بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٩

فكانت الطّائفتان تتصارعان صراع الأقران وربّما يقتتلان قتال موت وحياة ، فكيف يمكن أنّ تكون الشّيعة عالة على المعتزلة في عقائدهم. فمن نسب ذلك إلى الشيعة فقد جهل تأريخ علم الكلام. فأين مبادئ الشيعة من مبادئ الاعتزال؟ فهما وإنّ كانا يشتركان في التوحيد والعدل ونفى الرؤية والتجسيم والقول بالتحسين والتقبيح العقليّين ، ولكن يفترق

أنّ في كثير من الاُصول وتكفي في ذلك المراجعة لكتاب « أوائل المقالات » (١) للشيخ المفيد ، فقد عنون فيه بعض الفوارق الموجودة بين عقيدة الشيعة وسائر الفرق ومنهم المعتزلة.

الفوارق الفكرية بين الشيعة والمعتزلة

إنّ بين المنهجين الكلاميين مشتركات ومعترقات ، وقد تعرفت على قسم من المشتركات ، فها نحن نلمح إلى الفوارق بينهما ، الّتي جعلهما منهجين كلاميين مختلفين لكّل ميزة وخصوصيّة ، وإليك رؤوسها على وجهه الإجمال :

١ ـ عينية الصفات مع الذات :

اتفقت الطاتئفتان على أنّ صفاته الذاتية ليست زائدة على الذات ، بمعنى أنّ تكون هناك ذات ، وصقة وراءها ، كما في المكنات فإنّ الإنسان له ذات وله علم وقدرة ، هذا ممّا اتّفقتا عليه ، ولكنّهما اختلفتا في تفسير ذلك ، فالعيشة الإميّة ذهبت إلى أنّ الوجود في مقام الواجب بالغ من الكمال على حدّ يعد نفس العلم والضابطة الكلية حتى في مقام الواجب بل الموصوف هناك لأجلّ الكمال المفرط نفس الصفة ، ولا مانع من كون العلم في درجة ، قائماً بالذات ، وفي اُخرى نفس الذات ، وما هذا إلاَ لأنَ زيادة الوصف على الذات توجب حاجتها إلى شيء وراءها ، وهو ينافي وجوب

__________________

١ ـ اوائل المقالات : ص ٨ ـ ١٦.

٢٠١

الوجود والغناء المطلق. هذه هي نظرية الشيعة مقرونة بالدليل الإجمالي ، وقد اقتفوا في ذلك مارسمه علي عليه‌السلام فقال : « وكمال الإخلاص له نفي الصفات ( الزائدة ) عنه ، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وصف الله ( بوصف زائد على ذاته ) فقد قرنه ( قرن ذاته بشيء غيرها ) ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله (١)

وقال الإمام الصادق : « لم يزل الله جلّ وعزّ، ربّنا والعلم ذاته ، ولا معلوم ، والسمع ذاته ، ولا مسموع والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور » (٢)

هذا ما لدى الشيعة ، وأمّا المعتزلة فقد اضطرب كلامهم في المقام ، فالقول المشهور عندهم هي نظرية نيابة الذات عن الصفات ، من دون أنّ تكون هناك صفة ، وذلك لأنّهم رأواأنّ الاّمر في أوصافه سبحانه يدور بين محذورين.

١ ـ لو قلنا بأنّ له سبحانه صفات كالعلم ، وجب الاعتراف بالتعدد والإثنينية ، لأنّ واقع الصفات هو المغايرة للموصوف .

٢ ـ إنّ نفي العلم والقدرة وسائر الصفات الكمالية يستلزم النقص في ذاته أولاً ويكذبه اتقان آثاره وأفعاله ثانياً.

فالمخلَص والفر من هذين المحذورين يتلخّص عندهم في انتخاب نظرية النيابة ، وهي القول بأنّ الذات نائبة مناب الصفات ، وإنّ لم تكن هناك واقعية للصفات وراء الذات ، فما يترقب من الذات المقرونة بالصفة ، يترتب على تلك الذات النائبة مقامها ، هذا هو المشهور عن المعتزلة وإليك نصّ كلام عباد بن سليمان في ذلك المجال قال : « هو عالم قادر ، حى ، ولاأثبت له علماً ، ولاقدرة ، ولا حياة ، ولا أثبت سمعاً ، ولا أثبت بصراً وأقول هو عالم لابعلم ، قادر لابقدرة ، حىّ لا بحياة ، وسميع لا بسمع ، وكذلك سائر مايسمّى من الأسماء الّتي يسمّى بها (٣)

____________

١ ـ . إلرضي : نهج البلاغة : الخطبة (١)

٢ ـ الصدوق : الاتوحيد : ١٣٩.

٣ ـ الأشعري : مقالات الإسلاميين ١ : ٣٣٥.

٢٠٢

يلاحظ : أنّ نظرية النياية المشهورة عن المعتزلة ، مبنية على تخيّل كون الشيء وصفاً ملازم للزيادة دائماً ، فوقعوا بين المحذورين وتخلّصوا بالنيابة ، ومن المعلوم أنّ موجع النيابة إلى خلو الذات عن الكمال أولاً ، وكون الذات الفاقدة للعلم ، نائبة عن الذات المقرونة بها أشبه باللغز.

نعم ، بعض المعتزلة كأبي هذيل العلاف ( ١٣٠ ـ ٢٣٥ ) ذهب إلى نفس ماذهب الشيعة إليه ، وقد ذكرنا كلامه في الجزء الثاني (١).

٢ ـ إحباط الأعمال الصالحة بالطالحة

الإحباط في عرف المتكلمين عبارة عن بطلان الحسنة ، وعدم ترتب مايتوقع منها عليها ، ويقابله التفكير وهو إسقاط السيئة بعدم جريان مقتضاها عليها فهو في المعصية نقيض الإحباط في الطاعة ، والمعروف عن الإماميّة والأشاعرة هو أنّه لاتحابط بين المعاصي والطاعات والثواب والعقاب ، والمعروف من المعتزلة هو التحاط (٢) ، ثمّ إنهم اختلفوا في كيفيته فمنهم من قال : من أنّ الإساءة الكثيرة تسقط الحسنات القليلة وتمحوها بالكلية من دون أنّ يكون لها تأثير في تقليل الإساءة وهو المحكي عن أبي علي الجبائي.

ومنهم من قال : بأنّ الإحسان القليل يسقط بالإساءة الكثيرة ولكنه يقلل في تأثير الإساءة فينقص الإحسان من الإساءة فيجري العبد بالمقدار الباقي بعد التنقيص، وهو المنسوب إلى أبي هاشم.

ومنهم من قال : إنّ الإساءة المتأخرة تحبط جميع الطاعات وإنّ كانت الإساءة أقل منها ، حتى قيل : إنّ الجمهور من المعتزلة ذهبوا إلى أنّ الكبيرة الواحدة ، تحبط ثواب

__________________

١ ـ لاحظ بحوث في الملل والنحل ٢ : ٨٤ نقلا عن شرح الاُصل الخمسة للقاضي عبدالجبار : ١٨٣، ومقالات الإسلاميين : ٢٢٥.

٢ ـ المفيد : أوائل المقالات : ٥٧. وسيوافيك نصوص المعتزلة في محلها.

٢٠٣

جميع العبادات (١)

هذا على قول المعتزلة. وأمّا على قول نفاة الإحباط فالمطيع والعاصي يستحق الثواب والعقاب معاً فيعاقب مدّة ثم يخرج من النار فيثاب بالجنّة.

نعم ، ثبت الإحباط في موارد نادرة ، كالإرتداد بعد الإسلام ، والشرك المقارن للعمل ، والصدّ عن سبيل الله ، ومجادلة الرسول ومشاقته ، وقتل الأنبياء ، وقتل الآمرين بالقسط ، وإساءة الأدب مع النبي ، والنفاق ، وغير ذلك ممّا شرحناه في الإلهيات (٢).

٣ ـ خلود مرتكب الكبيرة في النار

اتّفقت الإماميّة على أنّ الوعيد بالخلود في النار متوجّه إلى الكفّار خاصّة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى والإقرار بفرائضه من أهل الصلات ، ووافقهم على هذا القول كافة المرجئة سوى محمد بن شبيب وأصحاب الحديث قاطبة ، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك ، وزعموا أنّ الوعيد بالخلود في النار عامّ في الكفار وجميع فساد أهل الصلاة.

ويظهر من العلاّمة الحلي أنّ الخلود ليس هو مذهب جميع المعتزلة حيث قال : أجمع المسلمون كافة على أنّ عذاب الكافر مؤبّد لاينقطع ، وأمّا أصحاب الكبائر من المسلمين ، فالوعيدية على أنّه كذلك. وذهبت الإماميّة وطائفة كثيرة من المعتزلة والأشاعره إلى أنّ عذاب منقطع (٣).

والظاهر من القاضي عبد الجبار هو الخلود ، واستدل بقوله سبحانه : ( ومَنْ يَعْصِ اللهَ ورسُولَهُ ويَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا ) ( النساء / ١٤ ). فالله تعالى

__________________

١ ـ التفتازاني : شرح المقاصد ٢ : ٢٣٢، القاضي عبدالجبار : شرح الاُصول الخمسة : ٦٢٥.

٢ ـ حسن مكي العاملي : الإلهيات ١ : ٨٧٠ ـ ٨٧٤.

٣ ـ العلامة الحلي : كشف المراد : ٢٦٥.

٢٠٤

أخير أنّ العصاة يعذّبون بالنار ويخلدون فيها ، والعاصي اسم يتناول الفاسق والكافر جميعاً فيجب حمله عليها لأنّه تعالى لو أراد أحدهما دون الآخر لبينة فلمّا لم يبيّنه دلّ على ما ذكرناه.

فإن قيل : إنّماأراد الله تعالى بالآية الكافر دون الفاسق ، ألاترى إلى قوله تعالى : ( وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ ) وذلك لايصيوّر إلاّفي الكفرة إلاّفالفاسق لابتعدى حدود الله تعالى أجمع. ثم أجاب عنه فلاحظ كلامه (١)

٤ ـ لزوم العمل بالوعيد وعدمه

المشهور عن المعتزلة أنّهم لا يجوّزون العفو عن المسيء لاستلزامه الخلف ، وأنّه يجب العمل بالوعيد كالعمل بالوعيد ، والظاهر من القاضي أنها نظرية البغدادين من المعتزلة قال : اعلم أنّ البغدادية من أصحابنا أوجبت على الله أنّ يفعل بالعصاة ما يستحقونه لا محال ، وقالت : لايجوز أنّ يعفو عنهم ، فصار العقاب عندهم أعلى حالاً في الوجوب من الثواب ، فإن الثواب عندهم لايجب إلامن حيث الجود ، وليس هذا قولهم في العقاب فإنّه يجب فعله بكل حال (٢).

وذهبت الإماميّة إلى جواز العفو عن المسيء إذا مات بلاتوبة ، واستدل الشريف المرتضى بقوله سبحانه : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ وقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبِلِهمُ المَثُلتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة للنَّاسِ َعلَى ظُلْمِهِمْ َوإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الِعقَابِ ) ( الرعد / ٦ ). وقال : في هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة لإنّه سبحانه دلّنا على أنّه يغفر لهم مع كونهم ظالمين لأنّ قوله : ( على ظلمهم ) جملة حالية إشارة إلى الحال الّتي يكونون عليها ظالمين ، ويجري ذلك مجرى قول القائل :

__________________

١ ـ القاضي عبدالجبار : شرح الاُصول الخمسة : ٦٧٥.

٢ ـ القاضي عبدالجبار : شرح الاُصول الخمسة : ٦٤٤.

٢٠٥

« أنا أودّ فلانا على غدره ( و ) وأصله على هجره » (١).

وقد أوضحنا الحال في دلالة الآية وأجبنا عن إشكال القاضي على دلالتها في الإلهيات (٢).

٥ ـ الشفاعة حطّ الذنوب أوترفيع الدرجة :

لما ذهبت المعتزلة إلى خلود مرتكب الكبيرة في النار ، وإلى لزوم العمل بالوعيد ، ورأت أنّ آيات الشفاعة الفسّاق الّذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا تتنزّل منزلة الشفاعة لمن قتل ولد الغير وترصّد للآخر حتى يقتله ، فكما أنّ ذلك يقبح فكذلك هاهنا (٣).

فالشفاعة عندهم عبارة عن ترفيع الدرجة ، فخصوها بالتائبين من المؤمنين وصار أثرها عندهم ترفيع المقام لا الإنقاذ من العذاب أو الخروج منه ، قال القاضي : إنّ فائدة الشفاعة رفع مرتبة الشفيع والدلالة على منزلة من المشفوع (٤).

وأمّا عند الشيعة الإماميّة فهو عبارة عن إسقاط العذاب ، قال الشيخ المفيد : اتفقت الإماميّة على أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من اُمته ، وأنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته وأنّ أئمة آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشفعون كذلك وينجي الله بشفاعنهم كثيراً من الخاطئين ، ووافقهم على شفاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المرجئة سوى ابن شبيب وجماعة من أصحاب الحديث ، وأجمعت المعتزلة على خلاف وزعمت أنّ شفاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمطيعين دون العاصين

__________________

١ ـ الطبرسي ٣ : ٢٨٧.

٢ ـ حسن مكي العاملي : الإلهيات ١ : ٩١٠.

٣ ـ القاضي عبدالجبار : شرح الاُصول الخمسة : ٦٨٨.

٤ ـ القاضي عبدالجبار : شرح الاُصول الخمسة : ٦٨٩.

٢٠٦

وأنّه لايشفع في مستحقي العقاب من الخلق أجمعين (١).

٦ ـ مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر

إنّ مقترف الكبيرة عند الشيعة والأشاعرة مؤمن فاسق خرج عن طاعة الله. وهو عند الخوارج ، كافر كفر ملة عند جميع فرقهم إلاّ الأباضية فهو عند كافر كفر النعمة ، وأمّا المعتزلة فهو عندهم في منزلة بين المنزلتين قال القاضي : إنّ صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين ، وحكم بين الحكمين لايكون اسمه اسم الكافر ، ولا اسم المؤمن فلا يكون حكمه حكم الكافر ولاحكم المؤمن بل يفرد له حكم ثالث. وهذا الحكم الّذي ذكرناه هو سبب تلقيب المسألة بالمنزلة بين المنزلتين ، قال صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان (٢).

وهذا أحد الاُصول الخمسة الّتي عليها يدور رمى الاعتزال ومن أنكر واحداً منها فليس بمعتزلي (٣).

٧ ـ النسخ جائزٌ ممتنع عند المعتزلة

اتفق المسلمون على جواز النسخ خلافاً لليهود ، واختلفوا في البداء ، ذهبت الشيعة إلى إمكانه ووقوعه ، خلافاً لغيرهم فقالوا بالامتناع.

ثم إنّ الّذي صار سبباً للتفريق عند القاضي هو أنّه اشترط في النسخ اُموراً أهمها : أنّ النسخ لايتعلّق بعين ما كان ثابتاً ، بل يتعلّق بمثل ما كان ثابتاً أشار إليها بقوله : النسخ إزالة مثل الحكم الثابت بدلالة شرعية ، بدليل آخر شرعي على وجه لولاه لثبت ، ولم يزل مع تراخيه عنه.

__________________

١ ـ المفيد : أوئل المقالات : ١٤ ـ ١٥.

٢ ـ القاضي عبدالجبار : شرح الاُصول الخمسة : ٦٩٧.

٣ ـ الخياط : الانصار / ١٢٦، ومروج الذهب ٣ / ٢٢٢.

٢٠٧

قال : فاعتبرنا أنّ يكون إزالة مثل الحكم الثابت لأنه لو زال عين ما كان ثابتاً من قبل لم يكن نسخاً بل كان نقضاً ، وهذا بخلاف البداء فإنه يتعلّق بعين ما كان ثابتاً. ومثاله أنّ يقول أحدنا لغلامه : إذا زالت الشمس ودخلت السوق فاشتر اللحم. ثم يقول له : إذا زالت الشمس ودخلت السوق فلا تشتر اللحم ، وهذا هو البدء وإنما سمي به لأنه يقتضي أنّه قد ظهر له من حال اشتراء اللحم ما كان خايفاً عليه كم قبل (١).

وقال أيضاً : الّذي يدل على البداء ، أنّ يأمر الله جلّ وعزّ بنفس مانهى عنه في وقت واحد على وجه واحد وهذا محال لانجيزه البتة (٢).

نحن لانحوم حول البداء وما هو الفرق بينه وبين النسخ، فقد أشبعنا الكلام فيه في نحوثنا الكلامية (٣).غير أنّ الّذي يتوجّه على كلام القاضي أنّ ما أحاله هو أيضاً من أقسام النسج لا من أقسام البداء المصطلح فإنه على قسمين :

١ ـ النسخ بعد حضور وقت العمل.

٢ ـ النسخ قبل حضور وقت العمل.

والّذي أحاله هو القسم الثاني ، وأمّا الوجه الّذي اعتمد عليه فموهون بأنه ربّما تترتّب المصلحة على نفس إنشاء الحكم وإنّ لم يكن العمل به مراداً جدياً كما هو الحال في أمر إبراهيم بذبح ولده ، والأوامر الامتحانية كلها من هذا القبيل فإذا شوهد من الإنسان القيام بمقدّمات الواجب ، ينسخ الحكم ، وعلى كل تقدير فما سماه بداء ، ليس هو محل النزاع بين الإماميّة وغيرهم.

والبداء عندهم عبارة عن تغيير المصير الأعمال الصالحة أو الطاعة وهو شيء

__________________

١ ـ القاضي عبدالجبار : شرح الاُصول الخمسة : ص ٥٨٤، ٥٨٥.

٢ ـ رسائل العدل والتوحيد ١، رسالة القاضي عبد الجبار / ٢٤١.

٣ ـ لاحظ الالهيات : ج ١، ص ٥٦٥.

٢٠٨

اتفق عليه المسلمون ، ورد به النص في القرآن والنسنة.

هذه هي حقيقة البداء في عالم الثبوت ، وله أثر في عالم الإثبات وهو أنّه

ربّما يقف النبي على مقتضي المصير ولايقف على مايغيره ، فيخير به على حسب العلم بالمقتضى ولكن لا يتحقّق لأجلّ تحقّق ما يغيّره ، فيقال هنا : بدا لله والمقصود بداء من الله للعباد كما هو الحال في إخبار يونس عن تعذيب القوم وغير ذلك ، وقد وردت جملة « بدا لله » في صحيح البخاري (١).

قال الشيخ المفيد : أقول في معنى البداء ما يقوله المسلمون بأجمعهم في النسخ وأمثاله من الإفقار بعد الإغناء ، والأمراض بعد الإعفاء وما يذهب إليه أهل العدل خاصّة من الزيادة في الآجال والأرزاق والنقصان منها بالأعمال وأمّا إطلاق لفظ البداء ، فإنّما صرت إليه لأجلّ السمع الوارد عن الوسائط بين العباد وبين الله ـ عزّ وجلّ ـ وليس بيني وبين كافة المسلمين في هذا الباب خلاف ، وإنّما خالف من خالفهم في اللفظ دون ما سواه (٢).

وهذا يعرب عن أنّ القوم لم يقفوا على مصطلح الإماميّة في البداء وإلاّ لأصفقوا على جوازه.

٨ ـ الواسطة بين الوجود والعدم

اتفق المفكرون من الفلاسفة والمتكلمين على أنه لاواسطة بين الوجود والعدم كما لا واسطة بين الموجود والعدم ، وإنّ الماهيات قبل اتصفاها بالوجود معدومات حقيقة ، غير أنّ المعتزلة ذهبت إلى انها في حال العدم غير موجود ولا معدوم ، بل متوسط بينهما وهذا هو العروف منهم بالقول بألأحوال .

قال الشيخ المفيد : المعدوم هو المنفي العين ، الخارج عن صفحة الموجود ، ولا

__________________

١ ـ البخاري : الصحيح ٤ / ١٧٢ باب حديث « أبرص وأعمى وأاقرع في بني إسرائيل ».

٢ ـ المفيد : أوائل المقالات ، ص ٥٣.

٢٠٩

أقول : إنّه جسم ولاجوهر ولا عرض ، ولا شيء على الحقيقة ، وإنّ سميته بشيء من هذه الأسماء ، فإنما تسميه به مجازا وهذا مذهب جماعة من بغدادية المعتزلة وأصحاب المخلوق [ كذا ]، والبلخي يزعم أنّه شيء ولا يسميه بجسم ولا جوهر ولا عرض ، والجبائي وابنه يزرعان أنّ المعدوم شيء وجوهر وعرض ، والخياط يزعم أنّه شيء وعرض وجسم (١).

وبما أنّه المسألة واضحة جداً لانحوم حولها.

٩ ـ التوفيض في الأفعال

ذهبت المعتزلة الا من شذ كالنجار وأبي الحسين البصري (٢) إلى أنّ أفعال العباد واقعة بقدرتهم وحدها على سبيل الاستقلال ايجاب (٣) بل باختيار.

قال القاضي : أفعل العباد لايجوز أنّ توصف بأنها من الله تعالى ومن عنده ومن قبله ... (٤)

قال السيد الشريف إنّ المعتزلة اسدلوا بوجوه كثيرة مرجعها إلى أمر واحد وهو أنّه لو لا استقلال العبد بالفعل على سبيل الاختيار ، لبطل التكليف وبطل التأديب الّذي ورد به الشرع وارتفع المدح والذم إذليس للفعل استناد إلى العبد أصلا ، ولم يبق للبعثة فائدة لأن العباد ليسوا موحدين أفعالهم ، فمن أين لهم استحقاق الثواب والعقاب (٥).

__________________

١ ـ المفيد : أوائل المقالات / ٧٩.

٢ ـ لاحظ حاشية شرح المواقف لعبد الحليم السيالكوتي ، ج ٢، ص ١٥٦.

٣ ـ ولعل قولهم بلا إيجاد اشارة إلى أنّ حال الصدور لايتصف بالوجوب أيضاً. والقاعدة الفلسفية « الشيء مالم يجب لم يوجد » غير مقبولة عندهم.

٤ ـ القاضي عبدالجبار : شرح الأصول الخمسة ٧٧٨، وفي ذيله ما ربّما يوهم خلاف ما هو المشهور غنهم.

٥ ـ السيد الشريف الجرجاني ( ت ٨٨٦ ) : شرح المواقف ، ج ٨، ص ١٥٦.

٢١٠

ثم إنّ نظريتهم في استقلال العبد في الفعل مبنية على مسألة فليسفسة وهو أنّ حاجة الممكن إلى العلّة تنصر في حدوثه ، لافيه وفي بقائه ، وعلى ضوء ذلك قالوا با ستقلال العبد في مقام الإيجاد.

والمبنى والبناء كلاهما باطلان. أما الافتقار حدوثاً فقط ، فهو لا يجتمع مع كون الإمكان من لوازم الماهية وهي محفوظة حدوثاً وبقاء ، فكيف يجوز الغناء عن الفاعل بقاء.

قال الحكيم الشيخ محمد حسين الإصفهاني :

والافتقار لازم الإمكان

من دون حاجة إلى البرهان

لافرق مابين الحدوث والبقاء

في لازم الذات ولن يفترقا

هذا كله حول المبنى في التخلص عن الجبر استناد الفعل إلى الفاعل والخالق معاً ، لكن يكون قدرة المخلوق في طول قدرة الخلق ، ومنشعبة عنها ، وهذا يكفي في الاستناد وصحة الامر والنهي والتأديب والتثويب ، فالجبر والتوفيض باطلان ، والامر بين الامرين هو الحق الصراح ، وقد تواتر عن أئمة أهل البيت قولهم : لاجبر وتفويض لكن أمر بين الأمرين (١).

ثم إنّ الدافع إلى القول بالتفويض هو صيانة عدله سبحانه فزعموا أنّ الصيانه لها رهن ما ذهبت إليه الإماميّة ، ثم انهم وإنّ نزهوا العبد عن الظلم ولكن صورواله شريكا في الايجاد ، ولأجل ذلك قال الامام الرضا عليه‌السلام :

« مساكين القدرية أرادوا أنّ يصفوا الله ـ عزّ وجلّ ـ بعدله ، فأخرجوه من قدرته وسلطانه (٢).

__________________

١ ـ الصدق : التوحيث ٨، ولاحظ الأحاديث الاُخرى.

٢ ـ نفس المصدر ، ص ٥٤، الحديث ٩٣.

٢١١

١٠ ـ قبول التوبة واجب على الله أو تفضّل منه؟

اتفق المسلمون على أنّ التوبة تسقط العقاب ، وإنّما الخلاف في أنّه هل يجب على الله قبولها فلو عاقب بعد التوبة كان ظالماَ أو هو تفضل منه سبحانه؟فالمعتزلة على الأوّل ، والأشاعره والإماميّة على الثاني (١).

قال المفيد :

« اتفقت الإماميّة على أنّ قول التوبة بفضل من الله عزّ وجل ، وليس بواجب في العقول اسقاطها لما سلف من استحقاق العقاب ، ولولا أنّ السمع ورد بإسقاطها لجاز في العقول بقاء التائبين على شرط الإستحقاق ، ووافقهم على ذلك أصحاب الحديث ، وأجمعت المعتزلة على خلافهم وزعموا أنّ التوبة مسقطة لما سلف من العقاب على الواجب (٢).

و لقد أحسن ـ قدّس الله سره ـ حيث جعل محور المسألة قبول التوبة وعدمه بما هو هو لابلحاظ آخر كما في صورة الأخبار بقبول التوبة قال سبحانه : ( يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ) ( التوبة / ١٠٤ ). إذ عندئذ يجب قبول التوبة عقلا وإلالزم الخلف في الوعد. قال الطبرسي في تفسير قوله سبحانه : ( إلاّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فاُولئكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وأَنَا التَّوّاُب الرَّحِيمُ ) ( البقوة / ١٦٠ ). وصفحه بالرحيم عقيب التوّاب يدل على أنّ إسقاط العقاب بعد التوبة تفضل منه سبحانه ورحمة من جهته ، على ما قاله أصحابنا ، وأنّه غير واجب عقلاً على خلاف ماذهب إليه المعتزلة (٣).

ومن أراد أنّ يقف على دلائل المعتزلة في المقام فليرجع إلى كشف المراد شرح المقاصد.

____________

١ ـ لاحظ : التفتازاني : شرح المقاصد ، ج ٢، ٢٤٢، العلامة الحلّي : كشف المراد ، ص ٢٦٨، القاضي عبدالجبار : شرح الاُصول الخمسة ، ص ٧٩٨.

٢ ـ المفيد : أوئل المقالات ص ١٥.

٣ ـ الطبرسي : ومجمع البيان ١ / ٢٤٢.

٢١٢

١١ ـ عصمة الأنبياء قبل البعثة وبعدها

اتفقت الإمامية على أنّ جميع أنبياء الله ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ معصومون من الكبائر قبل النبوة وبعدها ، وممّا يستخف فاعله من الصغائر وأما ماكان من صغير لا يستخف فاعله فجائز وقوعة منهم قبل النبوة وعلى غير تعمد وممتنع منهم بعدها ، على كل حال هذا مذهب جمهور الإمامية والمعتزلة بأسرها تخالف فيه (١).

والمقول عن أبي علي الجبائي التفصيل في الكبائر بين قبل البعثة وبعدها فيجوز في الأول دون الثاني ، والمختار عند القاضي في الكبائر عدم الجواز مطلقاً وأمّا المفرات فاتفقوا على عدم جواز (٢).

١٢ ـ وجوب الأمر بالمعروف عقلاًوعدمه

اتفقت الاُمّة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا استثناء غير أنهم اختلفوا في وجوبه عقلاً وسمعاً ، أو سمعاً فقط ، فالمعتزلة على الأوّل والاماميّة على الثاني.

قال المفيد : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان فرض على الكفاية بشرط الحاجة إليه لقيام الحجة على من لايعلم لديه إلأبذكره أو حصول العلم بالمصلحة به أو غلبه الظن وبذلك (٣).

ثم إنّ المحقق الطوسي ذكر في متن التريد دلائل العتزلة على وجوبهما عقلاً ، ثم عقب عليها بنقد وتحليل (٤).

__________________

١ ـ المفيد : أوائل المقالات / ٣٠.

٢ ـ القاضي عبدالجبار : شرح الاُصول الخمسة : ٥٧٣.

٣ ـ المفيد : أوائل المقالات / ٩٨، وبذلك يظهر وهن ما ذكره القاضي في شرح الاُصول الخمسة من نسبة عدم الوجوب على الإطلاق إلى الإماميّة لاحظ ص ٧٤١.

٤ ـ العلامة الحلّي : المراد / ٢٧١ طبع صيدا.

٢١٣

١٣ ـ آباء رسول الله كلهم موحّدون

اتفقت الإماميّة على أنّ آباء رسول الله من لدن آدم إلى عبد الله بن عبد المطلب مؤمنون بالله عزّ وجلّ ـ موحّدون له ، وخالفهم على هذا القول جميع الفرق (١).

١٤ ـ تفضيل الأنبياء على الملائكة

اتفقت الإماميّة على ذلك أنّ أنبياء الله عزّ وجلّ ورسله من البشر أفضل من الملائكة ووافقهم على ذلك أصحاب الحديث ، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك وزعم الجمهور منهم أنّ الملائكة أفضل من الأنبياء والرسول (٢).

١٥ ـ الرجعة : إمكانها ووقوعها

قضية الرجعة الّتي تحدثت عنها بعض الآيات القرآنية والأحاديث المروية عن أهل بيت الرسالة ممّا تعتقد به الشيعة من بين الامة الإسلاميّة قال الشيخ المفيد : إنّ الله يحشر قوماً من اُمّةُ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد موتهم قبل يوم القيامة وهذا مذهب

يختص به آله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن شاهد به (٣).

وخالفت المعتزلة والأشاعرة وأهل الحديث في ذلك.

١٦ ـ الجنّة والنار مخلوقتان أو لا؟

إنّ الله سبحانه وعد المتقين بالجنّة أو عد العصاة بالنار فهل هما مخلوقتان أو لا؟

والمسألة نقلية محضة فالإماميّة إلاّمن شذ، ذهب إلى أنّ الجنّة والنار في هذا الوقت مخلوقتان قال الشيخ المفيد : وبذلك جاءت الأخبار وعليه إجماع أهل الشرع

__________________

١ ـ المفيد : أوائل المقالات ، ص ١٢.

٢ ـ المفيد : أوائل المقالات ، ص ١٦.

٣ ـ المجلسي : البحار شرح ٥٣ / ٣٦، نقلاالمسائل السرورية للشيخ المفيد.

٢١٤

والآثار (١).

وقال التفتازاني : « جمهور المسلمين على أنّ الجنّة والنار مخلوقتان الآن خلافاً لأبي هاشم والقاضي عبدالجبار ومن يجري مجراهما من المعتزلة حيث زعموا أنهما إنما يخلقان يوم الجزاء » (٢).

والظاهر من السيد الرضي من الشيعة ( ٣٥٩ ـ ٤٠٦ ) أنهما غير مخلوقتين الآن حيث قال : الصحيح أنهما إنما تخلقان بعده (٣).

١٧ ـ تأويل النصوص اعتماداً على القواعد العقلية :

إنّ الاصول الخمسة عند المعتزل توصف بالصحة والاتقان على درجة تقدم على النصوص الشرعية الواردة في القرآن الكريم والسنّة ، فقد أعطوا للعقل أكثر ممّا يستحقه ، فقالوا : إنّ المراد في الشفاعة هو ترفيع الدرجة لا رفع العقاب وقس على ذلك سائر تأويلاتهم في الكتاب والسنّة .

إنّ النص الوارد في القرآن الكريم دليل قطعي لايعادله شيء فعند ذلك تجب تخطئة العقل لاتأويل القرآن ، والتعارض بين القطعيين غير معقول ، وتأويل النص القطعي كرفضه ، نعم لو كان النص ظني السند أو كان الدليل الشرعي ظنّي الدلالة فللتأويل مجال ، هذا وللبحث صلة تطلب في مجالها.

١٨ ـ الإمامة بالتنصيص أو بالشورى :

اتفقت الإماميّة على أنّ الامامه بالتنصيص خلافاً للأشاعرة والمعتزلة وقالوا

__________________

١ ـ المفيد : أوائل المقلات / ١٠٢.

٢ ـ التفتازاني : شرح المقاصد / ٢ ٣١٨ ولاحظ شرح التجريد للقوشجي / ٥٠٧ وعبارة الأخيرين واحدة.

٣ ـ تارضي : حقائق التأويل ٥ / ٢٤٥.

٢١٥

بالشورى وغيرها ، ويتفرع على ذلك أمر آخر وهو : أنّ النبي نص على خليفة بالذات عند الإمامية ، وقال الآخرون : سكت وترك الأمر شورى بين المسلمين.

قال القاضي عند البحث عن طرق الإمامة ( عند المعتزلة ) : إنها العقد والاختيار(١).

١٩ ـ هل يشرط في الإمام كونه معصوماً

اتقضت الإمامية على أنّ الامام يجب أنّ يكون معصوماً عن الخطأ والمعصية خلافاً للمعتزلة حيث اكتفت أنه يجب أنّ يكون مبرزاً في العلم مجتهداً ذا ورع شديد ، يوثق بقوله ويؤمن منه ويعتمد عليه (٢).

قال المفيد : إنّ الئمة القائمين مقام الأنبياء في تنفيذ الاحكام ، وإقامة الحدود ، وحفظ الشرائع ، وتأديب الأنام ، معصومون كعصمة الأنبياء ، وانهم لايجوز منهم صغيرة إلأ ما قدّمت ذكر جوازه على الأنبياء ، وانه لايجوز منه سهو في شيء في الدين والاينسون شيئأ من الأحكام ، وعلى هذا مذهب سائر الإماميّة إلأمن شذّ منهم وتعلّق بظاهر روايات لها تأويلات على خلاف ظنّه الفاسد في الباب ، والمعتزلة بأسرها تخالف في ذلك ويجوّزون من الأئمّة وقوع الكبائر والردّه عن إسلام (٣).

٢٠ ـ حكم محارب الإمام علي أمير المؤمنين :

اتفقت الإمامية على أنّ الناكثين والقاسطين من أهل البصرة والشام أجمعين كفار ضلاّل ملعونون بحربهم أمير المؤمنين عليه‌السلام وانّهم بذلك في النار مخلدون وأجمعيت المعتزلة سوى الغزال منهم وابن باب ، والمرجئة والحشوية من أصحاب

__________________

١ ـ القاضي عبدالجبار شرح الاُصول الخمسة : ٧٥٣.

٢ ـ نفس المصدر : ٧٥٤.

٣ ـ الشيخ المفيد : أوائل المقلات : ٣٥.

٢١٦

الحديث على خلاف ذلك ، فزعمت المعتزلة كافّة إلاّ من سمّيناه وجماعة من المرجئة وطائفة من أصحاب الحديث ، انّهم فسّاق ليسوا بكفار ، وقطعت المعتزلة من بينهم على أنّهم لفسقهم في النار خالدون (١).

هذه جملة من الاُصول الّتي يختلف فيها المنهجان وبقيت هناك اُصول اُخرى تضاربت فيها آراء الفريقين لم نذكرها روماً للإختصار.

ولنعد إلى تحليل سائر الوجوه لمؤلف كتاب المعتزلة.

٢ ـ قال الذّهبي : « وجد الرفض والاعتزال في زمانه متصادقين مت آخيين »(٢).

٣ ـ وقال المقريزي : « قلّما يوجد معتزلي إلاّ وهو رافضي » (٣).

٤ ـ يقول الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي ( م ١٣٣١ ) : « إنّ المعتزلة اليوم كفرقة أهل السنّة والجماعة ، من أعظم الفرق رجالاً وأكثرها تابعاً ، لأنّ شيعة العراق على الإطلاق معتزلة. وكذلك شيعة الأقطار الهندية والفارسية والشامية ، ومثلهم الشيعة الزيديّة باليمن » (٤).

إنّ هذه الكلمات لا تدلّ على عيلولة الشيعة في عقائدهم على المعتزلة ، فإنّ الشيعة الإماميّة تقتدي فى اُصولها وفروعها بأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام الّذين جعلهم الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدلاً للقرآن الكريم وقال : « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي » ، ولا ترجع إلى غيرهما. ولم نر شيعيّاً إمّاميّا أخذ عقيدته من عالم معتزلي.

ومع هذين المصدرين الصحيحين لا حاجة للرجوع إلى غيرهما.

والمعتزلة كما أقرّ أعلامهم اقتفوا في التّوحيد والعدل أثر خطب الإمام أمير

__________________

١ ـ نفس المصدر : ١٠.

٢ ـ ميزان الاعتدال : ج ٢ ص ٢٣٥، كما في « المعتزلة » ، ص ٢١٨.

٣ ـ الخطط : ج ٤ ص ١٦٩، كما في المصدر نفسه ، ص ٢١٨.

٤ ـ تاريخ الجهمية والمعتزلة : ص ٤٢، كما في المصدر نفسه ، ص ٢١٩.

٢١٧

المؤمنين عليه‌السلام وتتلمذوا على حفيده أبي هاشم ابن محمّد بن الحنفيّة.

وما ذكره القاسمي الدمشقي من أنّ شيعة العراق على الإطلاق معتزلة ، صحيحة إنّ أراد أنّ شيعة العراق بل الشيعة في جميع الأقطار قائلون بالتوحيد والعدل ، اقتفاءً لأثر الكتاب والسنّة الصحيحة المرويّة عن أئمّة أهل البيت لا سيّما خطب الإمام عليّ عليه‌السلام ، كما أنّ المعتزلة أيضاً قائلون بهما مقتفين أثر ما أخذوه من البيت العلوي.

نعم إنّ المعتزلة أقرب إلى الشيعة من الحنابلة والأشاعرة ، فإنّ ولاء كثير منهم لأهل البيت لا ينكر ، كما أنّ تمسّكهم بالاُصول العقلية المبرهنة ، ورفض الآخرين لها ، جعلهم متّحدين في كثير من الاُصول مع الشيعة ، ومع ذلك فإنّ لجميع الطّوائف الإسلاميّة ، اُصولاً مشتركة ، واُصولاً يتميّز بها بعضهم عن بعض فلكلّ طائفة إسلاميّة مشتركات ومميّزات.

رمي الاعتزال بالتشيّع

إنّ من عجائب الدّهر ـ وما عشت أراك الدّهر عجباً ـ رمي المعتزلة بالتشيّع ، وترى تلك النسبة في كتب الأشاعرة والحنابلة ، خصوصاً الرجاليّين منهم ، فلم تكن الشيعة وحدها متّهمة بالاعتزال ، بل صارت المعتزلة متّهمة بنظيرتها ، غير أنّ رمي الشيعة بالاعتزال لايختصّ بقوم دون قوم ، حتّى إنّ أصحاب الطبقات من المعتزلة عدّوا أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وكبار علماء الشيعة من المعتزلة ، حتّى قالوا : إنّ الحسن بن موسى النوبختي من المعتزلة ، ولم يكتفوا بذلك ، بل عدّوا المرتضى والرضي منهم (١).

وقد عرفت مدى صدق هذه النسبة ، وأنّ كثيراً من أعلام الشيعة نقدوا كتب المعتزلة ، حتّى إنّ الشّيخ المفيد نقض كتاب « فضيلة المعتزلة » للجاحظ.

إنّما الكلام في التهمة الاُخرى ، وهو رمي الاعتزال بالتشيّع ، والحقّ

أنّه لو فسِّر التشيّع بحبّ عليّ وأهل بيته عليهم‌السلام فأعلام السنّة من الأشاعرة والمعتزلة والحنابلة

__________________

١ ـ طبقات المعتزلة : أحمد بن يحيى المرتضى ، ص ٩ و١٥ و١١٧، الطبعة الثانية ( ١٤٠٧ ).

٢١٨

كلّهم شيعة إلاّ من له هوى العثمانيّة ، الّذين يكثرون من الوقيعة في عليّ وأولاده عليهم‌السلام. أمّا لو فسّر بتقديم عليّ على سائر الخلفاء في العلم والزهد وسائر المثل الأخلاقيّة ، فمعتزلة بغداد إلاّ من شذّ شيعة ، فإنّهم وإن اعترفوا بخلافة الخلفاء ، لكن يعترفون بفضل عليّ عليه‌السلام وتقدّمه على أقرانه ، وهذا هو الّذي صار سبباً لجرح كثير من الرواة العدول ، وما ذنبهم إلاّ تقديم عليّ على غيره فى الفضائل ، أخذاً بنصوص الآيات والروايات فى حقّه.

نعم ، لو فسّر التشيع بالاعتراف بخلافة عليّ بتنصيب من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر منه سبحانه فالشيعة تنحصر بمن يعتقد بهذا المبدا ، والمعتزلة كلّهم يخالفون ولا يعترفون به.

والّذي أوقع جمعاً من مؤلّفي المقالات في الوهم الأوّل هوالتقاء التشيّع مع الاعتزال في بعض المواضع والنقاط كالتوحيد والعدل ، ولو صار ذلك سبباً لرمي الشيعة بالاعتزال ، صحّ عدّ الأشاعرة منهم لالتقائهم معهم في عدّة من الاُصول.

وأمّا الّذي أوقعهم في الوهم الثّاني هو انحيازهم إلى عليّ في كثير من المبادئ خصوصاً التوحيد والعدل.

وعلى أيّ تقدير ، فلفظ التشيع قد تطوّر من جهة المعنى بعد ما كان معناه في اليوم الأوّل ، بعد رحلة الرسول ، هو من شايع عليّاً دون غيره ، وقال بخلافته دون سائر الخلفاء ، فأطلق على من أحبّ عليّاً وأولاده ، وناضل العثمانيّة وأهوائها ، وعلى من قدّم عليّاً في الفضائل والمناقب ، لا في الخلافة ، فلأجلّ هذا التطوّر فربّما يشتبه المراد منه في كلمات الرّجاليين وأصحاب المقالات ، وربّما تعدّ اُناس شيعةً بالمعنى الأوّل ، مع أنّهم شيعة بالمعنيين الأخيرين ، فلاحظ، وسيوافيك التوضيح عن البحث عن عقائد الشيعة الزيدية والاسماعيليّة والإماميّة.

« رزقهم الله توحيد الكلمة كما رزقهم كلمة التوحيد »

« وبنى الإسلام على دعامتين »

« كلمة التوحيد ، وتوحيد الكلمة »

٢١٩

الفصل الرابع

أئمّة المعتزلة

دلّت النّصوص التأريخيّة على أنّ « واصل بن عطاء » هو المؤسّس الأوّل لمنهج الاعتزال ، وقد طرح اُصولاً نضجت وتكاملت بأيدي تلامذته ومقتفي منهجه عبر العصور والقرون.

ومن أراد أنّ يكتب تأريخ المعتزلة وطبقاتهم ، فعليه أنّ يجعل « واصلاً » رأس مخروط الاعتزال إلى أنّ يصل بالتدريج إلى قاعدته.

وأمّا من تقدّم عليه من الصحابة والتابعين حتّى القدريّة المتبلورة في « معبد الجهني » و « غيلان الدمشقي » وغيرهم ... فلا يمتّون للاعتزال بصلة ، وإنّ اتّفقوا مع المعتزلة في القول بالتوحيد والعدل ، وحريّة الإنسان واستطاعته على الفعل والترك. وذلك لأنّ التوحيد والعدل ، كان شعار المسلمين من عصر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الزمان الّذي طلع فيه منهج الإعتزال ، كما أنّ القول بالحريّة واستطاعة الإنسان على أحد الطّرفين قول بأمر فطري جبل عليه الإنسان طوال القرون والأدوار قبل الإسلام وبعده ، فلا يعدّ الاعتقاد به إحداثاً للمنهج وتأسيساً له.

نعم ، القول بكون الإنسان مسيّراً لا مخيّراً ، وأنّ فاعل الخير والشرّ هو الله سبحانه ، وأنّ كلّ إنسان خلق لما قدّر له في علمه الأزلي ، وأنّ التقدير كاله ، لا يتغيّر حكمه وقضاؤه ، إحداث منهج جديد رغم أنّ العقلاء ونصوص الكتّاب على خلافه في جميع

٢٢٠