بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٩

تعالى لا يقدر على ظلم العقلاء ، ويقدر على ظلم الأطفال والمجانين ... الخ » (١).

٧ ـ أحمد بن أبي دؤاد ( ت ١٦٠ ـ م ٢٤٠ هـ ) خريج مدرسة بغداد

قال ابن النّديم : « هو من أفاضل المعتزلة وممّن جرّد في إظهار المذهب والذّب عن أهله والعناية به ، وهو من صنايع يحيى بن أكثم وبه اتّصل بالمأمون ، ومن جهة المأمون اتّصل بالمعتصم ولم ير في أبناء جنسه أكرم منه ولا أنبل ولا أسخى » (٢).

قال الذّهبي : « أحمد بن أبي دؤاد القاضي جهمي بغيض ، هلك سنة ٢٤٠. قلّ ما روى » (٣).

في « العبر » أنّه قال : « قاضي القضاة كان فصيحاً مفوّهاً شاعراً جواداً وكان مع ذلك رأساً من رؤوس الجهميّة والمعتزلة ، وهو الّذي شغب على إمام أهل السنّة أحمد بن حنبل وأفتى بقتله ، وقد غضب عليه وعلى آله المتوكّل العبّاسي سنة ٢٣٧ فصادرهم وأخذ منهم ستّة عشر ألف ألف درهم وحبسه ومرض بالفالج ومات سنة ٢٤٠ هـ »(٤).

بذل القاضي أحمد بن دؤاد أقصى جهده في نشر الاعتزال واستغلّ السلطة الّتي جعلت له في ذلك السبيل بالتّرغيب تارة وبالترهيب اُخرى. والحنابلة والأشاعرة يواجهونه بالسّبِّ والشتم ، لأنّه هو الّذي حاكم الإمام أحمد في قوله بقدم القرآن أو كونه غير مخلوق فأفحمه.

وقد استخرج مؤلّف كتاب « المعتزلة » صورة المحاكمة من « الفصول المختارة » المطبوعة بهامش « الكامل » للمبرّد وإليك بيانه :

ابن أبي دؤاد : أليس لا شيء إلاّ قديم أو حديث؟

ابن حنبل : نعم.

__________________

١ ـ الخطط المقريزيّة : ج ٢، ص ٢٤٦.

٢ ـ الفهرست لابن النديم : الفنّ الأوّل من المقالة الخامسة ، ص ٢١٢.

٣ ـ ميزان الاعتدال : ج ١، ص ٩٧، رقم الترجمة : ٣٧٤.

٤ ـ العبر في خبر من غبر : ج ١، ص ٣٣٩.

٢٨١

ابن أبي دؤاد : أو ليس القرآن شيئاً؟

ابن حنبل : نعم.

ابن أبي دؤاد : أو ليس لا قديم إلاّ الله؟

ابن حنبل : نعم.

ابن أبي دؤاد : القرآن إذاً حديث.

ابن حنبل : لست أنا بمتكلّم (١).

وهذه إحدى صور المحاكمة ولها صور اُخر طوينا الكلام عن ذكرها وتأتى عند البحث عن محنة أحمد وهذا يعرب عن براعة الرّجل في مقام قطع الطّريق على الخصم ، وهذا وأشباهه ممّا دفع الحنابلة والأشاعرة على التّحامل والازدراء بالرّجل ، وسيوافيك أنّ أكثر ما نقل في محنة الإمام من التشديد والتغليظ عليه ، ودوسه بالأقدام وسحبه ، يرجع إلى أبي الفرج ابن الجوزي الحنبلي المتعصّب لإمامه وليس له مصدر في التأريخ سواه.

وقد نقل البغدادي حول وفاته قصّة أشبه بالاسطورة (٢) وكم له في كتابه « الفرق بين الفرق » من نظائر.

٨ ـ أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ( م ٢٥٥ )

قال القاضي نقلاً عن « المصابيح » : « إنّه نسيج وحده في العلوم ، لأنّه جمع إلى علم الكلام والفصاحة ، العلم بالأخبار والأشعار والفقه وتأويل الكلام وهو متقدّم في الجدّ والهزل ، وله كتب في التوحيد وإثبات النبوّة ونظم القرآن وحدثه ، وفي فضائل المعتزلة » (٣).

أقول : كتابه الأخير هو كتاب « فضيلة المعتزلة » الّذي ردّ عليه ابن الراوندي في

____________

١ ـ المعتزلة : ص ١٧٥.

٢ ـ الفرق بين الفرق : ص ١٧٤ ـ ١٧٥.

٣ ـ فضل الاعتزال : ص ٢٧٥.

٢٨٢

كتاب خاصّ أسماه « فضيحة المعتزلة » ثمّ إنّ أبا الحسين الخيّاط ( م ٣١١ ) ألّف كتاب « الانتصار » وانتصر فيه للجاحظ وقد طبع الانتصار لأوّل مرّة في القاهرة عام ١٩٢٥.

ومن أحسن تصانيفه وأمتنها كتاب « الحيوان » في أربعة أجزاء ، و « البيان والتبيين » في جزأين ، و « البخلاء » ، و « مجموع الرسائل » ، وأردأها كتاب « العثمانيّة ». وقد كتبت عن الجاحظ دراسات كثيرة بأقلام المستشرقين والعرب ومن أراد فليرجع إلى :

كتاب : « الجاحظ معلّم العقل والأدب » لشفيق جبري.

وكتاب : « أدب الجاحظ » لحسن السندوبي.

وكتاب : « الجاحظ » لفؤاد أفرام البستاني ... و غيرها.

وإنّ أدب الرّجل واطّلاعه الوسيع شيء لا ينكر وتشهد عليه آثاره المطبوعة. ولكنّ الكلام في ورعه وتقاه ونفسيّته وروحيّته ، فلا يشكّ من سبر حياته في طيّات المعاجم والكتب أنّه لم يكن رجلاً مبدئيّاً أبداً ، بل كان متقرّباً لفراعنة عصره ، وكفى أنّه كان ملازماً لمحمّد بن عبدالملك المعروف بالوزير الزيّات. يقول ابن خلّكان : « كان محمّد المذكور شديد القسوة ، صعب العريكة ، لا يرقّ لأحد ولا يرحمه ، وكان يقول : الرحمة خور في الطّبيعة. ووقع يوماً على رقعة رجل توسّل إليه بقرب الجوار منه ، فقال : الجوار للحيطان والتعطّف للنسوان.

فلمّا أراد المتوكّل قتله أحضره وأحضر تنّورَ خشب فيه مسامير من حديد ، أطرافها إلى داخل التنور تمنع من يكون فيه من الحركة ، كان محمّد اتّخذه ليعذّب فيه من يطالبه ـ وهو أوّل من عمل ذلك وعذّب فيه ابن أسباط المصري ـ وقال : أجرينا فيك حكمك في الناس.

فأجلس فيه. فمات بعد ثلاث وذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين ، وقيل : إنّه كتب في التنّور بفحمة :

من له عهد بنوم

يرشد الصبَّ إليه

رحم الله رحيماً

دلّ عينيَّ عليه

٢٨٣

ودفن ولم يعمق قبره فنبشته الكلاب وأكلته » (١).

هذا حال صديق الرّجل وزميله ، فاعرف حاله من حاله. فإنّ الرجل على دين جليسه.

تلوّن الرجل في حياته

تدلّ آثاره على أنّ الرجل كان متلوّناً في حياته غير جانح إلى فئة ، بل كان كالريشة في مهبّ الريح يميل مع كلّ ريح ، فتارة يكون عثماني الهوى ويؤلّف كتاباً في ذلك ويدعمه بكتاب آخر في إمامة المروانيّة وخلافة الشجرة الملعونة في القرآن ، واُخرى علويّاً يجمع الكلم القصار لعليّ عليه‌السلام يفضّل عليّاً على غيره. قال ابن قتيبة في شأنه : « تجده يحتجّ مرّة للعثمانيّة على الرافضة ، ومرّة للزيديّة على العثمانيّة وأهل السنّة ، ومرّة يفضّل عليّاً رضي‌الله‌عنه ومرّة يؤخّره ... إلى أن قال : ويعمل كتاباً يذكر فيه حجج النّصارى على المسلمين ، فإذا صار إلى الردّ عليهم تجوّز في الحجّة كأنّه انما أراد تنبيههم على ما لا يعرفون وتشكيك الضعفة من المسلمين. وتجده يقصد في كتبه المضاحيك والعبث ، يريد بذلك استمالة الأحداث وشرّاب النّبيذ.

ويستهزئ من الحديث استهزاءً لا يخفى على أهل العلم كذكره كبد الحوت وقرن الشيطان وذكر الحجر الأسود وأنّه كان أبيض فسوّده المشركون ، وقدكان يجب أن يبيّضه المسلمون حين أسلموا ويذكر الصّحيفة الّتي كان فيها المنزل في الرضاع تحت سرير عائشة فأكلتها الشاة.

وهو مع هذا من أكذب الاُمّة وأوضعهم للحديث وأنصرهم للباطل » (٢).

وقال المسعودي في « مروج الذّهب » عند ذكر الدّولة العبّاسية : « وقد صنّف الجاحظ كتاباً استقصى فيه الحجاج عند نفسه ، وأيّده بالبراهين وعضده بالأدلّة فيما تصوّره من عقله وترجمه بكتاب « العثمانيّة » يحلّ فيه عند نفسه فضائل عليّ عليه‌السلام

__________________

١ ـ وفيات الأعيان ج ٥ ص ١٠٢، ط دار صادر.

٢ ـ تأويل مختلف الحديث : ص ٥٩ ـ ٦٠.

٢٨٤

ومناقبه ، ويحتجّ فيه لغيره طلباً لاماتة الحقّ ومضادّة لأهله والله متمّ نوره ولو كره الكافرون.

ثمّ لم يرض بهذا الكتاب المترجم بكتاب « العثمانيّة » حتّى أعقبه بتصنيف كتاب آخر في إمامة المروانيّة وأقوال شيعتهم ، ورأيته مترجماً بكتاب إمامة أمير المؤمنين معاوية في الانتصار له من عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه وشيعته الرافضة ، يذكر فيه رجال المروانيّة ويؤيّد فيه إمامة بني اُميّة وغيرهم.

ثمّ صنّف كتاباً آخر ترجمه بكتاب « مسائل العثمانيّة » يذكر فيه ما فاته ذكره ونقضه عند نفسه من فضائل أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ومناقبه فيما ذكرنا. وقد نقضت عليه ما ذكرنا من كتبه لكتاب العثمانيّة وغيره.

وقد نقضها جماعة من متكلّمي الشيعة كأبي عيسى الورّاق والحسن بن موسى النّخعي (١) وغيرهما من الشيعة ممّن ذكر ذلك في كتبه في الإمامة مجتمعة ومتفرّقة » (٢).

ومن أراد أن يقف على ضعف الرجل في مجال العفاف والورع فعليه أن يرجع إلى ما نقله عنه ابن خلّكان في « وفيات الأعيان » (٣).

٩ ـ أبو الحسين عبدالرّحيم بن محمّد المعروف بالخيّاط ( م ـ ٣١١ ) خريج مدرسة بغداد

ترجمه القاضي في « فضل الاعتزال » وقال : « كان عالماً فاضلاً من أصحاب جعفر (٤) وله كتب كثيرة في النقوض على ابن الراوندي وغيره. وهو اُستاذ أبي القاسم البلخي رحمه‌الله وذكر أنّه لمّا أراد العود إلى خراسان من عنده أراد أن يجعل طريقه

__________________

١ ـ كذا في النسخة والصحيح : النوبختي.

٢ ـ مروج الذهب : ج ٣، ص ٢٣٧ ـ ٢٣٨ طبع دار الأندلس.

٣ ـ وفيات الأعيان : ج ٣ ص ٤٧١ ـ ٤٧٣.

٤ ـ يريد : جعفر بن مبشر بن أحمد بن محمد أبو محمد الثقفي المتكلم ( المتوفى سنة ٢٣٤ ) من معتزلة بغداد له ترجمة في تاريخ بغداد : ج ٧، ص ١٦٢، ولسان الميزان : ج ٢، ص ١٢١.

٢٨٥

على أبي عليّ ( الجبّائي ) فسأله أبو الحسين بحقّ الصحبة أن لا يفعل ذلك ، لأنّه خاف أن ينسب إلى أبي عليّ وهو من أحفظ الناس باختلاف المعتزلة في الكلام وأعرفهم بأقاويلهم.

وقدكان الشيخ أبو القاسم يكاتبه بعد العود من عنده حالاً بعد حال فيعرف من جهته ما خفى عليه » (١).

ومن أشهر كتبه : « الانتصار » ردّ فيه على كتاب « فضيحة المعتزلة » لابن الراوندي وطبع بالقاهرة ـ ١٩٢٥ م.

وسأل أبو العبّاس الحلبي أبا الحسين الخيّاط فقال : « أخبرني عن إبليس هل أراد أن يكفر فرعون؟ قال : نعم ، قال الحلبي : فقد غلب إبليس إرادة الله؟ قال أبو الحسين : هذا لا يجب فإنّ الله تعالى قال : ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويَأْمُرُكُمْ بِالفْحْشَاءِ واللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وفَضْلاً ) وهذا لا يوجب أن يكون أمر إبليس غلب أمر الله ، فكذلك الإرادة وذلك لأنّ الله تعالى لو أراد أن يؤمن فرعون كرهاً لآمن (٢).

وبعبارة واضحة ، إنّ إرادة كلّ منهما ( الله سبحانه وإبليس المطرود ) ليست إرادة تكوينيّة قاهرة سالبة للاختيار ، بل إرادة أشبه بإرادة تشريعيّة يتراءى أنّها تعلّقت بفعل الغير ، وهو مختار في فعله وعمله وتطبيقه على كلّ من الطّلبين ، فليس في موافقته أو مخالفته أيّ غلبة من المريدين على الآخر. نعم لو كانت إرادة كلّ منهما إرادة تكوينيّة تعلّقت واحدة بإيمان فرعون والاُخرى بكفره فكفر ولم يؤمن لزمت غلبة إرادة إبليس على إرادة الله تعالى.

وسئل عن أفضل الصّحابة فقال : أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام لأنّ الخصال الّتي فضّل الناس بها متفرّقة في الناس وهي مجتمعة فيه ، وعدّ الفضائل فقيل فما منع الناس من العقد له بالإمامة؟ فقال : هذا باب لا علم لي به إلاّ بما فعل

__________________

١ ـ فضل الاعتزال : ص ٢٩.

٢ ـ المنية والأمل : ص ٤٩.

٢٨٦

الناس وتسليمه الأمر على ما أمضاه عليه الصّحابة ، لأنّي لمّا وجدت الناس قد عملوا ولم أره أنكر ذلك ولا خالف ، علمت صحّة ما فعلوا » (١).

يلاحظ عليه : إذا أثبت كونه أفضل الصحابة ، فتقدّم المفضول على الفاضل قبيح عقلاً ، وبه ردّ سبحانه اعتراض بني إسرائيل على جعل طالوت ملكاً. قال سبحانه : ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ ولَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ والجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ واللّهُ وَاسِعٌ عَليمٌ ) ( البقرة / ٢٤٧ ).

وأمّا تسليم الإمام لعمل الصّحابة فهو غير صحيح ، فقد اعترض على عملهم مرّة بعد مرّة ويكفي في ذلك خطبه وقصار حكمه وما نقله عنه المؤرّخون (٢).

هذا وأشباهه قابل للاغماض ، وإنّما الكلام فيما نسب إلى الشيعة من النسب المفتعلة والأكاذيب الشائنة وإليك نماذج من قذائفه وطامّاته في كتاب « الانتصار » :

١ ـ الرافضة تعتقد أنّ ربّها ذو هيئة وصورة يتحرّك ويسكن ويزول وينتقل ، وأنّه كان غير عالم فعلم ... إلى أن قال : هذا توحيد الرافضة بأسرها إلاّ نفراً منهم يسيراً صحبوا المعتزلة واعتقدوا التوحيد ، فنفتهم الرافضة عنهم وتبرّأت منهم. فأمّا جملتهم ومشايخهم مثل هشام بن سالم ، وشيطان الطاق ، وعليّ بن ميثم ، وهشام بن الحكم بن منصور ، والسكاك فقولهم ما حكيت عنهم.

٢ ـ فهل على وجه الأرض رافضي إلاّ وهو يقول : إنّ لله صورة ، ويروى في ذلك الروايات ويحتجّ فيه بالأحاديث عن أئمّتهم ، إلاّ من صحب المعتزلة منهم قديماً ، فقال بالتوحيد فنفته الرافضة عنها ولم تقربه.

٣ ـ يرون الرافضة أن يطأ المرأة الواحدة في اليوم الواحد مائة رجل من غير

__________________

١ ـ المنية والأمل : تصحيح توما أرنلد ، ص ٤٩ و٥٠.

٢ ـ لاحظ : الامامة والسياسة ، ص ١١ لابن قتبية وغيرها.

٢٨٧

استبراء ولا قضاء عدّة وهذا خلاف ما عليه اُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

نحن لا نعلّق على تلك الأساطير شيئاً وإنّما نمرّ عليها كراماً.

١٠ ـ أبو القاسم البلخي الكعبي ( ت ٢٧٣ ـ م ٣١٧ أو ٣١٩ ) خريج مدرسة بغداد

عبدالله بن أحمد بن محمود أبو القاسم البلخي. قال الخطيب : من متكلّمي المعتزلة البغداديين ، صنّف في الكلام كتباً كثيرة وأقام ببغداد مدّة طويلة وانتشرت بها كتبه ، ثمّ عاد إلى بلخ فأقام بها إلى حين وفاته. أخبرني القاضي أبو عبدالله الصيمري ، ( حدّثنا ) أبو عبدالله محمّد بن عمران المرزباني ، قال : كانت بيننا وبين أبي القاسم البلخي صداقة قديمة وكيدة وكان إذا ورد مدينة السلام قصد أبي وكثر عنده ، وإذا رجع إلى بلده لم تنقطع كتبه عنّا ، وتوفّي أبو القاسم ببلخ في أوّل شعبان سنة تسع عشرة وثلاثمائة » (٢).

وقال ابن خلّكان : « العالم المشهور كان رأس طائفة من المعتزلة يقال لهم « الكعبيّة » وهو صاحب مقالات ، ومن مقالته : أنّ الله سبحانه وتعالى ليست له إرادة ، وأنّ جميع أفعاله واقعة منه بغير إرادة ولا مشيئة منه لها ، وكان من كبار المتكلّمين ، وله اختيارات في علم الكلام ، توفّي مستهلّ شعبان سنة سبع عشرة وثلاثمائة. والكعبي نسبة إلى بني كعب ، والبلخي نسبة إلى بلخ إحدى مدن خراسان » (٣).

وقد خفي على الخطيب وابن خلّكان ما يهدف إليه الكعبي من نفي الإرادة والمشيئة عنه سبحانه ، وقد اختار من أنظاره تلك النظريّة للازدراء عليه ، ولكنّهما غفلا عن أنّ الكعبي لا يهدف إلى نفي الإرادة عن الله سبحانه حتّى يعرّفه كالفواعل

__________________

١ ـ لاحظ : الانتصار ص ٨، ١٤٤، ٨٩.

٢ ـ تاريخ بغداد : ج ٩، ص ٣٨٤.

٣ ـ وفيات الاعيان : ج ٣، ص ٤٥ رقم الترجمة ٣٣٠.

٢٨٨

الطبيعية ، بل له هناك هدف سام لا يقف عليه إلاّ العارف بالاُصول الكلاميّة ، وهو أنّ الارادة أو المشيئة حسب طبعها من الأمور الحديثة الجديدة المسبوقة بالعدم فلا تتصوّر مثل هذه الإرادة لله ، أي الارادة الحادثة القائمة بذاته.

وبعبارة واضحة : إنّ حقيقة الارادة تلازم التجدّد والحدوث والتجزي والتقضي ، ومثل ذلك لا يليق بساحته سبحانه. فلأجل ذلك يرى الكعبي تنزيهه سبحانه عن وصمة الحدوث والتجدّد. ومع ذلك لا يسلب عنه ما يعدّ كمالاً للإرادة ، فإنّ الإرادة من الصفات العالية الكماليّة بما أنّها رمز للاختيار ، وآية الحرّيّة ، وهذا غير منفيّ عن الله سبحانه عند البلخي. ويدلّ على ذلك ما نقله ابن شاكر الكتبي في « عيون التواريخ » ما هذا لفظه ، قال : « كان الكعبي تلميذ أبي الحسين الخيّاط وقد وافقه في اعتقاداته جميعاً ، وانفرد عنه بمسائل. منها قوله : إنّ إرادة الرّبّ تعالى ليست قائمة بذاته ، ولا هو يريد إرادته و ( لا ) إرادته حادثة في محل ، بل إذا أطلق عليه : إنّه يريد ، فمعناه أنّه عالم قادر غير مكره في فعله ولا كاره. وإذا قيل : إنّه مريد لأفعاله ، فالمراد أنّه خالق لها على وفق علمه ، وإذا قيل إنّه مريد لأفعال عباده ، فالمراد أنّه راض بما أمر به » (١).

مؤلفّاته

قال ابن حجر في « لسان الميزان » : « عبدالله بن أحمد بن محمود البلخي أبو القاسم الكعبي من كبار المعتزلة وله تصانيف في الطّعن على المحدِّثين تدلّ على كثرة اطّلاعه وتعصّبه » (٢).

غير أنّ أكثر هذه الكتب قد بطش بها الزمان وأضاعها كما أضاع أكثر كتب المعتزلة وقد استقصى فؤاد سيّد في مقدّمته على كتاب « ذكر المعتزلة » لأبي القاسم

__________________

١ ـ باب ذكر المعتزلة من مقالات الاسلاميين ، لأبي القاسم البلخي ، المقدمة ص ٤٤، نقلاً عن عيون التواريخ ج ٧، ص ١٠٦ مخطوطة دار الكتب.

٢ ـ لسان الميزان : ج ٣ ص ٢٥٢.

٢٨٩

البلخي أسماء كتبه وأنهاها إلى ستّة وأربعين كتاباً.

وقال النّجاشي في ترجمة محمّد بن عبدالرحمان بن قبة : « وأخذ عنه ابن بطّة وذكره في فهرسه وقال : وسمعت من محمّد بن عبدالرحمان بن قبة ، له كتاب الانصاف في الإمامة وكتاب المستثبت نقض كتاب أبي القاسم البلخي » ثمّ قال : « سمعت أبا الحسين المهلوس العلوي الموسوي رضي‌الله‌عنه يقول في مجلس الرّضي أبي الحسن محمّد بن الحسين بن موسى وهناك شيخنا أبو عبدالله محمّد بن محمّد بن النعمان ـ رحمهم الله أجمعين ـ : سمعت أبا الحسين السوسنجردي رحمه‌الله وكان من عيون أصحابنا وصالحيهم المتكلّمين وله كتاب في الإمامة معروف به وكان قد حجّ على قدميه خمسين حجّة ـ يقول : مضيت إلى أبي القاسم البلخي إلى بلخ بعد زيارتي الرضا عليه‌السلام بطوس فسلّمت عليه وكان عارفاً ، ومعي كتاب أبي جعفر ابن قبة في الإمامة المعروف بالانصاف ، فوقف عليه ونقضه بـ « المسترشد في الإمامة » فعدت إلى الري ، فدفعت الكتاب إلى ابن قبة فنقضه بـ « المستثبت في الإمامة » فحملته إلى أبي القاسم فنقضه بـ « نقض المستثبت » فعدت إلى الري فوجدت أبا جعفر قدمات رحمه‌الله » (١).

مناظرته مع رجل سوفسطائي

حكى في كتابه « مقالات أبي القاسم » أنّه وصل إليه رجل من السوفسطائية راكباً على بغل ، فدخل عليه فجعل ينكر الضّروريات ويلحقها بالخيالات ، فلمّا لم يتمكّن من حجّة يقطعه قام من المجلس موهماً أنّه قام في بعض حوائجه ، فأخذ البغل وذهب به إلى مكان آخر ثمّ رجع لتمام الحديث ، فلمّا نهض السوفسطائي للذهاب ولم يكن قد انقطع بحجّة عنده طلب البغل حيث تركه فلم يجده ، فرجع إلى أبي القاسم وقال : إنّي لم أجد البغل ، فقال أبوالقاسم : لعلّك تركته في غير هذا الموضع الّذي طلبته فيه ، وخيِّل لك أنّك وضعته في غيره ، بل لعلّك لم تأت راكباً على بغل وإنّما خيِّل اليك تخييلاً وجاءه

__________________

١ ـ فهرس النجاشي : الرقم ١٠٢٣.

٢٩٠

بأنواع من هذا الكلام ، فأظن أنّه ذكر أنّ ذلك كان سبباً في رجوع السوفسطائي عن مذهبه وتوبته عنه (١).

تلك عشرة كاملة من أعلام المعتزلة وفطاحلهم. ولعلّ هذا المقدار في ترجمة أئمّتهم ومشايخهم يوقفنا على موقفهم في الفضل والفضيلة وهذا البحث الضافي يوقفك على أنّ تدمير تلك الطائفة ـ مع ما فيها ، ما فيها ـ كانت خسارة لا تجبر.

__________________

١ ـ المنية والامل : ص ٥١.

٢٩١

الفصل السادس

في طبقات المعتزلة ومدارسهم

المعتزلة تنقسم تارة بحسب الطّبقات واُخرى بحسب المدارس. أمّا الأوّل ، فقد قسمها القاضي عبدالجبّار ( م ٤١٥ ) إلى طبقات عشر. ثمّ جاء بعده الحاكم (١) فأضاف عليها طبقتين فصارت اثنتي عشرة طبقة.

وقد أدرجها ابن المرتضى في كتابه « المنية والأمل » الّذي طبع منه هذا القسم فقط. ولأجل رفع الاشتباه في الاسم نعبّر عن كتاب القاضي بالطّبقات ، وعن هذا القسم باسم كلِّ الكتاب : المنية والأمل.

إنّ ملاك التقسيم في ترتيب الطّبقات هو التسلسل الزّمني والترتيب التأريخي. فالأساتذة في طبقة والتلامذة في طبقة بعدها. ومن أراد الوقوف على أسمائهم وحياتهم فعليه المراجعة إلى المصادر السابقة باضافة « ذكر المعتزلة » للكعبي. وبما أنّ الاكتفاء بذكر الأسماء وحده لا يفيد شيئاً والتّفصيل خارج عن موضوع البحث ، فنحيل القارئ إلى الكتب المذكورة ونكتفي بذكر مدارس الاعتزال وبعض الفروق الموجودة بينها.

____________

١ ـ المراد منه المتكلم المعتزلي الزيدي أبو سعد المحسن بن محمد كرامة الجشمي البيهقي صاحب المؤلفات توفي مقتولاً بمكة في شهر رجب سنة ٤٦٥، أو ٤٤٥. وتوهمت المستشرقة سوسنه « ديفلد ملزر » أنّ المراد منه هو المحدث المشهور محمد بن عبداللّه الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك المتوفى عام ٤٠٥ وهو وهم.

٢٩٢

مدارس الاعتزال

إنّ مدارس الاعتزال لا تتجاوز مدرستين : مدرسة البصرة ، ومدرسة بغداد. والاُولى منهما مهد الاعتزال ومغرسه ، وفيها برز واصل بن عطاء ، وعمرو بن عبيد ، وأبو الهذيل العلاّف والنظّام.

غير أنّه تأسّست في أواخر القرن الثاني مدرسة اُخرى في عاصمة الخلافة العبّاسيّة « بغداد » بمهاجرة أحد خرّيجي مدرسة البصرة إليها وهو بشر بن المعتمر ( م ٢١٠ ). فظهر هناك رجال مفكّرون على منهج الاعتزال ، وأثار التعدّد والبعد المكاني خلافات بين خرّيجي المدرستين في كثير من المسائل الفرعيّة بعد الاتفاق على المسائل الرئيسيّة.

ولكلّ من المدرستين مميّزات ومشخّصات يقف عليها من تدبّر في أفكار أصحابها وآرائهم. ولبعض المعتزلة رسائل مخصوصة في هذا المضمار.

غير أنّ الناظر فيما ينقل ابن أبي الحديد المعتزلي من مشايخه البغداديّين أنّهم يوافقون الشيعة أكثر من معتزلة البصرة. وقد ألّف الشيخ المفيد ( م ٤١٣ ) رسالة باسم « المقنعة » في وفاق البغداديين من المعتزلة لما روى عن الأئمّة عليهم‌السلام (١).

وللتعرّف على بعض مشايخ المدرستين نأتي بهذا الجدول :

مشايخ مدرسة البصرة

١ ـ واصل بن عطاء ( م ١٣١ ).

٢ ـ عمرو بن عبيد ( م ١٤٣ ).

٣ ـ أبو الهذيل العلاّف ( م ٢٣٥ ).

__________________

١ ـ أوائل المقالات : ص ٢٥. وهذا الكتاب غير كتابه الآخر بهذا الاسم في الفقه.

٢٩٣

٤ ـ إبراهيم بن سيّار النظّام ( م ٢٣١ ).

٥ ـ عليّ الأسوار ( المتوفّى حوالى المائتين ).

٦ ـ معمر بن عباد السلمي ( م ٢٢٠ ).

٧ ـ عبّاد بن سليمان ( م ٢٢٠ ).

٨ ـ هشام الفوطي ( م ٢٤٦ ).

٩ ـ عمرو بن بحر الجاحظ ( م ٢٥٥ ).

١٠ ـ أبو يعقوب الشحّام ( م ٢٣٠ ).

١١ ـ أبو عليّ الجبّائي ( م ٣٠٣ ).

١٢ ـ أبو هاشم الجبّائي ( م ٣٢١ ).

١٣ ـ أبو عبدالله الحسين بن عليّ البصري ( م ٣٦٧ ).

١٤ ـ أبو إسحاق بن عياش ( شيخ القاضي ).

١٥ ـ القاضي عبد الجبّار ( م ٤١٥ ).

مشايخ مدرسة بغداد

١ ـ بشر بن المعتمر ( م ٢١٠ ) ، مؤسّس المدرسة.

٢ ـ ثمامة بن الأشرس ( م ٢٣٤ ).

٣ ـ جعفر بن المبشر ( م ٢٣٤ ).

٤ ـ جعفر بن حرب ( م ٢٣٦ ).

٥ ـ أحمد بن أبي دؤاد ( م ٢٤٠ ).

٦ ـ محمّد الاسكافي ( م ٢٤٠ ).

٧ ـ أبو الحسين الخيّاط ( م ٣١١ ).

٢٩٤

٨ ـ أبوالقاسم البلخي الكعبي ( م ٣١٧ ).

من أراد أن يقف على بعض آرائهم الّتي يخالفون فيها مشايخهم البصريّين فعليه بمطالعة شرح النهج لابن أبي الحديد ، فإنّه يعرض آراءهم في شرحه في مجالات مختلفة.

٢٩٥

الفصل السابع

في الاُصول الخمسة عند المعتزلة

اشتهرت المعتزلة باُصولها الخمسة ، فمن دان بها فهو معتزلي ومن نقص منها أو زاد عليها فليس منهم. وتلك الاُصول المرتّبة حسب أهمّيتها ، عبارة عن : التوحيد ، والعدل ، والوعد والوعيد ، والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فمن دان بها ثمّ خالف بقيّة المعتزلة في تفاصيلها أو في فروع اُخر لم يخرج بذلك عنهم.

قال الخيّاط : « فليس يستحقّ أحد منهم الاعتزال حتى يجمع القول بالاُصول الخمسة : التوحيد ، والعدل ، والوعد والوعيد ، والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإذا اكملت في الإنسان هذه الخصال الخمس فهو معتزلي » (١).

قال المسعودي ( م ٣٤٥ ) بعد سرد الاُصول الخمسة حسب ما سمعت منّا : « فهذا ما اجتمعت عليه المعتزلة ومن اعتقد ما ذكرناه من الاُصول الخمسة ، كان معتزليّاً ، فان اعتقد الأكثر أو الأقلّ لم يستحقّ اسم الاعتزال ، فلا يستحقّه إلا باعتقاد هذه الاُصول الخمسة. وقد تنوزع فيما عدا ذلك من فروعهم » (٢).

والعجب من ابن حزم ( م ٤٥٦ ) حيث زعم أنّ الاُصول الخمسة عبارة عن القول بخلق القرآن ، ونفي الرؤية ، والتشبيه ونفي القدر ، والقول بالمنزلة بين المنزلتين ، ونفي

__________________

١ ـ الانتصار للخيّاط : ص ١٢٦.

٢ ـ مروج الذهب : ج ٣، ص ٢٢٢.

٢٩٦

الصفات (١).

فقد ذكر من الاُصول ثلاثة ، حيث إنّ نفي القدر وخلق القرآن إيعاز إلى العدل (٢) كما أنّ نفي الصفات والرؤية إشارة إلى التوحيد أي تنزيهه سبحانه عمّا لا يليق ، وأهمل اثنتين منها أعني الوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإذا كان هذا مبلغ علم الرجل بأصول الاعتزال الّذي هو أقرب إليه من الشيعة ، فما ظنّك بعلمه بطوائف أخرى كمعتقدات الشّيعة الّذين يعيشون في بيئة بعيدة منه ، ولأجل ذلك رماهم بنسب مفتعلة.

إيعاز إلى الاُصول الخمسة

وقبل كلّ شيء نطرح هذه الاُصول على وجه الاجمال حتّى يعلم ماذا يريد منها المعتزلة ، ثمّ نأخذ بشرحها واحداً بعد واحد فنقول :

١ ـ التوحيد : ويراد منه العلم بأنّ الله واحد لا يشاركه غيره فيما يستحقُّ من الصفات نفياً وإثباتا على الحدّ الّذي يستحقّه. وسيوافيك تفصيله فيما بعد ، والتوحيد عندهم رمز لتنزيهه سبحانه عن شوائب الامكان ووهم المثليّة وغيرهما ممّا يجب تنزيه ساحته عنه كالتجسيم والتشبيه وإمكان الرؤية وطروء الحوادث عليه ، غير أنّ المهمّ في هذا الأصل هو الوقوف على كيفيّة جريان صفاته عليه سبحانه ونفي الروية ، وغيرهما يقع في الدّرجة الثانية من الأهمية في هذا الأصل ، لأنّ كثيراً منها لم يختلف المسلمون فيه إلاّ القليل منهم.

٢ ـ العدل : إذا قيل إنّه تعالى عادل ، فالمراد أنّ أفعاله كلّها حسنة ، وأنّه لا يفعل القبيح ، وأنّه لا يخلّ بما هو واجب عليه. وعلى ضوء هذا لا يكذب في خبره ، ولا يجور في حكمه ولا يعذِّب أطفال المشركين بذنوب آبائهم ، ولا يُظهر المعجزة على أيدي

__________________

١ ـ الفصل : ج ٢، ص ١١٣.

٢ ـ سيأتي في الأصل الثاني أنّ القاضي أدخل البحث عن خلق القرآن تحت ذلك. وإن كان غير صحيح.

٢٩٧

الكذّابين ، ولا يكلِّف العباد ما لا يطيقون ، وما لا يعلمون ، بل يقدرهم على ما كلّفهم ، ويعلِّمهم صفة ما كلّفهم ، ويدلّهم على ذلك ويبيّن لهم ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة ) (١) وأنّه إذا كلّف المكلّف وأتى بما كلّف على الوجه الّذي كلف فإنّه يثيبه لا محالة ، وأنّه سبحانه إذا آلم وأسقم فإنّما فعله لصلاحه ومنافعه وإلاّ كان مخلاّ ً بواجب ...

٣ ـ الوعد والوعيد : والمراد منه أنّ الله وعد المطيعين بالثواب ، وتوعّد العصاة بالعقاب ، وأنّه يفعل ما وعد به وتوعّد عليه لا محالة. ولا يجوز الخلف لأنّه يستلزم الكذب. فإذا أخبر عن الفعل ثمّ تركه يكون كذباً ، ولو أخبر عن العزم ، فبما أنّه محال عليه كان معناه الإخبار عن نفس الفعل ، فيكون الخلف كذباً ، وعلى ضوء هذا الأصل حكموا بتخليد مرتكب الكبائر في النار إذا مات بلا توبة.

٤ ـ المنزلة بين المنزلتين : وتلقّب بمسألة الأسماء والأحكام ، وهي أنّ صاحب الكبيرة ليس بكافر كما عليه الخوارج ، ولا منافق كما عليه الحسن البصري ، ولا مؤمن كما عليه بعضهم ، بل فاسق لا يحكم عليه بالكفر ولا بالإيمان.

٥ ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : والمعروف كلّ فعل عرف فاعله حسنه أو دلّ عليه ، والمنكر كلّ فعل عرف فاعله قبحه أو دلّ عليه ، ولا خلاف بين المسلمين في وجوبهما ، إنّما الخلاف في أنّه هل يعلم عقلاً أو لا يعلم إلاّ سمعاً؟ ذهب أبو عليّ ( م ٣٠٣ ) إلى أنّه يعلم عقلاً وسمعاً ، وأبو هاشم ( م ٣٢١ ) إلى أنّه يعلم سمعاً ، ولوجوبه شروط تذكر في محلّها ، ومنها أن لا يؤدّي إلى مضرّة في ماله أو نفسه إلاّ أن يكون في تحمّله لتلك المذلّة إعزاز للدّين.

قال القاضي : « وعلى هذا يحمل ما كان من الحسين بن عليّ عليهما‌السلام لما كان في صبره على ما صبر إعزاز لدين الله عزّوجلّ ولهذا نباهي به سائر الاُمم فنقول : لم يبق من ولد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ سبط واحد ، فلم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى

__________________

١ ـ الأنفال / ٤٢.

٢٩٨

قتل دون ذلك » (١).

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضربين :

أحدهما : إقامة ما لا يقوم به إلاّ الأئمّة كإقامة الحدود وحفظ بيضة الإسلام وسدّ الثغور وإنفاذ الجيوش ونصب القضاة والاُمراء وما أشبه ذلك.

والثاني : ما يقوم به كافة الناس ، وفي المسلمين ـ كالإماميّة ـ من يقول بأنّ بعض المراتب منه كالجهاد الابتدائي مع الكفّار مشروط بوجود إمام معصوم مفترض الطاعة.

وهذا إلماع إلى معرفة الاُصول الخمسة الّتي يدور عليها فلك الاعتزال وقد أخذناها من شرح الاُصول الخمسة وقد أتى بها في الفصل الّذي عقده لبيان اُصول المعتزلة على وجه الاختصار. ثمّ أخذ بالتفصيل في ضمن فصول.

والمعتزلة قد اتّفقوا على هذه الاُصول وإن اختلفوا في تفاصيلها. نعم ، إنّ هناك اختلافات فيها بين أصحاب المدرستين : أصحاب مدرسة البصرة وعلى رأسهم واصل ابن عطاء ، وعمرو بن عبيد ، والنظّام والجبائيان والقاضي ، وأصحاب مدرسة بغداد وفي مقدّمهم بشر بن المعتمر ، وأبو الحسين الخيّاط ، وأبو القاسم البلخي ، وقد عرفت في الفصول السابقة ترجمة حياتهم.

هذه الاُصول الخمسة الّتي بها يناط دخول الرجل في سلك المعتزلة.

وقد ذكر الشهرستاني الاُصول الّتي اتّفقت المعتزلة عليها ، من دون أن يفرّق بين ما يدخل في الاُصول الخمسة وما هو خارج عنها ، وإليك نصّه :

« القول بأنّ الله تعالى قديم ، والقدم أخصّ وصف ذاته ، ونفوا الصفات القديمة أصلاً فقالوا : هو عالم بذاته ، قادر بذاته ، حيّ بذاته ، لا بعلم وقدرة وحياة. هي صفات قديمة ، ومعان قائمة به ، لأنّه لو شاركته الصفات في القدم الّذي هو أخصّ الوصف ،

__________________

١ ـ الاُصول الخمسة ص ١٤٢.

٢٩٩

لشاركته في الإلهيّة.

واتّفقوا على أنّ كلامه محدث مخلوق في محل ، وهو حرف وصوت كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه. فإنّ ما وجد في المحلّ عرض قد فني في الحال. واتّفقوا على أنّ الإرادة والسمع والبصر ليست معاني قائمة بذاته ، لكن اختلفوا في وجوه وجودها ، ومحامل معانيها كما سيأتي.

واتّفقوا على نفي روية الله تعالى بالأبصار في دار القرار ، ونفي التشبيه عنه من كلّ وجه : جهة ، ومكاناً ، وصورة وجسماً ، وتحيّزاً ، وانتقالاً ، وزوالاً وتغيّراً وتأثّراً. وأوجبوا تأويل الآيات المتشابهة فيها ، وسمّوا هذا النّمط توحيداً.

واتّفقوا على أنّ العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرّها مستحقّ على ما يفعله ثواباً وعقاباً في الدار الآخرة. والربّ تعالى منزّه أن يضاف إليه شرّ وظلم ، وفعل هو كفر ومعصية ، لأنّه لو خلق الظّلم كان ظالماً ، كما لو خلق العدل كان عادلاً.

واتّفقوا على أنّ الله تعالى لا يفعل إلاّ الصّلاح والخير ، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد ، وأمّا الأصلح واللّطف ففي وجوبه عندهم خلاف. وسمّوا هذا النّمط عدلاً.

واتّفقوا على أنّ المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة ، استحقّ الثّواب والعوض. والتّفضل معنى آخر وراء الثّواب وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها ، استحقّ الخلود في النار ، لكن يكون عقابه أخفّ من عقاب الكفّار وسمّوا هذا النمط وعداً ووعيداً.

واتّفقوا على أنّ اُصول المعرفة ، وشكر النعمة واجبة قبل ورود السّمع ، والحسن والقبح يجب معرفتهما بالعقل ، واعتناق الحسن واجتناب القبيح واجب كذلك وورود التّكاليف ألطاف للبارىء تعالى أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء عليهم‌السلام امتحاناً واختباراً ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة ) ( الانفال / ٤٢ ).

واختلفوا في الإمامة ، والقول فيها نصّاً واختياراً ، كما سيأتي عند مقالة كلّ

٣٠٠