بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٩

قديمة ، ادّعى أنّ عيسى قديم » (١).

وبعد ذلك لا يعبأ بما قاله مؤلّف كتاب « المعتزلة » من أنّ القول بخلق القرآن جاء من اليهود ، وأنّ أوّل من نشرها منهم لبيد بن الأعصم عدوّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللّدود الّذي كان يقول بخلق القرآن ، ثمّ أخذ ابن اُخته طالوت هذه المقالة عنه ، وصنّف في خلق القرآن (٢).

هذا ، وإنّ المشهور بين اليهود هو قدم التّوراة (٣).

وعلى كلِّ تقدير ، فالمسألة مستوردة وليست نابتة من صميم الدّين واُصوله. وقد طرحت في أواخر القرن الثّاني في عصر المأمون ، وامتدّت إلى عصر المتوكّل ومن بعده الّذين يضغطون على المعتزلة وينكِّلون بهم.

إنّ تأريخ البحث يعرب عن أمرين :

أ ـ إنّ المسألة طرحت في جوّ غير هادئ ومشحون بالعداء ، ولم يكن البحث لكشف الحقيقة وابتداعها ، بل كلُّ يصرّ على إثبات مدّعاه.

ب ـ لم يكن موضوع البحث منقّحاً حتّى يتوارد عليه النّفي والاثبات ، وأنّهم لماذا يفرّون من القول بحدوث القرآن ولماذا يكفّرون القائل به. أهم يريدون من قدم القرآن ، قدم الآيات الّتي يتلوها القارئ، أو النّبي الأكرم ، أو أمين الوحي. أم يريدون قدم معانيه والمفاهيم الواردة فيه. أو يريدون قدم علمه ، سبحانه إلى غير ذلك من الاحتمالات الّتي لم يركّز البحث على واحد منها.

يقول القاضي : « ذهبت الحشويّة من الحنابلة إلى أنّ هذا القرآن المتلوّ في المحاريب والمكتوب في المصاحف ، غير مخلوق ولا محدث ، بل قديم مع الله تعالى ».

وقال ابن قتيبة : « اتّفقوا على أنّ القرآن كلام الله غير مخلوق وإنّما اختلفوا في

__________________

١ ـ تاريخ المذاهب الاسلاميّة : ج ٢، ص ٣٩٤.

٢ ـ المعتزلة : ص ٢٢، زهدي حسن جار الله.

٣ ـ اليهودية : ص ٢٢٢، تأليف أحمد شلبي ، كما في بحوث مع أهل السنة والسلفية ص ١٥٣.

٣٨١

اللّفظ بالقرآن لغموض وقع في ذلك وكلّهم يجمعون على أنّ القرآن بكلّ حال ـ مقروءاً ومكتوباً ومسموعاً ومحفوظاً ـ غير مخلوق » (١).

وذهبت الكلابيّة (٢) إلى أنّ كلام الله تعالى هو معنى أزليّ قائم بذاته مع أنّه شيء واحد.

وأمّا مذهبنا في ذلك فهو أنّ القرآن كلام الله تعالى ووحيه وهو مخلوق محدث أنزله الله على نبيِّه ليكون علماً ودالاً على نبوّته ، وجعله دلالة لنا على الأحكام لنرجع إليه في الحلال والحرام واستوجب منّا بذلك الحمد والشّكر والتّحميد والتّقديس ، واذن هو الّذي نسمعه اليوم ونتلوه وإن لم يكن محدثاً من جهة الله تعالى فهو مضاف إليه على الحقيقة كما يضاف ما ننشده اليوم من قصيدة امرئ القيس على الحقيقة ، وإن لم يكن مُحدِثاً لها من جهته الآن (٣).

٣ ـ استدلالهم على حدوث القرآن

إذا كان محلّ النزاع هو القرآن المتلوّ كما يظهر من كلام القاضي فحدوثه أمر واضح ، فإنّ الكلام هو الحروف المنظومة الّتي تظهر بالأصوات المقطّعة وليس حدوثه شيئاً يحتاج إلى دليل ولو احتاج حدوث مثل هذا إلى دليل إذاً احتاج النّهار إلى دليل. كيف وإنّ ترتيب حروف الكلمات والجمل يستلزم الحدوث ، لأنّ تحقّق كلمة بسم الله يتوقّف على حدوث الباء وانعدامها ، ثمّ حدوث السين كذلك ، ثمّ حدوث الميم وهكذا إلى آخر البسملة. فالحدوث ثمّ الانعدام لا يفارقان مفردات الحروف. وفي ضوء هذا توجد الكلمة فكيف يمكن أن يكون مثل هذا قديماً أزليّاً مع الله تعالى؟.

وهذا الاستدلال متين لا مفرّ منه.

____________

١ ـ تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة : ص ١٦ طبع دار الجيل ، .

٢ ـ المؤسس هو عبدالله بن محمد بن كلاب ، وله مع عباد بن سليمان مناظرات ، وكان يقول : إنّ كلام الله هو الله ، وكان عباد يقول : إنّه نصراني بهذا القول : فلاحظ فهرست ابن النديم الفن الثالث من المقالة الخامسة ص ٢٣٠.

٣ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ٥٢٨.

٣٨٢

ثمّ إنّ القاضي استدلّ على حدوث القرآن بآيات :

١ ـ ( ومَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْر مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَث ) ( الأنبياء / ٢ ) والذِّكر هو القرآن بدليل قوله : ( إنّا نَحْنُ نَزَّلنا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُون ). فقد وصفه بأنّه محدث ، ووصفه بأنّه منزّل ، والمنزّل لا يكون إلاّ محدثاً. وفيه دلالة على حدوثه من وجه آخر ، لأنّه قال : ( وإنّا له لحافظون ) فلو كان قديماً لما احتاج إلى حافظ يحفظه.

٢ ـ ( الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُه ثُمَّ فُصِّلَتْ ) ( هود / ١ ).

بيّن كونه مركّباً من هذه الحروف وذلك دلالة حدوثه ، ثمّ وصفه بأنّه كتاب ، أي مجتمع من كتب ، ومنه سمّيت الكتيبة كتيبة ، وما كان مجتمعاً لا يجوز أن يكون قديماً.

٣ ـ ( اللّهُ نزَّل أحْسَنَ الحديثِ كِتاباً مُتشابِهاً مَثانِيَ ) ( الزمر / ٢٣ ).

وصفه بأنّه « منزّل » أوّلاً ، ثمّ قال : « أحسن الحديث ». وصفه بالحسن ، والحسن من صفات الأفعال. ووصفه بأنّه « حديث » وهو والمحدث واحد. فهذا صريح ما ادّعيناه. وسمّاه « كتاباً » ، وذلك يدلّ على حدوثه كما تقدّم. وقال : « متشابهاً » أي يشبه بعضه بعضاً في الاعجاز والدّلالة على صدق من ظهر عليه. وما هذا حاله لا بدّ من أن يكون محدثاً (١).

٤ ـ محاولة بعض الحنابلة لإثبات القدم

ولمّا كانت العقيدة بقدم القرآن منافية لتوحيده سبحانه ، حاول ابن تيميّة تصحيح عقيدة الحنابلة ـ الّتي صارت متروكة ومندرسة بعد ثورة الإمام الأشعري على الطّائفتين ـ بالتّفريق بين القدم وعدم المخلوقيّة وقال :

« وكما لم يقل أحد من السّلف إنّ كلام الله مخلوق ، فلم يقل أحد منهم إنّه قديم ، ولم يقل واحداً من القولين أحد من الصّحابة ، ولا التّابعين لهم بإحسان ، ولا من بعدهم من الأئمّة الأربعة ولا غيرهم. وأوّل من عرف أنّه قال « هو قديم » ، عبدالله بن سعيد بن

__________________

١ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ٥٣٢.

٣٨٣

كلاب » (١).

ولا يخفى أنّ التّفريق بين عدم الخلقة والقدم ، كالتّفريق بين المترادفين مثل « الإنسان » و « البشر » فكما لا يصحّ أن يقال : هذا بشر لا إنسان ، فهكذا لا يصحّ أن يقال : « القرآن غير مخلوق ولكن ليس بقديم » لأنّ الشّيء إذا لم يكن مخلوقاً يكون وجوده لذاته ، وما كان كذلك لا يكون مسبوقاً بالعدم فيكون قديماً.

أضف إلى ذلك أنّ ابن الجوزي صرّح بأنّ الأئمّة المعتمد عليهم قالوا : إنّ القرآن كلام الله قديم (٢).

فكما أنّ هذه المحاولة فاشلة ، فهكذا محاولته الثّانية الّتي لا يليق بها أن تسطر. وهي القول بقدم حروف المعجم الّتي هي موادّ كلمة الله ، حيث قال : « وما تكلّم الله به فهو قائم به ، ليس مخلوقاً منفصلاً عنه ، فلا تكون الحروف التي هي مباني أسماء الله سبحانه وكتبه المنزلة مخلوقة ، فقول القائل بأنّ الحروف قديمة ، أو حروف المعجم قديمة ، فإن أراد جنسها فهذا صحيح. وإن أراد الحرف المعيّن فقد أخطأ » (٣).

إنّ القول بقدم موادِّ القرآن ـ أعني حروف المعجم ـ أشبه بالقول بقدم الماهيّات المنفكّة عن الوجود. وهذه الحروف بجنسها ، كما أنّ الماهيّات بنوعها ، ليست إلاّ مفاهيم بحتة معدومة وإنّما تتشخّص بالوجود ، وتتحقّق بالكينونة ، ولا يكون ذلك إلاّ فرداً وهو حادث قطعاً حسب ما اعترف به.

هذه المسائل صارت سبباً لسقوط عقيدة الحنابلة في أعين المفكِّرين والمحقّقين من علماء الإسلام. ولأجل ذلك التجأ الأشعري لتصحيح العقيدة إلى الكلام النّفسي القائم بذاته سبحانه. وقد عرفت في تبيين عقيدة الأشعري أنّ مرجع الكلام النّفسي إلى العلم ، وليس شيئاً غيره.

__________________

١ ـ مجموعة الرسائل : ج ٣ ص ٢٠.

٢ ـ المنتظم في ترجمة الأشعري ، ج ٦، ص ٣٣٢.

٣ ـ مجموعة الرسائل : ج ٣، ص ٤٥.

٣٨٤

ثمّ إنّ هيهنا أدلّة سمعيّة للحنابلة في إثبات قدم القرآن نأتي بها على وجه الاجمال ، وقد طرحها القاضي في كتبه وقام بتحليلها.

٥ ـ نقد أدلّة القائلين بالقدم

إنّ القاضي يذكر أدلّة القائلين بقدم القرآن ويقول : « وللمخالف في قدم القرآن شبه ، من جملتها :

الشبهة الأولى : قولهم : قد ثبت أنّ القرآن مشتمل على أسماء الله تعالى والاسم والمسمّى واحد ، فيجب في القرآن أن يكون قديماً مثل : الله تعالى. قالوا : والّذي يدلّ على أنّ الاسم والمسمّى واحد ، هو أنّ أحدنا عند الحلف يقول : تالله ووالله. وهكذا يقول : بسم الله. ولا يكون كذلك إلاّ والأمر على ما قلناه. وكذلك فقد قال لبيد :

إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما

ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر

أي السّلام عليكما.

وهكذا فإنّ أحدنا إذا قال : طلّقت زينب ، كان الطّلاق واقعاً عليها. فلو لم يكن الاسم والمسمّى واحداً لا يكون كذلك ».

وأجاب عنه القاضي بأنّ الاسم غير المسمّى وإلاّ فمن قال : ناراً ، يجب أن يحترق فمه.

وعلى هذا قال بعضهم :

لو كان من قال ناراً أُحرقت فمه

لما تفوّه باسم النّار مخلوق

فكيف يكون الاسم والمسمّى واحداً ، مع أنّ الاسم عرض والمسمّى جسم؟.

أقول : يجب إلفات نظر القارئ إلى اُمور :

١ ـ إنّ اتّحاد الاسم مع المسمّى صحيح على وجه وباطل على وجه آخر. فإن أرادوا اتّحاد واقعيّة العالم مع ذاته سبحانه فذلك صحيح ، لما قلنا من أنّ ذاته سبحانه

٣٨٥

بلا ضمّ ضميمة مصداق للعالم ، وليست ذاته شيئاً وعالميّته شيئاً آخر ، ولأجل ذلك ، الاسم هو واقعيّة العالميّة ، ولفظ ( العالم ) إسم للاسم.

وإن أرادوا اتّحاد لفظ ( العالم ) الّذي حدوثه ذاتي ، وتدرّجه عين تحقّقه ، مع المسمّى فذلك من البطلان بمكان.

٢ ـ إنّ المعارف الإلهيّة لا تبتنى على المسائل الفقهيّة ، فإنّ لكلِّ علم منهجاً خاصّاً لتحليل مسائله. فالمعارف الإلهيّة مسائل حقيقيّة تطرح على بساط البحث ، وينظر إليها من زاوية البرهان العقلي. وأمّا المسائل الفقهيّة فهي مسائل اعتباريّة ، اعتبرها الشّارع موضوعاً لأمره ونهيه وطاعته وعصيانه ، فلا يصحّ الاستدلال عليها إلاّ من زاوية العلوم الاعتباريّة.

فالعالم كلُّ العالم من يحلِّل كلّ مسألة بمنهجها الخاصّ، ولا يخلط هذا بذاك. ولكنّ الحنابلة طفقوا يستدلّون على اتّحاد الاسم مع المسمّى بمسألة فقهيّة ، وهذا مثل من أنكر كرويّة الأرض بحجّة أنّ كرويّتها لا توافق كون ليلة القدر ليلة واحدة ، بل تستلزم أن تكون ليلتين. وقد أوضحنا حال هذه الشّبهة في أبحاثنا الفقهيّة.

٣ ـ إنّ الحلف في قول « تالله » و « والله » ، واقع على الاسم لا على المسمّى ، لوضوح أنّ المقسم به هو لفظ الجلالة لا مصداقه ، غاية الأمر اللّفظ طريق ومرآة إلى المسمّى ، ومع ذلك فالمحلوف به لفظه واسمه ، لا مصداقه وذاته مباشرة ، فأين للإنسان النّاقص شهود ذاته حتّى يحلف بها. فلو تصعّد وتصوّب لا يكون حلفه خارجاً عن الحلف باللّفظ. فإذا كان الحلف هنا على الاسم ، يكون الحلف في قوله « باسم الله » أيضاً على الاسم بحجّة أنّ الاضافة بيانيّة ، بمعنى أحلف على الاسم الّذي هو الله. ففي كلا القسمين الحلف واقع على الاسم ، دون المسمّى ، وليس الحلف في الأوّل على المسمّى حتّى يستدلّ بصحّة الحلف في الثّاني المشتمل على لفظ الاسم ، على أنّ الاسم هو المسمّى ويستنتج من قدم المسمّى قدم الاسم ومنه قدم القرآن لاشتماله على أسمائه.

إنّ اتّحاد الاسم مع المسمّى من الأفكار الباطلة الّتي شطب العلم ، والفكر

٣٨٦

الصحيح ، عليها طيلة قرون. ومع الأسف إنّ الشّيخ الأشعري جعله من جملة عقائد أصحاب الحديث وأهل السنّة ، وقال في قائمة عقائد تلك الطّائفة : « إنّ أسماء الله لا يقال إنّها غير الله ، كما قالت المعتزلة والخوارج » (١).

يحكى أنّ بعض الحنابلة ناظر أبا الهذيل في هذه المسألة فأخذ لوحاً وكتب عليه « الله ». قال : أفتنكر أن يكون هذا هو الله وتدفع المحسوس؟ فأخذ أبو الهذيل اللّوح من يده وكتب بجنبه : « الله » آخر. فقال للحنبليّ : أيّهما الله إذن؟ ـ فانقطع المدبر (٢).

فلو صحّت هذه الوحدة لوجب تعدّد الآلهة حسب تعدُّد أسمائه وكثرتها في لغة العرب وسائر اللّغات.

الشبهة الثانية : إنّ القوم تعلّقوا بآيات من القرآن في إثبات قدمه. منها قوله تعالى : ( ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ ) ( الاعراف / ٥٤ ) قالوا : إنّه تعالى فصّل بين الخلق والأمر ، وفي ذلك دلالة على أنّ الأمر غير مخلوق (٣). والقرآن مشتمل على الأمر فيكون غير مخلوق.

وأجاب عنه القاضي بأنّ ذلك من قبيل عطف الخاصِّ على العام ، مثل قوله سبحانه : ( فِيهِمَا فَاكِهَةٌ ونَخْلٌ ورُمّانٌ ) ( الرحمن / ٦٨ ).

ويمكن أن يجاب بالنّقض والحلّ.

أمّا نقضاً فبقوله سبحانه : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي ) ( الإسراء / ٨٥ ).

فلو كان الأمر غير مخلوق يلزم أن يكون الروح الّذي من الأمر غير مخلوق وقديماً.

وأمّا حلاّ ً فبوجهين :

أ ـ المراد من الخلق هنا هو التّقدير ، قال في اللّسان : « الخلق : التقدير ، وخلَق الأديم يخلقه خلقاً : قدّره لما يريد قبل القطع. قال زهير يمدح رجلاً :

__________________

١ ـ المقالات : ص ٢٩٠. وفي هذا المصدر تكلّم عن أصحاب الحديث حول اتحاد الاسم مع المسمى ، فراجعه.

٢ ـ شرح الاصول الخمسة : ص ٥٤٤.

٣ ـ المصدر نفسه

٣٨٧

ولأنت تَفري ما خلقتَ

و بعض القوم يَخلق ثمّ لا يفري (١).

والمراد من الأمر هو الايجاد ، لقوله سبحانه : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذْا أَرَادَ شَيْئَاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون ) ( يس / ٨٢ ). وعلى ذلك يعود معنى الآية إلى أنّ التقدير والايجاد في عالم الكون من السّماوات والأرض وما بينهما له سبحانه. ويشهد عليه ملاحظة نفس الآية : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ والأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ، يُغْشِى الَّيْلَ النّهارَ يَطْلُبُهُ حَثيثاً والشَّمسَ والقَمَرَ والنُّجومَ مُسَخّرات بِأَمْرِه ، ألا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِين ) ( الأعراف / ٥٤ ).

فخلق العالم من الذّرّة إلى المجرّة ، رهن التّقدير والايجاد ، ولا شريك له سبحانه في واحد من هذين الأمرين ، وعندئذ لا صلة لكلمة الأمر ، بالأوامر الشّرعية الواردة في القرآن الكريم حتّى يستدلّ من حديث المقابلة أنّ الأمر غير الخلق.

ب ـ المراد من الخلق هو الايجاد ، كما هو الشائع ، والمراد من الأمر السنن السائدة على العالم ، الحاكمة عليه والوسيلة للتدبير. ويشهد له قوله قبل ذلك : ( مسخّرات بأمره ) أي مسخّرات بسننه وقوانينه سبحانه. فيعود معنى الآية أيضاً إلى أنّ الخلق والتّدبير بالسنن له سبحانه ، لا يشاركه فيهما شيء.

ويظهر ذلك إذا علمنا أنّ « الألف واللام » في « له الأمر » إشارة إلى الأمر الوارد قبله أي : ( مسخّرات بأمره ) ومن المعلوم أنّ التّسخير قائم بوضع سنن وقوانين على عالم الخلق.

الشبهة الثالثة : إنّ توصيف القرآن بأنّه مخلوق ربّما يوهم وصف القرآن بالكذب والاختلاق ، ولهذا يقال : قصيدة مخلوقة ومختلقة ، إذا كانت مشتملة على أكاذيب وأباطيل.

قال سبحانه : ( إن هذا إلاّ خلق الأوّلين ) ( الشعراء / ١٣٧ ).

وقال سبحانه : ( إن هذا إلاّ اختلاق ) ( ص / ٧ ).

والإجابة عنه واضحة ، فإنّ المراد من كونه مخلوقاً ، كونه مخلوقاً لله سبحانه.

__________________

١ ـ لسان العرب : مادة « خلق ».

٣٨٨

ويشهد له أنّه سبحانه وصفه بـ « أنزله » ، و « جعله » ، وغيرذلك من الأفعال الدالّة على انتسابه إلى الله سبحانه.

واستغلال الملحد لهذه الكلمة بتفسيرها بالكذب والاختلاق لا يغيِّر الواقع ، فالمراد أنّ القرآن المتلوّ على لسان النّبي والصّحابة والتّابعين والمسلمين ، شيء موجود ولا بدّ له من محدث وخالق ، وخالقه هو الله سبحانه.

قال المفيد رحمه‌الله : « إنّ كلام الله تعالى محدث ، وبذلك جاءت الآثار عن آل محمّد عليهم‌السلام والمراد أنّ القرآن كلام الله ووحيه وأنّه محدث كما وصفه الله تعالى. وأمنع من إطلاق القول عليه بأنّه مخلوق. وبهذا جاءت الآثار عن الصّادقين ، وعليه كافّة الإماميّة إلاّ من شذّ » (١).

والحاصل إنّ إطلاق لفظة « الخلق » على القرآن ، لم ـ ّا كان موهماً لكونه كذباً ومختلقاً ، منع من إطلاقه في هذا المقام ، وأجيز إطلاق ما لا يوهم مثل هذا المعنى. كلفظ « محدث ». وأنّه كلام الله وكتابه وتنزيله ، مما يفيد أنه غير أزلي ، وليس بقديم. فإذن ، يكون من قبيل :

عباراتنا شتّى وحسنك واحد

وكلّ إلى ذاك الجمال يشير

وقد وردت الروايات في النّهي عن إطلاق الخلق على القرآن ـ لصدّ استغلال الملاحدة ـ في ( توحيد الصّدوق ) (٢).

هذا ، وقد أشار القاضي عبد الجبّار إلى هذا الوجه وقال :

« فان قيل : أليس قوله تعالى \' « وتخلقون إفكاً » أريد به كونه كذباً فما أنكرتم ، أليس من أنّ القرآن لا يوصف بذلك من إيهام كونه كذباً ... أليس يقولون قصيدة مخلوقة مختلقة يعني أنّها كذب ، وعلى هذا الوجه يقول القائل : خلقت حديثاً واختلقته » (٣).

__________________

١ ـ اوائل المقالات : ص ١٨ ـ ١٩.

٢ ـ لاحظ : توحيد الصدوق ، باب القرآن ، الأحاديث ٢ و٣ و٤ و٥، ص ٢٢١ ـ ٢٢٢.

٣ ـ المغنى : أبواب التوحيد والعدل ، ج ٧، ص ٢١٦ ـ ٢١٧.

٣٨٩

ولكنّ الإجابة عنه واضحة ، لما عرفت من أنّه يمكن التّعبير عنه بوجه لا يستلزم ذلك الوهم ككونه محدثاً ، أو إنّه غير قديم.

والظّاهر أنّ الوجه في عدم توصيفه بكونه مخلوقاً هو تصوّر الملازمة بين كونه مخلوقاً وكون علمه سبحانه حادثاً.

وهناك وجه آخر لعدم التزامهم بكونه مخلوقاً وهو تصوّر أنّ كلِّ مخلوق فان ، فيلزم فناء القرآن وموته مع أنّه سبحانه يقول : ( إنّا نحن نزّلنا الذِّكر وإنّا له لحافظون ) (١).

الشّبهة الرابعة : إنّ الله سبحانه خلق العالم بلفظ « كن » ، يقول : ( إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) ( يس / ٧٤ ) ويقولون لو لم يكن هذا ال ـ « كن » قديماً ، لوجب أن يكون محدثاً. فكان لا يحدث إلاّ بـ « كن » آخر. والكلام في ذلك الـ « كن » كالكلام فيه ، فيتسلسل إلى ما لا نهاية له (٢).

وأجاب عنه القاضي : ليس المراد من هذه اللّفظة هو المركّب من الكاف والنّون ، إذ لا شكّ في حدوثه ، فيجب أن يكون المراد هو الارادة (٣).

ثمّ قال : « والغرض من هذه الآية وما جرى مجراها إنّما هو الدّلالة على سرعة استجابة الأشياء له من غير امتناع ، نظيرها قوله تعالى : ( وقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً ) ( فصلت / ١١ ). ومنه قول الشاعر :

وقالت له العينان سمعاً وطاعة

وحدرتا كالدُّرّ لمّا يثقّب

والّذي يدلّ على أنّ المراد هنا ليس لفظة « كن » ، أنّه ليس في المقام مخاطب ذو سمع يسمع الخطاب فيوجد به ، وعندئذ تصير الآية تمثيلاً لحقيقة فلسفيّة ، وهي أنّ إفاضته سبحانه وجود الشّيء لا تتوقّف على شيء وراء ذاته المتعالية. فمشيئته سبحانه

__________________

١ ـ المغنى : ج ٧، ص ١٢١ وهو أيضاً كما ترى.

٢ ـ شرح الاصول الخمسة : ص ٥٦٠.

٣ ـ المصدر السابق. ولمّا كان القول بالارادة الحادثة في ذاته مستلزماً لحدوث الذات ، التجأ القاضي وأتباعه إلى أنّ للّه سبحانه إرادة غير قائمة بذاته ، وهو كما ترى.

٣٩٠

مساوقة لوجود الشّىء بلا تخلّف. وأمّا حقيقة إرادته فلبيانها مقام آخر.

وفي نفس الآيات إشارات لطيفة إلى هذا المعنى.

قال سبحانه : ( وما أمرنا إلاّ واحدة كلمح بالبصر ) ( القمر / ٥٠ ) فيكون الهدف من الآية ونظائرها بيان أنّ إرادته ومشيئته المتعلِّقة بتحقّق الشيء يساوق وجوده وليست كارادة الإنسان. فإنّ الارادة والمشيئة فيه لا تساوق وجود الشّيء ، بل يحتاج إلى مقدّمات وأسباب.

المسألة الثامنة :

ما تتعلّق بالنبوّات والشّرائع ومعاجز الأنبياء

إنّ القاضي رتّب على القول بالعدل عدّة مسائل زعم أنّها من نتائج القول به ، وبما أنّ الاختلاف فيها بين المعتزلة وغيرهم بسيط ، نكتفي بإيرادها إجمالاً :

١ ـ بعث الأنبياء : قال : « ووجه اتّصاله بباب العدل هو أنّه سبحانه إذا علم أنّ صلاحنا يتعلّق بالشّرعيات ، فلا بدّ من أن يعرِّفناها ، لكي لا يكون مُخلاًّ بما هو واجب عليه ، ومن العدل أن لا يخلّ بما هو واجب عليه ».

٢ ـ لزوم اقتران النبوّة بالمعجز : قال : « إذا بعث إلينا رسولاً ليعرِّفنا المصالح ، فلا بدّ من أن يدّعي النبوّة ويظهر عليه العلم المعجز الدّالّ على صدقه عقيب دعواه النُّبوة ».

ثمّ فصّل حقيقة المعجز.

يلاحظ عليه : إنّ مقتضى العدل بعث الأنبياء بالدّلائل والبيّنات المثبتة لدعواهم النّبوّة ، ولا تنحصر البيّنات بالمعجزات ، بل المعجز إحدى الطّرق إلى التعرّف على صدق النّبي. وهناك طريقان آخران نشير إلى عنوانيهما :

أ ـ تصديق النبّيّ السابق ( الّذي ثبتت نبوّته قطعيّاً ) نبوّة النّبىِّ اللاّحق.

٣٩١

ب ـ جمع القرائن والشّواهد الّتي تدلّ على صدق دعواه صدقاً قطعيا (١).

٣ ـ صفات النّبي : يقول : « الرّسول لا بدّ أن يكون منزّهاً عن المنفِّرات جملة ، كبيرة أو صغيرة ، لأنّ الغرض من البعثة ليس إلاّ لطف العباد ومصالحهم. فلا بدّ من أن يكون مقبولاً للمكلّف.

ثمّ جوّز صدور الصّغائر عن الأنبياء الّتي لا حظّ لها إلاّ في تقليل الثّواب دون التنفير ... ، لأنّ قلّة الثّواب ممّا لا يقدح في صدق الرُّسل ولا في القبول منهم » (٢).

يلاحظ عليه : أنّ صدور الذّنب من النّبي يوجب زوال الثّقة بصدق قوله ، فيقال : لو كان صادقاً فيما يرويه فلماذا يتخلّف عنه.

٤ ـ نسخ الشرائع : فقد ذكر جملة من الأدلّة على جواز النّسخ في الشّرائع وطرح القول بالبداء وبيّن الفرق بينه وبين النّسخ.

٥ ـ نبوّة نبيّ الإسلام ودلائل نبوّته وأنّ القرآن معجز : ثمّ بسط الكلام في إعجاز القرآن إلى أن وصل بحثه إلى القول بالتّحريف في القرآن.

ومن أعجب ما أتى به قوله إنّ الإماميّة جوّزوا فى القرآن الزّيادة والنّقصان حتّى قالوا : إنّ سورة الاحزاب كانت بحمل جمل ، وإنّه قد زيد فيها ، ونقص، وغيِّر وحرِّف (٣).

أقول : غاب عن القاضي أنّ الإماميّة على بكرة أبيهم لم يصدر منهم هذا الكلام الرّكيك.

نعم ، روى القرطبي عند تفسيره سورة الأحزاب من عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مائتي آية ، فلمّا كتب المصحف لم يقدر منها إلاّ على ما هي الآن (٤).

تمّ الكلام حول الأصل الثّاني والفروع الّتي تترتّب عليه.

__________________

١ ـ قد فصلنا تلك الطرق في بحوثنا الكلامية لاحظ الالهيات ج ٣ ص ٦١ ـ ١١٤.

٢ ـ شرح الاصول الخمسة : ص ٥٧٤ ـ ٥٧٥.

٣ ـ شرح الاصول الخمسة : ص ٦٠١.

٤ ـ تفسير القرطبي : ج ١٤، ص ١١٣.

٣٩٢

الأصل الثّالث

الوعد والوعيد

هذا هو الأصل الثّالث من الاُصول الّتي بني عليها الاعتزال ، والمراد من الوعد هو المدح والثّواب على الطّاعات ، ومن الوعيد الذّمّ والعقاب على المعاصي.

والمسائل المبتنية على الوعد والوعيد في الكتاب والسنّة والعقل كثيرة طرحها المتكلِّمون والمفسِّرون في كتبهم الكلاميّة والتفسيريّة. وليست المعتزلة متفرِّدة بالرأي في هذه المسائل وإنّما تفرّدوا في بعض الفروع ولأجل ذلك نذكر عناوين المسائل الكليّة ، ثمّ نركِّز على متفرِّدات المعتزلة ، وإليك البيان :

١ ـ الكلام في المستحَقّ بالأفعال ( الطّاعة والعصيان ) فهو إمّا المدح والذّم ، أو الثّواب والعقاب.

٢ ـ الكلام في الشروط الّتي معها تستحقّ هذه الأحكام.

٣ ـ هل الثّواب على وجه التفضّل كما هو المشهور لدى الشّيعة وجماعة من أهل السنّة ، أو من باب الاستحقاق ، كما هو المشهور لدى معتزلة البصرة؟

٤ ـ هل استحقاق العقاب عقليّ وسمعي ، أو سمعيّ فقط؟

٥ ـ هل الطّاعات مؤثِّرة في سقوط العقاب ، والمعاصي مؤثِّرة في سقوط الثّواب ، فيعبّر عن الأوّل بالتّكفير ، وعن الثاني بالإحباط؟

٦ ـ تقسيم المعاصي إلى الكبائر والصّغائر.

٣٩٣

هذه هي المسائل الّتي اختلفت فيها كلمة المتكلّمين من غير فرق بين المعتزليّ وغيره ولا نركّز البحث على هذه المسائل ، وإنّما نبحث في المسائل الآتية الّتي تعدّ من متفرّدات المعتزلة.

أ ـ هل يحسن من الله تعالى عقلاً أن يعفو عن العصاة وأن لا يعاقبهم إذا ماتو بلا توبة ، أو إنّه ليس له إسقاطه؟

ب ـ هل الفاسق ( مرتكب الكبائر ) مخلّد في العذاب أو لا؟ سواء أكان العذاب بالنّار أم بغيرها.

ج ـ إذا كان التّخليد في العذاب أمراً محقّقا ، فما معنى الشّفاعة الّتي تضافر عليها الكتاب والسنّة المفسّرة بخروج الفسّاق من النّار بشفاعة الرّسول وغيره؟

د ـ هل القائلون بجواز العفو أو عدم الخلود مرجئة أم راجية؟

هـ ـ هل الطّاعات مؤثِّرة في سقوط العقاب ، والمعاصي مؤثرة في سقوط الثّواب؟

هذه هي المسائل الّتي تفرّدت بها المعتزلة ، واشتركت معهم فئة الخوارج في تخليد الفسّاق في العذاب ، لقولهم بكفر المرتكب للكبيرة ، وهذا الأصل ـ أي الوعد والوعيد ـ رمز إلى هذه المسائل الخمس الأخيرة.

أ ـ هل يحسن العفو عن العصاة من الله أو لا؟

اختلفت مدارس الاعتزال فيها ، فالبصريّون ومنهم القاضي عبدالجبّار على الجواز، والبغداديّون على المنع ، حتّى قالوا : يجب عليه أن يعاقب المستحقّ للعقوبة ، ولا يجوز أن يعفو عنه ، حتّى صار العقاب عندهم أعلى حالاً في الوجوب من الثّواب. فإنّ الثّواب عندهم لا يجب إلاّ من حيث الجود. وليس هذا قولهم في العقاب فإنّه يجب فعله على كلِّ حال.

٣٩٤

احتجّ القاضي على الجواز بأنّ العقاب حقّ الله تعالى على العبد ، وليس في إسقاطه إسقاط حقّ ليس من توابعه ، وإليه استبقاؤه فله إسقاطه ، كالدّين فإنّه لمّا كان حقّاً لصاحب الدّين خالصا ، ولم يتضمّن إسقاط حقّ ليس من توابعه وكان إليه استبقاؤه ، كان له أن يسقط كما أنّ له أن يستوفيه.

استدلّ البغداديّون بوجوه :

الأوّل : إنّ العقاب لطف من جهة الله تعالى واللُّطف يجب أن يكون مفعولاً بالمكلّف على أبلغ الوجوه ، ولن يكون كذلك إلاّ والعقاب واجب على الله تعالى. فمعلوم أنّ المكلّف متى علم أنّه يفعل به ما يستحقّه من العقوبة على كلِّ وجه ، كان أقرب إلى أداء الواجبات واجتناب الكبائر (١).

يلاحظ عليه : أنّ اللُّطف عبارة عمّا يقرِّب الإنسان من الطّاعة ويبعِّده عن المعصية ، وهذا لا يتصوّر إلاّ في دار التّكليف لا دار الجزاء ، ففي الاُولى العمل والسّعي ، وفي الاُخرى الحساب والاجتناء.

وأمّا ما ذكروه أخيراً من أنّه لو علم المكلّف أنّه يفعل به ما يستحقّه من العقوبة على كلِّ وجه كان أقرب إلى أداء الواجبات واجتناب الكبائر فيلاحظ عليه : أنّه لو تمّ لوجب سدّ باب التّوبة ، لإمكان أن يقال إنّ المكلّف لو علم أنّه لا تقبل توبته ، كان أقرب إلى الطّاعة ، وأبعد من المعصية.

أضف إلى ذلك إنّ للرجاء آثاراً بنّاءة في حياة الإنسان ، ولليأس آثاراً سلبيّة في الادامة على الموبقات ، ولأجل ذلك يشتمل الذِّكر الحكيم على آيات التّرغيب كما يشتمل على آيات التّرهيب.

وأخيراً نقول : إنّ القول بجواز العفو ، غير القول بحتميّته. والأثر السّلبي ـ لو سلّمنا ـ يترتّب على الثاني دون الأوّل ، والكلام في جواز العفو لا في وجوبه وحتميّته.

__________________

١ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ٦٤٦ و٦٤٧.

٣٩٥

الثّاني : مانقله عنهم العلاّمة الدوّاني في ( شرح العقائد ) ، قال : « المعتزلة والخوارج أوجبوا عقاب صاحب الكبيرة إذا مات بلا توبة ، وحرّموا عليه العفو. واستدلّوا عليه بأنّ الله أوعد مرتكب الكبيرة بالعقاب ، فلو لم يعاقب لزم الخلف في وعده والكذب في خبره ، وهما محالان » (١).

واُجيب عنه بأنّ الوعد والوعيد مشروطان بقيود وشروط معلومة من النّصوص، فيجوز التخلّف بسبب انتفاء بعض تلك الشّروط (٢).

وربّما اُجيب بوجه آخر وهو أنّ الخلف في الوعيد جائز على الله تعالى وإن كان لا يجوز أن يخلف الوعد. وروي عن أنس بن مالك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « من وعده الله على عمله ثواباً فهو منجز له ، ومن أوعده على عمله عقاباً فهو في الخيار » (٣).

وروي أنّ عمرو بن عبيد ( رئيس المعتزلة بعد واصل ) جاء إلى أبي عمرو بن العلاء وقال : يا أبا عمرو ، يخلف الله ما وعده؟ قال : لا. قال : أفرأيت من أوعده الله على عمل عقاباً ، أيخلف الله وعيده فيه؟ فقال أبو عمرو : من العجمة أتيت يا أبا عثمان ، إنّ الوعد غير الوعيد. إنّ العرب لا يَعدّ عيباً ولا خلفاً ، أن يعد شرّاً ثمّ لم يفعل ، بل يرى ذلك كرماً وفضلاً ، وإنّما الخلف أن يعد خيراً ثمّ لم يفعل. قال ( عمرو بن عبيد ) فأوجدني هذا العرب. قال : نعم ، أما سمعت قول الشاعر :

وإنّي إذا أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

وذكر الشاعر الآخر :

إذا وعد السرّاء أنجز وعده

وإن أوعد الضرّاء فالعفو مانع (٤)

__________________

١ ـ شرح العقائد العضدية : ج ٢ ص ١٩٤ ـ ١٩٨. المطبوع مع حاشية اسماعيل الكلنبوي عام ١٣١٩ في الاستانة.

٢ ـ شرح العقائد العضدية : ج ٢ ص ١٩٤ ـ ١٩٨. المطبوع مع حاشية اسماعيل الكلنبوي عام ١٣١٩ في الاستانة.

٣ ـ شرح العقائد العضدية ج ٢ ص ١٩٤ ـ ١٩٩ والمتن للقاضي الايجي ( المتوفى عام ٧٥٦ ) والشرح لجلال الدين الدواني ( المتوفى عام ٩٠٨، أو ٩٠٩ هـ ) طبعا مع حواشي الشيخ اسماعيل الكلنبوي المتوفى ( عام ١٢٠٥ هـ ) في استنبول ( عام ١٣١٧ هـ ).

٤ ـ المعتزلة : ص ١٥٧، والظاهر منه أنّه نقله عن الجويني في كتابه « الارشاد الى قواطع الأدلّة إلى صحيح الاعتقاد ».

٣٩٦

يلاحظ على الجواب الأوّل أنّه احتمال محض يثبت به الامكان لا الوقوع ، ويرتفع به الاستحالة. ولعلّ الغاية هي اثبات الامكان.

وأمّا الجواب الثّاني فظاهره أشبه بالبحث اللّفظي والأدبي ، مع أنّ المسألة عقليّة ، ولعلّ المجيب يريد شيئاً آخر أشار إليه شيخنا المفيد في كتاب « العيون والمحاسن » وهو التّفصيل بين الوعد والوعيد ، وأنّ الخلف في الأوّل قبيح عقلاً والخلف في الثّاني ليس بقبيح عقلاً. والدّليل على ذلك أنّ كلّ عاقل يستحسن العفو بعد الوعيد في ظروف خاصّة ، ولا يعلِّقون بصاحبه ذمّاً. فلو كان العفو من الله تعالى مع الوعيد قبيحاً ، يجب أن يكون كذلك عند كلِّ عاقل.

ولعلّ وجه ذلك أنّ الخلف في الوعد إسقاط لحقّ الغير وإمساك عن أداء ما عليه من الحق ، وأمّا الوعيد فإنّ مآل الخلف إلى إسقاط حقّ نفسه ، ومثل ذلك يعدّ مستحسناً لا قبيحاً إذا وقع الخلف في موقعه.

الثالث : إنّ في جواز ذلك إغراء للمكلّف بفعل القبيح اتّكالاً منه على عفو الله ، فالعقاب ضروري ، لأنّه زاجر عن ارتكاب القبائح ، كما أنّ في العفو تسوية بين المطيع والعاصي وذلك ما لا يتّفق مع العدل (١).

يلاحظ عليه : أنّ الاغراء لازم القول بالعفو قطعاً كما عليه المرجئة ، لا القول به احتمالاً كما عليه الراجئة ، ولو صحّ ما ذكر ، لبطل الوعد بالتّوبة والشفاعة ، وأمّا حديث التّسوية ، فهو يرتفع باثابة المطيع دون العاصي وإنّما يلزم بتسويتهما في الثواب أيضاً.

إلى هنا تمّ الكلام في المسألة الاُولى وثبت أنّ العفو عن العصاة من المسلمين جائز. ولأجل ذلك يقول الصّدوق في تبيين عقائد الإماميّة :

اعتقادنا في الوعد والوعيد هو أنّ من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجزه ، ومن وعده على عمل عقاباً فهو بالخيار إن عذّبه فبعدله ، وإن عفا عنه فبفضله ( ومَا رَبُّكَ

__________________

١ ـ المعتزلة : ص ١٥٧، والظاهر منه أنّه نقله عن الجويني في كتابه « الارشاد الى قواطع الأدلّة إلى صحيح الاعتقاد ».

٣٩٧

بِظَلاّم لِلْعَبِيد ) وقال عزّوجلّ : ( إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) (١).

هذا هو موجز الكلام في المسألة الأولى ، وإليك البحث في مسألة التّخليد.

ب ـ هل الفاسق مخلد في العذاب أو لا؟

هذا هو البحث المهمّ في هذا الأصل ، ويعدّ بيت القصيد في فروعه. لا شكّ أنّ الله تعالى أوعد المجرمين التّخليد في العذاب ، فهل هو مختصّ بالمشركين والمنافقين أو يعمّ مرتكب الكبائر؟ ذهبت المعتزلة إلى عمومها وصار القول بالتّخليد شارة الاعتزال وسمته ، وخالفوا في ذلك جمهور المسلمين. قال المفيد : « اتّفقت الإمامية على أنّ الوعيد بالخلود في النّار متوجّه إلى الكفّار خاصّة ، دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى والاقرار بفرائضه من أهل الصّلاة ، ووافقهم على هذا القول كافّة المرجئة سوى محمّد بن شبيب وأصحاب الحديث قاطبة. وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك وزعموا أنّ الوعيد بالخلود في النّار عامّ في الكفّار ، وجميع فسّاق أهل الصّلاة » (٢).

ثمّ إنّ المعتزلة استدلّت على خلود الفاسق في النّار بالسّمع وهو عدّة آيات ، استظهرت من إطلاقها أنّ الخلود يعمّ الكافر والمنافق والفاسق ، وإليك هذه الآيات واحدة بعد الاُخرى :

الآية الأولى : قوله سبحانه : ( ومَنْ يَعْصِ اللّهَ ورَسُولَهُ ويَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ) ( النساء / ١٤ ) (٣).

ولا شكّ أنّ الفاسق ممّن عصى الله ورسوله بترك الفرائض وارتكاب المعاصي.

__________________

١ ـ أوائل المقالات : ص ١٤. والآيتان من سورتي فصّلت ٤٦ والنساء ٤٨.

٢ ـ أوائل المقالات : ص ١٤.

٣ ـ وأمّا قوله سبحانه : ( ومن يعص الله ورسوله فان له نار جهنم خالدين فيها ) ( الجن ٢٣ ). فهو راجع الى الكفار ، كما هو واضح لمن لاحظ آيات السورة.

٣٩٨

يلاحظ عليه : أوّلاً : إنّ دلالة الآية على خلود الفاسق في النّار لا يتجاوز حدّ الاطلاق ، والمطلق قابل للتّقييد ، وقد خرج عن هذه الآية باتّفاق المسلمين ، الفاسق التائب. فلو دلّ دليل هنا على أنّ المسلم الفاسق ربّما تشمله عناية الله ورحمته ، ويخرج عن العذاب ، لكان المطلق مقيّداً بقيد آخر وراء التّائب. فيبقى تحت الآية ، المشرك والمنافق.

وثانياً : إنّ الموضوع في الآية ليس مطلق العصيان ، بل العصيان المنضمّ إليه تعدّي حدود الله ، ومن المحتمل جدّاً أنّ المراد من التعدّي هو رفض أحكامه سبحانه ، وطردها ، وعدم قبولها. كيف ، وقد وردت الآية بعد بيان أحكام الفرائض.

يقول سبحانه : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُنْثَيَيَن ... ) ( النساء / ١١ ).

ويقول سبحانه : ( وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُم ... ) ( النساء / ١٢ ).

ويقول سبحانه : ( تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ ومَنْ يُطِعِ اللّهَ ورَسُولَه ... ) ( النساء / ١٣ ).

ثمّ يقول سبحانه : ( وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ ورَسُولَهُ ويَتَعَدَّ حُدُودَه ... ) ( النساء / ١٤ ).

وقوله : ( ويتعدّ حدوده ) وإن لم يكن ظاهراً في رفض التّشريع ، لكنّه يحتمله ، بل ليس الحمل عليه بعيداً بشهادة الآيات الاُخرى الدالّة على شمول غفرانه لكلِّ ذنب دون الشّرك ، أو شمول رحمته للناس على ظلمهم إلى غير ذلك من الآيات الواردة في حقّ الفاسق غير التائب كما سيوافيك.

يقول الطّبرسي رحمه‌الله : « إنّ قوله : ( ويتعدّ حدوده ) ظاهر في تعدّي جميع حدود الله ، وهذه صفة الكفّار. ولأنّ صاحب الصّغيرة بلا خلاف خارج عن عموم الآية وإن كان فاعلاً للمعصية ، ومتعدّياً حدّاً من حدود الله. وإذا جاز إخراجه بدليل ، جاز لغيره أن يخرج من عمومها من يشفع له النّبي ، أو يتفضّل الله عليه بالعفو ، بدليل آخر. وأيضاً فإنّ التائب لا بدّ من إخراجه من عموم الآية لقيام الدّليل على وجوب قبول

٣٩٩

التّوبة. وكذلك يجب إخراج من يتفضّل الله بإسقاط عقابه منها لقيام الدّلالة على جواز وقوع التفضّل بالعفو » (١).

الآية الثّانية : قوله سبحانه : ( ومَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنَاً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا وغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) ( النساء / ٩٣ ).

قال القاضي : « وجه الاستدلال هو أنّه تعالى بيّن أنّ من قتل مؤمناً عمداً جازاه ، وعاقبه ، وغضب عليه ، ولعنه وأخلده في جهنّم » (٢).

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ دلالة الآية بالاطلاق ، فكما خرج منه القاتل الكافر إذا أسلم ، والمسلم القاتل إذا تاب ، فليكن كذلك من مات بلا توبة ولكن اقتضت الحكمة الالهيّة أن يتفضّل عليه بالعفو. فليس التّخصيص أمراً مشكلاً.

وثانياً : إنّ المحتمل أن يكون المراد القاتل المستحلّ لقتل المؤمن ، أو قتله لإيمانه. وهذا غير بعيد لمن لاحظ سياق الآيات.

لاحظ قوله سبحانه : ( سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ ويَأْمَنُوا قَومَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ ويُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ويَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وأُولئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً ) ( النساء / ٩١ ).

ثمّ ذكر سبحانه بعد هذه الآية حكم قتل المؤمن خطأً وتعمّداً ، وفي ضوء هذا يمكن أن يستظهر أنّ الآية ناظرة إلى القتل العمديّ الّذي يقوم به القاتل لعداء دينيّ لاغير ، فيكون ناظراً إلى غير المسلم.

الآية الثّالثة : قوله سبحانه : ( بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولِئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( البقرة / ٨١ ).

__________________

١ ـ مجمع البيان : ج ٢، ص ٢٠، طبعة صيدا.

٢ ـ شرح الاصول الخمسة : ص ٦٥٩.

٤٠٠