بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٩

والاستدلال بهذه الآية إنّما يصحّ مع غضِّ النّظر عن سياقها ، وأمّا مع النّظر إليه فإنّها واردة في حقِّ اليهود ، أضف إليه أنّ قوله سبحانه : ( وأحاطت به خطيئته ) لايهدف إلاّ إلى الكافر ، فإنّ المسلم المؤمن مهما كان عاصياً لا تحيط به خطيئة ، ففي قلبهنقاط بيضاء يشعّ عليها إيمانه واعتقاده بالله سبحانه وأنبيائه وكتبه على أنّ دلالة الآية بالاطلاق ، فلو ثبت ما تقوله جمهرة المسلمين ، يخرج الفاسق من الآية بالدّليل.

الآية الرابعة : قوله سبحانه : ( إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَاب جَهَنَّمَ خَالدُونَ* لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فَيْهِ مُبْلِسُون * وما ظَلَمْنَاهُمْ ولكِنْ كَانُوا هُمُ الظّالمين ) ( الزخرف / ٧٤ ـ ٧٦ ).

إنّ دلالة الآية بالإطلاق فهي قابلة للتّقييد أوّلاً. وسياق الآية في حقِّ الكفّار ثانياً ، بشهادة قوله سبحانه قبل هذه الآية : ( الَّذِينَ آمَنُوا بِ آيَاتِنَا وكَانُوا مُسْلِمِين * ادخُلُوا الجَنَّةَ أَنْتُمْ وأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ) ( الزخرف / ٦٩ ـ ٧٠ ).

ثمّ يقول : ( إنّ المجرمين في عذاب جهنّم خالدون ) » فـ « المجرمين » في مقابل « الّذين آمنوا » فلايعمّ المسلم.

هذه هي الآيات الّتي استدلّت بها المعتزلة على تخليد الفاسق في النّار. وقد عرفت أنّ دلالتها بالاطلاق لا بالصِّراحة ، وتقييد المطلق أمر سهل ، مثل تخصيص العام ، مضافاً إلى انصراف أكثرها أو جميعها إلى الكافر والمنافق. وهناك آيات (١) أظهر ممّا سبق تدلّ على شمول الرّحمة الإلهيّة للفسّاق غير التّائبين ، وإليك بيانها :

١ ـ قوله سبحانه : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ وَإنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة للنّاس عَلَى ظُلمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقَابِ ) ( الرعد / ٦ ).

قال الشريف المرتضى : « في هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة ، لأنّه سبحانه دلّنا على أنّه يغفر لهم مع كونهم ظالمين. لأنّ قوله : ( على ظلمهم )

__________________

١ ـ كما تدلّ هذه الآيات على عدم الخلود في النار ، تدلّ على جواز العفو عن الفاسق من بدء الأمر ، وأنّه يعفى عنه ولا يعذّب من رأس ، فهذا الصنف من الآيات كما تحتجُّ بها في هذه المسألة ، تحتج بها في المسألة السالفة أيضاً فلاحظ.

٤٠١

إشارة إلى الحال الّتي يكونون عليها ظالمين ، ويجري ذلك مجرى قول القائل : أنا أودّ فلاناً على غدره ، وأصِلُه على هجره » (١).

وقد قرّر القاضي دلالة الآية وأجاب عنه بأنّ الأخذ بظاهر الآية ممّا لا يجوز بالاتّفاق ، لأنّه يقتضي الاغراء على الظّلم ، وذلك ممّا لا يجوز على الله تعالى ، فلا بدّ من أن يؤوّل ، وتأويله هو أنّه يغفر للظّالم على ظلمه إذا تاب (٢).

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من الإشكال ، جار في صورة التّوبة أيضاً ، فإنّ الوعد بالمغفرة مع التّوبة يوجب تمادي العاصي في المعصية برجاء أنّه يتوب. فلو كان القول بعدم خلود المؤمن موجباً للاغراء ، فليكن الوعد بالغفران مع التّوبة كذلك.

والّذي يدلّ على أنّ الحكم عامّ للتّائب وغيره هو التّعبير بلفظ « الناس » مكان « المؤمنين ». فلو كان المراد هو التّائب لكان المناسب أن يقول سبحانه : « وإنّ ربّك لذو مغفرة للمؤمنين على ظلمهم » مكان قوله للناس. وهذا يدلّ على أنّ الحكم عامّ يعمّ التائب وغيره.

وفي الختام ، إنّ الآية تعد المغفرة للنّاس ولا تذكر حدودها وشرائطها ، فلا يصحّ عند العقل الاعتماد على هذا الوعد وارتكاب الكبائر. فإنّه وعد إجماليّ غير مبيّن من حيث الشّروط والقيود.

٢ ـ قوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ومَنْ يُشْرِك بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً ) ( النساء / ٤٨ ).

وجه الاستدلال بهذه الآية على أنّ رحمته تشمل غير التّائب من الذنوب ، أنّه سبحانه نفى غفران الشِّرك دون غيره من الذٌّنوب ، وبما أنّ الشرك يغفر مع التّوبة فتكون الجملتان ناظرتين إلى غير التائب ، فمعنى قوله : « إنّ اللّهَ لا يغفِرُ أن يشركَ » أنّه لا يغفر إذا مات بلا توبة ، كما أنّ معنى قوله : « ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » أنّه يغفر ما دون

____________

١ ـ مجمع البيان : ج ٣، ص ٢٧٨.

٢ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ٦٨٤.

٤٠٢

الشِّرك من الذنوب بغير توبة لمن يشاء من المذنبين. ولو كانت سائر الذنوب مثل الشِّرك غير مغفورة إلاّ بالتّوبة ، لما حسن التّفصيل بينهما ، مع وضوح الآية في التّفصيل (١).

وقد أوضح القاضي دلالة الآية على ما يتبنّاه الجمهور بوجه رائع ، ولكنّه تأثّراً بعقيدته الخاصّة في الفاسق قال : « إنّ الآية مجملة مفتقرة إلى البيان لأنّه قال : « ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » ولم يبيِّن من الّذي يغفر له. فاحتمل أن يكون المراد به أصحاب الصغائر ، واحتمل أن يكون المراد به أصحاب الكبائر. فسقط احتجاجهم بالآية (٢).

أقول : عزب عن القاضي أنّ الآية مطلقة تعمّ كلا القسمين ، فأيّ إجمال في الآية حتّى نتوقّف. والعجب أنّه يتمسّك بإطلاق الطّائفة الاُولى من الآيات ، ولكنّه يتوقّف في إطلاق هذا الصِّنف.

نعم ، دفعاً للاغراء ، وقطعاً لعذر الجاهل ، قيّد سبحانه غفرانه بقوله : « لمن يشاء » حتّى يصدّه عن الإرتماء في أحضان المعصية بحجّة أنّه سبحانه وعد له بالمغفرة.

ثمّ إنّ القاسم بن محمّد بن عليّ الزّيدي العلويّ المعتزلي تبع القاضي في تحديد مداليل هذه الآيات وقال : آيات الوعيد لا إجمال فيها ، وهذه الآيات ونحوها مجملة فيجب حملها على قوله تعالى ( وإني لغفّارٌ لمن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صَالحاً ثُمَّ اهْتَدى ) ( طه / ٨٢ ) ثمّ ساق بعض الآيات الواردة في غفران العباد في مجال التّوبة (٣).

ويظهر النّظر في كلامه ممّا قدّمناه في نقد كلام القاضي فلا نعيد.

إلى غير ذلك من الآيات الّتي استدلّ بها جمهور المسلمين على شمول مغفرته سبحانه لعصاة المسلمين ، وعدم تعذيبهم ، أو إخراجهم من العذاب ، بعد فترة خاصّة.

هذا ، والبحث أشبه بالبحث التّفسيري منه بالكلامي. ومن أراد الاستقصاء في هذا المجال فعليه جمع الآيات الواردة حول الذّنوب والغفران ، حتّى يتّضح الحال فيها ، ويتّخذ موضعاً حاسماً بإزاء اختلافاتها الأوّليّة.

__________________

١ ـ مجمع البيان : ج ٢ ص ٥٧ بتلخيص.

٢ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ٦٧٨.

٣ ـ الأساس لعقائد الأكياس : ص ١٩٨.

٤٠٣

ج ـ هل الشّفاعة للتائبين من المؤمنين أو للفسّاق منهم؟

إنّ هذه المسألة مبنيّة على المختار في المسألة السابقة ، ولمّا كان المختار عند جمهور المسلمين جواز العفو عن الفاسق ، أو عدم تخليده بعد تعذيبه مدّة ، قالوا بأنّ الشّفاعة للفسّاق وأنّ شفاعة الشّفعاء تجلب عفوه سبحانه إليهم ، فيعفو عنهم من بدء الأمر ، أو بعد ما يعذِّبهم فترة.

وأمّا المعتزلة ، فلمّا كان المختار عندهم في المسألة السابقة خلود الفاسق في العذاب ، خصّوا الشّفاعة بالتّائبين من المؤمنين ، وصار أثرها عندهم ترفيع المقام لا الانقاذ من العذاب ، أو الخروج منه.

وهذه هي النّقطة الحسّاسة في الأبحاث الكلاميّة الّتي لها صلة بكتاب الله وسنّته. فالمعتزلة في المقام أوّلوا صريح القرآن والروايات وقالوا : إنّ شفاعة الفسّاق الّذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا ، يتنزّل منزلة الشّفاعة لمن قتل ولد الغير وترصّد للآخر حتّى يقتله;، فكما أنّ ذلك يقبح فكذلك هيهنا (١).

والخطأ في تفسير آيات الشّفاعة ، ورفض الروايات المتواترة ، حدث من الخطأ في المسألة السّابقة. وهكذا شيمة الخطأ وخاصّته فلا يقف عند حد ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ألا وإنّ الخطايا خيل شمس ، حمل عليها أهلها ، وخلعت لجمها » (٢).

وما ذكره القاضي غفلة عن شروط الشّفاعة ، المحرّرة في محلِّها ، فإنّ بعض الذّنوب الكبيرة ربّما تقطع العلائق الإيمانيّة بالله سبحانه ، كما تقطع الأواصر الروحيّة مع النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمثال هؤلاء العصاة لا تشملهم الشّفاعة ، وقد وردت الروايات الإسلاميّة حول شروط الشّفاعة ، وفي حرمان طوائف من الناس منها.

والعجب أنّ القاضي يستدلّ على أنّ العقوبة على طريق الدّوام ، ولا يخرج الفاسق

__________________

١ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ٦٨٨.

٢ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٦١.

٤٠٤

من النّار بشفاعة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله سبحانه : ( واتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفُسٌ عَنْ نَفْس شيئاً ) ( البقرة / ٤٨ ) ، وقوله سبحانه : ( ما للظّالمين من حميم ولا شَفِيع يُطَاعُ ) ( غافر / ١٨ ) (١).

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ الاُسلوب الصّحيح لتفسير القرآن الكريم هو تجريد المفسِّر نفسه عن كلِّ رأي سابق أوّلاً ، وجمع الآيات المربوطة بموضوع واحد ثانياً. فعند ذلك يقدر على فهم المراد. والقاضي نظر إلى الآيات بمنظار الاعتزال أوّلاً ، ولم يجمع الآيات الراجعة إلى الشّفاعة ثانياً ، مع أنّ الآيات الراجعة إلى الشّفاعة على سبعة أصناف (٢) فأخذ صنفاً واحداً وترك الأصناف الاُخر.

ثانياً : ما ذكره من الآيتين في نفي الشفاعة راجعتان الى الكفّار. فالآية الاُولى ناظرة إلى نفي الشّفاعة الّتي كانت اليهود يتبنّونها كما هو صريح سياقها ، والآية الثانية الّتي وردت في السّورة المكّية ناظرة إلى الشّفاعة الّتي كان المشركون يعتقدون بها. قال سبحانه حاكياً عنهم : ( إذ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العالمين * وما أَضَلَّنَا إلاّ المُجْرِمُون * فَما لَنَا مِن شَافِعِين * ولا صَدِيق حَمِيم ) ( الشعراء / ٩٨ ـ ١٠١ ).

وقال سبحانه : ( وكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتَّى أَتَينَا اليَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشّافِعِين ) ( المدثر / ٤٦ ـ ٤٨ ).

ثالثاً : أنّ مسألة الشّفاعة لم تكن فكرة جديدة ابتكرها الإسلام وانفرد بها ، بل كانت فكرة رائجة بين أمم العالم من قبل ، وخاصّة الوثنيّين واليهود ، والإسلام طرحها مهذّبة من الخرافات ، وممّا نسج حولها من الأوهام ، وقرّرها على اُسلوب يوافق اُصول العدل والعقل ، وصحّحها تحت شرائط في الشّافع والمشفوع له ، وهي الّتي تجرّ العصاة إلى الطّهارة من الذّنوب ، وكفّ اليد عن الآثام والمعاصي ، ولا توجد فيهم جرأة وجسارة على هتك السّتر.

ومن امعن النظر في آراء اليهود والوثنيّين في أمر الشّفاعة أنّ الشّفاعة تقف على

__________________

١ ـ الاصول الخمسة : ص ٦٨٩.

٢ ـ لاحظ في الوقوف على هذه الأصناف الجزء الرابع من مفاهيم القرآن ١٧٧ ـ ١٩٩.

٤٠٥

الدّارجة بينهم ، خصوصاً اليهود ، كانت مبنيّة على رجائهم لشفاعة أنبيائهم وآبائهم في حطِّ ذنوبهم ، وغفران آثامهم. ولأجل هذا الاعتقاد كانوا يقترفون المعاصي ، ويرتكبون الذّنوب تعويلاً على ذلك الرّجاء.

وفي هذا الموقف يقول سبحانه ردّاً على تلك العقيدة الباعثة على الجرأة : ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بِإِذْنِهِ ) ( البقرة / ٥٥ ) ، ويقول أيضاً رفضاً لتلك الشّفاعة المحرّرة من كلِّ قيد : ( ولا يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ) ( الأنبياء / ٢٨ ).

وحاصل الآيتين أنّ أصل الشّفاعة الّتي تدّعيها اليهود ويلوذ بها الوثنيّون حقّ ثابت في الشّريعة السماويّة ، غير أنّ لها شروطاً أهمّها إذنه سبحانه للشّافع ، ورضاه للمشفوع له.

وعلى ذلك فكيف يصحّ لنا تخصيص الآيات بقسم خاصّ من الشّفاعة وهي شفاعة الأولياء لرفع الدّرجة وزيادة الثّواب.

وأوضح دليل على عموميّة الشّفاعة ما أصفق على نقله المحدِّثون من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي ». والقاضي رمى هذا الحديث بأنّه خبر واحد لا يصحّ به الاحتجاج في باب العقائد. وما ذكره يعرب عن قصور باعه في مجال الحديث. فقد رواه من أئمّة الحديث أبو داود في سننه ، والتّرمذي في صحيحه ، وابن حنبل في مسنده ، وابن ماجة في صحيحه (١).

وليس حديث الشّفاعة الدالّ على شمولها لأصحاب الكبائر منحصراً به ، بل أحاديث الشّفاعة في هذا المجال متواترة ، وقد جمعنا ما رواه السنّة والشيعة في هذا المجال في كتابنا « مفاهيم القرآن » (٢).

__________________

١ ـ راجع سنن ابي داود ، ج ٤، ص ٢٣٦. وصحيح الترمذي ، ج ٤، ص ٤٥. وصحيح ابن ماجة ، ج ٢، ص ١٤٤. ومسند احمد ، ج ٣ ص ٢١٣.

٢ ـ لاحظ : ج ٤، فصل الشفاعة في الأحاديث الاسلاميّة ، ص ٢٨٩ ـ ٣١١. فتجد في تلك الصحائف ( ١١٢ ) حديثاً عن النبي وعترته. وقد قام العلامة المجلسي بجمع احاديث الشفاعة في موسوعته بحار الانوار ( ج ٨، ص ٢٩ ـ ٦٣ ) وروى بعضها الآخر في سائر أجزائه. كما روى علاء الدين المتقي احاديث الشفاعة في كنز العمال ج ١٤ص ٦٢٨ ـ ٦٤٠.

٤٠٦

د ـ القائلون بجواز العفو أو عدم الخلود ، مرجئة أو راجية؟

قد تعرّفت على عقيدة المرجئة في الفصول السّابقة وأنّ شعارهم أنّه لا تضرّ مع الإيمان معصية ، كما لا تنفع مع الشِّرك طاعة. وقد عرّفناك منهجهم وأنّ هؤلاء بهذا الشعار يغرّون الجهّال بالمعصية واقتراف الذنوب ولا يعتنون بالعمل بحجّة أنّهم مؤمنون في كلِّ حال ، ويعيشون في جميع الأحوال بإرجاء العمل ويقولون : إنّ إيمان واحد منّا يعدل إيمان جبرائيل والنّبيّ الأكرم. هذه هي المرجئة.

وأمّا جمهرة المسلمين القائلون بجواز العفو وعدم الخلود ، فهم راجية ، يعتقدون بالعقاب والثّواب ، يدعون ربّهم رغباً ورهباً ، ولا يتّكلون في حياتهم على العفو والرجاء من دون عمل ، غير أنّهم يبثّون بذور الرجاء في قلوب العباد لما فيه من آثار تربويّة. وقد ذكرنا في محلِّه أنّ في القول بالعفو عن العصاة وخروجهم من النّار بالشّفاعة وغيرها ، بصيص من الرجاء ، ونافذة من الأمل فتحه القرآن في وجه العصاة حتّى لا ييأسوا من روح الله ورحمته ، ولئلاّ يغلبهم الشّعور بالحرمان من عفوه ، فيتمادوا في العصيان.

فالمرجئة من قدّموا الإيمان وأخّروا العمل ، بخلاف الراجية ، فإنّهم جعلوا الإيمان غير منفكّ عن العمل وينادون بأعلى أصواتهم أنّ الإيمان بلا عمل كشجرة بلا ثمر ، لا يغني ولا يسمن من جوع ، ويخافون ربّهم بالغيب ، ومع ذلك يرجون رحمته. فلا ينفكّ الخوف عن الرجاء ، والرّهبة عن الرغبة.

هـ ـ هل الطاعات مؤثِّرة في سقوط العقاب ، والمعاصي مؤثِّرة في سقوط الثّواب ، وهذا ما يعبّر عنه بالإحباط والتكفير.

الاحباط في اللّغة بمعنى : الإبطال ، يقال : أحبط الله عمل الكافر. أي أبطله (١).

والكفر بمعنى « السّتر » و « التّغطية » ، يقال لمن غطّى درعه بثوب : قد كفر درعه ،

__________________

١ ـ المقاييس : ج ٢، مادة حبط ، ص ١٢٩.

٤٠٧

والمكفّر : الرّجل المتغطّي بسلاحه ، ويقال للزّارع : كافر ، لأنّه يغطي الحَبّ بتراب الأرض ، قال الله تعالى : ( كمثلِ غيث أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ) ( سورة الحديد ، الآية ٢٠ ). والكفر ضدّ الإيمان ، سمّي بذلك لأنّه تغطية الحقّ (١).

والمراد من الحبط هو : سقوط ثواب العمل الصالح المتقدَّم ، بالذّنوب المتأخّرة ، كما أنّ المراد من التّكفير هو سقوط الذّنوب المتقدَّمة ، بالطّاعة المتأخِّرة.

وبعبارة اُخرى : إنّ الاحباط في عرف المتكلّمين : عبارة عن إبطال الحسنة بعدم ترتّب ما يتوقّع منها عليها ، ويقابله التّكفير وهو : إسقاط السيّئة بعدم جريان مقتضاها عليها ، فهو في المعصية نقيض الاحباط في الطّاعة ولنقدّم الكلام في الإحباط أوّلاً.

١ ـ الاحباط

المعروف عن المعتزلة هو القول بالإحباط ، كما أنّ المعروف عن الاماميّة والأشاعرة هو أنّه لا تحابط بين المعاصي والطّاعات والثّواب والعقاب (٢).

قال القاضي عبد الجبّار : « إنّ المكلّف لا يخلو إمّا أن تخلص طاعاته ومعاصيه ، أو يكون قد جمع بينهما ، فلا يخلو إمّا أن تتساوى طاعاته ومعاصيه ، أو يزيد أحدهما على الآخر ، فإنّه لا بدّ من أن يسقط الأقلّ بالأكثر .... وهذا هو القول بالإحباط والتّكفير على ما قاله المشايخ، وقد خالفنا في ذلك المرجئة ، وعبّادبن سليمان الصّيمري » (٣).

قال التفتازاني : « لا خلاف في أنّ من آمن بعد الكفر والمعاصي فهو من أهل الجنّة بمنزلة من لا معصية له ، ومن كفر بعد الإيمان والعمل الصّالح ، فهو من أهل النّار بمنزلة من لا حسنة له. وإنّما الكلام فيمن آمن وعمل صالحاً وآخر سيّئاً ، واستمرّ على

__________________

١ ـ المقاييس : ج ٥، مادة كفر ، ص ٩١.

٢ ـ أوائل المقالات : ص ٥٧.

٣ ـ الأصول الخمسة : ص ٦٢٤، وقد ذهب القاضي إلى عدم جواز استحقاق المكلّف الثواب والعقاب إذا كانا مساويين ، فانحصر الأمر في المطيع المحض والعاصي كذلك ومن خلط أحدهما بالآخر على وجه لا يتساويان ، وهذا القسم هو مورد نظريّة الإحباط والتكفير. فلاحظ.

٤٠٨

الطّاعات والكبائر ، كما يشاهد من النّاس ، فعندنا مآله إلى الجنّة ولو بعد النّار ، واستحقاقه للثّواب والعقاب ، بمقتضى الوعد والوعيد من غير حبوط. والمشهور من مذهب المعتزلة أنّه من أهل الخلود في النّار إذا مات قبل التّوبة ، فأشكل عليهم الأمر في إيمانه وطاعته وما يثبت من استحقاقاته ، أين طارت؟ وكيف زالت؟ فقالوا بحبوط الطّاعات ، ومالوا إلى أنّ السيّئات يذهبن الحسنات » (١).

أقول : اشتهر بين المتكلّمين أنّ المعتزلة يقولون بالإحباط والتّكفير ، وأمّا الأشاعرة والإماميّة فهم يذهبون إلى خلافهم. غير أنّ هنا مشكلة وهي أنّ نفيهما على الاطلاق يخالف ما هو مسلّم عند المسلمين من أنّ الإيمان يُكفِّر الكفر ، ويُدخل المؤمن الجنّة خالداً فيها ، وأنّ الكفر يُحبط الإيمان ويخلِّد الكافر في النار. وهذا النّوع من الإحباط والتّكفير ممّا أصفقت عليه الاُمّة ، ومع ذلك كيف يمكن نفيهما في مذهب الأشاعرة والإماميّة؟ ولأجل ذلك ، يجب الدقّة في فهم مرادهما من نفيهما على الاطلاق ، وسوف يتبيّن الحال في هذين المجالين. هذا ، وإنّ القائلين بالإحباط اختلفوا في كيفيّته ، فمنهم من قال بأنّ الإساءة الكثيرة تسقط الحسنات القليلة ، وتمحوها بالكليّة ، من دون أن يكون لها تأثير في تقليل الإساءة ، وهو المحكيّ عن أبي عليّ الجبّائي.

ومنهم من قال بأنّ الإحسان القليل يسقط بالإساءة الكثيرة ، ولكنّه يؤثّر في تقليل الإساءة فينقص الإحسان من الاساءة ، فيجزى العبد بالمقدار الباقي بعد التّنقيص، وهو المنسوب إلى أبي هاشم.

وهناك قول آخر في الإحباط وهو عجيب جدّاً ، حكاه التّفتازاني في « شرح المقاصد » وهو أنّ الإساءة المتأخِّرة تحبط جميع الطّاعات وإن كانت الإساءة أقلّ منها قال : حتّى ذهب الجمهور منهم إلى أنّ الكبيرة الواحدة تحبط ثواب جميع العبادات.

وعلى هذا (٢) ففي الإحباط أقوال ثلاثة :

__________________

١ ـ شرح المقاصد : ج ٢، ص ٢٣٢.

٢ ـ شرح المقاصد : ج ٢، ص ٢٣٢.

٤٠٩

١ ـ الإساءة الكثيرة تسقط الحسنة القليلة من دون تأثير في تقليل الإساءة.

٢ ـ الإساءة الكثيرة تسقط الحسنة القليلة ، مع تأثير الإحسان في تقليل الإساءة.

٣ ـ إنّ الإساءة المتأخِّرة عن الطّاعات ، تبطل جميع الطّاعات من دون ملاحظة القلّة والكثرة.

إذا عرفت موضع النّزاع في كلام القوم ، فلننقل أدلّة الطّرفين :

أدلّة نفاة الإحباط

استدلّ النافون بوجهين : عقليّ ونقليّ.

أمّا الوجه العقليّ : فهو أَنّ القول بالإِحباط يستلزم الظّلم ، لأنّ من أساء وأطاع وكانت إساءته أكثر ، يكون بمنزلة من لم يُحسن. وإن كان إحسانه أَكثر ، يكون بمنزلة من لم يسىء. وإن تساويا يكون مساوياً لمن يصدر عنه أحدهما ، وهو نفس الظّلم (١).

يلاحظ عليه : أنّ الإِحباط إنّما يعدّ ظلماً ، ويشمُلُه هذا الدّليل ، إذا كان الأكثر من الإِساءة مؤثِّراً في سقوط الأقلّ من الطّاعة بالكلّية ، من دون أن تؤثّر الطّاعة القليلة في تقليل الإساءة الكثيرة ، كما عليه أبو عليّ الجبّائي. وأمّا على القول بالموازنة ، كما هو المحكيّ عن ابنه أبي هاشم ، فلا يلزم الظّلم ، وصورته أن يأتي المكلّف بطاعة استحقّ عليها عشرة أجزاء من الثّواب ، وبمعصية استحقّ عليها عشرين جزءً من العقاب ، فلو قلنا بأنّه يَحسُن من الله سبحانه أَن يفعل به عشرين جزءً من العقاب ، ولا يكون لما استحقّه من الطّاعة أيّ تأثير للزم منه الظّلم. وأَمّا إذا قلنا بأنّه يقبح من الله تعالى ذلك ، ولا يحسن منه أَن يفعل به من العقاب إلاّ عشرة أجزاء ، وأَمّا العشرة الاُخرى فإنّها تسقط بالثّواب الّذي استحقّه على ما أتى به من الطّاعة ، فلا يلزم ذلك.

يقول القاضي عبدالجبّار بعد نقل مذهب أبي هاشم : « ولَعَمري إنّه القول اللاّئق بالله تعالى. دون ما يقوله أبو عليّ والّذي يدلّ على صحّته هو أَنّ المكلّف أتى

__________________

١ ـ كشف المراد : ص ٢٦٠.

٤١٠

بالطاعات على الحدّ الذي أُمر به ، وعلى الحدّ الّذي لو أتى به منفرداً عن المعصية لكان يستحقّ عليها الثّواب ، فيجب أن يستحقّ عليها الثّواب وإن دَنّسها بالمعصية ، إلاّ أَنّه لا يمكن والحالة هذه أَن يوفّر عليه ، على الحدّ الّذي يستحقّه ، لاستحالته ، فلا مانع من أَن يزول من العقاب بمقداره ، لأنّ دفع الضّرر كالنّفع في أنّه مما يعدّ من المنافع.

ثمّ قال : فأَمّا على مذهب أبي عليّ فيلزم أن لا يكون قد رأى صاحب الكبيرة شيئاً ممّا أتى به من الطّاعات. وقد نصّ الله تعالى على خلافه » (١).

والأولى أن يستدلّ على بطلان الإحباط بأَنّه يستلزم خُلف الوعد إذا كان الوعد منجّزاً ، كما هو في محلّ النّزاع ، وأمّا إذا كان مشروطاً بعدم لحوق العصيان به ، فهو خارج عن محلِّ البحث هذا ، من غير فرق بين قول الوالد والولد.

وأمّا الوجه النّقلي ، فقوله سبحانه : ( فَمَن يَعْمَل مِثْقالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ ) ( سورة الزلزلة : الآية ٧ ).

يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال بالآية إنّما يتمّ على القولين الأوّل والثّالث ، حيث لا يكون للإحسان القليل دور ، وأمّا على القول الثّاني ، فالآية قابلة للانطباق عليه ، لأنّه إِذا كان للإحسان القليل ، تأثير في تقليل الإِساءة الكثيرة ، فهو نحو رؤية له ، لأنّ دفع المضرّة كالنّفع في أنّه مما يُعَدّ منفعة. وهذا كما إذا ربح إنسان في تجارة قليلاً ، وخسر في تجارة أُخرى أكثر فأَدّى بعض ديونه من الرِّبح القليل.

نعم الظّاهر من الآية رؤية جزاء الخير ، وهو بالقول بعدم الإِحباط اَلصق واَطبق.

سؤال وإجابة

السؤال : لو كان القول بالاحباط مستلزماً للظّلم ، أو كان مستلزماً لخلف الوعد ، فما هو المخلص فيما يدلّ على حبط العمل ، في غير مورد من الآيات الّتي ورد فيها أنّ

__________________

١ ـ شرح الأصول الخمسة : ص ٦٢٩.

٤١١

الكفر والارتداد والشرك والإِساءة إلى النّبي وغير ذلك ممّا يحبط الحسنات (١). ما هو الجواب عن هذه الآيات؟ وما هو تفسيرها؟

الجواب : إنّ القائلين ببطلان الإحباط يفسِّرون الآيات بأنّ الاستحقاق في مواردها كان مشروطاً بعدم لحوق العصيان بالطّاعات ، فإذا عصى الإِنسان ولم يحقِّق الشرط ، انكشف عدم الاستحقاق.

ويمكن أن يقال بأنّ الإستحقاق في بدء صدور الطّاعات لم يكن مشروطاً بعدم لحوق العصيان ، بل كان استقرار الإستحقاق في مستقبل الأيّام ، هو المشروط بعدم لحوق المعصية ، فإن فُقِد الشرط فُقِد استقرار الاستحقاق واستمراره.

يقول الشيخ الطّوسي في تفسير قوله سبحانه : ( ومَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وهُوَ كافِر ، فأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعمالُهُمْ في الدّنيا والآخرةِ وأُولئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيْهَا خالِدُونَ ) (٢) « معناه أنّها صارت بمنزلة ما لم يكن ، لإيقاعهم إيّاها على خلاف الوجه المأمور به ، وليس المراد أنّهم استحقّوا عليها الثّواب ثمّ انحبطت ، لأنّ الإحباطَ ـ عندنا باطلُ على هذا ال (٣) وجه ».

ويقول الطّبرسي في تفسير قوله سبحانه : ( وَمَنْ يَكْفُر بالإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُو في الآخِرةِ مِنَ الخاسِرينَ ) ( المائدة : الآية ٥ ). « وفي قوله : ( فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) هنا دلالة على أنّ حبوط الأعمال لا يترتّب على ثبوت الثّواب. فإنّ الكافر لا يكون له عمل قد ثبت عليه ثواب ، وإنّما يكون له عمل في الظّاهر لو لا كفره لكان يستحقّ الثّواب عليه ، فعبّر سبحانه عن هذا العمل بأنّه حبط ، فهو حقيقة معناه » (٤).

ويقول في تفسير قوله سبحانه : ( ويَقولُ الّذين آمنوا أهؤلاءِ الّذينَ أقسموا باللّهِ

____________

١ ـ سنذكرها في آخر البحث.

٢ ـ سورة البقرة : الآية ٢١٧.

٣ ـ التبيان : ج ٢، ص ٢٠٨، ولاحظ : مجمع البيان ، ج ١، ص ٣١٣.

٤ ـ مجمع البيان : ج ٢، ص ١٦٣.

٤١٢

جَهْدَ أَيْمانِهِم إنَّهُم لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُم فَأَصْبَحُوا خَاسِرينَ ) ( سورة المائدة : الآية ٥٣ ). « أي ضاعت أَعمالهم الّتي عملوها لأنّهم أَوقعوها على خلاف الوجه المأمور به ، وبَطَلَماأظهروه من الإِيمان ، لأنّه لم يوافق باطنُهم ظاهرَهُم ، فلم يستحقّوا به الثّواب »(١).

وبما ذكره الطبرسي يظهر جواب سؤال آخر ، وهو أنّه إذا كان الاستحقاق مشروطاً بعدم صدور العصيان ، فإذا صدر يكشف عن عدم الإستحقاق أبداً ، فكيف يطلق عليه الإِحباط ، وما الإحباط إلاّ الإِبطال والإسقاط ، ولم يكن هناك شيء حتّى يبطل أو يسقط؟

وذلك لأنّ نفس العمل في الظّاهر سبب ومقتض ، فالإبطال والإسقاط كما يصدقان مع وجود العلّة التامّة ، فهكذا يصدقان مع وجود جزء العلّة وسببها ومقتضيها ، وهذا كمن ملك أَرضاً صالحة للزراعة فأَحدث فيها ما أفقدها هذه الصّلاحيّة.

وبعبارة أُخرى ، إنّ الموت على الكفر ، وإن كان يُبطل ثواب جميع الأعمال ، لكن ليس هذا بالإحباط ، بل بشترط الموافاة على الإِيمان في استحقاق الثّواب على القول بالاستحقاق. أو في إنجاز الوعد بالثّواب على القول بعدم الاستحقاق. وهكذا القول في المعاصي الّتي ورد أنّها حابطة لبعض الحسنات من غير قول بالحبط ، بل يكون الإستحقاق أَو الوعد مشروطاً بعدم صدور تلك المعصية.

والّذي يبدو لنا من هذه الكلمات إنّ النّزاع بين نافي الاحباط ومثبته في هذه الموارد الخاصّة ، أشبه بنزاع لفظي ، لأنّهما متّفقان على النّتيجة وهي عدم ترتّب الثّواب على الإيمان والأعمال الحسنة إذا لحقها الكفر أو بعض الكبائر ، غير أنّ النافي يقول بأنّه لم يكن هناك ثواب فعليّ حتّى يحبطه الكفر أو بعض الكبائر ، لأنّ ترتّب الثّواب أو الاستحقاق كان مشروطاً بشرط غير حاصل ، والمثبت له يقول بوجوده فعلاً ، لكنّه يسقط

__________________

١ ـ مجمع البيان : ج ٢، ص ٢٠٧.

٤١٣

بهما. وعلى كلّ واحدة من النّظريّتين فالكافر والمرتكب للكبائر ، صفر اليد يوم القيامة.

نعم ، هذا التّفسير إنّما نحتاج إليه في جانب الاحباط ، وأمّا في جانب التّكفير فلا حاجة إليه ، بل لنا أَن نقول إنّ التّوبة والأعمال المكفِّرة يذهبان العقاب المكتوب على المعاصي من دون حاجة إلى القول بكون الإستحقاق مشروطاً بالموافاة على الكفر ، لجواز تفضّله سبحانه بالعفو.

هذا ، ولا يصحّ القول بالإِحباط والتّكفير في كلِّ المعاصي عند النافي ، بل يجب عليه تَتَبُّعُ النّصوص، فكلّ معصية وردت في الكتاب أو في الآثار الصّحيحة إنّها مذهبة لأثر الإيمان والحسنة نقول بالاحباط فيها على التّفسير الّذي ذكرناه. وهكذا في جانب التّكفير فلا يمكن لنا أَن نقول إِنّ كلّ حسنة تُذهب السيّئة إلاّ بالنّص. وأمّا على قول المثبت فالظاهر أنّه يقول بأنّ كلّ كبيرة توجب الإحباط للأصل الّذي افترضه صحيحاً وهو خلود مرتكب الكبيرة في النّار على الإطلاق.

إلى هنا تمّ بيان دليل النّافين للإحباط على الوجه اللاّئق بكلامهم ، والإجابة عليه.

أدلّة مُثبِتي الإِحباط

استدلّ القاضي على ثبوت الإحباط بوجه عقليّ فقال : « قد ثبت أَنّ الثّواب (١) والعقاب يستحقّان على طريق الدّوام. فلا يخلو المكلّف إمّا أن يستحقّ الثّواب فيثاب ، أَو يستحقّ العقاب فيعاقب ، أَو لا يستحقّ الثّواب ولا العقاب ، فلا يثاب ولا يعاقب ، أَو يستحقّ الثّواب والعقاب ، فيثاب ويعاقب دفعة واحدة ، أَو يؤثّر الأكثر في الأقلّ على ما نقوله :

لا يجوز أن لا يستحقّ الثّواب ولا العقاب ، فإنّ ذلك خلاف ما اتّفقت عليه الاُمّة. ولا أَن يستحقّ الثّواب والعقاب معاً فيكون مثاباً ومعاقباً دفعة واحدة ، لأنّ ذلك

__________________

١ ـ يكفي في ذلك كونه مستحقاً للعقاب دائماً فقط ولا يتوقف على استحقاقه للثواب كذلك فلاحظ.

٤١٤

مستحيل والمستحيل ممّا لا يستحقّ ...

فلا يصحّ إلاّ ما ذكرناه من أنّ الأقلّ يسقط بالأكثر. وهذا هو الّذي يقوله الشّيخان أبو عليّ وأبو هاشم ولا يختلفان فيه ، وإنّما الخلاف بينهما في كيفيّة ذلك » (١).

يلاحظ عليه : إنّه مبنيّ على أنّ استحقاق العقاب على وجه الدّوام ، وهو مبنيّ على أنّ مرتكب الكبيرة مُخلّد في النّار ، وبما أنّ الأساس باطل ، فيبطل ما بنى عليه ، فلا دليل على دوام استحقاق العقاب ، وعلى ذلك فالحصر غير حاصر ، وأنّ هنا شقّاً سادساً ترك في كلامه وهو أنّه يستحقّ الثّواب والعقاب معاً لكن لا دفعة واحدة ، بل يعاقب مدّة ثمّ يخرج من النّار فيثاب بالجنّة على ما عليه جمهور المسلمين.

وقد نقل القاضي عبدالجبّار وجهاً عقليّاً آخر للإِحباط عن الشّيخ أبي عليّ وأجاب عنه ، فلاحظ (٢).

تحليل لمسألة الإِحباط

وهيهنا تحليل آخر للمسألة وهو أَنّ في الثّواب والعقاب أقوال :

١ ـ الثّواب والعقاب في الآخرة من قبيل الأمور الوضعيّة الجعليّة ، كجعل الاُجرة للعامل ، والعقاب للمتخلّف في هذه النشأة.

٢ ـ الثّواب والعقاب في الآخرة مخلوقان لنفس الإنسان حسب الملكات الّتي اكتسبها في هذه الدّنيا ، بحيث لا يمكن لصاحب هذه الملكة ، السُّكون والهدوء إلاّ بفعل ما يناسبها.

٣ ـ الثّواب والعقاب في الآخرة عبارة عن تمثّل العمل في الآخرة وتجلّيه فيها

__________________

١ ـ شرح الاصول الخمسة : ص ٦٢٥. وترك تعليل الوجه الأول ( وهو أن يستحق الثواب فقط ) والثاني ( وهو أن يستحق العقاب فقط ) لوضوحه.

٢ ـ شرح الاصول الخمسة : ص ٦٣٠ ـ ٦٣١، وحاصل هذا الدليل أنّ المكلّف ، بارتكاب الكبيرة يخرج نفسه من صلاحيّة استحقاق الثواب. وهو كما ترى دعوى بلا دليل ، إذ لا دليل على أنّ كلّ معصية لها هذا الشأن ، وليست كلّ معصية كالكفر والارتداد والنفاق.

٤١٥

بوجوده الاُخروي من دون أَن يكون للنّفس دور في تلك الحياة في تجلّي هذه الأعمال بتلك الصور ، بل هي من ملازمات وجود الإنسان المحشور.

فلو قلنا بالوجه الأوّل ، كان لما نقلناه من نفاة الحبط ( من أنّ الاستحقاق أو استمراره مشروط بعدم الإتيان بالمعصية ) وجه حسن ، لأنّ الاُمور الوضعيّة ، رفعها ووضعها وتبسيطها وتضييقها ، بيد المقنِّن والمشرع ، وعندئذ يُجمع بين حكم العقل بلزوم الوفاء بالوعد ، وما دلّ من الآيات على وجود الإحباط في موارد مختلفة ، كما سيوافيك.

وقد عرفت حاصل الجمع ، وهو أَنّ إطلاق الإحباط ليس لإبطال استحقاق الإنسان الثّواب ، بل لم يكن مستحقّاً من رأس لعدم تحقُّق شرط الثّواب ، وأمّا مصحِّح تسميته بالإحباط فقد عرفته أَيضاً ، وهو أَنّ ظاهر العمل كان يحكي عن الثّواب وكان جزء علّة له.

ولو قلنا بالوجه الثاني ، وحاصله أَنّ الملكات الحسنة والسيّئة الّتي تعدّ فعليّات للنّفس ، تحصل بسبب الحسنات والسيّئات الّتي كانت تصدر من النّفس. فإذا قامت بفعل الحسنات ، تحصل فيها صورة معنويّة مقتضية لخلق الثّواب. كما أَنّه إذا صدر منها سيّئة ، تقوم بها صورة معنويّة تصلح لأن تكون مبدأ لخلق العقاب. وبما أَنّ الإنسان في معرض التّحوّل والتغيّر من حيث الملكات النفسانيّة ، حسب ما يفعل من الحسنات والسيّئات ، فإنّ من الممكن بُطلان صورة موجودة في النّفس وتبدُّلها إلى صورة غيرها ما دامت تعيش في هذه النشأة الدّنيوية.

نعم ، تقف الحركة ويبطل التّحوّل عند موافاة الموت ، فعند ذلك تثبت لها الصّور بلا تغيير أصلاً.

فلو قلنا بهذا الوجه ، كان الإحباط على وفق القاعدة ، لأنّ الجزاء في الآخرة ، إِذا كان فعل النّفس وإِيجادها ، فهو يتبع الصّورة الأخيرة للنّفس ، الّتي اكتسبتها قبل الموت ، فإن كانت صورة معنويّة مناسبة للثّواب فالنّفس منعّمة في الثّواب من دون

٤١٦

مقابلة بالعقاب ، لأنّ الصّورة المناسبة للعقاب قد بطلت بصورة أُخرى. وإذا انعكست الصّورة انعكس الحُكم.

وأمّا لو قلنا بالوجه الثالث ، وهو تَجَسّم الأعمال وتمثّلها في الآخرة بالوجود المماثل لها ، فالقول بعدم الاحباط هو الموافق للقاعدة ، إذ لا معنى للإِبطال في النشأة الاُخرى.

غير أَنّ الكلام كلّه في انحصار الثّواب والعقاب بهذين الوجهين الأخيرين (١).

عوامل الإحباط وأَسبابه

البحث عن عوامل الإِحباط وأَسبابه ، بحثُ نقليّ يتوقّف على السّبر والفحص في الكتاب والسنّة ، ونكتفي في المقام بما جاء في الكتاب العزيز.

١ ـ الإرتداد بعد الإِسلام

قال سبحانه : ( ومَن يرتَدِد مِنكُم عَن دِيِنِه فَيَمُت وهُوَ كافِر ، فأُولئكَ حَبِطَت أَعْمالُهُم في الدنيا والآخرة ، وأُولئكَ أَصحابُ النّارِ هُمْ فيها خالِدُونَ ) ( سورة البقرة : الآية ٢١٧ ).

٢ ـ الشرك المقارن بالعمل

يقول سبحانه : ( ما كانَ للمُشركينَ أَنْ يَعمُرُوا مساجِدَ اللّهِ شاهدينَ على أَنْفُسِهِمْ بالكُفْرِ أُولئكَ حَبِطَتْ أَعّْمالُهُم وفي النّارِ هُمْ خالِدونَ ) ( سورة التوبة : الآية ١٧ ).

وقدكان المشركون يزعمون أَنّ العمل الصالح بنفسه موجب للثّواب ، غير أنّ القرآن شطب على هذه العقيدة ، وصرّح بأنّ الثّواب يترتّب على العمل الصالح ، إذا صدر من فاعل مؤمن.

ولأجل ذلك أتبع سبحانه الآية السابقة بقوله : ( إنّما يَعْمُرُ مساجِدَ الله مَنْ آمَنَ

__________________

١ ـ لاحظ : « الالهيات » ج ١، ص ٢٩٩.

٤١٧

باللّهِ واليَوْمِ الآخِرِ ) ( سورة التوبة : الآية ١٨ ).

٣ ـ كراهة ما أنزل الله

قال سبحانه : ( وَالّذينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُم وَأَضَلّ أَعّْمالَهُم * ذَلِكَ بأَنّهُمّْ كَرِهُوا ما أَنزَلَ اللّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ ) ( سورة محمد : الآيتان ٨ و٩ ).

٤ ـ الكُفر

٥ ـ الصدُّ عن سبيل الله

٦ ـ مجادلة الرسول ومشاقّته

وقد جاءَت هذه العوامل الثّلاثة في قوله سبحانه : ( إنّ الّذينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سبيلِ الله وشَاقُّوا الرّسولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الهُدى لَنّْ يَضُرُّوا اللّهَ شَيْئاً وسَيُحبِطُ أَعْمالَهُم ) ( سورة محمد : الآية ٣٢. ولاحظ في عامل الكفر ، سورة التوبة : الآية ٦٩ ).

وهل كلُّ منها عاملٌ مستقل ، أَو أَنّ هنا عاملاً واحداً هو الكفر ، ويكون حينئذ الصّدُّ عن سبيل الله ومشاقّة الرّسول من آثار الكفر ، فهم كفروا ، فصّدوا وشاقّوا؟ وجهان.

وتظهر الثّمرة فيما لو صَدّ إنسانٌّ عن سبيل الله لأغراض دنيويّة ، أَو شاقّ الرّسولَ لحالة نفسانيّة مع اعتقاده التّام بنبوّة ذاك الرّسول وقبح عمل نفسه. فلو قلنا باستقلال كل منها في الحبط ، يحبط عمله ، وإلاّ فلا ، وبما أَنّ الآية ليست في مقام البيان ، بل تحكي عمل قوم كانت لهم هذه الشؤون فلا يمكن استظهار استقلال كلّ منها في الحبط نعم ، يمكن القول بالاستقلال من باب الأولويّة ، وذلك أنّه إذا كان رفع الصّوت فوق صوت النّبي من عوامل الإحباط كما سيأتي فكيف لا يكون الصدّ والقتل من عوامله؟

٧ ـ قتل الأنبياء

٨ ـ قتل الآمرين بالقِسط من الناس

قال سبحانه : ( إنّ الّذينَ يَكْفُرونَ بآياتِ اللّه ، ويَقْتُلونَ النّبِييّنَ بغير حق ،

٤١٨

وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشْرْهُمْ بِعَذَاب أَلِيم* أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ومَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرينَ ) ( آل عمران : الآيتان ٢١ ـ ٢٢ ).

٩ ـ إساءة الأدب مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) ( سورة الحجرات : الآية ٢ ).

وربّما يُتصوّر أَنّ رفع الصّوت ليس عاملاً مستقلاّ ً فى الإحباط ، بل هو كاشف عن كفر الرافع ، ولكنّه احتمال ضعيف ، لأنّ الآية تخاطب المؤمنين به بقولها : ( يا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنوُا ).

نعم ، لا يمكن الالتزام بأنّ كلّ إساءة بالنّسبة إلى النّبي تُحبط الأعمال الصّالحة (١) ، إِلاّ إِذا كانت هتكاً في نظر العامّة ، وتحقيراً له في أَوساط المسلمين ، كما هوالظّاهر من أَسباب نزول الآية.

١٠ ـ الإقبال على الدُنيا والاعراض عن الاخرة

قال سبحانه : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ* اُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إلاّ النَّارُ وحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( سورة هود : الآيتان ١٥ و١٦ ).

ويمكن أَن يقال إنّ الاقبال على الدّنيا بهذا النّحو الّذي جاء في الآية يساوق الكفر ، أَو يساوق ترك الفرائض ، والتوغّل في الموبقات ، فتكون إِرادة الحياة الدّنيا وزينتها إشارة إلى العامل الواقعي.

__________________

١ ـ كالغضب في محضره ـ صلوات الله عليه وآله.

٤١٩

١١ ـ إنكار الآخرة

قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ولِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ) ( سورة الأعراف : الآية ١٤٧. ولاحظ سورة الكهف : الآية ١٠٥ ).

وهو فرع من فروع الكفر وليس عاملاً مستقلاّ ً.

١٢ ـ النِفاق

قال سبحانه : ( قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ المَعَوِّقِينَ مِنْكُمْ والقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إَلَيْنَا ولا يَأْتُونَ البَأْسَ إلاّ قَلِيلاً * أُولِئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ وكَانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً ) ( سورة الاحزاب : الآيتان ١٨ و١٩ ).

وقوله : « لإخوانهم » ، يدلّ على أَنّهم لم يكونوا مؤمنين ، بل كانوا منافقين. ويصرّح به قوله : « أُولئك لم يُؤّْمِنوا ». وعلى ذلك فيَرجع النّفاق إلى عامل الكفر وعدم الإِيمان ، وليس سبباً مستقلاً.

هذه هي أبرز أسباب الإِحباط في الذّكر الحكيم ، وقد عرفت إمكان إذعام البعض في البعض ، وعلى كلِّ تقدير ، فالإحباط هنا هو بطلان أَثر المقتضي ، لا إبطال أَثر ثابت بالفعل ، كما تقدّم (١).

٢ ـ التكفير

التّكفير هو إسقاط ذنوب الأفعال المتقدّمة بثواب الطّاعات المتأَخِّرة ، وهو لا يعدّ ظلماً ، لأنّ العقاب حقّ للمولى ، وإسقاط الحقّ ليس ظلماً بل إحسان ، وقد عرفت أَنّ خلف الوعيد ليس بقبيح وإنّما القبيح خلف الوعد. فلأجل ذلك لا حاجة إلى تقييد استحقاق العقاب أو استمرار استحقاقه بعدم تعقّب الطّاعات. بل الاستحقاق

__________________

١ ـ وأمّا بيان عوامل الإحباط في السنّة فهو موكول الى محل آخر.

٤٢٠