بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٩

عالماً والقدرة لا تكون قادرة » (١).

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من الاشكال مبنىُّ على اقتناص المعارف الإلهية من اللّغة والعرف ، أو من باب مقايسة الواجب بالممكن ، فيما أنّ العلم والقدرة في الإنسان عرض والإنسان معروض لهما ، تخيّل أنّ العلم والقدرة في جميع المراتب أعراض لا تخرج عن حدِّها ، ولكنّه غفل عن أنّ للعلم والقدرة والحياة مراتب ودرجات. فالعلم منه عرض كعلمنا بالأشياء الخارجيّة ، ومنه جوهر كعلمنا بذاتنا وحضور ذاتنا لدى ذاتنا ، ومنه واجب قائم بنفسه كعلم الله سبحانه بذاته. فعند ذلك لا مانع من أن يكون هناك علم قائم بالذات وقدرة مثلها وحياة كذلك.

وهناك كلمة قيّمة للحكيم الفارابي حيث يقول : « يجب أن يكون في الوجود وجود بالذات ، وفي العلم علم بالذات ، وفي القدرة قدرة بالذات ، وفي الارادة إرادة بالذات ، حتّى تكون هذه الاُمور في غيره لا بالذات ».

ومصدر هـ (٢)ذه الكلمات العجيبة هو مقايسة الغائب بالشاهد وتصوّر أنّ علمه سبحانه أو قدرته وحياته كعلم الممكنات وقدرتها وحياتها. فذلك هو التشبيه الّذي هو الأساس لمذهب أهل الحديث ومن لفّ لفّهم.

٤ ـ ذكر الشهرستاني أنّ أبا الهذيل اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة الّذين اعتقدوا أنّ ذاته واحدة لا كثرة فيها بوجه (٣).

يلاحظ عليه : أنّه رجم بالغيب ومن الممكن أنّه وصل إليه من خطب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام كما سيوافيك كلامه ، وقد عرفت أنّ المعتزلة في التوحيد والعدل عالة على خطب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٥ ـ قال القاضي الايجي : « لو كان مفهوم كونه عالماً حيّاً قادراً نفس ذاته ، لم يفد

__________________

١ ـ الفرق بين الفرق : ص ١٢٧.

٢ ـ تعاليق الاسفار : ج ٦، ص ١٣٥.

٣ ـ الملل والنحل : ج ١، ص ٥٠.

٣٢١

حملها على ذاته ، وكان قولنا : « الله الواجب » بمثابة حمل الشيء على نفسه ».

٦ ـ وقال أيضاً : « لو كان العلم نفس الذات والقدرة نفس الذات لكان العلم نفس القدرة فكان المفهوم من العلم والقدرة واحداً » (١).

يلاحظ عليه : أنّ الاشكالين من الوهن بمكان ، حتّى إنّ المستشكل لم يقبله. وأساس الاشكال هو الخلط بين الوحدة المفهوميّة والوحدة المصداقيّة ، والقائل يقول بالثاني لا بالأوّل. ولأجل ذلك يقول الايجي في دفع الاشكال الأوّل : « وفيه نظر ، فإنّه لا يفيد إلاّ زيادة هذا المفهوم على مفهوم الذات ، وأمّا زيادة ما صدق عليه هذا المفهوم على حقيقة الذات فلا ».

وعند ذلك يصحّ لشيخ الاعتزال أن يتمثّل ويقول :

وكم من عائب قولاً صحيحا

وآفته من الفهم السقيم

كلام الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في عينيّة الصفات مع الذات

قد ورد في خطب الإمام عليه‌السلام ما يدلّ على نفي زيادة الصفات لله تعالى بأبلغ وجه وآكده حيث قال في خطبة من خطبه المشهورة : « أوّل الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الاخلاص له ، وكمال الاخلاص له نفي الصِّفات عنه ، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصِّفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن قال فيم فقد ضمّنه ، ومن قال علام فقد أخلى منه » (٢).

وتوضيح هذه الجمل الدّريّة تدفعنا إلى البسط في الكلام ولكنّ المقام لا يقتضيه وإنّما نشير إلى بعضها.

____________

١ ـ المواقف : ص ٢٨٠.

٢ ـ نهج البلاغة : الخطبة الاُولى.

٣٢٢

قال عليه‌السلام : « وكمال توحيده الاخلاص له » ، يريد تخليصه سبحانه من الزوائد والثواني حتّى لا يكون خليطاً مع غيره ، ثمّ فرّع على ذلك قوله : « وكمال الاخلاص له نفي الصّفات عنه » يريد نفي الصّفات الّتي وجودها غير وجود الذات لا نفي حقائقها عن ذاته ، فإنّ ذاته بذاته مصداق لجميع النعوت الكماليّة والأوصاف الإلهيّة من دون قيام أمر زائد على ذاته ، فعلمه وقدرته و .... كلُّها موجودة بوجود ذاته الأحديّة مع أنّ مفاهيمها متغايرة.

وقال عليه‌السلام : « لشهادة كلِّ صفة أنّها غير الموصوف ... الخ » إشارة إلى برهان نفي الصفات العارضة ، سواء فرضت قديمة كما عليه الكلابيّة والأشاعرة أو حادثة. فإنّ الصفة إذا كانت عارضة كانت مغايرة للموصوف بها.

فعندئذ يترتّب عليه قول : « فمن وصفه فقد قرنه » أي من وصفه بصفة زائدة فقد قرنه بغيره ، فان كان ذلك الغير مستقلاّ ً في الوجود يلزم أن يكون له ثان في الوجود ، وإن كان غير مستقلّ فبما أنّه جزء له فقد جعله مركّباً ذا جزأين وإليه يشير بقوله : « ومن ثنّاه فقد جزّأه » ومن المعلوم أنّ من جزّأه فقد جهله ، ولم يعرفه على ما هو عليه. ومن جهله بهذا المعنى فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، لأنّ الاشارة إلى الشيء حسّيّة كانت أو عقليّة تستلزم جعله محدوداً بحدّ خاصّ، ومن حدّه بحد معيّن فقد جعله واحداً بالعدد ـ إلى آخر ما أفاده.

هذا هو توضيح نظريّة أبي الهذيل وهو المختار لدى الإماميّة وعليه خطب الإمام وكلمات أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وعندئذ يحين وقت إيضاح النظرية الثانية المنسوبة إلى أبي علي الجبّائي.

توضيح مذهب أبي عليّ الجبّائي

إنّ أبا عليّ الجبّائي يقول : إنّه تعالى يستحقّ هذه الصّفات الأربع الّتي هي كونه قادراً عالماً حيّاً موجوداً لذاته. فهو يهدف إلى نظريّة اُخرى يليق أن يتّهم معها

٣٢٣

بالتعطيل.

وقد أوضح الشهرستاني الفرق بين هذه النظرية والنظرية السابقة بقوله : « والفرق بين قول القائل : « عالم بذاته لا بعلم » وبين قول القائل : « عالم بعلم هو ذاته » ، أنّ الأوّل هو نفي الصفة ، والثاني إثبات ذات هو بعينه صفة ، أو إثبات صفة هي بعينها ذات » (١).

ولقد أحسن في التّوضيح وأصاب الغرض. فعلى هذا القول ليست الذات واجدة لواقعيات الصّفات ، غير أنّ ما يترقّب من الذات المتصفة بها ، يترتّب على ذاته سبحانه وإن لم تكن هناك تلك الصفات. مثلاً أثر الذات الموصوفة بالعلم هو إتقان الفعل وهو يترتّب على ذاته سبحانه بلا وجود وصف العلم فيه ، وقد اشتهر عندهم « خذ الغايات واترك المبادئ ».

وصاحب النظريّة توفّق في الجمع بين الأمرين الخطيرين. فمن جانب اتّفقت الشرائع السماويّة على أنّه سبحانه عالم حيّ قادر. ومن جانب آخر واقعية الصفة لا تنفكّ عن القيام بالغير بحيث لو لم تكن قائمة به لما صدق عليه الوصف. فعندئذ يدور الأمر بين الاُمور التالية :

١ ـ نفي كونه عالماً قادراً حيّاً .... وهذا يكذّبه اتّفاق الشرائع السماوية ووجود آثار الصفات في أفعاله من الإتقان والنظم البارزين.

٢ ـ كون صفاته زائدة على ذاته وهو يستلزم المفاسد السابقة من تعدّد القدماء وغيره.

٣ ـ كون صفاته عين ذاته كما عليه شيخ المعتزلة في عصره « أبي الهذيل » وهو لا يتّفق مع واقعيّة الصِّفات ، فإنّ واقعيّتها نفس قيامها بالغير لا صيرورتها نفسه ، فتعيّن القول التالي :

٤ ـ كون ذاته نائبة مناب الصّفات وإن لم تكن هناك واقعيّتها. وممّن اختار هذا

__________________

١ ـ الملل والنحل : ج ١ ص ٥٠.

٣٢٤

القول قبل الجبّائي هو عبّاد بن سليمان المعتزلي. قال : « هو عالم ، قادر ، حي ، ولا أثبت له علماً ، ولا قدرة ، ولا حياة ولا أثبت سمعاً ولا أثبت بصراً. وأقول : هو عالم لا بعلم ، وقادر لا بقدرة ، وحىُّ لا بحياة ، وسميع لا بسمع ، وكذلك سائر ما يسمّى به من الأسماء الّتي يسمّى بها » (١).

تقييم نظريّة النيابة

إنّ هذه النظريّة من الوهن بمكان ، فإنّ أبا عليّ لو تأمّل في واقعيّة الصفات الكماليّة لما أصرّ على أنّ واقعيّتها في جميع المجالات والمراحل ، واقعية القيام بالغير. وإنّما هي واقعيتها في بعض المراتب كعلم الإنسان وقدرته وحياته ، وليس في جميع المراتب كذلك. وذلك لأنّ الكمالات ترجع إلى الوجود ، وله شؤون وعرض عريض. فكما أنّ منه وجوداً رابطاً ورابطيّاً وجوهراً ، فكذا العلم. فمنه عرض قائم بالغير ، ومنه جوهر قائم في نفسه كعلم الإنسان المدرك بذاته ، ومنه ممكن ومنه واجب ، وهكذا سائر الصفِّات. وعلى ذلك فالاصرار على واقعيّة واحدة تجمع شتات العلم ، إصرار في غير محلِّه. فإنّ للعلم وكلّ كمال مثله ، إطارات وقوالب ومظاهر ومجالات تختلف حسب اختلاف المراتب.

إذا وقفت على مذهب الوالد ( أبي عليّ ) فهلمّ معي ندرس مذهب الولد في باب حمل الصفِّات الذاتية عليه سبحانه.

مذهب أبي هاشم

إنّ لأبي هاشم في كيفيّة استحقاق الصفِّات مذهباً خاصّاً عبّر عنه القاضي بقوله : « وعند أبي هاشم يستحقّها لما هو عليه في ذاته » وعبّر عن نظرية أبيه بقوله : « إنّه

__________________

١ ـ مقالات الاسلاميين : ج ١، ص ٢٢٥. نعم نقل القاضي في شرح الاُصول الخمسة ص ١٨٣ رأياً آخر لسليمان بن جرير وهو غير عباد بن سليمان فلا يختلط عليك الأمر.

٣٢٥

يستحقّها القديم تعالى لذاته » (١).

وقد حاول البغدادي تبيين الفرق بقوله : « إنّ أبا عليّ جعل نفس الباري علّة لكونه عالماً وقادراً ، وخالف أبو هاشم أباه وزعم أنّ الله عالم لكونه على حال ، قادر لكونه على حال وزعم أنّ له في كلِّ معلوم حالاً مخصوصاً ، وفي كلِّ مقدور حالاً مخصوصاً. وزعم أنّ الأحوال لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا أشياء » (٢).

وأوضحه الشهرستاني بقوله : « قال الجبّائي : عالم لذاته ، قادر حيّ لذاته ، ومعنى قوله : « لذاته » أي لا يقتضي كونه عالماً ، صفة هي علم أو حال توجب كونه عالماً ، وعند أبي هاشم : « هو عالم لذاته » بمعنى أنّه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتاً موجوداً ، وإنّما تعلم الصِّفة على الذات ، لا بانفرادها. فأثبت أحوالاً هي صفات لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة ، أي هي على حيالها لا تعرف كذلك بل مع الذّات » (٣).

وأنت تعلم أنّ هذه المحاولات تزيد في الغموض ، وقد أصبحت نظريّته لغزاً من الألغاز لم يقف عليه أحد. قال الشريف المرتضى : « سمعت الشيخ المفيد يقول : ثلاثة أشياء لا تعقل وقد اجتهد المتكلّمون في تحصيل معانيها من معتقديها بكلِّ حيلة ، فلم يظفروا منهم إلاّ بعبارات يناقض المعنى فيها مفهوم الكلام : اتّحاد النّصرانية ( التثليت مع ادّعاء الوحدة ) ، وكسب النّجارية وأحوال البهشميّة » (٤).

ممّا يقال ولا حقيقة عنده

معقولة تدنو إلى الأفهام

الكسب عند الأشعري والحال

عند البهشمي وطفرة النظام (٥)

__________________

١ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ١٢٩.

٢ ـ اُصول الدين للبغدادي : ص ٩٢.

٣ ـ الملل والنحل : ج ١، ص ٨٢.

٤ ـ الفصول المختارة : ص ١٢٨.

٥ ـ القضاء والقدر ، لعبد الكريم الخطيب : ص ١٨٥.

٣٢٦

وبما أنّ تحقيق نظريته مبنيّ على تحقيق « الأحوال » الّتي يتبنّاها أبو هاشم فلنكتف بهذا المقدار.

هذا كلّه حول المسألة الاُولى الّتي تركِّز المعتزلة عليها عند البحث عن الأصل الأوّل ( التوحيد ) وإليك البحث في المسألة الثانية الّتي يركّزون عليها في إطار هذا الأصل ، وهي تبيين كيفيّة حمل الصفّات الخبريّة عليه سبحانه.

ب ـ المعتزلة وحمل الصفات الخبريّة (١)

قسّم الباحثون صفاته سبحانه إلى صفات ذاتيّة وصفات خبريّة ، فتوصيفه سبحانه بالعلم والقدرة توصيف بصفات ذاتيّة ، كما أنّ توصيفه بما دلّ عليه ظواهر الآيات والأحاديث كالوجه واليدين صفات خبريّة.

وأمّا عقيدة المعتزلة في هذه الصفِّات ، فقد وصفها الشيخ الأشعري فى كتابه بأحسن وجه. وإليك نصّ كلامه :

« أجمعت المعتزلة على أنّ الله واحد ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير ، وليس بجسم ، ولا شبح ، ولا جثّة ، ولا صورة لحم ولا دم ، ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ، ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسّة ، ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ، ولا طول ولا عرض ولا عمق ، ولا اجتماع ولا افتراق. ولا يتحرّك ولا يسكن ولا يتبعّض ، ولا بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء ، وليس بذي جهات ولا بذي يمين وشمال وأمام وخلف وفوق وتحت ، ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا تجوز عليه المماسّة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن ، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم ، ولا يوصف بأنّه متناه ، ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات ، وليس بمحدود ، ولا والد ولا مولود ، ولا تحيط به الأقدار ، ولا تحجبه الأستار ، ولا تدركه

__________________

١ ـ هذه هي النقطة الثانية التي تركّز عليها المعتزلة في هذا الأصل.

٣٢٧

الحواسّ ولا يقاس بالناس ، ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه ولا تجري عليه الآفات ، ولا تحلّ به العاهات ، وكلّ ما خطر بالبال ، وتصوّر بالوهم فغير مشبه له. لم يزل أوّلاً ، سابقاً ، متقدّما للمحدثات ، موجوداً قبل المخلوقات ، ولم يزل عالماً قادراً حيّاً ولا يزال كذلك. لا تراه العيون ، ولا تدركه الأبصار ، ولا تحيط به الأوهام ، ولا يسمع بالأسماع ، شيء لا كالأشياء ، عالم قادر حيّ لا كالعلماء القادرين الأحياء. وإنّه القديم وحده ولا قديم غيره ولا إله سواه ، ولا شريك له في ملكه ، ولا وزير له في سلطانه ولا معين على إنشاء ما أنشأ وخلق ما خلق. لم يخلق الخلق على مثال سبق ، وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء آخر ولا بأصعب عليه منه ، ولا يجوز عليه اجترار المنافع ولا تلحقه المضار ، ولا يناله السرور واللذات ، ولا يصل إليه الأذى والآلام ، ليس بذي غاية فيتناهى ، ولا يجوز عليه الفناء ، ولا يلحقه العجز والنقص، تقدّس عن ملامسة النساء ، وعن اتّخاذ الصاحبة والأبناء ، قال : فهذه جملة قولهم في التّوحيد » (١).

والسابر في نهج البلاغة يقف على أنّ المعتزلة أخذت جلّ هذه الكلمات من خطب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام لكن باختلاف في التعبير والألفاظ.

وقد ذكرت المعتزلة وغيرهم دليلاً عقليّاً على تنزيهه سبحانه عن هذه الصفِّات ، خلاصته : أنّه سبحانه ليس مادّة ولا ماديّاً ولا مركّباً منهما ، وما ليس كذلك يمتنع عليه هذه الصفات. فمن يُثبت له حركة أو سكوناً أو يداً أو رجلاً فلا منتدح له عن القول بكونه جسماً أو جسمانياً.

هذا هو الحقّ القراح الّذي لا يشكّ فيه مسلم واع. إنّما الكلام في تفسير ما ورد من النُّصوص المشتملة بظواهرها على هذه الصفِّات. وهذه النقطة هي المخمصة الكبرى للمعتزلة. فلابدّ لهم من الجمع ما بين العقل والنّقل بوجه يقبله العقل ، ولا

__________________

١ ـ مقالات الاسلاميين للاشعري : ص ١٥٥ ـ ١٥٦. وقد كتب أبو الفتح محمد بن علي الكراجكي ( م ٤٤٩ ) قائمة تشتمل على اُصول التنزيه على مذهب الامامية أسماها « البيان عن جمل اعتقاد أهل الايمان » فمن أراد فليرجع إلى كنز الفوائد ، ج ١، ص ٢٤٠ ط بيروت.

٣٢٨

يكذّبه النقل.

ثمّ إنّ للباحثين من المتكلِّمين وأهل الحديث في المقام طرقاً نشير إليها :

الأوّل : الإثبات مع التّشبيه والتّكييف.

الثّاني : الإثبات بلا تشبيه ولا تكييف.

الثالث : التفويض.

الرابع : التّأويل.

وقد بحثنا عن الوجوه الثّلاثة الاُول في الجزء الثاني ، وهي خيرة أهل الحديث والأشاعرة. والأمر الرابع هو خيرة المعتزلة. ولأجل ذلك يسمّون المؤوّلة ، فيؤوّلون الآيات المشتملة على اليد والوجه والاستيلاء وغير ذلك ، ولنا هنا كلمة موجزة وهي :

إنّ التأويل على قسمين : قسم يرفضه الكتاب ولا يرضى به العقل وهو تأويل النصوص القرآنيّة والأحاديث المتواترة بحجّة أنّها تخالف العقل الصّريح فقط ، وهذا رأي عازب ، بل فكرة خاطئة. فإنّ ظواهر الكتاب والنصوص الصحيحة لا يمكن أن تكون مخالفة للعقل.

ولقد كذب من قال من المؤوّلة : إنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنّة من اُصول الكفر أو إنّ التمسّك في اُصول العقائد بمجّرد ظواهر الكتاب والسنّة من غير بصيرة في العقل هو أصل ضلالة الحشوية (١).

فإنّ هؤلاء لم يعرفوا موقف الكتاب والسنّة الصحيحة ، فإنّ من الممتنع أن يشتمل الكتاب الهادي على ما يضادّ العقل الصحيح. وهو القائل ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا ) ( محمد / ٢٤ ).

وقسم يراد منه تمييز الظاهر التصديقي عن الظاهر الحرفي ، وتمييز الظاهر البدوي عن الظاهر الاستمراري ( ما يستقرّ في الذهن بعد التدبّر ) ومثل هذا لا يتحقّق إلاّ

__________________

١ ـ علاقة الاثبات والتفويض : ص ٦٧، نقلاً عن الصاوي على تفسير الجلالين ج ٣، ص ١٠ وغيره.

٣٢٩

بالتأمّل في نفس الآية الكريمة وما احتفّ بها من القرائن اللفظية أو ما جاء في الآيات الأخر. وهذا القسم لو صحّت تسميته بالتأويل ، تأويل مقبول. كيف وهو ليس بتأويل بمعنى صرف الكلام عن ظاهره والأخذ بخلاف الظاهر ، بل واقعيته تحديد ظاهر الكلام ، وتعيينه. وهذا من خواصّ كلِّ كلام مشتمل على نكات بديعة ومعاني رفيعة ألقي لهداية الناس باختلاف طبقاتهم وتعدّد ثقافاتهم. ومثل هذا لو صحّ عليه أنّه أخذ بخلاف الظاهر فإنّما هو أخذ بخلاف الظاهر الحرفي ورفض لظاهره الابتدائي. وأمّا الظاهر التصديقي والاستمراري فهو عين الأخذ به. ونمثِّل لك مثالاً :

إذا قال القائل في تبيين سماحة شخص وجوده : « فلان كثير الرّماد » فهناك ظاهر حرفي وظاهر تصديقي ، كما أنّ هناك ظاهراً بدئياً وظاهراً استمراريّاً.

فالأوّل مرفوض جدّاً ، فإنّ كثرة الرّماد في البيت لو لم يكن ذمّاً لا يكون مدحاً ، مع أنّ القائل بصدد المدح.

والثاني مقبول عند العقلاء وعليه يدور رحى الفصاحة والبلاغة وإلقاء الخطب الرنانّة وإنشاء الكلم اللّذيذة على الأسماع.

المعتزلة بين التأويل المرفوض والمقبول

إنّ المعتزلة في تفسير الآيات الواردة في مجال الصفِّات بين تأويل مرفوض ، وتأويل مقبول. فتارة يؤوّلون الكلام بحجّة أنّه يخالف العقل ولا يذكرون للتّأويل قرينة مقاليّة أو شاهداً من سائر الآيات. وهذا يعرب عن أنّ الغاية منه هو التخلّص من مخالفة النقل مع العقل ، وهذا هو التأويل المرفوض ، فحاشا أن يكون النقل مخالفاً للعقل. بل المخالفة تتراءى إمّا لعدم تشخيص حقيقة النّقل وتخيّل ما ليس بظاهرها ظاهراً ، أو لاشتباه العقل فيما يحكم ويبرم.

وأخرى يؤوّلون معتمدين على القرائن والشّواهد الّتي تثبت الظهور التصديقي وتوقفنا على أنّ الظهور البدائي أو التصوّري ليس بمراد. وهذا هو التّأويل المقبول ،

٣٣٠

وإليه الاستناد في تأويل المتشابهات بالمحكمات وتعيين الظهور التصديقي.

ولأجل إيقاف القارئ على نماذج من التأويلين نأتي بمثالين :

١ ـ قول سبحانه : ( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ اسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ العَالِينَ ) ( ص / ٧٥ ).

ترى أنّ القاضي يبادر إلى تأويل الآية بأنّ اليد هنا بمعنى القوّة (١).

يلاحظ عليه : أنّ اليد وإن كانت تستعمل في القوّة والنعمة ، قال سبحانه ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُد ذَا الأيدِ إِنَّهُ أَوّاب ) ( ص / ١٧ ) فإنّ اليد في هذه الآية مردّدة ابتداء بين النعمة والقوّة والعضو المخصوص، إلاّ أنّ القرينة في الآيات تدلُّ على أنّها كناية عن النعمة أو القوّة ، والقرينة عليه ورودها في قصّة داود المشهورة في القرآن. فقد كان ذا نعمة وقوّة ، أشار إليهما سبحانه في تلك ا لسورة وقال : ( إنّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَه ... ) ( ص / ١٩ ـ ٢٩ ) وهذه الآيات قرينة على أنّ اليد إنّما كنّى بها عن النّعمة والقوّة. إلاّ أنّ الآية السابقة تفارق هذه الآية وليس مثلها وذلك لأجل أمرين :

أوّلاً : إنّ من المعلوم أنّ الخالق لا يخلق شيئاً إلاّ عن قوّة ، فلا معنى لذكرها إلاّ أن تكون هنا نكتة ، مثل دفع توهّم العجز في المتكلّم وليس المقام كذلك كما سيأتي في قوله سبحانه ( وَالسَّماءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْد ).

وثانياً : أنّه لو كان المراد منها هو القوّة ، فما هو وجه التثنية؟

فلأجل ذلك كان اللاّزم على القاضي وأمثاله ، الامعان في الآية حتّى يقفوا على الظهور التصديقي ، ليستغنوا به عن مخالفة العقل. فنقول :

إنّ اليد في الآية استعملت في العضو المخصوص، ولكنّها كنّى بها عن الاهتمام بخلقة آدم حتّى يتسنّى بذلك ذمّ إبليس على ترك السجود لآدم. فقوله سبحانه : ( مَامَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) كناية عن أنّ آدم لم يكن مخلوقاً لغيري حتّى

__________________

١ ـ شرح الاصول الخمسة : ص ٢٢٨.

٣٣١

يصحّ لك يا شيطان التجنّب عن السجود له ، بحجّة أنّه لا صلة له بي ، مع أنّه موجود خلقته بنفسي ، ونفخت فيه من روحي. فهو مصنوعي ومخلوقي الّذي قمت بخلقه ، فمع ذلك تمرّدت عن السجود له.

فاُطلقت الخلقة باليد وكنّى بها عن قيامه سبحانه بخلقه ، وعنايته بايجاده ، وتعليمه إيّاه أسماءه ، لأنّ الغالب في عمل الإنسان هو القيام به باستعمال اليد ، يقول : هذا ما بنيته بيدي ، أو ما صنعته بيدي ، أو ربّيته بيدي ويراد من الكل هو القيام المباشري بالعمل ، وربّما استعان فيه بعينه وسمعه وغيرهما من الأعضاء ، لكنّه لا يذكرها ويكتفي باليد. وكأنّه سبحانه يندِّد بالشيطان بأنّك تركت السجود لموجود اهتممت بخلقه وصنعه.

و نظير ذلك قوله سبحانه : ( أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ) ( يس / ٧١ ) فالأيدي كناية عن تفرّده تعالى بخلقها ، لم يشركه أحد فيه. فهي مصنوعة لله تعالى والناس يتصرّفون فيها تصرف المّلاك كأنّها مصنوعة لهم ، فبدل أن يشكروا يكفرون بنعمته. وأنت إذا قارنت بين الآيتين تقف على أنّ المقصود هو المعنى الكنائي ، والمدار في الموافقة والمخالفة هو الظهور التّصديقي لا التصوّري.

قال الشريف المرتضى : « قوله تعالى : ( لما خلقت بيديّ ) » جار مجرى قوله « لما خلقت أنا » وذلك مشهور في لغة العرب. يقول أحدهم : هذا ما كسبت يداك ، وما جرت عليك يداك. وإذا أرادوا نفي الفعل عن الفاعل استعملوا فيه هذا الضّرب من الكلام فيقولون : فلان لا تمشي قدمه ، ولا ينطق لسانه ، ولا تكتب يده ، وكذلك في الاثبات ، ولا يكون للفعل رجوع إلى الجوارح في الحقيقة بل الفائدة فيه النفي عن الفاعل » (١).

وأمّا قوله سبحانه ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْد وإِنَّا لَمُوسعونَ ) ( لذاريات / ٤٧ ) ، فالمراد من الأيدي هو القوّة والإحكام ، والقرينة عليه قوله : ( لموسعون ) وكأنّه سبحانه

____________

١ ـ امالي المرتضى : ج ١، ص ٥٦٥.

٣٣٢

يقول : والسماء بنيناها بقدرة لا يوصف قدرها وإنّا لذو سعة في القدرة لا يعجزها شيء ، أو بنيناها بقدرة عظيمة ونوسعها في الخلقة. ومن أراد أن يقف على تأويل غير مقبول في تفسير الآية فعليه أن يرجع إلى كلام الزمخشري في هذاالباب ، فإنّ تأويله أردأ من تأويل القاضي ، وهو من ذلك العالم البارع الأديب بعيد جدّا (١).

هذا نموذج من التّأويل المردود ، وأمّا التأويل المقبول فحدّث عنه ولا حرج ، وإليك نموذجاً منه :

٢ ـ قوله سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِنْ شَفِيع إلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ( يونس / ٣ ).

وقوله سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرات بِأَمْرِهِ ألا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) ( الأعراف / ٥٤ ).

وقد شغل بال المفسّرين وأهل الكلام استواؤه سبحانه على العرش، فأقصى ما عند أهل التنزيه من الأشاعرة أنّه سبحانه مستو على عرشه ( جالس أو مستقرّ عليه ) ولكن من غير كيف (٢).

وأمّا المشبّهة فهم يقولون بالجلوس على العرش على الكيف والتّشبيه.

ولو أنّ القوم تدبّروا في نفس الآيتين الماضيتين والآيات الاُخر (٣) التّي ورد فيها قوله سبحانه : ( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ ) ، لوقفوا على أنّ الظهور التصوّري وهو كونه سبحانه ذا سرير متربّعاً عليه ، غير مراد قطعاً ، إذ لا مناسبة لهذا المعنى مع ما جاء في الآيات من بيان عظمة قدرته وسعة ملكه وتدبيره ، وإنّه لا يشذّ عن علمه شيء ، بل

__________________

١ ـ لاحظ الكشاف : ج ٣ ص ٢١.

٢ ـ الابانة : باب ذكر الاستواء على العرش، ص ٨٥.

٣ ـ الرعد / ٢، الفرقان / ٥٩، السجدة / ٥، الحديد / ٥، غافر / ١٥، طه / ٨ باختلاف يسير.

٣٣٣

المراد هو الظهور التصديقي ، وأنّ الاستواء بمعنى التمكّن والاستيلاء التام ، لا الجلوس ولا الاستقرار بعد التزلزل ، كما أنّ المراد من العرش، عرش التدبير وعرش الملك لا الّذي يجلس عليه الملوك. وليس هذا شيئاً غير موجود في الأدب العربي بل هو مملوء من هذه المعاني.

أمّا الاستواء بمعنى الاستيلاء فقد قال الأخطل يمدح بشراً أخا عبدالملك بن مروان حين ولى إمرة العراقين :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

فالحمد للمهيمن الخلاّق

فليس المراد من الاستواء الجلوس أو الاستقرار ، بل التمكّن والاستيلاء التام والسيطرة على العراقين وكسح كلِّ مزاحم ومخالف.

وقال الطرمّاح بن حكيم :

طال على رسم مهدد أبده

وعفى واستوى به بلده

والمراد استقام له الأمر واستتبّ.

وقال آخر :

فلمّا علونا واستوينا عليهم

تركناهم صرعى لنسر وكاسر

هذا حول الاستواء. وأمّا العرش، فالمتبادر منه تصوّراً هو السرير يجلس عليه الملوك ، ويدبّرون منه ملكهم ويصدرون الأوامر والنواهي. غير أنّه هناك كناية عن الملك والسّلطة. يقال : ثلّ عرش بني فلان ، إذا زال ملكهم. يقول الشاعر :

إذا ما بنو مروان ثلّت عروشهم

وأودت كما أودت أياد وحمير

فليس المراد تهدّم العروش الّتي كانوا يجلسون عليها ، بل كناية عن زوال الملك والسيطرة وانقطاع سلطتهم. والدقة في الآيات الّتي ورد فيها استيلاؤه سبحانه على العرش يثبت بوضوح أنّ المراد من الآية هو السيطرة والتمكّن على صحيفة الكون

٣٣٤

والخلقة ، وأنّها بعد الخلقة في قبضة قدرته وحوزة سلطنته لم تفوّض لغيره ، ولأجل ذلك يذكر في سورة يونس بعد هذه الجملة قوله : ( يدبِّر الأمر ما من شفيع إلاّ من بعد إذنه ) معرباً عن أنّه المدبِّر لأمر الخلقة ، وذلك لاستيلائه على عرش ملكه. فمن استولى على عرش ملكه يقوم بتدبيره ، ومن ثلّ عرشه أو زال ملكه أو انقطع عنه لا يقدر على التدبير. كما أنّه سبحانه يذكر بعد هذه الجملة في سورة الأعراف كيفيّة التدبير ويقول : ( يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرات بِأَمْرِهِ ألا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ ) فهذه الجمل تعابير عن تدبيره صحيفة الكون. وكونه مصدراً لهذه التدبيرات الشامخة ، دليل على أنّه مستول على ملكه ، مهيمن عليه ، مسيطر على ما خلق ولم يخرج الكون عن حوزة قدرته ، ومثله سائر الآيات الواردة فيها تلك الجملة ، فإنّك ترى أنّه جاء في ضمن بيان فعل من أفعاله سبحانه. ففيها دلالات على « التوحيد في التدبير » الّذي هو أحد مراتبه.

وأمّا إذا فسّرنا الاستواء بالجلوس والاستقرار ، والعرش بالكرسي الّذي يتربّع عليه الملوك ، يكون المعنى غير مرتبط بما ورد في الآية من المفاهيم ، إذ أيّ مناسبة بين التربّع على الكرسي المادي والقيام بهذه التدابير الرفيعة. فإن المصحِّح للتدبير هو السيطرة والهيمنة على الملك وهو لا يحتاج إلى التربّع والجلوس على الكرسي ، بل يتوقّف على سعة ملكه ونفوذ سلطته.

وقد قام القاضي بتأويل الآية بمثل ما ذكرنا ـ بعبارات قليلة ـ وهو نموذج واضح للتأويل المقبول.

وإذا وقفت على هذا المقياس تقدر على تمييز المقبول عن الزائف في الصفات الخبريّة ، وعليك بالآيات الوارد فيها الألفاظ التالية :

الوجه ، العين ، الساق ، مجيئه سبحانه.

وفي الأحاديث المرويّة عن طرق ضعاف ورد : الرجل ، والقدم.

فالمعتزلة بل العدليّة عامّة يصفونه سبحانه بكلِّ ما وصف نفسه به. ولكنّ

٣٣٥

الاختلاف في تمييز المراد الجدّي عن الصّوري ، والظاهر التصديقي عن الظاهر الحرفي. فالمشبِّهة والأشاعرة مصّرون على الأخذ بالأوّل مع أنّ سيرة العقلاء العارفين بالكلام وأساليب البلاغة على الثاني. وعند ذلك لا تجد أيّ مخالفة بين العقل والنّقل الصحيح كالقرآن الكريم. وأمّا الروايات فأكثرها إسرائيليات دسّت في الأحاديث الإسلاميّة من طريق الأحبار والرهبان ونقلها السذّج من أصحاب الحديث زاعمين أنّها حقائق راهنة يلزم الأخذ بها ، وقد استوفينا الكلام فيها عند البحث عن عقائد أهل الحديث.

ج ـ نفي الرؤية الحسية

هذه هي النقطة الثالثة الّتي تركز عليها المعتزلة عند البحث عن التوحيد ، وقد عرفت أنّ التوحيد رمز للتنزيه ، أي تنزيهه سبحانه عن الجسم والجسمانيّات وأحكامها. وقد شغلت هذه المسألة بال المفسِّرين والمتكلِّمين وقد بحث عنها القاضي في كتابيه « شرح الاُصول الخمسة » ، و « المغني » على وجه البسط.

يقول القاضي : « وممّا يجب نفيه عن الله تعالى الرؤية ، وهذه مسألة خلاف بين الناس ، وفي الحقيقة الخلاف في هذه المسألة إنّما يتحقّق بيننا وبين هؤلاء الأشاعرة الّذين لا يكيّفون الرؤية. وأمّا المجسّمة فهم يسلِّمون أنّ الله تعالى لو لم يكن جسماً لم صحّ أن يرى ، ونحن نسلِّم لهم أنّ الله تعالى لو كان جسماً لصحّ أن يرى والكلام معهم في هذه المسألة لغو ».

وبما أنّا استوفينا دراسة أدلّة المجوّزين للرؤية في الجزء الثاني ، فلنكتف في المقام بدراسة أدلّة النافين على وجه الإجمال. فنقول :

استدلّت المعتزلة على نفي الرؤية بالأدلّة العقليّة والسّمعية. أمّا العقلية ، فهي ما أثبتها الحسّ والعلوم الطبيعية من أنّ الرائي بالحاسّة لا يرى الشيء إلاّ إذا كان مقابلاً أو حاّلاً في المقابل أو في حكم المقابل. وقد ثبت أنّ الله تعالى لا يجوز أن يكون كذلك ، لأنّ المقابلة من أحكام الأجسام والأعراض وهو سبحانه فوق الممكنات والمادّيات.

٣٣٦

هذا ما استدلّ به القاضي تبعاً لمشايخه. ثمّ أجاب عمّا ربّما يتمسّك به المجوّز من أنّه يمكن أن نرى القديم تعالى بحاسّة سادسة من دون الحاجة إلى المقابلة. وقال : إنّه لو جاز أن يرى القديم بحاسّة سادسة لجاز أن يذاق بحاسّة سابعة ، وأن يلمس بحاسّة ثامنة ، وأن يشمّ بحاسّة تاسعة ، ويسمع بحاسّة عاشرة. تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً (١).

أقول : كان على القاضي أن يعترض أيضاً بأنّ الرؤية بحاسّة سادسة مضافاً إلى أنّه رجم بالغيب ، خروج عن الموضوع.

وأمّا السمعيّة : فقد استدلّ القاضي بقوله تعالى : ( لاتُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِير ) ( الأنعام / ١٠٣ ).

قال : « وجه الدّلالة في الآية هو ما قد ثبت من أنّ الإدراك إذا قرن بالبصر ، لا يحتمل إلاّ الرؤية. وثبت أنّه تعالى نفى عن نفسه إدراك البصر ، ونجد في ذلك تمدّحاً راجعاً إلى ذاته. وما كان نفيه تمدّحاً راجعاً إلى ذاته كان إثباته نقصاً ، والنقائص غير جائزة على الله تعالى في حال من الأحوال.

ثمّ قال : فإن قيل : أليس يقولون : « أدركت ببصري حرارة الميل » فكيف يصحّ قولكم إنّ الادراك إذا قرن بالبصر لا يحتمل إلاّ الرؤية؟ اُجيب بأنّ هذا ليس من اللّغة في شيء ، وإنّما اخترعه ابن أبي بشر الأشعري ليصحّح مذهبه به ، إذ لم يرد في كلامهم لا المنظوم ولا المنثور ».

أقول : إنّ العرب في هذا المجال تقول : « أحسست ببصري حرارة الميل » على أنّ الباء إنّما تدخل على الآلة كقولهم : « مشيت برجلي وكتبت بقلمي » والبصر ليس بآلة في إدراك الحرارة ، بل يستوي فيه البصر والسّمع ، فلو اُطلق البصر فلا يراد منه إلاّ العضو الحاسّ لا العضو الّذي يرى به.

ثمّ إنّ القاضي أفاض الكلام في دلالة الآية وردّ ما اُثير حولها من الشبهات بوجه

__________________

١ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ٢٤٨ ـ ٢٥٣.

٣٣٧

ممتاز، فمن أراد فليرجع إليه (١).

ومن لطيف ما أفاده في المقام ، هو الاجابة عن احتجاج المثبتين بما رووه عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر » (٢). فأجاب عن الاستدلال بوجوه :

الأوّل : إنّ الأخذ بظاهر الخبر يستلزم أن نرى الله سبحانه مثلما نرى القمر ، فإنّا لا نرى القمر إلاّ مدوّراً عالياً منوّراً ، والله سبحانه أعلى من هذه الصفات.

يلاحظ عليه : أنّ وجه الشّبه هو الرؤية الحسيّة اليقينيّة. فكما أنّ الإنسان لا يشكّ ـ بعد ما رأى القمر ـ أنّه رآه ، فهكذا فيه سبحانه لاتمام الخصوصيات.

الثاني : أنّ هذا الخبر يروى عن قيس بن أبي حازم ، عن جرير بن عبدالله البجلي ، عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقيس هذا مطعون فيه من وجهين :

أحدهما : أنّه كان يرى رأى الخوارج. يروى أنّه قال : « منذ سمعت عليّاً على منبر الكوفة يقول : انفروا إلى بقيّة الأحزاب ـ يعني النّهروان ـ، دخل بغضه على قلبي » ومن دخل بغض أمير المؤمنين عليه‌السلام قلبه فأقلّ أحواله أن لا يعتمد على قوله ، ولا يحتجّ بخبره.

وثانيهما : قيل إنّه خولط في عقله آخر عمره ، والكتبة يكتبون عنه على عادتهم في حال عدم التّمييز، ولا ندري أنّ هذا الخبر رواه وهو صحيح العقل أو مختلطه.

الثالث : إن صحّ هذا الخبر فأكبر ما فيه أن يكون خبراً من أخبار الآحاد. وخبر الواحد ممّا لا يقتضي العلم. ومسألتنا طريقها القطع والثبات.

ثمّ إنّ هذا الخبر معارض بأخبار رويت. ثمّ ذكر بعض الأخبار (٣).

__________________

١ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ٢٤٨ ـ ٢٥٣.

٢ ـ صحيح البخاري ، كتاب المواقيت ، الباب ١٦، الحديث ٢٦ ج ١ ص ١١١، وباب الاذان وغيره.

٣ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ٢٦٩.

٣٣٨

الاجابة عن الشّبه الثلاث

إنّ للمثبتين ، شبهاً ثلاثاً أشبه ما تكون بشبهات الأحداث :

الأولى : إنّ القديم تعالى عندكم راء لذاته ، فيجب أن يرى نفسه فيما لم يزل. وكلّ من قال إنّه يرى نفسه ، قال إنّه يراه غيره.

يلاحظ عليه : أنّ الصغرى والكبرى ممنوعتان. فإن اُريد من رؤيته لذاته حضور ذاته لذاته وعدم غيبوبتها عنها ، فهو صحيح ولا صلة له بالرؤية الحسّيّة ، وإن اُريد الرؤية بالبصر فالصغرى ممنوعة. وأمّا الكبرى فزعم المستدلّ أنّ المسألة مسألة فقهيّة لا يصحّ التفكيك بينهما.

الثانية : إنّ مصحِّح الرؤية هو الوجود ، بدليل أنّ الشيء متى كان موجوداً كان مرئياً. ومتى لم يكن كذلك لم يكن مرئيّاً.

يلاحظ عليه : أنّ الوجود شرط الرؤية لا العلّة التامّة. ولأجل ذلك لا يرى الإنسان الارادات والكراهات ولا غير ذلك. فللرؤية شرائط قد حقِّقت في العلوم الطّبيعية.

الثالثة : إنّ إثبات الرؤية للّه تعالى لا تؤدّي إلى حدوثه ، ولا إلى حدوث معنى فيه ، ولا إلى تشبيهه بخلقه.

وأجاب القاضي أنّ إثبات الرؤية تؤدّي إلى تشبيهه بخلقه ، لأنّ الشّيء إنّما يرى إذا كان مقابلاً ، أو حالاً في المقابل ، وهذه من صفات الأجسام ، فيجب أن يكون تعالى جسماً ، وإذا كان جسماً يجب أن يكون محدثاً (١).

____________

١ ـ كان على القاضي وغيره البحث عن حدوث كلامه سبحانه أو قدمه في المقام ، لأنّ نفي قدمه من شئون توحيده ، ولكنه غفل عن ذلك.

٣٣٩

الأصل الثاني

العدل

هذا هو الأصل الثّاني من الاُصول الخمسة ، والأصل الأوّل يهدف إلى تنزيه ذاته سبحانه عمّا لا يجوز حمله عليه ، وتمييزه عمّا يجوز، وهذا يهدف إلى أفعاله سبحانه وتمييز ما يجوز عليه عمّا لا يجوز، فإذا وصفنا القديم تعالى بأنّه عدل حكيم ، فالمراد به أنّه لا يفعل القبيح أو لا يختاره ولا يخلّ بما هو واجب عليه وإنّ أفعاله كلّها حسنة. وخالفتهم المجبِّرة وأضافت إلى الله تعالى كلّ قبيح ، وقد تعرّفت على تعريف القاضي لهذا الأصل في مدخل البحث عن الاُصول الخمسة.

وخلاصة هذا الأصل عند العدليّة من غير فرق بين المعتزلة والإماميّة ، هو أنّ الله عزّوجلّ عدل كريم ، خلق الخلق لعبادته ، وأمرهم بطاعته ، ونهاهم عن معصيته ، وعمّهم بهدايته ، بدأهم بالنِّعم وتفضّل عليهم بالاحسان. لم يكلِّف أحداً إلاّ دون الطاقة ، ولم يأمره إلاّ بما جعل له عليه الاستطاعة. لا عبث في صنعه ولا قبيح في فعله. جلّ عن مشاركة عباده في الأفعال ، وتعالى عن اضطرارهم إلى الأعمال لا يعذِّب أحداً إلاّ على ذنب فعله ، ولا يلوم عبداً إلاّ على قبيح صنعه. لا يظلم مثقال ذرّة ، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً.

ثمّ إنّ لهذا الأصل دوراً كبيراً في تطوير المسائل الكلاميّة ، وهو الحجر الأساس لكثير من آراء المعتزلة كما نشير إليها. وهو يبتنى على التّحسين والتّقبيح العقليّين ، فلو ثبتا بالبرهان العقلي ، يثبت العدل كما ثبت كلّ ما بنى عليه من المسائل ، وإلاّ يصبح الأساس والبناء خاليين من البرهان. وترى ما ذكرنا في نصّ القاضي ، يقول :

٣٤٠