمنين وفيه تشترك المعتزلة والخوارج ، ولكن تنشعب المعتزلة عن الخوارج بقولهم إنّه لا مؤمن ولا كافر ، بل في منزلة ـ أو له ـ بين المنزلتين ، ولكنّه عند الخوارج ليس بمؤمن بل كافر.

ثمّ إنّهم استدلّوا على كونه ليس بمؤمن بوجوه نأتي بها مع تحليلها :

الدّليل الأوّل : ما مرّ في مناظرة واصل بن عطاء مع عمرو بن عبيد من اختلاف المسلمين في سائر الأسماء واتّفاقهم على كونه فاسقاً ، فنأخذ بالمجمع عليه ونطرح ما اختلفوا فيه ، حيث إنّهم اختلفوا في كونه مؤمناً أو كافراً أو منافقاً ، ولكن اتّفقوا في كونه فاسقاً ، فنأخذ بالمتيقّن ونطرح المختلف فيه. وقد عرفت ضعف هذا الدّليل فلا نعيده.

الدّليل الثّاني : ما ذكره القاضي من أنّ « المؤمن » نقل عن معناه اللّغوي إلى معنى آخر وصار بالشّرع اسماً لمن يستحقّ المدح والتّعظيم ، والدّليل على ذلك أنّه تعالى لم يذكر اسم المؤمن إلاّ وقد قرن إليه المدح والتّعظيم. ألا ترى إلى قوله تعالى : ( قد أفلح المؤمنون ) وقوله : ( إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) وقوله : ( إنّما المؤمنون الّذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتّى يستأذنوه ) إلى غير ذلك من الآيات.

ومثله لفظ المسلم فهومنقول إلى من يستحقّ المدح والتّعظيم.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره ادّعاء محض غير مقترن بالدّليل ناش من خلط الأثر بذي الأثر ، ولو صحّ لوجب أن يقول القاضي : إنّ الصّلاة موضوع لمعراج المؤمن ، والصّوم للجُنّة من النار ، والزّكاة لتنمية المال ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الصّلاة معراج المؤمن » و « الصّوم جُنّة من النار » و « الزّكاة تنمية للمال ».

والّذي يدلّ على فساد ما ذكره أنّه لو صحّ لوجب أن يصحّ وضع الممدوح مكان المؤمن في الآيات التّالية ، مع أنّه لا يقبله أيّ ذوق سليم.

١ ـ قال سبحانه : ( ولعبد مؤمن خير من مشرك ) ( البقرة / ٢٢١ ).

٤٢٣

٢ ـ وقال سبحانه : ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ ) ( النساء / ٩٢ ).

٣ ـ وقال سبحانه : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة ) ( الأحزاب / ٣٦ ) إلى غير ذلك من الآيات.

والعجب من القاضي كيف غفل عن الآيات الّتي ذكر فيها متعلّق الإيمان ، ومعه لا يمكن حمله إلاّ على أنّه بمعنى الاذعان. قال سبحانه : ( وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر ) ( النساء / ٣٩ ).

و قال سبحانه : ( والّذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرّقوا بين أحد منهم ) ( النساء / ٢٥١ )

وقال سبحانه : ( فأمّا الّذين آمنوا بالله واعتصموا به ) ( النساء / ١٧٥ ).

إلى غير ذلك من الآيات الّتي لا تبقي شكّاً في أنّ الإيمان بمعنى الاذعان مطلقاً ، وفي المقام بمعنى الإيمان بالله واليوم الآخر ورسوله.

وأمّا ما ذكر من أنّه سبحانه لم يذكر اسم المؤمن إلاّ وقد قرن إليه المدح والتّعظيم منقوض بقوله سبحانه : ( ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يكفّر عنه سيّئاته ) ( التغابن / ٩ ).

وقال سبحانه : ( الّذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن ) ( الأنعام / ٨٢ ) والظّاهر أنّ القيد « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » احترازيّ لا توضيحيّ.

أضف إليه أنّ الإيمان ذو درجات ومراتب ، فالمدح المطلق للدّرجة العليا والمدح النّسبي للدرجات التالية لها.

ثمّ إنّ تقسيم النّاس إلى قسمين : من يستحقّ الثّواب ، ومن يستحقّ العقاب ، لا يصدقه القرآن ، بل هناك قسم ثالث وهو عبارة عمّن يستحقّ كلا الأمرين. قال سبحانه : ( وآخرون ( من الأعراب ) اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً عسى الله أن يتوب عليهم إنّ الله غفور رحيم ) ( التوبة / ١٠٢ ) فلأجل كونه ذا عمل

٤٢٤

صالح يستحقّ الثّواب قطعاً لقوله : ( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حيوة طيَّبة ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) ( النحل / ٩٧ ) ويستحقّ العقاب لكونه ذا عمل سَيّىء.

ثمّ إنّ القاضي عطف على دليله السابق قوله :

١ ـ لو كان لفظ المؤمن باقياً على ما كان عليه في اللّغة لكان يجب إذا صدّق المرء غيره أو آمنه من الخوف أن يسمّى مؤمناً وإن كان كافراً.

٢ ـ ولكان يجب أن لا يسمّى الأخرس مؤمناً.

٣ ـ ولكان أن لا يجري على النّائِم والسّاهي ، لأنّ الانقياد غير مقصود منهما.

٤ ـ ولكان يجب أن لا يسمّى الآن بهذا الاسم إلاّ المشتغل به دون من سبق منه الإسلام ، ولازمه أن لا نسمّي أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مؤمنين (١).

يلاحظ عليه : أنّهذه الوجوه عليلة جدّاً لا تليق بمقام القاضي. أمّا الأوّل ، فالمؤمن هو المذعن المصدّق ، ويختلف متعلّقه بحسب اختلاف الموارد ، فإذا أطلق في عرف اللّغة يراد منه نفس المذعن ، سواء كان متعلّقه هو الله سبحانه أو غيره. قال سبحانه : ( وما أنت بمؤمن لنا ) ( يوسف / ١٧ ).

وأمّا في عرف الشّرع والمتشرّعة ومصطلح القرآن والحديث ، فالمراد هو الاذعان بالله واليوم الآخر ورسالة رسوله ، فالّذي يصدق شخصاً مؤمن حسب اللّغة ، ولا يطلق عليه المؤمن في مصطلح الشّرع والمتشرّعة بهذا الملاك.

وأمّا الأخرس فهو مؤمن لكشف إشاراته عن إذعانه ، والنّائم والسّاهي مؤمنان لوجود الاذعان في روحهما ، غاية الأمر يكون النّوم والسّهو مانعين عن بروزهما. وأمّا من مات مؤمناً فهو أيضاً مؤمن بلحاظ حال النّسبة ، لا حال التكلّم ، فالضّارب والقاتل في اليوم الماضي يطلق عليهما المشتقّ باعتبار زمان النّسبة لا باعتبار زمان التكلّم ، والشّجرة

__________________

١ ـ شرح الاصول الخمسة : ص ٧٠٣ ـ ٧٠٥.

٤٢٥

المثمرة في الشّتاء مثمرة بلحاظ حال النّسبة.

ثمّ إنّ القاضي استدلّ بآيات ربّما يستظهر منها دخول الأعمال في الإيمان ، فقد أوضحنا مداليلها عند البحث عن عقائد المرجئة ، فلا نطيل.

ثمّ إنّ هناك اختلافاً بين نفس المعتزلة ، فذهب أبو الهذيل إلى أنّ الإيمان عبارة عن أداء الطّاعات ، الفرائض والنّوافل ، واجتناب المقبّحات. وهو أيضاً خيرة القاضي.

واختار الجبّائيان أنّه عبارة عن أداء الطّاعات ، الفرائض دون النوافل ، واجتناب المقبّحات.

وقد عرفت ضعف الكلّ عند البحث عن المرجئة.

بقي هنا بحث وهو الاجابة عن الاستدلالات الّتي تمسّك بها الخوارج على

أنّ مرتكب الكبائر كافر. ونبحث عنها في الجزء (١) المختصّ بعقائدهم ، فانتظر.

__________________

١ ـ لاحظ الجزء الخامس من هذه الموسوعة.

٤٢٦

الأصل الخامس

الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر

هذا هو الأصل الخامس من الأُصول الخمسة. والأُصول المتقدّمة تتعلّق بالنّظر والاعتقاد بخلافه ، فهو بالعمل ألصق وعلى هذا الأصل بعث واصل بن عطاء وغيره دعاته إلى الأقطار المختلفة كما عرفته في ترجمته. ويبحث فيه عن المسائل التّالية.

١ ـ هل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واجب أو لا؟

٢ ـ هل وجوبهما سمعيّ أو عقلي؟

٣ ـ ما هي شرائط وجوبهما؟

٤ ـ هل وجوبهما عيني أو كفائي؟

٥ ـ مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

أمّا الأُولى ، فقد ذكر القاضي أنّه لاخلاف بين الأُمّة في وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إلاّ ما يحكى عن شرذمة من الإماميّة لا يقع بهم وبكلامهم اعتداد (١).

يلاحظ عليه : أنّه ماذا يريد من قوله « من الإماميّة »؟ هل كلمة من تبعيضيّة أو بيانيّة؟ فإن كان الأوّل كما هو الظّاهر ، فلا نعرف تلك الشّرذمة من الإماميّة ، فإنّهم عن بكرة أبيهم مقتفون للكتاب والسنّة ، وصريح الكتاب وأحاديث العترة الطّاهرة على

__________________

١ ـ شرح الاصول الخمسة : ص ٧٤١.

٤٢٧

وجوبهما. فمن أراد فليرجع إلى جوامعهم الحديثيّة (١).

ونكتفي برواية واحدة من عشرات الرّوايات. روى جابربن عبدالله الأنصاري عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام أنّه قال : « إنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء ، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتؤمن المذاهب ، وتحلّ المكاسب ، وتردّ المظالم ، وتعمّر الأرض ، وينتصف من الأعداء ، ويستقيم الأمر » (٢).

وإن كان الثّاني ، فهو غير صحيح. وهذه كتب الإماميّة في الكلام والتّفسير والفقه مشحونة بالبحث عن فروع المسألة بعد تسليم وجوبهما.

قال الشّيخ المفيد ( م ٤١٣ هـ ) : « إنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر باللّسان فرض على الكفاية بشرط الحاجة إليه ، لقيام الحجّة على من لا علم لديه إلاّ بذكره أو حصول العلم بالمصلحة به أو غلبة الظّنّ بذلك » (٣).

وهذا المحقّق الطّوسي نصير الدّين ( م ٦٧٢ هـ ) يقول في « تجريد الاعتقاد » : « والأمر بالمعروف واجب ، وكذا النّهي عن المنكر. وبالمندوب مندوب » (٤).

نعم ، بعض مراتب الأمر بالمعروف كالجهاد الابتدائي مع العدوّ الكافر مشروط بوجود الإمام العادل. قال الإمام عليّ بن موسى الرّضا عليه‌السلام في كتابه إلى المأمون : « والجهاد واجب مع إمام عادل ، ومن قاتل فقتل دون ماله ورحله ونفسه فهو شهيد » (٥).

وقد استظهر بعض الفقهاء من هذا الحديث وغيره أنّ المراد هو الإمام المعصوم المنصوص على ولايته من جانب الله سبحانه بواسطة النّبي. غير أنّ في دلالة الرّوايات على هذا الشرط نوع خفاء ، بل عموم ولاية الفقيه في زمان الغيبة كاف في تسويغ ذلك

__________________

١ ـ لاحظ : وسائل الشيعة ، ج ١١، الباب الأول من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ص ٣٩٣.

٢ ـ المصدر السابق ، الحديث السابع.

٣ ـ أوائل المقالات : ص ٩٨.

٤ ـ كشف المراد : ص ٢٧١، ط صيدا.

٥ ـ الوسائل : ج ١١، الباب الثاني عشر من أبواب جهاد العدو ، الحديث ١٠.

٤٢٨

للفقيه الجامع للشّرائط (١).

وأمّا سائر مراتب الأمر بالمعروف من الإنكار بالقلب والتّذكير باللّفظ والعمل باليد فسيأتي البحث عنه في المسألة الخامسة.

نعم ، كان على القاضي أن يذكر خلاف الحنابلة والأشاعرة في مجابهة الظّالمومكافحته. قال إمام الحنابلة : « السّمع والطّاعة للأئمّة وأمير المؤمنين البرّ والفاجر ».

وقال الشيخ أبو جعفر الطّحاوي الحنفي : « ولا نرى الخروج على أئمّتنا ولاة أمرنا ، وإن جاروا ، ولا ندعو على أحد منهم ، ولا ننزع يداً من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعات الله فريضة علينا ما لم يأمروا بمعصية » (٢).

وهؤلاء يرون إطاعة السّلطان الجائر ، مع أنّ النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « ومن أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر » (٣).

وروى أبوبكر أنّه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « إنّ النَاس إذا رأوا الظّالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه » (٤).

ومع ذلك كلّه فقد نسي القاضي أن ينسب عدم وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إلى هذه الجماهير ، ونسبه إلى الإماميّة وقد عرفت كيفيّة النسبة.

والمسألة من الوضوح بمكان لا تحتاج معه إلى تكثير المصادر.

وامّا الثانية ، فقد ذهب أبو عليّ الجبّائي إلى أنّ ذلك يعلم عقلاً. وقال ابنه أبو هاشم : « بل لا يعلم عقلا إلاّ في موضع واحد ، وهو أن يرى أحدنا غيره يظلم أحداً فيلحقه بذلك غم ، فإنّه يجب عليه النّهي ودفعه ، دفعاً لذلك الضرر الّذي لحقه من

__________________

١ ـ جواهر الكلام : ج ٢١، ص ١٣ ـ ١٤.

٢ ـ قد ذكرنا عبارات القوم في وجوب طاعة السلطان الظالم في الجزء الأول من كتابنا هذا. ٣. صحيح الترمذي ، ج ٤، كتاب الفتن ، الباب ١٤، ص ٤٧١، رقم الحديث ٢١٧٤. ٤. المصدر السابق ، الباب ٨، رقم الحديث ٢١٦٨.

٤٢٩

الغمّ عن نفسه. فإمّا فيما عدا هذا الموضع فلا يجب إلاّ شرعاً » وقال القاضي : « وهو الصّحيح من المذهب » (١).

يلاحظ عليه : أنّ أبا هاشم يصوّر حياة الفرد منقطعة عن سائر النّاس ، فلأجل ذلك أخذ يستثني صورة واحدة. ولو وقف على كيفيّة حياة الفرد في المجتمع لحكم على الكلّ بحكم واحد ، وذلك أنّ أعضاء المجتمع الواحد الّذين يعيشون في بيئة واحدة مشتركون في المصير ، فلو كان هناك خير لعمّ الجميع ولم يقتصر على فاعله ، ولو كان هناك شرّ يشمل الجميع أيضاً ولم يختصّ بمرتكبه ، ومن هنا يجب أن تحدّد تصرّفات الأفراد في المجتمع وتحدّد حرّياتهم بمصالح الأُمّة ولا تتخطّاها. ولأجل ذلك يشبّه النّبىُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحدة المجتمع بركّاب سفينة في عرض البحر إذا تهدّدها خطر تهدّد الجميع ولم يختصّ بأحد دون أحد.

ولذلك لا يجوز لأحد ركّابها أن يثقب موضع قدمه ، بحجّة أنّه مكان يختصّ به ولا يرتبط بالآخرين ، لأنّ ضرر هذا العمل يعود إلى الجميع ولا يعود إليه خاصّة.

روى البخاري عن النّعمان بن بشير أنّه قال : سمعت عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « مثل القائم على حدود الله ، والواقع فيها ، كمثل قوم استهمّوا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها. فكان الّذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا : لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن يتركوهم وما أرادوا ، هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً » (٢).

وروى الترمذي نظيره في سننه كتاب الفتن :

روى جعفر بن محمّد عن آبائه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ المعصية إذا عمل بها العبد سرّاً لم تضرّ إلاّ عاملها فإذا عمل علانية ولم يغيّر عليه أضرّت بالعامّة » قال جعفر

__________________

١ ـ شرح الاصول الخمسة : ص ٧٤٢.

٢ ـ صحيح البخاري : ج ٣، باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه ، ص ١٣٩. المطبوع على النسخة الاميرية ، ورواه الجاحظ في البيان والتبيين ج ٢ ص ٤٩.

٤٣٠

بن محمّد عليهما‌السلام : وذلك أنّه يذلُّ بعمله دين الله ويقتدي به أهل عداوة الله (١) وبهذا يعرف قيمة كلام أبي هاشم حيث إنّه نظر إلى حقيقة المجتمع بنظرة فرديّة ، ولأجل ذلك لم يقل بوجوب الأمر بالمعروف عقلاً إلاّ في مورد واحد وهو ما إذا عرضه الغمّ من ظلم أحد أحداً ، مع أنّه لو كان هذا هو الملاك لوجب في كثير من الموارد بنفس الملاك ، غاية الأمر ربّما يكون الضّرر مشهوداً وربّما يكون مستوراً.

ثمّ إنّ البحث عن وجوبه سمعيّاً أو عقليّاً بحث كلامي لا صلة له بكتاب تاريخ العقائد ، غير أنّا إكمالاً للفائدة نأتي بنكتة وهي : أنّ الظاهر من القول بوجوب اللّطف هو أنّ وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عقلي ، وذلك لأنّ اللُّطف ليس إلاّ تقريب العباد إلى الطّاعة وابعادهم عن المعصية ، ومن أوضح ما يحقّق تلك الغاية هو الأمر بالمعروف بعامّة مراتبه.

غير أنّ المحقّق الطّوسي استشكل على وجوبهما عقلاً وقال : « لو كانا واجبين عقلاً ، لزم ما هو خلاف الواقع أو الاخلال بحكمته ».

وأوضحه شارح كلامه العلاّمة الحلّي وقال : « إنّهما لو وجبا عقلاً لوجبا على الله تعالى. فإنّ كلّ واجب عقليّ يجب على كلّ من حصل في حقّه وجه الوجوب ، ولو وجبا عليه تعالى لكان إمّا فاعلاً لهما ، فكان يلزم وقوع المعروف قطعاً ، لأنّه تعالى يحمل المكلّفين عليه ، وانتفاء المنكر قطعاً ، لأنّه تعالى يمنع المكلّفين منه ، وهذا خلاف ما هو الواقع في الخارج. وإمّا غير فاعل لهما فيكون مخلاّ ً بالواجب وذلك محال لما ثبت من حكمته تعالى » (٢).

يلاحظ عليه : أنّ وجوبهما عقلاً لا يلازم وجوبهما على الله سبحانه بعامّة مراتبه ، لأنّه لو وجب عليه بعامّة مراتبه يلزم إخلال الغرض وإبطال التّكليف. وهذا يصدّ العقل عن إيجابهما على الله سبحانه فيما لو استلزم الإلجاء والإخلال بالغرض ،

__________________

١ ـ الوسائل : ج ١١، كتاب الجهاد ، الباب ٤ من أبواب الأمر بالمعروف ، الحديث ١.

٢ ـ كشف المراد : ص ٢٧١، ط صيدا.

٤٣١

فيكتفي فيه بالتّبليغ والانذار وغيرهما ممّا لا ينافي حريّة المكلّف في مجال التّكليف. وإلى ذلك يشير شيخنا الشّهيد الثاني بقوله : « لاستلزام القيام به على هذا الوجه ( من وجوبه قولاً وفعلاً ) الالجاء الممتنع في التّكليف ، ويجوز اختلاف الواجب باختلاف محالّه ، خصوصاً مع ظهور المانع ، فيكون الواجب في حقّه تعالى الانذار والتّخويف بالمخالفة لئلاّ يبطل التّكليف ، والمفروض أنّه قد فعل » (١).

وأمّا الثّالثة ، وهي شرائط وجوبهما ، فقد فصِّل فيه الكلام المتكلّمون والفقهاء فقالوا : شرائط الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ثلاثة :

الأوّل : علم فاعلهما بالمعروف والمنكر.

الثّاني : تجويز التّأثير ، فلو عرف أنّ أمره ونهيه لا يؤثّران لم يجبا.

الثّالث : انتفاء المفسدة ، فلو عرف أو غلب على ظنّه حصول مفسدة له أو لبعض إخوانه في أمره ونهيه سقط وجوبهما دفعاً للضرر (٢).

وهناك شروط أُخر لم يذكرها العلاّمة في كلامه. منها :

الرابع : تنجّز التّكليف في حقّ المأمور والمنهي ، فلو كان مضطرّاً إلى أكل الميتة لا تكون الحرمة في حقّه منجّزة ، فلا يكون فعله حراماً ولا منكراً ، وإن كان في حقّ الآمر والنّاهي منجّزاً.

وعلى كلّ تقدير فالشّرط الثّالث ـ أي عدم المفسدة ـ شرط في موارد خاصّة لا مطلقاً. فربّما يجب على الآمر والنّاهي تحمّل المضرّة وعدم ترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، كما إذا كان تركه لهما لغاية دفع المفسدة موجباً لخروج النّاس عن الدّين وتزلزلهم وغير ذلك ممّا أوضحنا حاله فى أبحاثنا الفقهيّة (٣).

وأمّا الرّابعة ، وهي كون وجوبهما عينيّاً أو كفائياً ، فالأكثر على أنّه كفائي ، لأنّ

____________

١ ـ الروضة البهية : ج ١، كتاب الجهاد ، الفصل الخامس ، ص ٢٦٢، الطبعة الحجرية.

٢ ـ كشف المراد : ص ٢٧١، ط صيدا.

٣ ـ لاحظ : رسالتنا الفقهية في التقية. فقد قلنا إنّ التقية ربّما تحرم إذا كان الفساد في تركها أوسع.

٤٣٢

الغرض شرعاً وقوع المعروف وارتفاع المنكر ، من غير اعتبار مباشر معيّن ، فإذا حصلا ارتفع الوجوب وهو معنى الكفائي. والاستدلال على كونه عينيّاً بالعمومات غير كاف كما حقّق في محلّه.

وأمّا الخامسة ، أعني مراتبهما ، فتبتدئ من القلب ، ثمّ اللّسان ، ثمّ اليد وتنتهي باجراء الحدود والتّعزيرات. قال الباقر عليه‌السلام : « فانكروا بقلوبكم ، والفظوا بألسنتكم ، وصكّوا بها جباههم ، ولا تخافوا في الله لومة لائم » (١).

وعلى هذا يصبح الأمر بالمعروف على قسمين : قسم لا يحتاج إلى جهاز وقدرة ، وهذا ما يرجع إلى عامّة الناس. وقسم يحتاج إلى الجهاز والقوّة ويتوقّف على صدور الحكم ، وهذا يرجع إلى السّلطة التنفيذيّة القائمة بالدّولة الإسلاميّة بأركانها الثّلاثة.

وقد بسط الفقهاء الكلام في بيان مراتبهما. فمن لاحظ الروايات وكلمات الفقهاء يقف على أنّ بعض المراتب واجب على الكلّ والبعض الآخر يجب على أصحاب القوّة والسّلطة.

إلى هنا تمّ البحث عن الأُصول الخمسة للمعتزلة ، وبقي هنا بحوث نجعلها خاتمة المطاف.

__________________

١ ـ الوسائل : ج ١١، كتاب الجهاد ، الباب الثالث من أبواب الأمر بالمعروف ، الحديث ١.

٤٣٣

خاتمة المطاف

الأوّل : تحليل بعض ما رمي به مشايخ المعتزلة من الانحلال الأخلاقي ، فإنّ في ذلك توضيحاً للحق ، بل دفاعاً عنه.

الثاني : تبيين تاريخ المعتزلة من حيث تدرّجهم من القدرة إلى الضّعف ، وذلك بحث تاريخيّ يهمّنا من بعض الجهات ، وسيظهر في طيّات البحث.

الثالث : الآثار العلميّة الباقية من المعتزلة.

١ ـ دفاع عن الحقّ

الاعتزال ظهر في أوساط المسلمين بطابعه العقلي لتحقيق العقائد الإسلاميّة ، ودعمها على ضوء الدّليل والبرهان. فكانوا يدافعون عنها حسب طاقاتهم الفكريّة ، يشهد بذلك حياة مشايخهم وأئمّتهم وتلاميذهم.

ولعلّ تصلّبهم في المناظرة ، وعدم السّكوت في مقابل الملاحدة وأهل الكتاب من اليهود والنّصارى ، لأجل عنايتهم بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، حتّى صار ذلك أحد أُصولهم الّتي بها يتميّزون عن غيرهم ، وقد عرفت نماذج من مناظراتهم مع المخالفين فلا نعيد.

ولم يكن دفاعهم عن الإسلام منحصراً بالمناقشات اللّفظية ، بل كانوا يستعملون القوّة إذا أُتيح لهم ذلك.

مثلاً : إنّ بشّار بن برد كان متّهماً بالالحاد ، فهدّده واصل بالقتل ، ولم يكتف بذلك حتّى نفاه من البصرة ، فذهب إلى حرّان وبقي فيها إلى أن توفّي واصل ثمّ عاد إلى البصرة.

٤٣٤

وفي ذلك يقول صفوان الأنصاري مخاطباً لبشّار :

كأنّك غضبان على الدّين كلّه

وطالب دخل لا يبيت على حقد

رجعت إلى الأمصار من بعد واصل

وكنت شريراً في التّهائم والنّجد (١)

ومن مظاهر دعمهم لأُصول العقائد الإسلاميّة ومكافحة التّجسيم والتّشبيه هو أنّ واصل بن عطاء بعث تلاميذه إلى الأطراف والأكناف لتبليغ رسالة التّنزيه ورفض التّشبيه ، وقد أتينا بأسماء المبعوثين في ترجمته (٢).

وروى عمر الباهلي أنّه قرأ الجزء الأوّل من كتاب « الألف مسألة في الردّ على المانويّة » لواصل ، كان فيها نيّف وثلاثون مسألة ، وهو الّذي أوفد حفص بن سالم إلى خراسان ، فناظر جهم بن صفوان وقطعه وجعله يرجع إلى القول الحقّ. وعلى ذلك درج أصحاب واصل وتلاميذه من بعده (٣).

وتبع واصلاً وعمرو بن عبيد ، أبو الهذيل العلاّف وقد قرأت في ترجمته بعض مناظراته.

ولا تنس ما ذكرناه في ترجمة « معمر بن عباد » وقد بعثه الرّشيد إلى مناظرة السمنى ، وهو يدلّ على أنّ المعتزلة كانوا هم المتحمّسين للمناظرة بين أهل السنّة ، وأمّا غيرهم فلا يملكون في مقام المناظرة سوى القول بأنّ البحث حرام.

هذا هو القاضي عبد الجبّار قد قام في وجوه الملحدين والشاكّين في إعجاز القرآن ، فألّف كتابه « تنزيه القرآن عن المطاعن » وكتاباً آخر في نبوّة النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسماه « تثبيت دلائل نبوّة سيّدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » قال محقّق كتاب « شرح الأُصول الخمسة » بأنّه أعدّه للطّبع.

__________________

١ ـ البيان والتبيين : ج ١، ص ٢٥.

٢ ـ المنية والامل : ص ٢٠، ط توماارنلد.

٣ ـ المنية والامل : ص ٢١.

٤٣٥

ونحن إذا قرأنا في حياتهم هذه البطولات الفكريّة والعمليّة ، يشكل علينا قبول ما نسبه إليهم أعداؤهم من المجون والانحلال الأخلاقي.

لا أقول إنّ كلّ عالم معتزلي ، عادل لا يعصي ولا يخطا ، غير أنّ الكلام في أنّ تنزيه طائفة خاصّة كالحنابلة والأشاعرة ، ورمى طائفة أُخرى بضدّه ، ممّا لا يؤيّده الإنصاف ، فلو قلنا إنّما حكمهم حكم سائر الطوائف الإسلاميّة حيث في كلّ طائفة ظالم لنفسه ، ومقتصد ، وسابق بالخير (١) لكان أقرب إلى الواقع والحقيقة.

ولأجل إيقاف القارىء على بعض ما رميت به تلك الطائفة نذكر مايلي :

ما زلت آخذ روح الزقّ في لطف

وأستبيح دماً من غير مجروح

حتّى انثنيت ولي روحان في جسد

والزق منطرح جسم بلا روح (٢)

١ ـ روى ابن قتيبة أنّ النّظام كان يغدو على سكر ويروح على سكر ويبيت على حرائرها ، ويدخل في الأدناس ويرتكب الفواحش والشائنات ، وله في الشّراب شعر.

٢ ـ نقل البغدادي عن كتاب « المضاحك » للجاحظ، أنّ المأمون ركب يوماً فرأى ثمامة سكران قد وقع على الطّين ، فقال المأمون له : ألا تستحيي؟ قال : لا والله. قال : عليك لعنة الله. قال ثمامة : تترى ثمّ تترى (٣).

٣ ـ وذكر أيضاً أنّ أبا هاشم الجبّائي كان أفسق أهل زمانه وكان مصرّاً على شرب الخمر وقيل : إنّه مات في سكره حتّى قال فيه بعض المرجئة :

يعيب القول بالإرجاء حتّى

يرى بعض الرجاء من الجرائر

وأعظم من ذوي الارجاء جرماً

وعيديّ أصرّ على الكبائر (٤)

__________________

١ ـ اقتباس من قوله سبحانه : ( فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ) ( فاطر / ٣٢ ).

٢ ـ تأويل مختلف الحديث : ص ١٨.

٣ ـ الفرق بين الفرق : ص ١٧٣.

٤ ـ المصدر السابق : ص ١٩١.

٤٣٦

يلاحظ عليه : أنّ ابن قتيبة والبغدادي تفرّدا في نقل هذه النّقول والنسب ، وأمّا غيرهما من الأشاعرة فنزّهوا أقلامهم عن ذكرها ، ولو كانت لهذه النّسب مسحة من الحقّ أو لمسة من الصّدق لما تورّعوا عن ذكرها ، على أنّ من سبر كتاب « الفرق بين الفرق » للبغدادي يرى فيه قسوة عجيبة في حقّ الطّوائف الإسلاميّة لا سيّما المعتزلة.

وعلى ذلك ، فما أحسن قول القائل إذا تمثّل به في حقّ هذه الطائفة :

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه

فالكلّ أعداء له وخصوم

كضرائر الحسناء قلن لوجهها

حسداً وبغياً إنّه لدميم (١)

( ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذين سَبَقُونا بالإيمان ) ( الحشر / ١٠ )

المعتزلة من القوّة إلى الضّعف

إنّ فكرة الاعتزال كانت فكرة بدائية ، ونبتة غرسها واصل بن عطاء في أوائل القرن الثّاني ، وأخذت تتكامل عن طريق تلاميذه وبعض زملائه كعمرو بن عبيد. وقد كان له تأثير في بدء ظهورها إلى أن استطاع أن يستجلب إليه بعض الخلفاء الأمويين المتأخّرين ، كيزيد بن وليد بن عبدالملك ( م ١٢٦ هـ ) ، ومروان بن محمّد بن مروان آخر خلفائهم ( م ١٣٢ هـ ) ، حيث اشتهر أنّ الأخير كان يقول بخلق القرآن ونفي القدر (٢).

ولمّا اندلعت نيران الثورات ضدّ الأمويين ، وقضت على خلافة تلك الطغمة الأثيمة ، لمع نجم المعتزلة في عصر أبي جعفر المنصور ( ١٣٦ ـ ١٥٨ هـ ) وقد عرفت في ترجمة عمرو بن عبيد وجود الصلة الوثيقة بينه وبين المنصور.

ولمّا هلك المنصور ، أخذ المهدي ابنه زمام الحكم ، ولم ير للمعتزلة في زمنه أيّ نشاط يذكر ، خصوصاً أنّ المهدي كان شديداً على أصحاب الأهواء ، حسب ما يقولون.

__________________

١ ـ الشعر لأبي الأسود الدؤلي صاحب الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام راجع ملحق ديوانه.

٢ ـ الكامل لابن الاثير : ج ٤، ص ٣٣٢ قال : « وكان مروان يلقب بالحمار ، والجعدي لأنّه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر وغير ذلك.

٤٣٧

روى الكشّي عن محمّد بن عيسى بن عبيد ، عن يونس ، عن هشام ... أنّه لمّا كان أيّام المهدي ، شدّد على أصحاب الأهواء ، وكتب له ابن المفضّل صنوف الفرق ، صنفاً صنفاً ، ثمّ قرأ الكتاب على النّاس ، فقال يونس : « قد سمعت الكتاب يقرأ على النّاس على باب الذّهب بالمدينة ، مرّة أُخرى بمدينة الوضّاح » (١).

وبما أنّ أهل الحديث كانوا يشكّلون الأكثريّة الساحقة ، فيكون المراد من أصحاب الأهواء الّذين شدّد عليهم المهدي ، غيرهم من سائر الفرق فيعمّ المعتزلة والمرجئة والمحكّمة والشيعة وغيرهم.

ولأجل ذلك لم ير أيّ نشاط للمعتزلة أيّامه ، حتّى مضى المهدىُّ لسبيله ، وجاء عصر الرّشيد ( ١٧٠ ـ ١٩٣ هـ ) فيحكي التّاريخ عن وجود نشاط لهم في أيّامه ، حتّى انّه لم يوجد في عصره من يجادل السمنية غيرهم (٢) ومع ذلك لم يكن الرّشيد يفسح المجال للمتكلّمين. يقول ابن المرتضى : « وكان الرّشيد نهى عن الكلام ، وأمر بحبس المتكلّمين » (٣).

نعم ابتسم الدّهر للمعتزلة أيّام المأمون ، لأنّه كان متعطّشاً إلى العلم والتعقّل ، والبحث والجدال ، فنرى في عصره أنّ رجال المعتزلة يتّصلون ببلاطه ، وكان لهم تأثير كبير في نفسيّته.

يقول الطّبري : « وفي هذه السّنة ( ٢١٢ هـ ) أظهر المأمون القول بخلق القرآن وتفضيل عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وقال : هو أفضل النّاس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك في شهر ربيع الأوّل (٤) ولمّا استفحلت دعوة المحدّثين إلى قدم القرآن واشتدّ أمرهم كتب المأمون عام ( ٢١٨ هـ ) إلى إسحاق بن إبراهيم في امتحان القضاة والمحدّثين ،

__________________

١ ـ رجال الكشي : ترجمة هشام بن الحكم ، الرقم ١٣١، ص ٢٢٧. ولعل هذا الكتاب أوّل كتاب أُلِّف في الملل والنحل بين المسلمين.

٢ ـ لاحظ : طبقات المعتزلة ، لابن المرتضى ، ص ٥٥.

٣ ـ طبقات المعتزلة ، لابن المرتضى ، ص ٥٦.

٤ ـ تاريخ الطبري : ج ٧، ص ١٨٨، حوادث سنة ٢١٢.

٤٣٨

وممّا جاء في تلك الرسالة :

فاجمع من بحضرتك من القضاة ، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك ، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون ، وتكشيفهم عمّا يعتقدون في خلق الله القرآن وإحداثه ، وأعلمهم أنّ أمير ألمؤمنين غير مستعين في عمله ، ولا واثق فيما قلّده الله واستحفظه من أُمور رعيّته ، بمن لا يوثق بدينه وخلوص توحيده ويقينه ، فإذا أقرّوا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه ، وكانوا على سبيل الهدى والنّجاة ، فمرهم بنصّ من يحضرهم من الشّهود على الناس ، ومسألتهم عن علمهم في القرآن ، وترك إثبات شهادة من لم يقرّ أنّه مخلوق محدث ولم يره ، والامتناع من توقيعها عنده ، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك فى مسألتهم والأمر لهم بمثل ذلك. ثمّ أشرف عليهم وتفقّد آثارهم حتّى لا تنفذ أحكام الله إلاّ بشهادة أهل البصائر في الدّين والإخلاص للتّوحيد واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك إن شاء الله ، وكتب في شهر ربيع الأوّل سنة ( ٢١٨ هـ ) » (١).

رسالة ثانية من المأمون في إشخاص سبعة نفر إليه

ثمّ إنّ المأمون كتب إلى إسحاق بن إبراهيم رئيس الشرطة في بغداد أن يشخص إليه سبعة نفر من المحدّثين. منهم :

١ ـ محمّد بن سعد كاتب الواقدي ٢ ـ أبو مسلم ، مستملي يزيد بن هارون ٣ ـ يحيي بن معين ٤ ـ زهير بن حرب أبو خثيمة ٥ ـ إسماعيل بن داود ٦ ـ إسماعيل بن أبي مسعود ٧ ـ أحمد بن الدورقي ، فامتحنهم المأمون وسألهم عن خلق القرآن ، فأجابوا جميعاً أنّ القرآن مخلوق فأشخصهم إلى مدينة السّلام وأحضرهم إسحاق بن إبراهيم دارَه فشهّر أمرهم وقولهم بحضرة الفقهاء والمشايخ من أهل الحديث ، فأقرّوا بمثل ما

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٧ ص ١٩٧، حوادث سنة ٢١٨.

٤٣٩

أجابوا به المأمون فخلّى سبيلهم. فقد فعل ذلك إسحاق بن إبراهيم بأمر المأمون.

رسالة ثالثة للمأمون إلى إسحاق بن إبراهيم

ثمّ إنّ المأمون كتب بعد ذلك إلى إسحاق بن إبراهيم رسالة مفصّلة وممّا جاء فيه :

« وممّا بيّنه أمير المؤمنين برويّته وطالعه بفكره ، فتبيّن عظيم خطره وجليل ما يرجع في الدّين من وكفه وضرره ، ما ينال المسلمون بينهم من القول في القرآن الّذي جعله الله إماماً لهم. وأثراً من رسول الله وصفيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله باقياً لهم واشتباهه على كثير منهم حتّى حسن عندهم وتزيّن في عقولهم أن لا يكون مخلوقاً ، فتعرّضوا لذلك لدفع خلق الله الّذي بان به عن خلقه ، وتفرّد بجلالته من ابتداع الأشياء كلّها بحكمته ، وأنشأها بقدرته ، والتقدّم عليها بأوّليّته الّتي لا يبلغ أولاها ولا يدرك مداها ، وكان كلّ شيء دونه خلقاً من خلقه وحدثاً هو المحدِث له ، وإن كان القرآن ناطقاً به ودالاً عليه وقاطعاً للاختلاف فيه وضاهوا به قول النّصارى في ادّعائهم في عيسى بن مريم أنّه ليس بمخلوق إذ كان كلمة الله.

والله عزّوجلّ يقول : ( إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً ) وتأويل ذلك أنّا خلقناه كما قال جلّ جلاله : ( وجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسكنَ إليها ) وقال : ( وجَعَلْنا اللّيلَ لباساً وجَعَلْنا النّهارَ معاشاً ) و( جَعَلْنا مِنَ الماءِ كلّ شيء حيّ ) فسوّى عزّ وجلّ بين القرآن وبين هذه الخلائق الّتي ذكرها في شية الصّنعة وأخبر أنّه جاعله وحده فقال : ( إنّه لقرآنٌ مجيدٌ* في لوح محفوظ ) فقال ذلك على إحاطة اللّوح بالقرآن ولا يحاط إلاّ بمخلوق ، وقال لنبيّه : ( لا تُحرِّك بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) وقال : ( مَا يَأتِيهم مِن ذِكْر مِن َربِّهِم مُحْدَث ) وقال : ( ومَن أَظْلَمُ ممّنِ افترى على اللّهِ كذباً أو كذَّب بآياتِه ) وأخبر عن قوم ذمّهم بكذبهم أنّهم قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ، ثمّ أكذبهم على لسان رسوله فقال لرسوله : ( قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الكتابَ الّذي جاءَ بهِ موسى ) فسمّى الله تعالى القرآن قرآناً

٤٤٠