بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٩

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ قوله ( في كِتاب مَكْنُون ) وصف ثان للقرآن في قوله : ( بَل هوَ قُرآنٌ مجِيدٌ ) والمراد أنّ القرآن في كتاب محفوظ من التّغيير والتبديل ، والمراد من الكتاب هو اللّوح المحفوظ بشهادة قوله : ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْح مَحْفُوظ ) ( البروج / ٢١ ـ ٢٢ ). وليس المراد منه المصحف ، لاستلزامه وحدة الظرف والمظروف.

وثانياً : أنّ الظّاهر من ابن حزم الظاهري ، أنّ الاستدلال على حرمة مسّ المصحف للجنب مبنيّ على تعيين المراد من الكتاب في قوله : ( في كِتاب مَكْنُون ) فهل المراد منه هو المصحف أو غيره؟ فعلى الأوّل يثبت حرمة مسّ المصحف لغير المتطهّر بخلاف الثاني.

فرجّح كون المراد منه هو غيره ، لما ذكر من الدّليل ولكن خفى عليه أنّ الاستدلال ليس مبنيّاً على ما ذكره ، بل الاستدلال مبنيّ على كون الضمير في قوله : ( لا يمسّه ) هل هو عائد إلى القرآن ، أو إلى الكتاب ، المتقدّمين عليه في الآية؟ فإن قلنا بالأوّل يكون المراد من المسّ هو مسّ كتابة القرآن ، ومن التّطهير هو الطهارة من الخبث والحدث. ولا مناص عندئذ من حمل النّفي على النّهي لصيانة كلامه عن الكذب نظير قوله سبحانه : ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ ولا جِدَالَ فِي الحَجِّ ) ( البقرة / ١٩٧ ). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » على القول الحق (١).

وإن قلنا بالثّاني ، يكون المراد من المس ، هو العلم به ويكون المراد من المطهّرين ، من طهّر الله نفوسهم من أرجاس المعاصي وأقذار الذنوب.

وأمّا تعيين أحد الاحتمالين فخارج عن موضوع البحث ، وإنّما الهدف إراءة نماذج من تفكير ابن حزم.

أمّا الاستدلال بكتابة الآية وبعثها إلى عظيم « بصرى » والنبيّ يعلم أنّ الكافر سيمسّها.

__________________

١. لاحظ محاضرات المؤلف باسم « قاعدتان فقهيتان » تقف على اسناد الحديث ومضمونه.

١٦١

فيلاحظ عليه أوّلاً : أنّ الاستدلال مبنيّ على كون الكفّار مكلّفين بالفروع كما هم مكلّفون بالاُصول وهو بعدُ أمر متنازع فيه.

وثانياً : أنّ التسبيب إنّما يحرم إذا كان مؤدّياً إلى مسّ الجاهل القاصر ، كما إذا وضع الإنسان يد غير المتطهّر على كتابة القرآن وهو جاهل أو غافل ، لا ما إذا كان غير معذور كعظيم « بصرى » وغيره من الطغاة غير المعذورين في ترك الاُصول ومخالفة الفروع ، إذ في وسعهم أن يعتنقوا الإسلام ويدخلوا تحت السلم ويتعرّفوا على اُصوله ويعملوا بفروعه ويجتنبوا محرّماته. وهذا الجواب سائد في تمكين الكافرين من الكتب الّتي فيها أسماؤه سبحانه بعد إتمام الحجّة عليهم وإن كان في جريانه في المقام خفاء.

وثالثاً : أنّ المصالح الكبرى الّتي تتبلور في بثّ الدّعوة الإسلاميّة في المناطق المعمورة وإنقاذ الأجيال عن الوثنيّة وعبادة الطغاة ربّما ترخّص للرسول أن يقوم بعمل ربّما ينتهي إلى مسّ غير المتطهّر آية من الكتاب العزيز وله نظائر في الشّريعة الإسلاميّة.

٣ ـ قاتل الإمام عليّ عليه‌السلام كان مجتهدا

وهذا هو النموذج الثالث من آراء الرّجل نأتي بنصّه من كتاب المحلّى ، فقال : « مسألة ، مقتول كان في أوليائه غائب أو صغير أو مجنون اختلف الناس في هذا : فقال أبو حنيفة : إذا كان للمقتول بنون وفيهم واحد كبير وغيرهم صغار ، أنّ للكبير أن يقتل ولا ينتظر بلوغ الصغار. ثمّ أورد على الشافعيّة القائلة بعدم الجواز بأنّ الحسن بن عليّ عليهما‌السلام قد قتل عبدالرحمن بن ملجم ، ولعليّ بنون صغار. ثمّ قال : هذه القصة ( يعني قتل ابن ملجم ) عائدة على الحنفيّين بمثل ما شنّعوا على الشافعيين سواء سواء ، لأنّهم والمالكيّين لا يختلفون في أنّ من قتل آخر على تأويل فلا قود في ذلك ، ولا خلاف بين أحد من الاُمّة في أنّ عبدالرحمن بن ملجم لم يقتل عليّاً رضي‌الله‌عنه إلاّ متأوّلاً مجتهداً مقدّراً أنّة على صواب وفي ذلك يقول عمران بن حطّان شاعر الصفرية :

١٦٢

يا ضربة من تقي ما أراد بها

إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إنّي لأذكره حيناً فأحسبه

أوفى البريّة عندالله ميزانا

أي لاُفكّر فيه ثمّ أحسبه ، فقد حصل الحنفيّون من خلاف الحسن بن عليّ على مثل ما شنّعوا به على الشافعيّين وما ينقلون أبداً في رجوع سهامهم عليهم ، ومن الوقوع فيما حفروه (١).

يلاحظ عليه : أنّ الفقيه الأندلسي قد خرج في فتياه هذه عن مسلكه وهو التقيّد بالنصوص الشرعية تعبّداً حرفيّاً غير معتمد على العقل والاجتهاد ، مع أنّه هو طرح النصّ ولجأ إلى الاجتهاد الخاطئ. فهذا هو النّبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لعليّ : ألا أخبرك بأشدّ الناس عذاباً يوم القيامة؟ قال : أخبرني يا رسول الله قال : فإنّ أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة عاقر ناقة ثمود وخاضب لحيتك بدم رأسك (٢).

وقد وصف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاتل عليّ في غير واحد من أحاديثه بأنّه أشقى الآخرين وأشقى هذه الاُمّة (٣) .... إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا السياق.

والحقّ أنّ الاجتهاد الّذي يؤدّي إلى وجوب قتل الإمام المفترض طاعته بالنصّ، اجتهاد يهتزّ منه العرش ونحن أيضاً نصافق ابن حزم واُستاذه داود الاصفهاني في ردّ هذا القسم من الاجتهاد الّذي تكون نتيجته نجاح الخوارج المارقين عن الدين ، وما ذكره من الشعر هو لعمران بن حطّان رأس الخوارج في عصره وقد أجابه معاصره القاضي أبوالطيب طاهر بن عبدالله الشافعي قائلاً :

يا ضربة من شقي ما أراد بها

إلاّ ليهدم للاسلام أركاناً

إنّي لأذكره يوما فألعنه

ديناً وألعن عمراناً وحطّاناً

__________________

١ ـ المحلى : ج ١٠ ص ٤٨٢ ـ ٤٨٤.

٢ ـ العقد الفريد : ج ٢ ص ٢٩٨.

٣ ـ مسند أحمد : ج ٤ ص ٢٦٣.

١٦٣

عليه ثم عليه الدّهر متّصلا

لعائن الله إسراراً وإعلانا

فأنتما من كلاب الدّهر

جاء به نصّ الشريعة برهاناً وتبيانا (١)

وله في كتابه « الفصل » كلام يشبه ما ذكره في قاتل الإمام حيث عدّ فيه قاتل عمّار وهو أبو الغادية يسار بن سبع السلمي متأوّلاً مجتهداً مخطئاً مأجوراً بأجر واحد ، وعدّ عمّاراً الثائر على الخليفة فاسقاً محارباً سافكاً دماً حراماً عمداً بلا تأويل على سبيل الظلم والعدوان (٢).

وما تلك المذاهب إلاّ نتيجة تقاعس العلماء الأخيار عن وظيفتهم ، ونتيجة طرد العقل الصحيح الفطري عن مناهج الحياة.

ولا أظنّ أنّ إنساناً منصفاً يفكّر في هذه المناهج والمسالك ، يعدّ دعاة الحرية والاختيار والتعقّل ضلاّلاً كفّارا ، ودعاة الجبرية والتشبية والتجسيم والجمود الفكري علماء وعاة.

( وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَاب فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْم هُدًى ورَحْمَةً لِقَوْم يُؤْمِنُونَ ) ( الأعراف / ٥٢ ).

تمّ الكلام حول الحركات الرجعية الثلاث

__________________

١ ـ مروج الذهب : ج ٢ ص ٤١٥.

٢ ـ الفصل : ج ٤ ص ١٦١.

١٦٤
١٦٥

٧

المعتزلة

المعتزلة بين المدارس الكلاميّة المختلفة ، مدرسة فكريّة عقليّة ، أعطت للعقل القسط الأوفر والسّهم الأكبر حتّى فيما لا سبيل له للقضاء فيه ، ولها من نتائج الفكر والمعرفة ما شهد له التأريخ، ودلّت عليه كتب القوم ورسائلهم الباقية. وما نقله عنهم خصومهم وأعداؤهم. وباختصار ، إنّه مذهب فكري كبير يزخر بمعارف حول المبدأ والمعاد ، وبأنظار عقليّة أو تجريبيّة حول صحيفة الكون.

ومن المؤسف جدّاً أنّ هوى العصبيّة بل يد الخيانة والجناية لعبت بكثير من مخلّفاتهم الفكريّة وأطاحت به فأضاعتها بالخرق والمزق وإن كان فيما بقى وما كشفت عنه بعثة وزارة المعارف المصريّة إلى اليمن ونشرتها (١) كفاية لمن أراد التعرّف على المذهب عن لسان شيوخهم ، ثمّ دراستها ، وسنتلو عليك قائمة الكتب الباقية أو المنشورة في هذه الآونة الأخيرة عنهم ، وبالنّظر إليها يعلم أنّ الباقي يشكل طفيفاً من الكثير المضاع ـ ومع ذلك ـ فهو يستطيع أن يرسم لنا معالم هذا المذهب بوضوح بحيث يغني عن المراجعة إلى كتب خصومهم وأعدائهم.

إنّ ضياع كتب المعتزلة في القرون السابقة وعدم تمكّن الباحثين عنها ، ألجأهم في

__________________

١ ـ أصدرت دار الكتب المصرية عام ١٩٦٧ قائمة المخطوطات العربية المصوّرة بالميكروفيلم من الجمهورية العربية اليمنية. كما قامت بنشر كتب القاضي عبد الجبار رئيس الاعتزال في اوائل القرن الخامس فطبعت منها كتاب شرح الاُصول الخمسة وكتاب المغني له أيضاً في أربعة عشر جزءاً وغيرهما.

١٦٦

كتابة عقائدهم وتحليل اُصولهم إلى الاعتماد على كتب الأشاعرة في مجال علم الكلام والملل والنحل ، ومن الواضح جدّاً أنّ كثيراً من الخصوم ليسوا بمنصفين وموضوعيين وقد نسبوا إليهم ما لا يوافق الاُصول الموثوق بها (١).

إنّ الدّراسة الموضوعيّة الهادفة تكلّف الباحث الرجوع إلى الكتب المؤلفة بيد أعلام المذاهب وخبرائه المعروفين بالحذق والوثاقة ، والاعتماد على كتب الخصوم خارج عن أدب الجدل ورسم التحقيق.

بيد أنّنا نرى كثيراً من الكتّاب المعاصرين يعتمدون في تحليل عقائد الطّوائف الإسلاميّة على « مقالات الإسلاميّين » للشيخ الأشعري و « الفرق بين الفرق » لعبد القادر البغدادي و « الملل والنحل » للشهرستاني ، وهؤلاء كلّهم من أعلام الأشاعرة ويرجع إليهم في الوقوف على التفكير الأشعري ، وأمّا في غيره فلا يكون قولهم ونقلهم حجّة في حقّهم ، إلاّ إذا طابق الأصل ، فإنّ الكاتب مهما يكون أميناً ـ إذا كان في موقف الجدال والنِّقاش وحاول إثبات مقاله وتدمير مقالة الخصم ـ لا يصحّ الرُّكون إلى نقله ، إلاّ إذا أتى بنصّ عبارة الخصم بلا تصرّف ولا تبديل. ومن المعلوم أنّ الكتب المؤلّفة في العصور الماضية لا تسير على هذا المنهاج ، كما هو واضح لمن سبر.

إنّ من الظّلم البارز الاعتماد في تحليل عقائد الطّوائف الإسلاميّة على كتب ابن حزم الأندلسي ( المتوفّى عام ٤٥٦ هـ ) وابن خلدون المغربي ( المتوفّى عام ٨٠٨ هـ ) وغيرهما خصوصاً فيما كتبوه حول الشّيعة لبعدهم عن البيئة الشيعيّة ومؤلّفاتهم ، ولذلك ترى فيها الخبط والخطاء ... وهذا مبلغ علم الشهرستاني واطّلاعه عنهم حيث يذكر الأئمّة الاثني عشر ويقول : إنّ عليّ بن محمّد النقي مشهده بقم (٢) ويكفيك فيما ذكرناه ما قاله أحد معاصريه ( أبو محمّد الخوارزمي ) قال بعد ذكر مشايخه في الفقه

__________________

١ ـ مثلاً نسب إليهم أنّهم لا يقولون بعذاب القبر مع أنّ القاضي في شرح الاُصول الخمسة ص ٧٣٢ يقول : إنّ المعتزلة تقول بعذاب القبر ولا تنكره قال : وأمّا فائدة عذاب القبر وكونه مصلحة للمكلّفين فإنّهم متى علموا أنّهم إن أقدموا على المقبحات وأخلوا بالواجبات عذِّبوا في القبر ... وسيأتي البحث عنه في محلّه.

٢ ـ الملل والنحل : ج ١ ص ١٦٩.

١٦٧

واُصوله والحديث : « ولولا تخبّطه في الاعتقاد وميله إلى الالحاد لكان هو الإمام ، وكثيراً ما كنّا نتعجّب في وفور فضله وكمال عقله وكيف مال إلى شيء لا أصل له واختار أمراً لا دليل عليه لا معقولاً ولا منقولاً ونعوذ بالله من الخذلان والحرمان من نور الإيمان » (١).

اهتمام المستشرقين بتراث المعتزلة

اهتمّ المستشرقون في العصور الأخيرة بدراسة مذهب الاعتزال وما فيه من الخطوط والاُصول في الكون وحياة الإنسان واختياره وحرّيتة ، ولقد أعجبتهم فكرتهم في أفعال العباد وصار ذلك سبباً لاهتمام الجدد من أهل السنّة وبالأخص المصريّين منهم إلى دراسة مذهبهم ونشر كتبهم وتقدير فكرتهم والدّفاع عنهم قدر الامكان وردّ الاعتبار إليهم.

ولأجل ذلك نشرت في العهد القريب كتب تتناول البحث عن ذلك المذهب مثل :

١ ـ تأريخ الجهمية والمعتزلة : لجمال الدين القاسمي الدمشقي ، طبع في القاهرة عام ١٣٣١ هـ .

٢ ـ المعتزلة : تأليف زهدي حسن جار اللّهطبع في القاهرة عام ١٣٦٦ هـ ، وهي رسالة تبحث في تأريخ المعتزلة وعقائدهم وأثرهم في تطوّر الفكر الإسلامي. قدّمها مؤلّفها إلى دائرة التأريخ العربي في كلّية العلوم والآداب بجامعة بيروت الأمريكيّة. ونال عليه رتبة اُستاذ في العلوم وله في الكتاب مواقف موضوعيّة.

٣ ـ فجر الإسلام : لأحمد أمين المصري ، الفصل الرابع ، ص ٢٨٣ ـ ٣٠٣.

٤ ـ ضحى الإسلام : له أيضاً ، الفصل الأوّل ص ٢١ ـ ١٠٧.

٥ ـ تأريخ المذاهب الإسلاميّة : تأليف محمّد أبو زهرة فصل القدريّة ، ص ١٢٣ ـ ١٧٩.

__________________

١ ـ معجم البلدان : ج ٣ ص ٣٧٧ ط بيروت دار احياء التراث العربي مادة شهرستان.

١٦٨

٦ ـ فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة : تحقيق فؤاد السيّد ، نشرته الدار التونسيّة للنشر ، عام ١٤٠٦ هـ ، الطبعة الثّانية ، وهو يضمّ كتباً ثلاثة لأئمّة الاعتزال : أبي القاسم البلخي ، والقاضي عبد الجبّار ، والحاكم الجشمي ، والكتاب مزدان بتحقيقات نافعة.

وهذه العناية الكبيرة المؤكّدة من أبناء الأشاعرة لبيان تأريخ المعتزلة وعقائدهم وإظهار الأسف والأسى لذهاب ثروتهم العلميّة ، وإنشاء بعثة علميّة لأخذ الصّور من مخلّفاتهم الخطّية المبعثرة في بلاد اليمن والقيام بنشرها ، عمل مبارك وجهد مقدّر ، لكن أثاره أبناء الاستشراق في نفوس هؤلاء. هذا هو ( آلفرد جيوم ) اُستاذ الدراسات الشّرقية في جامعة لندن يقول :

« إنّ ما انتهى إلينا من كتابات رجال الاعتزال قليل جدّاً إلى حدّ أنّنا مضطرّون إلى أن نعتمد على ما يقوله مخالفوهم عنهم ، وقد كانوا يحملون لهم ذكريات مريرة لما قام به المعتزلة من أعمال تعسّفيّة لذلك ، فإنّ أملنا لكبير ، إذا كانت مكتبات الشيعة في اليمن أو في غير اليمن تحوي مخطوطات من أصل معتزلي أن نقوم بنشرها. هذا ، وإنّ اُولئك الّذين يرغبون في الوقوف على نتاج العقل العربي في عصور الخلافة الذّهبية ، يحسنون صنعاً إذا أقدموا على درس هذه الرسالة اللمّاعة في تأريخ حركة عظيمة في حركات الفكر العربي » (١).

وهذا « شتيز » المستشرق وصفهم بأنّهم المفكِّرون الأحرار في الاسلام ، وألّف كتاباً بهذا الاسم.

ووصفهم « آدم ميت » و « هاملتون » بأنّهم دعاة الحريّة الفكرية والاستنارة (٢).

وقال « جولد تسيهر » : « إنّ المعتزلة وسّعوا معين المعرفة الدينية بأن أدخلوا فيها عنصراً مهمّاً آخر قيّماً وهو العقل الّذي كان حتّى ذلك الحين مبعداً بشدّة عن هذه

__________________

١ ـ من مقدمة كتاب المعتزلة ، تأليف زهدي حسن جار الله ، قدّم له « آلفرد جيوم » اُستاذ الدراسات الشرقية في جامعة لندن. عام ١٩٤٧ م ١٣٦٦ هـ .

٢ ـ أدب المعتزلة : ص ١٧٢.

١٦٩

الناحية » (١).

وربّما يرد على الأخير بأنّه تجاسر على قلب الحقائق مسقطاً الواقع الّذي يثبت اجتهاد الرّسول والصّحابة والتابعين ... وكتب السنّة والسيرة والتّاريخ والفقه والخلاف والمقارنات الفقهيّة حافلة بما يؤيِّد اجتهادهم وتعويلهم على العقل.

يلاحظ عليه : أنّ كلام هذا الرادّ أقرب إلى قلب الواقع ممّا ذكره « جولد تسيهر » ذلك المستشرق الحاقد على الإسلام ونبيّه ، وذلك لأنّ أهل الحديث والحنابلة ينكرون الحسن والقبح العقليّين ، وإنكار ذلك مساوق لإنكارّ كثير من المعارف الدينيّة ، والمعارف الدينيّة عندهم قائمة على السنّة فقط ، وأحيانا على الكتاب. وأمّا العقل فهو محكوم عندهم بالاعدام ، حتّى أنّ طريق الإمام أبي الحسن الأشعري غير مقبول لدى أهل الحديث والحنابلة ولأجل ذلك ما ذكروه في طبقاتهم ، قائلين بأنّ الشيخ الأشعري يستدلّ على العقائد ، مكان أن يعتمد فيها على الحديث والسنّة.

وأمّا الاعتماد على العقل في الفقه ، فلو اُريد منه القياس والاستحسان فهو من قبيل العقل الظنّي الذي لا يغني من الحقّ شيئاً ، وإن اُريد منه الحكم القطعي من العقل ، فهو مبنيّ على التّحسين والتقبيح العقليين ، وأهل الحديث والحنابلة حتّى الأشاعرة ينكرون إمكان هذا الادراك العقلي.

هذا وللمستشرقين كلمات اُخر في تحسين منهج الاعتزال ضربنا عنها صفحاً.

أحمد أمين ومدرسة الاعتزال

إنّ أحمد أمين ( الكاتب الشهير المصري ) مع أنّه لم يقف من كتب المعتزلة إلاّ على الأقل القليل كالانتصار لأبي الحسين الخيّاط ( م ٣١١ ) ، والكشّاف للزمخشري ( م ٥٣٨ ) ، وبعض كتب الجاحظ ( م ٢٥٥ ) وقد اعتمد في نقل عقائد المعتزلة

__________________

١ ـ المعتزلة بين العمل والفكر : ص ١٠٣، تأليف : علي الشابي ، أبو لبابة حسن ، عبد المجيد النجار. طبع الشركة التونسية.

١٧٠

على كتب الأشاعرة كمقالات الإسلاميين للشيخ الأشعري ( م ٣٢٤ ) ، ونهاية الاقدام للشهرستاني ( م ٥٤٨ ) ، والاقتصاد للغزالي ( م ٥٠٥ ) ، والمواقف للعضدي ( م ٧٧٥ ) إلى غير ذلك ، وهؤلاء كلّهم أعداء المعتزلة ولا يستطيعون تقرير مواقف خصومهم في المسائل مجرّدين عن كلّ انحياز، ـ مع أنّه لم يقف ـ تأثّر كثيراً بمنهج الاعتزال تبعاً لأساتذته الغربيّين ، ولولاهم لما خرج الاُستاذ أحمد أمين عمّا حاكت عليه البيئة المصريّة الأشعريّة من الشباك الفكري قدر أنملة ، ولا بأس بنقل جمل من إطرائه للمعتزلة في فصول مختلفة.

١ ـ يقول حول توحيد المعتزلة وتنزيههم : « وقد كانت نظرتهم في توحيد الله نظرة في غاية السموّ والرفعة ، فطبّقوا قوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) أبدع تطبيق ، وفصّلوه خير تفصيل وحاربوا الأنظار الوضعيّة من مثل أنظار الّذين جعلوا الله تعالى جسماً » (١).

٢ ـ يقول حول نظريّتهم في حرّية العباد : « وقالت المعتزلة بحرّية الإرادة وغلوا فيها أمام قوم سلبوا الإنسان إرادته حتّى جعلوه كالريشة في مهبّ الريح أو كالخشبة في إليمّ. وعندي أنّ الخطأ في القول بسلطان العقل وحرّية الإرادة والغلوّ فيهما خير من الغلوّ في أضدادهما ، وفي رأيي أنّه لو سادت تعاليم المعتزلة إلى إليوم لكان للمسلمين موقف آخر في التأريخ غير موقفهم الحالي وقد أعجزهم التسليم وشلّهم الجبر وقعد بهم التّواكل » (٢).

٣ ـ يقول في حقّ إبراهيم بن سيّار المعروف بالنظّام ، الشخصيّة الرابعة بين المعتزلة بعد واصل بن عطاء ، وعمرو بن عبيد ، وأبي الهذيل العلاف ، اُستاذ الجاحظ وقد توفّي عام ٢٣١ : « أمّا ناحيته العقليّة ففيها الركنان الأساسيّان اللّذان سبّبا النهضة الحديثة في أروبا وهما الشكّ والتجربة ، وأمّا الشكّ فقد كان يعتبره النظّام أساساً للبحث فكان يقول : الشاكّ أقرب إليك من الجاحد ، ولم يكن يقين قطّ حتّى صار فيه شك ، ولم

__________________

١ ـ ضحى الاسلام : ج ٣، ص ٦٨.

٢ ـ نفس المصدر : ج ٣، ص ٧٠.

١٧١

ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتّى يكون بينهما حال شك.

وأمّا التجربة فقد استخدمها كما يستخدمها الطبيعي أو الكيمياوي اليوم في معمله » (١).

وقال أحمد أمين في مقال خاصّ تحت عنوان « المعتزلة والمحدثون » :

كان للمعتزلة منهج خاصّ أشبه ما يكون بمنهج من يسمّيهم الإفرنج العقليين ، عمادهم الشكّ أوّلاً والتجربة ثانياً ، والحكم أخيراً. وللجاحظ فى كتابه « الحيوان » مبحث طريف عن الشك ، وكانوا وفق هذا المنهج لا يقبلون الحديث إلاّ إذا أقرّه العقل ، ويؤوّلون الآيات حسب ما يتّفق والعقل كما فعل الزمخشري في الكشّاف ، ولا يؤمنون برؤية الإنسان للجنّ لأنّ الله تعالى يقول : ( إنّه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ) ويهزأون بمن يخاف من الجن ، ولا يؤمنون بالخرافات والأوهام ، ويؤسّسون دعوتهم إلى الإسلام حسب مقتضيات العقل وفلسفة اليونان ، ولهم في ذلك باع طويل ، ولا يؤمنون بأقوال أرسطو لأنّه أرسطو ، بل نرى في « الحيوان » أنّ الجاحظ يفضّل أحياناً قول أعرابيّ جاهلي بدويّ على قول أرسطو الفيلسوف الكبير.

هكذا كان منهجهم ، وهو منهج لا يناسب إلاّ الخاصّة ، ولذلك لم يعتنق الاعتزال إلاّ خاصّة المثقّفين ، أمّا العوام فكانوا يكرهونه.

ويقابل هذا المنهج منهج المحدِّثين ، وهو منهج يعتمد على الرواية لا على الدراية ، ولذلك كان نقدهم للحديث نقد سند لا متن ، ومتى صحّ السند صحّ المتن ولو خالف العقل ، وقلّ أن نجد حديثاً نُقد من ناحية المتن عندهم ، وإذا عُرض عليهم أمر رجعوا إلى الحديث ولو كان ظاهره لا يتّفق والعقل ، كما يتجلّى ذلك في مذهب الحنابلة.

وكان من سوء الحظّ أن تدخل المعتزلة في السياسة ولم يقتصروا على الدين ،

____________

١ ـ ضحى الاسلام : ج ٣، ص ١١٢.

١٧٢

والسياسة دائماً شائكة ، فنصرهم على ذلك المأمون والواثق والمعتصم ، وامتحنوا النّاس وأكرهوهم على الاعتزال ، فكرههم العامّة واستبطلوا الإمام ابن حنبل الّذي وقف في وجههم ، فلمّا جاء المتوكّل انتصر للرأي العام ضدّهم ، وانتصر للإمام أحمد بن حنبل على الجاحظ وابن أبي دوآد وأمثالهما ، ونكّل بهم تنكيلاً شديداً ، فبعد أن كان يتظاهر الرجل بأنّه معتزلي ، كان الرجل يعتزل ويختفي حتّى عدّ جريئاً كلّ الجراءة الزمخشري الّذي كان يتظاهر بالاعتزال ويؤلّف فيه ، ولم يكن له كلّ هذا الفضل ، لأنّه أتى بعد هدوء الفورة الّتي حدثت ضدّ الاعتزال.

فلنتصوّر الآن ماذا كان لو سار المسلمون على منهج الاعتزال إلى اليوم؟. أظنّ أنّ مذهب الشكّ والتجربة وإليقين بعدهما كان يكون قد ربى وترعرع ونضج في غضون الألف سنة الّتي مرّت عليه ، وكنّا نفضّل الأروبيّين في فخفختهم وطنطنتهم بالشكّ والتجربة الّتي ينسبانها إلى « بيكن » مع أنّه لم يعمل أكثر من بسط مذهب المعتزلة. وكان هذا الشكّ وهذه التّجربة مما يؤدّي حتماً إلى الاختراع وبدل تأخّر الاختراع إلى ما بعد بيكن وديكارت ، كان يتقدم مئات من السنين ، وكان العالم قد وصل إلى ما لم يصل إليه إلى اليوم ، وكان وصوله على يد المسلمين لا على يد الغربيّين ، وكان لا يموت خلق الابتكار في الشرق ويقتصر على الغرب.

فقد عهدنا المسلمين بفضل منهج المحدِّثين يقتصرون على جمع متفرّق أو تفريق مجتمع ، وقلّ أن نجد مبتكراً كابن خلدون الّذي كانت له مدرسة خاصّة ، تلاميذها الغربيّون لا الشرقيون.

فالحقّ أن خسارة المسلمين بإزالة المعتزلة من الوجود كانت خسارة كبرى لاتعوّض.

ثمّ بدأ المسلمون ينهجون منهج الحضارة الغربيّة تقليداً من الخارج لا بعثاً من الداخل ، وشتّان ما بينهما ، فالتقليد للخارج بثّ فيهم ما يسمّيه علماء النفس مركب النقص، فهم يرون أنّهم عالة على الغربيّين في منهجهم ، ولو كان من أنفسهم لاعتزّوا به

١٧٣

وافتخروا ، ولكن ما قُدّر لا بدّ أن يكون ، ولله في خلقه شؤون » (١).

هذا بعض ما تأثّر به الاُستاذ المصري بمنهج الاعتزال فأطلق قلمه بمدحهم ، ولكن لمّا وقف في غضون التأريخ على أنّ المعتزلة تربّت في أحضان البيت العلوي وأنّ واصل بن عطاء مؤسّس المنهج تتلمذ على أبي هاشم بن محمّد الحنفيّة ، وأنّهم أخذوا التوحيد والعدل من الاُصول الخمسة من خطب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ثارت ثورته وثقل عليه البحث لما يكنّه في نفسه من عداء وحقد للشيعة وأئمّتهم فانبرى لتحريف التأريخ وإسدال الستر على الحقيقة وإنكار كون الأصل لبعض اُصول المعتزلة هو البيت العلوي. ولنا معه في ذلك الفصل بحث ضاف فانتظر. هذا والكلام حول هذه الطائفة يأتي في فصول :

__________________

١ ـ رسالة الإسلام التي تصدرها « دار التقريب بين المذاهب الإسلاميّة » بالقاهرة : العدد الثالث من السنة الثالثة.

١٧٤

الفصل الأوّل

سبب تسميتهم بالمعتزلة

لقد شغل بال الباحثين من المسلمين والمستشرقين سبب تسمية هذه الطّائفة بالمعتزلة ، فاختار كلّ مذهباً ، ونحن نأتي بجميع الآراء أو أكثرها على وجه الاجمال ، مع التّحليل والقضاء بينها.

١ ـ اعتزالهم عن علي عليه‌السلام في محاربته لمخالفيه

قال أبو محمّد الحسن بن موسى النوبختي من أعلام القرن الثالث في كتابه « فرق الشيعة » عندالبحث عن الأحداث الواقعة بعد قتل عثمان : « فلمّا قُتِل بايع الناس عليّاً فسمّوا الجماعة ، ثمّ افترقوا بعد ذلك وصاروا ثلاث فرق : فرقة أقامت على ولايته عليه‌السلام ، وفرقة خالفت عليّاً وهم طلحة والزبير وعائشة ، وفرقة اعتزلت مع سعد بن مالك وهو سعدبن أبي وقّاص، وعبدالله بن عمر بن الخطّاب ، ومحمّد بن مسلمة الأنصاري ، واُسامة بن زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ هؤلاء اعتزلوا عن علي عليه‌السلام وامتنعوا عن محاربته والمحاربة معه بعد دخولهم في بيعته والرضا به. فسمّوا المعتزلة ، وصاروا أسلاف المعتزلة إلى آخر الأبد ، وقالوا : لا يحلّ قتال عليّ ولاالقتال معه.

وذكر بعض أهل العلم أنّ الأحنف بن قيس التميمي اعتزل بعد ذلك في خاصّة

١٧٥

قومه من بني تميم لا على التديّن بالاعتزال. ولكن على طلب السلامة في القتل وذهاب المال وقال لقومه : اعتزلوا الفتنة أصلح لكم ».

وذكر (١) نصر بن مزاحم المنقري أنّ المغيرة بن شعبة كان مقيماً بالطّائف لم يشهد صفّين. فقال معاوية : يا مغيرة : ما ترى؟ قال : يا معاوية لو وسعني أن أنصرك لنصرتك ، ولكن عليّ أن آتيك بأمر الرجلين ( أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص ) فركب حتّى أتى دومة الجندل ، فدخل على أبي موسى كأنّه زائر له ، فقال : يا أبا موسى! ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره الدماء؟ قال : اُولئك خيار الناس خفّت ظهورهم من دمائهم وخمصت بطونهم من أموالهم.

ثمّ أتى عمراً فقال : يا أبا عبدالله ! ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره الدماء؟

فقال : اُولئك شرّ الناس لم يعرفوا حقّاً ولم ينكروا باطلا (٢).

غير أنّ شيوخ المعتزلة يردّون هذه الرواية ولا يقيمون لها وزناً. بل يقول البلخي : « ومن الناس من يقول سمّوا معتزلة لاعتزالهم عليّ بن أبي طالب في حروبه ، وليس كذلك ، لأنّ جمهور المعتزلة بل أكثرهم إلاّ القليل الشاذّ منهم يقولون إنّ عليّاً عليه‌السلام كان على صواب ، وإنّ من حاربه فهو ضالّ وتبرّأوا ممّن لم يتب عن محاربته ولا يتولّون أحداً ممّن حاربه إلاّ من صحّت عندهم توبته منهم ، ومن كان بهذه الصفة فليس بمعتزل عنه عليه‌السلام ولا يجوز أن يسمّى بهذا الاسم » (٣).

أقول : لولا أنّ النوبختي ذكر بعد نقل هذه الرواية قوله : « وأنّهم صاروا أسلاف المعتزلة إلى آخر الأبد » لأمكن المناقشة في كونه وجه التسّمية ، وأنّ الاعتزال بالطابع الفكري والعقلي كان استمراراً للاعتزال بطابعه السياسي. إذ من الممكن أن تستعمل كلمة واحدة في طائفتين يجمعهما جامع وهو العزلة وترك الجماعة. فهؤلاء الّذين خذلوا

__________________

١ ـ فرق الشيعة : ص ٥ طبع النجف عام ١٣٥٥ هـ .

٢ ـ وقعة صفين ص ٦٢٠ ـ ٦٢١ طبع مصر.

٣ ـ فضل الاعتزال ص ١٣ ـ ١٤.

١٧٦

عليّاً بترك البيعة والحرب معه ضدّ الناكثين والقاسطين معتزلون ، كما أنّ واصل بن عطاء وتلاميذه معتزلون لأجل تركهم مجلس درس اُستاذه وتلاميذه كما يأتي في الرواية الاُخرى. واطلاق كلمة واحدة على الطائفتين اللّتين لهما طابعان مختلفان لا يدلّ على أنّ الطائفة الثانية هي استمرار للاُولى. وإنّما يمنعنا عن ردّ هذه النّظرية على وجه القطع هو صراحة كلام النوبختي في ذلك.

٢ ـ اعتزالهم عن الحسن بن علي عليهما‌السلام

وهناك رواية اُخرى تدلّ على أنّ تسميتهم بهذا اللّقب لاعتزالهم عن الحسن بن عليّ ومعاوية ، نقله الملطي ( المتوفّى عام ٣٧٣ ) في « التنبيه والردّ » واستحسنه الكوثري (١) وحسب أنّه وقف على أمر بديع. يقول الملطي : « وهم سمّوا أنفسهم معتزلة وذلك عندما بايع الحسن بن عليّ عليهما‌السلام معاوية وسلّم إليه الأمر اعتزلوا الحسن بن علي ومعاوية وجميع الناس ، وذلك أنّهم كانوا من أصحاب علي ولزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا نشتغل بالعلم والعبادة وسمّوا بذلك معتزلة » (٢).

أقول : هذا الرأي قريب من جهة ، لأنّ المعتزلة أخذوا تعاليمهم في التوحيد والعدل عن عليّ عليه‌السلام كما سيأتي ، فليس ببعيد أن يرجع وجه التسمية إلى زمن تصالح الإمام الحسن عليه‌السلام مع معاوية.

ومع ذلك كلّه ، يمكن أن يقال فيه مثل ما قلناه في النظرية السابقة ، وهو أنّه كانت طائفتان مختلفتان لا صلة بينهما سوى الاشتراك الاسمي ، ظهرت إحداهما بعد صلح الحسن عليه‌السلام وكان لها طابع سياسي ، وظهرت الاُخرى في زمن الحسن البصري عند اعتزال واصل عن حلقة بحثه كما سيأتي بيانه ، لها طابع عقلي.

وهناك إشكال آخر يتوجّه على رواية الملطي حيث قال : « وهم سمّوا أنفسهم

__________________

١ ـ تعليق « تبيين كذب المفتري » ص ١٠.

٢ ـ التنبيه والرد ص ٢٦.

١٧٧

معتزلة » وهو أنّ لفظ الاعتزال ليس لفظاً يعرب عن المنهج حتّى يطلقوا هذا الاسم على أنفسهم ، إن لم يكن فيه دلالة على ذمّ ما.

٣ ـ اعتزال عامر عن مجلس الحسن البصري

وهناك رواية ثالثة رواها ابن دريد يتحدّث عن بني العنبر قال : « ومن رجالهم في الإسلام عامر بن عبدالله يقال له عامر بن عبد قيس ، وكان عثمان بن عفّان كتب إلى عبدالله بن عامر أن يسيّره إلى الشام ، لأنّه يطعن عليهم وكان من خيار المسلمين وله كلام في التوحيد كثير ، وهو الّذي اعتزل الحسن البصري فسمّوا المعتزلة » (١).

وروى أبو نعيم بالإسناد عن الحسن البصري أنّه قال : « كان لعامر بن عبدالله بن عبد قيس مجلس في المسجد فتركه حتّى ظننّا أنّه قد ضارع أصحاب الأهواء ، قال : فأتيناه فقلنا له : كان لك مجلس في المسجد فتركته؟ قال : أجل ، إنّه مجلس كثير اللغط والتّخليط ، قال : فأيقّنا أنّه قد ضارع أصحاب الأهواء ، فقلنا : ما تقول فيهم؟ قال : وما عسى أن أقول فيهم ... الخ » ، ونقل أبو نعيم الاصفهاني أيضاً أنّه عتب أبو موسى الأشعري (٢) عامربن عبد قيس اعتزاله مجلسه الّذي اعتاده في المسجد ، فكتب إليه قائلاً :

« فإنّي عهدتك على أمر وبلغني أنّك تغيّرت فاتّق الله وعد » (٣).

وقال المعلِّق على كتاب « فضل الاعتزال » : إذا كان ابن دريد وأبو نعيم لم يحدّدا لنا زمن اعتزال عامر بن عبد قيس ، فمن الممكن أن نستنتج أنّه تمّ في خلال تسع سنوات من سنة ٣٥ وهو تأريخ اعتزال جماعة سعد بن أبي وقّاص إذ عناهم الحسن البصري في حديثه ، إلى سنة ٤٤ وهو تأريخ وفاة أبي موسى الأشعري إذ أفاد أبو نعيم أنّه عاتب عامر لاعتزاله مجلسه ».

__________________

١ ـ الاشتقاق ج ١ ص ٢١٣ كما في تعاليق « فضل الاعتزال » ص ١٥.

٢ ـ كان أبو موسى والي الكوفة أواخر خلافة عثمان إلى عام ٣٦، حتّى عزله علي عليه‌السلام لأجل قعوده عن نصرة الامام.

٣ ـ حلية الأولياء : ج ٢ ص ٩٣ ـ ٩٥.

١٧٨

يلاحظ عليه : أنّ الحسن البصري ولد بالمدينة عام (٢١) ، ثمّ سكن البصرة وتوفّي عام (١١٠) ، فمن البعيد أن يكون له مجلس بحث في المسجد وهو من أبناء العشرين أو دونه ، فلو صحّ ما حدّده المعلّق من زمن الاعتزال يلزم أن يكون له مجلس بحث في المسجد بين أعوام ٣٥ ـ ٤٤، ويكون عامر بن عبدالله الشخصيّة المعروفة أحد حضّار بحثه ، وقد قدّر الزركلي في كتابه « الأعلام » وفاة عامر نحو سنة (٥٥) (١).

ثمّ إنّ عتب أبي موسى لا يصحّ أن يكون في خلال تسع سنوات بين أعوام ٣٥ ـ ٤٤ لأنّه عزل عن الولاية عام ٣٦ وغادر الكوفة ولم يرجع إليها ، ولمّا أصدر حكمه الجائر في دومة الجندل ضدّ عليّ عليه‌السلام خاف من انتفاضة الناس وثورتهم عليه ، وغادرها إلى مكّة المكرّمة ومات بها عام ٤٣ أو ٤٤. ولو صحّ عتابه لكان قبل سنة ٣٦، وهذا يستلزم أن تكون للحسن حلقة بحث في أوان البلوغ ، وهو بعيد ، مع وجود وجوه الصّحابة وأكابر التّابعين في الكوفة.

ثمّ لو صحّت الرواية لما صحّ أن يكون عامر بن عبدالله ، المؤسّس الأوّل لمذهب الاعتزال وإن استعمل في حقّه كلمة الاعتزال ، لأنّ كلمة الاعتزال في تلك العصور كانت رمزاً للتخلّف عن الفكرة السائدة على المجتمع ، فمن خالف الفكرة وانحاز عنها ، أطلق على فعله الاعتزال وعلى نفسه المعتزل ، ازدراءً به ، وتلك الكلمة بمنزلة الرجعية في أعصارنا هذه ، وما جاء في تلك الروايات إشارة إلى أنّ هؤلاء اعتزلوا عن السياسة السائدة على المجتمع كما في اعتزال سعدبن أبي وقّاص ونظائره. أو اعتزال جماعة عن الحسن بن عليّ عليهما‌السلام أو عن الفكرة الدينيّة كما في الرواية الثالثة. والحقّ في التسمية ما نذكره في القول الرابع وقد تواتر نقله.

٤ ـ اعتزال واصل عن مجلس الحسن البصري

قد عرفت أنّ حكم مرتكب الكبيرة قد أوجد ضجّة كبيرة في الأوساط الإسلاميّة

__________________

١ ـ الأعلام : ج ٤، ص ٢١.

١٧٩

في عصر عليّ عليه‌السلام وبعده ، حيث عدّ الخوارج مرتكب الكبيرة كافراً ، كما عدّه غيرهم مؤمناً فاسقاً ، وعدّت المرجئة من شهد بالتوحيد والرسالة لساناً أو جناناً مؤمناً. وقد أخذت المسألة لنفسها مجالاً خاصّاً للبحث عدّة قرون. وكان للمسألة في زمن الحسن البصري دويّ خاصّ.

نقل الشهرستاني أنّه دخل واحد على الحسن البصري فقال : يا إمام الدين! لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر ، والكبيرة عندهم لا تضرّ مع الإيمان ، بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان ، ولا يضرّ مع الإيمان معصية ، كما لا تنفع مع الكفر طاعة وهم مرجئة الاُمّة فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟

فتفكّر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب ، قال واصل بن عطاء : أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً ، بل هو في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر. ثمّ قام واعتزل إلى اسطوانة المسجد يقرّر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن ، فقال الحسن : اعتزل عنّا واصل ، فسمّي هو وأصحابه : معتزلة (١).

و ربّما نسبت هذه الواقعة بشكل آخر إلى « عمرو بن عبيد ». قال ابن خلّكان في ترجمة قتادة السدوسي : « كان قتادة من أنسب الناس كان قد أدرك ذعفلاً وكان يدور البصرة أعلاها وأسفلها بغير قائد فدخل مسجد البصرة ، فإذا بعمرو بن عبيد ونفر معه قد اعتزلوا من حلقة الحسن البصري وحلّقوا وارتفعت أصواتهم ، فأمّهم وهو يظن أنّها حلقة الحسن ، فلمّا صار معهم عرف أنّها ليست هي. فقال : إنّما هؤلاء المعتزلة ، ثمّ قام عنهم فمذ يومئذ سمّوا المعتزلة » (٢).

وتظهر تلك النّظرية من الشيخ المفيد في « أوائل المقالات » حيث قال : « وأمّا المعتزلة وما وسمت به من اسم الاعتزال ، فهو لقب حدث لها عند القول بالمنزلة بين المنزلتين ، وما أحدثه واصل بن العطاء من المذهب في ذلك ونصب من الاحتجاج له ،

__________________

١ ـ الفرق بين الفرق : ص ٢١، وفي ذيل عبارته ما يدل على أنّ تسميتهم بها لأمر آخر سيوافيك بيانه.

٢ ـ وفيات الأعيان ج ٤ ص ٨٥ رقم الترجمة ٥٤١.

١٨٠