بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٩

« إنّ العَدْل مصدر عَدَلَ يَعْدلُ عَدْلاً ، ثمّ قد يذكر ويراد به الفعل ، وقد يذكر ويراد به الفاعل ، فإذا وصف به الفعل ، فالمراد به كلّ فعل حسن يفعله الفاعل لينفع به غيره أو ليضرّه.

فأمّا إذا وصف به الفاعل ، فعلى طريق المبالغة كقولهم للصائم : صوم ، ونحن إذا وصفنا القديم تعالى بأنّه عدل حكيم ، فالمراد به أنّه لا يفعل القبيح ، أو لا يختاره ، ولا يخلّ بما هو واجب عليه ، وأنّ أفعاله كلّها حسنة ، وقد خالفنا في ذلك المجبِّرة وأضافت إلى الله تعالى كلّ قبيح » (١).

إنّ إثبات عدله سبحانه مبنيّ على ثبوت اُمور ثلاثة :

الأوّل : إنّ هناك أفعالاً تتّصف بذاتها بالحسن والقبح.

الثاني : إنّ الله تعالى عالم بحسن الأشياء وقبحها.

الثّالث : إنّه سبحانه لا يصدر منه القبيح.

أمّا الأوّل : فقد برهنوا عليه بوجوه مختلفة ، أوضحها ما أشار إليه أبو عبدالله البصري في عبارة مختصرة وقال : « إنّ كلّ عاقل يستحسن بكمال عقله التّفرقة بين المحسن والمسيء ، وإنّما تفرق بينهما الحسنة وإلاّ فلا نفع في ذلك ولا دفع ضرر ».

قال القاضي عبدالجبّار : « ومعرفة حسن الأفعال أو قبحها كمعرفة حسن الصِّدق وقبح الكذب ، إنّما يعلم ببداهة العقول. أمّا استنباط وجوه الحسن أو القبح في فعل معيّن فذلك يحتاج الى تفكير واستدلال ، ومن ثمّ لا تختلف العقول في التّمييز بين حسن الأفعال وقبحها على وجه الجملة ، كمعرفة قبح الظّلم ، ولكنّها تختلف في الحكم على الإفعال تفصيلاً ، فيستحسن الخوارج قتل مخالفيهم بينما تستقبح ذلك معظم فرق المسلمين » (٢).

__________________

١ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ٣٠١.

٢ ـ المغني : ج ٦، ص ٢٠.

٣٤١

توضيحه إنّ في الحكمة النّظريّة قضايا نظريّة تنتهي إلى قضايا بديهيّة ، ولولا ذلك لعقمت القياسات وصارت غير منتجة ، ومثلها الحكمة العمليّة ، ففيها قضايا غير معلومة لا تعرف إلاّ بالانتهاء إلى قضايا ضروريّة ، وإلاّ لما عرف الإنسان شيئاً من قضايا الحكمة العمليّة. فكما أنّ العقل يدرك القضايا البديهيّة في الحكمة النظريّة من صميم ذاتها ، فهكذا يدرك بديهيّات القضايا في الحكمة العمليّة من صميم ذاتها بلا حاجة إلى تصوّر شيء آخر.

مثلاً ، إنّ كلّ القضايا النظريّة يجب أن تنتهي إلى قضيّة امتناع اجتماع النّقيضين وارتفاعهما ، بحيث لو ارتفع التّصديق بهما لما أمكن التّصديق بشيء من القضايا ولذا تسمّى ب ـ « أمّ القضايا » فلا يحصل اليقين بأنّ زوايا المثلّث مثلاً تساوي قائمتين ، إلاّ إذا حصل قبله امتناع صدق نقيض تلك القضيّة ، أي عدم مساواتها لهما. وإلاّ فلو احتمل صدق النّقيض لما حصل اليقين بالنّسبة ، ولأجل ذلك اتّفقت كلمة الحكماء على أنّ إقامة البرهان على المسائل النّظريّة إنّما تتمّ إذا انتهى البرهان إلى أُمّ القضايا الّتي قد عرفت.

وعلى ضوء هذا البيان نقول : كما أنّ للقضايا النّظرية في العقل النّظري قضايا بديهيّة أو قضايا أوّليّة تنتهي إليها ، فهكذا القضايا غير الواضحة في العقل العملي يجب أن تنتهي إلى قضايا أوّليّة وواضحة عند ذلك العقل ، بحيث لو ارتفع التّصديق بهذه القضايا في الحكمة العمليّة لما صحّ التّصديق بقضيّة من القضايا فيها.

فمن تلك القضايا البديهيّة في العقل العملي مسألة التّحسين والتّقبيح العقليّين الثابتين لجملة من القضايا مثل قولنا : « العدل حسن » و « الظّلم قبيح » و « جزاء الإحسان بالإحسان حسن » و « جزاء الإحسان بالإساءة قبيح ». فهذه القضايا قضايا أوّلية في الحكمة العمليّة ، والعقل العملي يدركها من ملاحظة القضيّة بنفسها وفي ضوئها يحكم بما ورد في مجال العقل العملي من الأحكام المربوطة بالأخلاق أوّلاً ، وتدبير المنزل ثانياً ، وسياسة المدن ثالثاً ، الّتي يبحث عنها في العقل العملي. وليس استقلال

٣٤٢

العقل في تلك القضايا الأوّلية الراجعة إلى العقل العملي إلاّ لأجل أنّه يجدها إمّا ملائمة للجانب العالي من الإنسانيّة ، المشترك بين جميع أفراد الإنسان ، أو منافرة له. وبذلك تصبح قضيّة التّحسين والتّقبيح في قسم من الأفعال ، قضيّة كلّية لا تختصّ بزمان دون زمان ، ولا جيل دون جيل. بل لا تختصّ ـ في كونها كمالاً أو نقصاً ـ بالإنسان بل تعمّ الموجود الحيّ المدرك المختار ، لأنّ العقل يدركها بصورة قضيّة عامّة شاملة لكلّ من يمكن أن يتّصف بهذه الأفعال كالعدل والظلم ، فهو يدرك أنّ الأوّل حسن عند الجميع ومن الجميع ، والثاني قبيح كذلك ، وليس للانسان خصوصيّة في ذلك القضاء.

وبذلك يصبح المدّعي للتّحسين والتّقبيح العقليّين الذاتيّين في غنى عن البرهنة لما يتبنّاه ، كما أنّ المدّعي لامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما كذلك.

والعجب أنّ الحكماء والمتكلّمين اتّفقوا على أنّه يجب انتهاء القضايا النّظريّة في العقل النظري إلى قضايا بديهيّة ، وإلاّ عقمت الأقيسة ولزم التّسلسل في مقام الاستنتاج ، ولكنّهم غفلوا عن إجراء ذلك الأصل في جانب العقل العملي ولم يقسّموا القضايا العمليّة إلى فكرية وبديهيّة ، أو نظريّة وضروريّة. كيف والاستنتاج والجزم بالقضايا الواردة في مجال العقل لا يتمّ إلاّ إذا انتهى العقل إلى قضايا واضحة في ذلك المجال.

فالمسائل المطروحة في الأخلاق ممّا يجب الاتّصاف به أو التنزّه عنه ، أو المطروحة في القضايا البيتيّة والعائليّة الّتي يعبّر عنها بتدبير المنزل ، أو القضايا المبحوث عنها في علم السياسة وتدبير المدن ، ليست في الوضوح على نمط واحد ، بل لها درجات ومراتب.

فلا ينال العقل الجزم بكلّ القضايا العمليّة إلاّ إذا كانت هناك قضايا بديهيّة واضحة تبتنى عليها القضايا المجهولة العمليّة حتّى يحصل الجزم بها ويرتفع الابهام عن وجهها. ولأجل ذلك فالقائل بالتّحسين والتّقبيح العقليّين في غنى عن التوسّع في طرح أدلّة القائلين بهما.

٣٤٣

وبهذا البيان يستغني الإنسان عن كثير من الأدلّة الّتي أقامها القائلون بالحسن والقبح ، سواء أكانت صحيحة أم لا. نظير ما ربّ ـ ما يقال من أنّ أحدنا لو خيّر بين الصّدق والكذب وكان النّفع في أحدهما كالنّفع في الآخر وقيل له : إن كذبت أعطيناك درهماً وإن صدقت أعطيناك درهماً ، فإنّه قطُّ لا يختار الكذب على الصدق. ليس ذلك إلاّ لعلمه بقبحه وبغناه عنه (١).

يلاحظ عليه : أنّ اختيار الصِّدق على الكذب يمكن أن يكون مستنداً إلى أمر آخر ، وهو كون الصِّدق مطابقاً للفطرة والكذب على خلافها. ولأجل ذلك لا يختار الصبي إلاّ الصِّدق وليس ذلك لأجل العلم بقبح الكذب. هذا كلّه حول الأمر الأوّل.

وأمّا الأمر الثاني : أعني كونه سبحانه عالماً بحسن الأشياء وقبحها ، فقد استدلّ عليه القاضي بأنّه تعالى عالم لذاته ، ومن حقِّ العالم لذاته ـ أن يعلم جميع المعلومات على الوجوه الّتي يصح أن تعلم عليها. ومن الوجوه الّتي يصحّ أن يعلم المعلوم عليه قبح القبائح ، فيجب أن يكون القديم تعالى عالماً به (٢).

يلاحظ عليه : أنّ كلامه مجمل ولعلّه يريد أنّ ذاته سبحانه علّة الأشياء وعلّة لصفاتها ، والعلم بالعلّة ، علم بالمعاليل. فهو سبحانه بما أنّه عالم لذاته ، عالم بمعاليله من الذوات والصفات.

ولكن التقرير عليل من وجهين :

الأوّل : إنّ الحسن والقبح من صفات الأفعال لا من صفات الأشياء الخارجية من الجواهر والاعراض القائمة بها ، وأفعال الإنسان ليست مخلوقة له سبحانه عند المعتزلة فلا تكون معلولة لذاته حتّى يلزم من العلم بالذات ، العلم بها.

الثاني : إنّ الحسن والقبح ، بمعنى يجب أَنْ يفعل أو لا يفعل ، من الأحكام العقلية وليست من الصفات الخارجية للأفعال والأشياء ، حتّى يكونا مخلوقين له سبحانه ،

__________________

١ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ٣٠٣.

٢ ـ المصدر السابق : ص ٣٠٢.

٣٤٤

وحتى يقال بأنّ خالق القبيح والحسن خالق لقبحه أو حسنه. فالطريق الأوسط ، الاستدلال على علمه بالحسن والقبيح بعلم الإنسان بهما ، والله سبحانه عالم بما خلق ، وبما ينطوي عليه مخلوقه من التصورات والتّصديقات.

فاذا كان حسن الأشياء وقبحها بذاتها معلومة للإنسان المخلوق ، فهي معلومة له بالضرورة ، لانتهاء ما في الكون إلى الله سبحانه. قال تعالى : ( ألا يعلم من خلق وهو الّلطيف الخبير ) ( الملك / ١٤ ) وقد تعرّفت في البيان الّذي أوضحنا به دليل أبي عبدالله البصري أنّ العقل يدرك أن هنا شيئاً حسناً لدى الكلّ وقبيحاً كذلك. فلا يختصّ قبح الأشياء ولا حسنها بشخص دون آخر.

وأماّ الأمر الثالث : فقد استدلّوا عليه بما ورد في الكتب الكلاميّة من أنّ القبيح لا يختاره إلاّ الجاهل بالقبح أو المحتاج إليه ، وكلاهما منفيّان عنه تعالى ، ولأجل ذلك إنّ الظّلمة والفسقة لا يرتكبون القبائح إلاّ لجهلهم بقبحها أو لاعتقادهم أنّهم سيحتاجون إليها في المستقبل ، كما في غصب الأموال.

يلاحظ عليه : أنّ هذا الدّليل مبنيّ على كون فاعليّة الواجب بالدّاعي الزائد على ذاته ، وهو خلاف التّحقيق لكونه تامّاً في الفاعليّة. فلا يكون في الايجاد محتاجاً إلى شيء وراء ذاته.

والأولى أن يقرّر بأنّ مقتضى التّحسين والتّقبيح العقليّين ـ على ما عرفت ـ هو أنّ العقل بما هو هو ، يدرك أنّ هذا الشيء بما هو هو ، حسن أو قبيح ، وأنّ أحد هذين الوصفين ثابت للشيء بما هو هو ، من دون دخالة ظرف من الظروف أو قيد من القيود ، ومن دون دخالة درك مدرك خاصّ.

وعلى ذلك فالعقل في تحسينه وتقبيحه يدرك واقعيّة عامّة ومتساوية بالنسبة إلى جميع المدركين والفاعلين ، من غير فرق بين الممكن والواجب. فالعدل حسن يمدح فاعله عند الجميع ، والظّلم قبيح يذمّ فاعله عند الجميع ، وعلى هذا الأساس فالله سبحانه ، المدرك للفعل ووصفه ـ أعني استحقاق الفاعل للمدح أو الذمّ من غير

٣٤٥

خصوصيّة للفاعل ـ كيف يقوم بفعل ما يحكم بأنّ فاعله مستحقّ للذّم ، أو يقوم بفعل مايحكم بأنّه يجب التنزّه عنه؟!

وعلى ذلك فالله سبحانه عادل ، لأنّ الظلم قبيح وممّا يجب التنزّه عنه ، ولا يصدر القبيح من الحكيم ، والعدل حسن وممّا ينبغي الاتّصاف به ، فيكون الاتّصاف بالعدل من شؤون كونه حكيماً منزّهاً عمّا لا ينبغي.

وإن شئت قلت : إنّ الإنسان يدرك أنّ القيام بالعدل كمال لكلّ أحد ، وارتكاب الظّلم نقص لكلّ أحد. وهو كذلك حسب إدراك العقل ، عنده سبحانه. ومعه كيف يجوز أن يرتكب الواجب خلاف الكمال ، ويقوم بما يجرّ النّقص إليه؟!

ما يتفرّع على العدل من المسائل

قد عرفت أنّ الحسن والقبح أساس القول بالعدل ، وعنه تتفرّع عدّة مسائل تفترق فيها مدرسة الاعتزال عن مدرسة أهل الحديث والأشاعرة. ونحن نشير إلى عناوينها ، ثمّ نبحث عن كلّ واحد تلو الآخر وهي عبارة عن :

١ ـ الله قادر على القبيح.

٢ ـ أفعال العباد غير مخلوقة فيهم وأنّهم المحدثون لها.

٣ ـ الاستطاعة متقدِّمة على الفعل.

٤ ـ قبح التّكليف بما لايطاق.

٥ ـ الله تعالى لا يكون مريداً للمعاصي.

٦ ـ اللّطف واجب على الله سبحانه.

٧ ـ حكم القرآن الكريم من حيث الحدوث والقدم.

٨ ـ ما يتعلّق بالنبوّات والشرائع ومعاجز الأنبياء.

هذه هي المسائل المبنيّة على العدل ، ونحن نأخذ بالبحث عنها على منهج الاعتزال ، وسيوافيك أنّ ثمرات التّحسين والتّقبيح العقليّين أوسع مما ذكر.

٣٤٦

المسألة الاُولى :

قدرته سبحانه على القبيح

قد عرفت أنّ القاضي قد رتّب على القول بالعدل عدّة مسائل ، ولأجل التعرّف على منهج الاعتزال نطرح هذه المسائل مكتفين على ما جاء به القاضي في ( شرح الاُصول الخمسة ) فهو رائدنا في هذه المباحث ، ومن أراد التبسّط فعليه المراجعة بكتابه الآخر : « المغني » وقد طبع منه أربعة عشر جزءاً ، وعلى كلّ حال فكتب القاضي هي الممثّلة لرأي المعتزلة في أعصارهم. والمسألة الاُولى في قدرته سبحانه على القبيح وإنّما عنونها في هذا الفصل لأدنى مناسبة ، مع أنّ عنوانها في عموم القدرة أولى من عنوانها في مسألة التّحسين والتّقبيح ، والمخالف فيها عدّة من المعتزلة منهم النظّام وعليّ الأسواري والجاحظ، حيث ذهبوا إلى أنّه تعالى غير موصوف بالقدرة على ما لو فعله لكان قبيحاً ، وقد ردّ عليه القاضي بقوله « إنّه تعالى قادر على أن يخلق فينا العلم كما هو قادر على أن يخلق بدله الجهل ، وأيضاً قادر على أن يخلق الشّهوة في أهل الجنّة كما هو قادر على أن يخلق فيهم النّفرة » (١).

أقول : إنّ التّفصيل بين القدرة على الحسن والقدرة على القبيح ، موهون جدّاً ، وناش عن عدم التعرّف على مفهوم القدرة ، فإنّها تستعمل فيما إذا كان الفاعل بالنّسبة إلى الفعل والتّرك متساوياً ، وإلاّ لما وصف بالقدرة ، بل بالايجاب. فلو كان قادراً على إدخال المطيع إلى الجنّة ، ولم يكن قادراً على إدخاله في النار لما وصف بالقادر ، بل كان فاعلاً موجباً ، وبذلك يعلم حال عدّة من المسائل الّتي اختلف فيها المعتزلة ، وإليك عناوينها :

١ ـ ذهب عبّاد بن سليمان إلى عدم قدرته تعالى على خلاف معلومه ، قائلاً بأنّ ما علم وقوعه يقع قطعاً ، فهو واجب الوقوع ، وما علم عدم وقوعه لا يقع قطعاً ، فهو ممتنع

__________________

١ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ٣١٤.

٣٤٧

الوقوع.

يلاحظ عليه : أنّ معناه نفي القدرة وتوصيفه سبحانه بالايجاب أوّلاً ، وأن تعلّق العلم بوقوعه لا يخرجه عن الاختيار ثانياً ، لأنّه تعلّق بصدوره عنه سبحانه اختياراً لا اضطراراً وإيجاباً وقد قلنا نظير ذلك في تعلّق علمه سبحانه بصدور أفعال العباد عنهم. فلاحظ (١).

٢ ـ ذهب البلخي إلى عدم قدرته تعالى على مثل مقدور العبد ، لأنّه إمّا طاعة ، أو معصية ، أو عبث. وهو منزّه عن أن يكون مطيعاً ، أو عاصياً ، أو عابثاً.

وقد غفل عن أنّ الاطاعة والمعصية ، ليستا من الاُمور الحقيقيّة الدّخيلة في ماهيّة العمل ، فلو قام إنسان كالخليل لبناء بيت امتثالاً لأمره سبحانه ، فالله سبحانه يقدر على إيجاد بيت مثله ، والفعلان متّحدان ماهيّة وهيئة ، وإن كان الأوّل مصداقاً للاطاعة دون الآخر.

وبعبارة أُخرى : أنّ الاطاعة أمر انتزاعيّ ينتزعه العقل من مطابقة المأتي به لما أمر به المولى ، وعلى هذا فهناك واقعيّتان : الأوّل : الأمر ، الثاني ، المأتيّ به ، وأمّا الموافقة والمخالفة فهما أمران ذهنيّان يتواردان على الذّهن من ملاحظتهما ، فإن وجد بينهما المشابهة أو المخالفة يعبّر عن الاُولى بالطّاعة ، وعن الثانية بالعصيان ، وليس لهما واقعيّة وراء الذهن ، فلا تكون الحقيقة الخارجيّة سواء صدرت عن الله سبحانه ، أو عن عباده ، أمرين متباينين.

٣ ـ ذهب الجبّائيان إلى عدم قدرته تعالى على عين مقدور العبد ، وإلاّ لزم اجتماع النقيضين إذا أراده الله وكرهه العبد ، أو بالعكس.

يلاحظ عليه : أنّه كان على القائل الاستدلال بوجه آخر ، وهو أنّه يلزم حينئذ اجتماع العلّتين على معلول واحد. ومع ذلك كلّه ، فما جاء في الاستدلال نشأ من فكرة ثنويّة ناشئة عن مبادئ الاعتزال ، فتخيّل أنّ فعل العبد يجب أن يكون مخلوقاً للعبد

__________________

١ ـ لاحظ الجزء الثاني : ص ٣٠١ ـ ٣٠٧.

٣٤٨

وحده ولا يكون للّه سبحانه فيه شأن ، لما أنّ هناك فاعلين مستقلّين : « الله » و « الإنسان » ، ولكلِّ مجاله الخاص. وعند ذلك لا يرتبط مقدور العبد بالله سبحانه كما لا يرتبط مقدوره بعباده ، ولكنّه باطل ، لما عرفت من أنّ العلّتين ليستا عرضيّتين بل طوليّتين ، فالعلل الامكانيّة في طول العلّة الواجبة ، وبما أنّه تنتهي العلل إلى الواجب ، يكون مخلوق العبد مخلوقه سبحانه.

المسألة الثانية :

في أنّ أفعال العباد ، ليست مخلوقة للّه سبحانه

من فروع القول بالعدل كون فعل الإنسان فعله ، لا فعل خالقه.

توضيحه : أنّ أهل الحديث والأشاعرة يعتقدون بكون أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه ، وعندئذ يلزم على أصول الاعتزال كونه سبحانه موصوفاً بفعل القبيح ، وذلك لأنّ أفعال العباد بين حسن وقبيح ، فلو كان هو الفاعل يلزم أن يكون فاعل القبيح. ثمّ الجزاء على القبيح قبيح مع كون الفاعل هو الله سبحانه.

ويفصّل القاضي الأقوال في المسألة على النّحو التالي :

١ ـ العباد هم المحدثون لأفعالهم ، ويقابلهم الجبريّة كالجهميّة القائلون بأنّ أفعالهم مخلوقة للّه ولا تعلّق لها بالعباد.

٢ ـ من ذهب إلى كونها مخلوقة للّه ولكن لها تعلّق بهم من جهة الكسب.

٣ ـ من سوّى في هذه القضيّة بين المباشر والمتولّد ، وقال : كلاهما مخلوق للّه سبحانه ومتعلّق بنا من جهة الكسب ، وينسب هذا إلى ضرار بن عمرو.

٤ ـ ومنهم من فصل بين المباشر والمتولّد ، فقال : إنّ المباشر خلق الله تعالى فينا متعلّق بنا من حيث الكسب ، وأمّا المتولّد كالاحراق بعد الالقاء فالله تعالى متفرّد بخلقه.

وبما أنّا استوفينا الكلام في عقيدة الأشاعرة ومفهوم الكسب في الجزء الثاني ،

٣٤٩

نركّز البحث هنا على عقيدة المعتزلة. فالمنقول عنهم تفويض ، أفعال العباد إلى أنفسهم وأنّهلا شأن للّه سبحانه في أفعال عباده ، فذواتهم مخلوقة للّه وأفعالهم مفوّضة إلى أنفسهم.

وبعبارة ثانية : العباد في ذواتهم محتاجون إلى الواجب لا في أفعالهم وحركاتهم وسكناتهم. فالمعتزلة في كتب الأشاعرة والشّيعة الإماميّة ، مرميّة بهذه العقيدة ، وإليك نقل ما يعرب عن مذهبهم :

١ ـ قال الأشعري : « زعمت المعتزلة أنّ الله تعالى لم يخلق الكفر والمعاصي ولا شيئاً من أفعال غيره. وأنّ الله خلق الكافر لا كافراً ، ثمّ إنّه كفر وكذلك المؤمن ، واختلفت في الإنسان يخلق فعله أم لا ، على ثلاث مقالات :

فزعم بعضهم أنّ معنى فاعل وخالق واحد ، وأنّا لا نطلق ذلك في الإنسان لأنّا مُنعنا منه.

وقال بعضهم : هو الفعل لا بآلة ولا بجارحة ، وهذا يستحيل منه.

وقال بعضهم : معنى خالق : أنّه وقع منه الفعل مقدّراً ، فكلّ من وقع فعله مقدّراً فهو خالق ، قديماً كان أم محدثاً » (١).

وحاصله أنّهم لم يقولوا بكون أفعال العباد مخلوقة للِّه ، وأمّا كونها مخلوقة لأنفسهم فمن فسّر الخلق بالايجاد لا بآلة ولا بجارحة ، فمنع عن الاطلاق. وأمّا من فسّر الخلق بالتّقدير فقد جوّزه ، وسيوافيك التصريح من أبي بكر الأنباري وغيره أنّ الخلق ربّما يستعمل في التّقدير.

٢ ـ وقال البغدادي : « وقالت المعتزلة : إنّ الله تعالى غير خالق لأكساب الناس ، ولا لشيء من أعمال الحيوانات ، وقد زعموا أنّ الناس هم الّذين يقدرون على أكسابهم وأنّه ليس للّه عزّوجلّ في أكسابهم ولا في أعمال سائر الحيوانات صنع وتقدير » (٢).

__________________

١ ـ مقالات الاسلاميين : ص ٢٩٥ ط ٢.

٢ ـ الفرق بين الفرق : ص ١١٤ ـ ١١٥.

٣٥٠

٣ ـ وقال القاضي عبدالجبّار : « ذكر شيخنا أبو عليّ رحمه‌الله : اتّفق كلّ أهل العدل على أنّ أفعال العباد من تصرّفهم وقيامهم وقعودهم ، حادثة من جهتهم ، وأنّ الله عزّوجلّ أقدرهم على ذلك ، ولا فاعل لها ولا محدث سواهم ، وأنّ من قال إنّ الله سبحانه خالقها ومحدثها ، فقد عظم خطاؤه ، وأحالوا حدوث فعل من فاعلين » (١).

٤ ـ وقال أيضاً : « نحن نبيّن أنّ العبد إنّما يقدر على إحداث وإيجاد ، وأنّ القدرة لا تتعلّق بالشّيء إلاّ على طريق الحدوث ، وأنّه يستحيل أن يفعل الشيء من وجهين ، ويستحيل تعلّق الفعل بفاعلين محدثين ، أو قديم ومحدث.... ونبيِّن من بعد إبطال قول من أضاف أفعال العباد إلى الله تعالى. ونذكر ما يلزمهم على قوده من الفساد ، والخروج عن الدّين ، والتزام جحد الضروريات » (٢).

٥ ـ قال صدر المتألّهين : « ذهبت جماعة إلى أنّ الله أوجد العباد وأقدرهم على بعض الأفعال ، وفوّض إليهم الاختيار ، فهم مستقلّون بايجادها على وفق مشيئتهم وطبق إرادتهم » (٣).

وهذه النصوص الخمسة من أكابر الأشاعرة والمعتزلة والإماميّة ، تحاول أن ترميهم بالتّفويض وإن لم تكن في الصّراحة بمكان يجزم الإنسان معها بصحّة النّسبة. ولأجل ذلك يلزم المزيد من التتبّع في كتبهم الّتي قصرت أيدينا عنها. ولأجل التّوضيح نبحث عن اُمور :

١ ـ لا شكّ في وجود القول بالتّفويض في عصر الإمام الباقر عليه‌السلام كيف وقد طلب عبدالملك بن مروان ( ت ٨٦ هـ ) ، من عامله في المدينة ، أن يوجّه محمّد بن علي الباقر إلى الشام حتّى يناظر قدريّاً أعيى الشاميين جميعاً. فبعث الإمام ولده جعفراً الصادق عليه‌السلام. فلمّا ورد الشام واجتمع مع القدري ، فقال للإمام : سل عمّا شئت. فقال : إقرأ سورة الحمد. قال : فقرأها ... حتّى بلغ قول الله تبارك وتعالى : ( إيّاك نَعْبُدُ و

__________________

١ ـ المغني : ج ٦، الارادة ص ٤١ وج ٨، ص ١.

٢ ـ المغني : ج ٦، الارادة ص ٤١ وج ٨، ص ١.

٣ ـ رسالة خلق الأعمال.

٣٥١

إِيَّاكَ نَسْتَعِين ) فقال له جعفر عليه‌السلام : قف. من تستعين؟ ما حاجتك إلى المعونة؟ إنّ الأمر إليك. فبهت القدري (١).

٢ ـ تضافر عنهم عليهم‌السلام التّنديد بالجبر والتّفويض بمضامين مختلفة ، نأتي بواحد منها حتّى تقف على ما يشابهه :

سأل محمّد بن عجلان الصّادق عليه‌السلام أنّه هل فوّض الله الأمر إلى العباد؟ قال : « الله أكرم من أن يفوّض إليهم. قال : فأجبرهم على أفعالهم؟ فقال : الله أعدل من أن يجبر عبداً على فعل ثمّ يعذّبه عليه » (٢).

٣ ـ تضافر عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام قولهم : « لا جبر ولا تفويض » وذلك يدفعنا إلى القول بوجود المفوِّضة في زمن صدور هذه الروايات بين الأُمة الإسلاميّة ، ويرجع صدورها إلى أواخر القرن الأوّل ، وأواسط القرن الثاني.

٤ ـ إنّما الكلام في أنّ المعتزلة هل هم المعنيّون في هذه الأخبار ، أو هم غيرهم ، وهذا هو الّذي يحتاج إلى دراسة عميقة بالغور في الآثار الباقية من المعتزلة.

أمّا ما نقلناه من « المغني » فهو محتمل الوجهين ، فيمكن أن يكون إشارة إلى استقلال العباد في أفعالهم وأعمالهم كما نسب إليهم صدر المتألّهين. كما أنّه يمكن أن يكون قوله : « لا فاعل لأفعال العباد ولا محدث لها سواهم » ، هو نفي كونها مخلوقة للّه سبحانه مباشرة وبلا واسطة. والشاهد عليه قوله فيما بعد : « وأنّ من قال إنّ الله سبحانه خالقها ومحدثها ، فقد عظم خطاؤه وأحالوا حدوث فعل من فاعلين ».

فالعبارة بصدد نفي كون فعل العباد مخلوقاً للّه مباشرة على النّحو الّذي يذهب إليه أهل الحديث والأشاعرة. وهذا غير القول باستقلال العباد في أفعالهم وغناهم عن الواجب في أعمالهم.

____________

١ ـ بحار الأنوار : ج ٥، ص ٥٥ ـ ٥٦.

٢ ـ المصدر نفسه : ص ٥١.

٣٥٢

وبعبارة ثانية : كان المذهب في أفعال العباد أحد أمرين : كون أفعالهم مخلوقة للّه مباشرة وبلا واسطة ، أو كون أفعالهم مخلوقة للعبد كذلك. فأهل الحديث والأشاعرة على الأوّل ، والمعتزلة على الثاني. لكنّ القول بالثاني ليس بمعنى انقطاع عمل العباد عن الله سبحانه ، وعدم انتهاء سلسلة العلل إلى الحقّ عزّ اسمه.

نعم ، لم يكن الأمر بين الأمرين شيئاً مفهوماً لديهم حتّى يعتقدوا به ، لأنّه من الكنوز العلميّة الّتي ظهرت من معادن العلم وأهل بيت النبوّة. ولكن عدم الوقوف على هذا المذهب غير الاعتقاد على التّفويض والاذعان بالمعنى الباطل الّذي لا يفارق الشّرك.

٥ ـ إنّ ما استدلّ به القاضي على مذهبه لا يثبت سوى نفي الجبر وكون أفعال العباد غير مخلوقة للّه سبحانه. وأمّا التّفويض الّذي اتّهم به ، فلا تثبته أدلّته ، وإليك بعض ما استدلّ به على ردّ الخصم على وجه الاجمال :

الأوّل : قال : « والّذي يدلّ على ذلك أن نفصل بين المحسن والمسيء ، وبين حسن الوجه وقبيحه. فنحمد المحسن على إحسانه ونذمّ المسيء على إساءته. ولا تجوز هذه الطّريقة في حسن الوجه وقبيحه. فلولا أنّ أحدهما متعلّق بنا بخلاف الآخر ، لما وجب هذا الفصل » (١).

الثاني : قال : « لو صحّ الجبر لزمهم التّسوية بين الرسول وإبليس ، لأنّ الرسول يدعوهم إلى خلاف ما أراد الله تعالى منهم ، كما أنّ إبليس يدعوهم إلى ذلك ، بل يلزمهم أن يكون حال الرسول أسوأ من حال إبليس » (٢).

الثالث : قال : « يلزم قبح مجاهدة الكفّار ، لأنّ للكفرة أن يقولوا لماذا تجاهدونا؟ فإن كان جهادكم إيّانا على ما لا يريده الله تعالى منّا ولا يحبّه ، فالجهاد لكم أولى وأوجب ، وإن كان الجهاد لنا على ما خلق فينا ... فذلك جهاد لا معنى له » (٣).

__________________

١ ـ شرح الاُصول الخمسة : الصفحات ٣٣٣ و٣٣٥ و٣٣٦.

٢ ـ شرح الاُصول الخمسة : الصفحات ٣٣٣ و٣٣٥ و٣٣٦.

٣ ـ شرح الاُصول الخمسة : الصفحات ٣٣٦.

٣٥٣

إلى غير ذلك من الأدلّة الّتي أقامها القاضي على نفي الجبر ، فلا يجد الإنسان في كتابه ما يثبت به التّفويض ولو بصورة الدّليل.

٦ ـ إنّ فكرة التّفويض فكرة ثنويّة لا يعرج عليها مسلم واع ، عارف بالكتاب والسنّة وبدايات الفلسفة الإلهيّة ، ولا ينطق بها من وقف على موقف الممكن من الواجب ، وواقعيّة العلل والمعاليل الامكانيّة بالنّسبة إلى الواجب المكوِّن لها بأسرها ، فإنّ صفحة الوجود الامكاني صفحة فقيرة متدلّية بالذات قائمة بالغير ، ذاتاً كان أم فعلاً. ونسبة الوجود الامكاني إلى الوجود الواجبي ، كنسبة الوجود الحرفي إلى الاسمي. وعندئذ كيف يعقل لموجود امكاني الاستقلال في التّأثير والفعل من دون أن يستند إلى الواجب ويعتمد عليه.

وبعبارة ثانية : كما أنّه ليس للمعنى الحرفي الخروج عن إطار المعنى الاسمي في المراحل الثلاث : التصور ، والدلالة ، والتحقّق في الخارج ، فهكذا المعلول الامكاني بهويّته وأفعاله ، فليس له الخروج عن إطار العلّة الواجبة في حال من الحالات.

هذا ، وقد أوضحنا بطلان التّفويض كتاباً وعقلاً في أبحاثنا الكلاميّة (١).

٧ ـ هنا مسألتان :

الاُولى : هل أفعال العباد مفوّضة إليهم أنفسهم أو لا؟

الثانية : هل الذّوات الامكانيّة محتاجة إلى الواجب في حدوثهم فقط ، أو في حدوثهم وبقائهم؟ فمن قال بالأوّل وجب له القول بالتّفويض في الأفعال بوجه أولى ، لأنّ الذات إذا كانت غنيّة عن الواجب في بقائه ، فأولى أن يكون كذلك في أفعالها.

قال الشيخ الرئيس في إشاراته : « وقد يقولون إنّه إذا أوجد فقد زالت الحاجة إلى الفاعل ، حتّى إنّه لو فقد الفاعل جاز أن يبقى المفعول موجوداً كما يشاهدونه من فقدان البنّاء وقوام البناء ، وحتّى إنّ كثيراً منهم لا يتحاشى أن يقول : لو جاز على الباري تعالى

__________________

١ ـ لاحظ « الالهيات في الكتاب والعقل والسنة » الجزء الثاني ٣٢١ ـ ٣٣١.

٣٥٤

العدم لما ضرّ عدمه وجود العالم ، لأنّ العالم عندهم إنّما احتاج إلى الباري تعالى في أن أوجده أي أخرجه من العدم إلى الوجود ، حتّى كان بذلك فاعلاً. فإذا قد فعل وحصل له الوجود عن العدم ، فكيف يخرج بعد ذلك إلى الوجود عن العدم حتّى يحتاج إلى الفاعل » (١).

أقول : ما نقله الشيخ عنهم مبنيّ على أنّ مناط حاجة الممكن إلى العلّة هل هو إمكانه أو حدوثه ، فمن قال بالثاني ، صوّر الممكن غنياً في بقائه ـ فضلاً عن فعله ـ عن الواجب. ومن قال بالأوّل ، أظهر الممكن محتاجاً في كلِّ حال من الأحوال إلى الواجب حدوثاً وبقاءً وذاتاً وفعلاً. وبما أنّ التّحقيق كون مناط الحاجة هو الامكان ، فإذاً يصبح التّفويض أمراً باطلاً لا يحتاج إلى التّدليل أكثر من ذلك.

ولأجل ذلك نأتي ببعض الدّلائل المتقنة على أنّ مناط الحاجة هو الامكان ، وهو لا يزول عن الممكن أبداً. فذاته تتعلّق به دائماً ، فكيف بأفعاله ، فانتظر.

٨ ـ الظّاهر من الشيخ المفيد موافقة المعتزلة للإماميّة في مسألة أفعال العباد. قال : « إنّ الله عدل كريم ـ إلى أن قال : ـ جلّ عن مشاركة عباده في الأفعال ، وتعالى عن اضطرارهم إلى الأعمال. لا يعذّب أحداً إلاّ على ذنب فعله ، ولا يلوم عبداً إلاّ على قبيح صنعه. لا يظلم مثقال ذرّة ، فإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً.

وعلى هذا القول جمهور أهل الإمامة ، وبه تواترت الآثار عن آل محمّد عليهم‌السلام وإليه يذهب المعتزلة بأسرها إلاّ ضراراً منها وأتباعه. وهو قول كثير من المرجئة ، وجماعة من الزيديّة والمحكّمة ، ونفر من أصحاب الحديث ، وخالف فيه جمهور العامّة وبقايا ممّن عددناه » (٢).

وماذكره الشيخ المفيد يعرب عن أنّ المعتزلة في ذلك العصر لم تكن معتقدة بالتّفويض ، وإلاّ لم يعدّها الشيخ متّحدة مع الإماميّة القائلة بنفي الجبر والتفويض

__________________

١ ـ الاشارات ، للشيخ الرئيس : ج ٣، ص ٦٨.

٢ ـ أوائل المقالات : ص ٢٤ ـ ٢٥.

٣٥٥

معاً.

٩ ـ يظهر من المفيد أنّ المراد من التّفويض الوارد في الروايات غير ما هو المصطلح بيننا حيث قال : « الجبر هو الحمل على الفعل والاضطرار إليه بالقهر والغلبة. وحقيقة ذلك إيجاد الفعل في الخلق من غير أن يكون له قدرة على دفعه ، والامتناع من وجوده فيه .... والتّفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال ، والاباحة لهم مع ما شاءوا من الأعمال. وهذا قول الزّنادقة وأصحاب الاباحات. والواسطة بين هذين القولين أنّ الله أقدر الخلق على أفعالهم ، ومكّنهم من أعمالهم ، وحدّ لهم الحدود في ذلك ... إلى آخر ما أفاده » (١).

١٠ ـ هل يصحّ إطلاق « الخلق » في مورد فعل الإنسان ، أو يختصّ « الخلق » بفعل الله سبحانه؟

لا شكّ أنّ الله سبحانه هو الخالق ، وأنّه خلق السّموات والأرض بجواهرها وأعراضها. إنّما الكلام في أنّه هل يصحُّ استعمال كلمة الخلق في مورد فعل الإنسان ، فإذا قام أو قعد يصحّ لنا أن نقول : « خلق القيام والقعود » أو إذا أكل وشرب هل يصحّ لنا أن نقول : « خلق الأكل والشرب » أو لا يجوز ذلك إلاّ في مورد يكون هناك عناية في استعمال هذه اللّفظة.

والرائج في مصطلح القرآن هو التّعبير بالكسب والفعل. قال سبحانه : ( لها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) ( البقرة / ٢٨٦ ).

وقال تعالى : ( كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) ( النمل / ٣٣ ).

وقال سبحانه : ( لمَ تَقُولُونَ مَالا تَفْعَلُونَ ) ( الصف / ٢ ).

فالتّعبير الرائج عن أفعال الإنسان بصورة عامّة هو الكسب والفعل ، وبصورة خاصّة هو الأفعال المخصوصة من الأكل والشرب.

__________________

١ ـ شرح عقائد الصدوق ، ص ١٤ ـ ١٥.

٣٥٦

وأمّا استعمال كلمة الخلق في مورد الفعل بأن يقال : « خلق الفعل والعمل » فليس بمعهود ، وإنّما هو اصطلاح تسرّب إلى كلمات المحدِّثين والمتكلِّمين في نهاية القرن الأوّل وأوائل الثاني ، حتّى قام البخاري بتأليف أسماه « خلق الأعمال ».

قال الشيخ المفيد : « إنّ الخلق يفعلون ، ويحدثون ، ويخترعون ، ويصنعون ، ويكتسبون ، ولا أطلق القول عليهم بأنّهم يخلقون ولا لهم خالقون ، ولا أتعدّى ذكر ذلك فيما ذكر الله تعالى ، ولا أتجاوز به مواضعه من القرآن ، وعلى هذا القول إجماع الإماميّة ، والزيديّة ، والبغداديّين من المعتزلة ، وأكثر المرجئة ، وأصحاب الحديث ، وخالف فيه البصريّون من المعتزلة ، وأطلقوا على العباد أنّهم خالقون ، فخرجوا بذلك من إجماع المسلمين » (١).

أمّا القرآن فلم يصف فعل الإنسان بما هو فعله من دون أن يحدث هيئة أو تركيباً بالخلق إلاّ في مورد واحد ، قال سبحانه : ( إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً وتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) ( العنكبوت / ١٧ ) مع أنّه يحتمل أن يكون الخلق فيه بمعنى الكذب.

قال في اللّسان : « الخلق : الكذب. وخلق الكذب والإفك : افتراه ، ابتدعه. ومنه قوله سبحانه : ( وتخلقون إفكا ) ومنه أيضاً قوله سبحانه : ( إنْ هَذَا إِلاّ خُلُقُ الأوّلين ) أي كذب الأوّلين (٢).

نعم ، وصف القرآن عمل المسيح بالخلق ، لكن في مورد خاصّ وهو إحداث صورة وهيئة وتركيب في الخارج. فعندما جعل من الطّين كهيئة الطّير ، خاطبه سبحانه بقوله : ( وإذْ تَخلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتكونُ طَيراً بِإِذْنِي ) ( المائدة / ١١٠ ) وعليه يحمل قوله سبحانه : ( فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ خَالِقِينَ ) ( المؤمنون / ١٤ ).

وأمّا في غير هذه الصورة ، كالفعل المجرّد عن إحداث شيء مثل المشي والقعود ،

__________________

١ ـ اوائل المقالات : ص ٢٥.

٢ ـ لسان العرب : مادة خلق.

٣٥٧

فلم يعهد توصيفه بالخلق ، وإنّما حدث هذا الاصطلاح ( أي خلق الأفعال والأعمال ) في أواخر القرن الأوّل وأوائل الثاني. ولأجل ذلك تنصرف الاطلاقات الواردة في القرآن الكريم من أنّه خالق كلّ شيء إلى غير أفعاله.

هذا من حيث القرآن. وأما اللّغة ، فالظاهر من « اللّسان » التفريق بين الخلق بمعنى الانشاء على مثال أبدعه ، والخلق بمعنى التّقدير ، والأوّل يختصّ بالله سبحانه ، والثاني يعمّه وغيره ، وعليه حملوا قوله سبحانه : ( أحسن الخالقين ) ( أي المقدّرين ).

قال في اللّسان : « الخلق بمعنى التقدير ، وخلق الأديم يخلقه خلقاً : قدّره لما يريد قبل القطع ، وقاسه ليقطع منه » (١).

ولأجل ذلك ، فالأولى في عنوان البحث مكان خلق الأعمال أن يقال : هل أفعال العباد مستندة إلى الله سبحانه فقط ، أو إلى العباد فقط ، أو إليهما معاً ، أو ما يشبه ذلك؟

١١ ـ إنّ الأبحاث العقليّة لا تدور مدار صحّة التّسمية. فسواء أصحّ توصيف أفعال العباد بالخلق أم لا ، ففعل الإنسان بما أنّه من الموجودات الامكانيّة ، لا يخرج من كتم العدم إلى حيِّز الوجود إلاّ بعلّة واجبة أو ممكنة منتهية إلى الواجب. فعلى الأوّل يكون فعلاً مباشرياً له ، وعلى الثاني يكون فعلاً تسبّبياً له.

وبذلك يظهر بطلان كلا المذهبين ، أمّا الجبر ـ وهو تصوير أنّ العلّة التامّة للفعل هو الواجب ـ فيلزم من كون الفعل الصادر من العبد فعلاً مباشريّاً للواجب ، وكيف يمكن أن يكون الأكل ، والشرب ، والمشي ، والقعود أفعالاً له مع انّ ماهيات هذه الأفعال واقعة بأعمال الجوارح من الإنسان.

وأمّا التفويض ـ وهو تصوير استقلال العبد في مقام الفعل والعمل ـ فلازمه كون الإنسان فاعلاً واجباً في مقام الفعل غير محتاج إلى الواجب في عمله ، ومرجعه إلى الثّنويّة في الاعتقاد ، والشرك في الفاعليّة.

__________________

١ ـ لسان العرب : مادة خلق.

٣٥٨

فلا مناص من رفض القولين واختيار مذهب بين المذهبين الّذي يدعمه العقل ، والكتاب ، وأحاديث العترة الطاهرة. ومن أراد الوقوف على حقيقته فعليه بالمؤلفات الكلامية لأصحابنا الإماميّة.

١٢ ـ إنّ الجنوح إلى التّفويض لأحد أمرين أو كليهما :

ألف ـ كون الحادث في حدوثه محتاجاً إلى الواجب لا في بقائه. فإذا كان هذا حال الذات فيكون الفعل الصادر عنها غير مستند إليه بوجه أولى؟!

ب ـ لو كان الفعل مستنداً إلى خالق العبد ونفسه يلزم توارد القدرتين على مقدور واحد. ولأجل إيضاح حال كلا الدّليلين نبحث عن كلّ منهما مستقلاّ ً.

مناط الحاجة إلى العلّة هو الامكان لا الحدوث

إنّ هذا الأصل ( كون مناط الحاجة إلى العلّة هو الحدوث لا الامكان ) الّذي بنت عليها المفوِّضة نظريّتهم في أفعال العباد ، بل وآثار كلِّ الكائنات ، باطل من وجوه :

الوجه الأوّل : إنّ مناط حاجة المعلول إلى العلّة هو الامكان أي عدم كون وجوده نابعاً من ذاته ، أو كون الوجود والعدم بالنّسبة إلى ذاته متساويين ، وهذا الملاك موجود في حالتي البدء والبقاء. وأمّا الحدوث فليس ملاكاً للحاجة فإنّه عبارة عن تحقّق الشّيء بعد عدمه ومثل هذا ، أمر انتزاعيّ ينتزع بعد اتّصاف الماهيّة بالوجود ، وملاك الحاجة يجب أن يكون قبل الوجود لا بعده.

إنّ الحدوث أمر منتزع من الشّيء بعد تحقّقه ، ويقع في الدرجة الخامسة من محلّ حاجة الممكن إلى العلّة ، وذلك لأنّ الشيء يحتاج أوّلاً ، ثمّ تقترنه العلّة ثانياً ، فتوجده ثالثاً ، فيتحقّق الوجود رابعاً ، فينتزع منه وصف الحدوث خامساً. فكيف يكون الحدوث مناط الحاجة الّذي يجب أن يكون في المرتبة الاُولى ، وقد اشتهر قولهم : الشيء قرّر ( تصوّر ) ، فاحتاج ، فأُوجد ، فوجد ، فحدث.

٣٥٩

وبعبارة ثانية : ذهب الحكماء إلى أنّ مناط الحاجة هو كون الشّيء ( الماهيّة ) متساوي النّسبة إلى الوجود والعدم ، وأنّه بذاته لا يقتضي شيئاً واحداً من الطّرفين ، ولا يخرج عن حدِّ الاستواء إلاّ بعلّة قاهرة تجرّه إلى أحد الطّرفين وتخرجه عن حالة اللاّاقتضاء إلى حالة الاقتضاء.

فإذا كان مناط الحاجة هو ذاك ( إنّ الشيء بالنّظر إلى ذاته لا يقتضي شيئاً ) فهو موجود في حالتي الحدوث والبقاء ، والقول باستغناء الكون في بقائه عن العلّة ، دون حدوثه ، تخصيص للقاعدة العقليّة الّتي تقول : إنّ كلّ ممكن ما دام ممكناً ، بمعنى ما دام كون الوجود غير نابع من ذاته ، يحتاج إلى علّة ، وتخصيص القاعدة العقليّة مرفوض جدّاً.

ويشير الحكيم المتألّه الشيخ محمد حسين الاصفهاني ( ١٢٩٦ ـ ١٣٦١ ) في منظومته إلى هذا الوجه بقوله :

والافتقار لازم الامكان

من دون حاجة إلى البرهان

لا فرق ما بين الحدوث والبقا

في لازم الذّات ولن يفترقا

الوجه الثاني : إنّ القول بأنّ العالم المادّي بحاجة إلى العلّة في الحدوث دون البقاء ، يشبه القول بأنّ بعض أبعاد الجسم بحاجة إلى العلّة دون الأبعاد الاُخرى. فإنّ لكلِّ جسم بعدين ، بعداً مكانياً وبعداً زمانياً ، فامتداد الجسم في أبعاده الثّلاثة ، يشكّل بعده المكاني. كما أنّ بقاءه في عمود الزّمان يشكّل بعده الزماني. فالجسم باعتبار أبعاضه ذو أبعاد مكانيّة وباعتبار استمرار وجوده مدى الساعات والأيّام ذو أبعاد زمانيّة ، فكما أنّ حاجة الجسم إلى العلّة لا تختصّ ببعض أجزائه وأبعاضه ، بل الجسم في كلِّ بعد من الأبعاد المكانيّة محتاج إلى العلّة ، فكذا هو محتاج إليها في جميع أبعاده الزّمانيّة ، حدوثاً وبقاء من غير فرق بين آن الحدوث وآن البقاء والآنات المتتالية ، فالتّفريق بين الحدوث والبقاء يشبه القول باستغناء الجسم في بعض أبعاضه عن العلّة. فالبعد الزّماني والمكاني وجهان لعملة واحدة ، وبعدان لشيء واحد فلا يمكن التّفكيك بينهما.

وتظهر حقيقة هذا الوجه إذا وقفنا على أنّ العالم في ظلّ الحركة الجوهريّة ، في تبدّل

٣٦٠