بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٩

صغارالتّابعين ، وما علمته روى شيئاً ، لكنّه زرع شرّاً عظيماً » (١).

قال المقريزي : « الجهميّة أتباع جهم بن صفوان التّرمذي مولى راسب ، وقتل في آخر دولة بني أُميّة ، وهو :

١ ـ ينفي الصفات الإلهية كلّها ، ويقول : لا يجوز أن يوصف الباري بصفة يوصف بها خلقه.

٢ ـ أنّ الإنسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالقدرة ، ولا الإستطاعة.

٣ ـ أنّ الجنّة والنار يفنيان ، وتنقطع حركات أهلهما.

٤ ـ أنّ من عرف اللّه ولم ينطق بالإيمان لم يكفر ، لأنّ العلم لا يزول بالصمت ، وهو مؤمن مع ذلك.

وقد كفّره المعتزلة في نفي الاستطاعة. وكفّره أهل السنّة بنفي الصفات وخلق القرآن ونفي الرؤية.

٥ ـ وانفرد بجواز الخروج على السلطان الجائر.

٦ ـ وزعم أنّ علم الله حادث لا بصفة يوصف بها غيره (٢).

وقد ذكر ابن الأثير في حوادث سنة ( ١٢٨ هـ ) كيفيّة قتله بيد نصر بن سيّار ، ومن أراد فليرجع إليه (٣).

وقد نسب إليه عبد القاهر البغدادي ، أُصولاً تقرب ممّا نسب إليه المقريزي في خططه على ما عرفت.

وقال : « وكان جهم مع ضلالاته الّتي ذكرناها يحمل السّلاح ويقاتل السلطان

__________________

١ ـ ميزان الاعتدال : ج ١ ص ٤٢٦ رقم الترجمة ١٥٨٤.

٢ ـ الخطط المقريزية : ج ٣، ص ٣٤٩ ولاحظ ص ٣٥١.

٣ ـ الكامل لابن الأثير : ج ٥ ص ٣٤٢ ـ ٣٤٥.

١٤١

وخرج مع السريج بن حارث (١) على نصر بن سيّار وقتله سلم بن أحوز المازني في آخر زمان بني مروان ، وأتباعه اليوم ب ـ ( نهاوند ) ، وخرج إليهم في زماننا إسماعيل بن إبراهيم بن كبوس الشيرازي الديلمي ، فدعاهم إلى مذهب شيخنا أبي الحسن الأشعري ، فأجابه قوم منهم وصاروا مع أهل (٢) السنّة.

وقد نسب إليه الشهرستاني عدّة أُمور نذكر منها أمرين :

١ ـ إنّ الإنسان لا يقدر على شيء ، ولا يوصف بالإستطاعة وإنّما هو مجبور على أفعاله لا قدرة له ، والله هو الّذي يخلق الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات ، وتنسب إليه الأفعال مجازاً كما تنسب إلى الجمادات ، كما يقال أثمرت الشّجرة ، وجرى الماء ، وتحرّك الحجر ، وطلعت الشّمس وغربت ، وتغيّمت السماء وأمطرت ، واهتزّت الأرض وأنبتت ، إلى غير ذلك ، والثّواب والعقاب جبر. كما أنّ الأفعال كلّها جبر. قال : وإذا ثبت الجبر فالتكليف إذاً جبر.

٢ ـ إنّ حركات أهل الخلدين تنقطع ، والجنّة والنار تفنيان بعد دخول أهلهما فيهما ، وتلذّذ أهل الجنّة بنعيمها ، وتألّم أهل النار بجحيمها ، إذ لا تتصوّر حركات لا تتناهى آخراً ، كما لا تتصوّر حركات لا تتناهى أوّلاً. وحمل قوله تعالى ( خالدين فيها ) على المبالغة والتأكيد دون الحقيقة في التخليد. كما يقال خلد الله ملك فلان ، واستشهد على الانقطاع بقوله تعالى : ( خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمواتُ وَالأرضُ إلاّ ما شاءَ رَبُّكَ ) ( هود / ١٠٧ ) فالآية اشتملت على شريطة واستثناء ، والخلود والتأبيد لا شرط فيه ولااستثناء (٣).

وقد نقل الشهرستاني عنه أُموراً أُخر ، مضى بعضها في كلام غيره.

أقول : قاعدة مذهبه أمران :

____________

١ ـ في تاريخ الطبري : الحارث بن سريج وهو الصحيح.

٢ ـ الفرق بين الفرق : ص ٢١٢.

٣ ـ الملل والنحل : ج ١، ص ٨٧ ـ ٨٨.

١٤٢

الأوّل : الجبر ونفي الاستطاعة والقدرة ، فالجهم بن صفوان رأس الجبر وأساسه ، ويطلق عليه وعلى أتباعه الجبريّة الخالصة في مقابل غير الخالص منها.

قال الشهرستاني : « الجبر هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الربّ تعالى ، والجبريّة أصناف ، فالجبرية الخالصة هي الّتي لا تثبت للعبد فعلاً ولا قدرة على الفعل أصلاً. والجبريّة المتوسطة هي الّتي تثبت للعبد قدرة غير مؤثّرة أصلاً. فأمّا من أثبت للقدرة الحادثة أثراً مّا في الفعل وسمّى ذلك كسباً فليس بجبري » (١).

يلاحظ عليه : أنّ الفرق الثلاث كلّهم جبريّون من غير فرق بين نافي القدرة والاستطاعة كما عليه « الجهم » أو مثبتها ، لكن قدرة غير مؤثّرة ، بل مقارنة لإيجاده سبحانه فعل العبد وعمله ، أو مؤثّرة في اتّصاف الفاعل بكونه كاسباً والفعل كسباً ، لما عرفت من أنّ القول بالكسب نظريّة مبهمة جدّاً لا ترجع إلى أصل صحيح ، وأنّ القول بأنّه سبحانه هو الخالق المباشر لكلّ شيء لا يترك لنظريّة الكسب مجالاً للصحّة ، لأنّ الكسب لو كان أمراً وجوديّاً فالله هو خالقه وموجده ( أخذاً بانحصار الخلق في الله ) ، وإن كان أمراً عدميّاً اعتبارياً ، فلا يخرج الفاعل من كونه فاعلاً مجبوراً (٢).

وعلى أيّ تقدير ، فالقول بالجبر وإذاعته بين الناس وانقيادهم له كان حركة رجعيّة إلى العصر الجاهلي ، وقدكان الجبر سائداً على مشركي العرب وغيرهم (٣).

الثاني : تعطيل ذاته سبحانه عن التوصيف بصفات الكمال والجمال ومن هنا نجمت المعطّلة. ولكنّه لم يتبيّن لي صدق ما نسبه إليه البغداديّ والشهرستاني من أنّه قال : لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه ، لأنّ ذلك يقتضي تشبيهاً ، فنفى كونه حيّاً عالماً وأثبت كونه قادراً ، فاعلاً ، خالقاً ، لأنّه لا يوصف شيء من خلقه بالقدرة والفعل والخلق (٤).

__________________

١ ـ الملل والنحل : ج ١، ص ٨٦.

٢ ـ راجع : الجزء الثاني من كتابنا هذا ص ١٣٠ ـ ١٥٣.

٣ ـ راجع : الجزء الأول ص ٢٣٢.

٤ ـ الملل والنحل : ج ١ ص ٨٦.

١٤٣

وأظنّ أنّ مراده من قوله « بصفة يوصف بها خلقه » هي الصفات الخبرية ، كاليد ، والعين ، والرجل ، وما أشبهها ، مما أصرّ أهل الحديث والحشوية على توصيفه سبحانه بها ، بالمعنى اللغوي الملازم للتجسيم والتشبيه.

هاتان قاعدتا مذهب الجهم ، وأمّا غيرهما ممّا نسب إليه ، فمشكوك جدّاً ، وبما أنّه استدلّ لمذهبه في مورد عدم الخلود في الجنّة والنار بما عرفت من الآية ، فنرجع إلى توضيح الآية فنقول :

جعل الجهم الاستثناء في الآية دليلاً على عدم الخلود.

يلاحظ عليه : أنّه استدلّ بالآية على عدم الخلود بوجهين :

الأوّل : تحديد الخلود بمدّة دوام السماوات والأرض وهما غير مؤبّدتين بالضّرورة قال سبحانه : ( مَا خَلَقْنَا السَّمواتِ وَالأرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا إلاّ بِالحقِّ وأَجَلٌ مُسَمَّى ) ( الأحقاف / ٣ ) وقال تعالى : ( وَالسَّمواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) ( الزمر / ٦٧ ).

الثاني : الاستثناء الوارد في الآية من الخلود بقوله : ( إلاّ ما شاء ربّك ) في كلا الموردين : نعيم الجنّة وعذاب الجحيم.

أمّا الأوّل : فالإجابة عنه واضحة ، لأنّ المراد من السماوات والأرض فيها ، ليس سماء الدنيا وأرضها ، بل سماء الآخرة وأرضها ، والاُوليتان فانيتان ، والاُخريتان باقيتان والله سبحانه يذكر للنظام الآخر أرضاً وسماءً غير ما في الدنيا. قال تعالى : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمواتُ وَبَرَزُوا للّهِ الوَاحِدِ القَهّارِ ) ( إبراهيم / ٤٨ ) وقال حاكياً عن أهل الجنّة : ( وَقَالُوا الحَمْدُ للّهِ الّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وأَوْرَثنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ) ( الزمر / ٧٤ ) فللآخرة سماء وأرض ، كما أنّ فيها جنّة وناراً ولهما أهل ، وتحديد بقاء الجنّة والنار وأهلها بمدّة دوام السماوات والأرض راجع إلى سماء الآخرة وأرضها وهما مؤبّدتان غير فانيتين ، وإنّما تفنى سماء الدنيا وأرضها ، وأمّا السماوات الّتي تظلّل الجنّة مثلاً والأرض الّتي تقلّها وقد أشرقت بنور ربّها فهما ثابتتان غير زائلتين.

١٤٤

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه وصف الجنّه بأنّها عنده وقال : ( مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللّهِ بَاق ) ( النحل / ٩٦ ) فالجنّة باقية غير فانية ، ولا يفترق عنها الجحيم ونارها.

وأمّا الإشكال الثاني فالجواب عنه في مورد الجنّة أوضح من الآخر ، لأنّه يذكر فيها قوله ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ ) الظّاهر في دوام النعمة وعدم تحقّق المشيئة.

توضيح ذلك أنّه سبحانه يقول في مورد أهل النار :

( فَأَمّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمواتُ وَالأَرْضُ إلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعّالٌ لِمَا يُريدُ ) ( هود ١٠٦ ـ ١٠٧ ).

ويقول في أهل الجنّة :

( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمواتُ وَالأرْضُ إلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ ) ( هود / ١٠٨ ).

ترى أنّه سبحانه يذيّل المشيئة في آية الجنّة بقوله : ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ ) (١) الدالّ على عدم انقطاع النعمة ، وأنّ تلك المشيئة أي مشيئة الخروج لا تتحقّق.

وعلى كلّ تقدير ، فالجواب عن الاستثناء في الآيتين هو أنّ الاستثناء مسوق لاثبات قدرة الله المطلقة ، وأنّ قدرة الله سبحانه لا تنقطع عنهم بإدخالهم الجنّة والنار ، وملكه لا يزول ولا يبطل ، وأنّ قدرته على الاخراج باقية ، فله تعالى أن يخرجهم من الجنّة وإن وعد لهم البقاء فيها دائماً ، لكنّة سبحانه لا يخرجهم لمكان وعده ، والله لا يخلف الميعاد.

نعم قوله سبحانه في آية النّار ( إِنَّ رَبَّكَ فَعّالٌ لِمَا يُريدُ ) يشير إلى تحقّق المشيئة في جانب النار كما في المسلمين العصاة دون المشركين والكفار.

التطوير في لفظ « الجهمي »

لمّا كان نفي الصفات عن الله ، والقول بخلق القرآن ونفي الروٌية ، ممّا نسب إلى

__________________

١ ـ مقالات الاسلاميين : ج ٢ ص ٤٩٤، والفرق بين الفرق ص ٢١١.

١٤٥

منهج الجهم وقد عرفت أساس مذهبه فيما مر ، صار لفظ « الجهميّ » رمزاً لكلّ من قال بأحد هذه الاُمور ، وإن كان غير قائل بالجبر ونفي القدر. ولأجل ذلك ربّما تطلق الجهميّة ويراد منها المعتزلة أو القدريّة ، وعلى هذا الأساس يقول أحمد بن حنبل :

« والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر ، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله ووقف ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق ، فهو أخبث من الأوّل ، ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة ، والقرآن كلام الله ، فهو جهمي ، ومن لم يكفِّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم » (١).

نعم ، القوم وإن نسبوا إلى الجهم كون القرآن مخلوقاً ، لكنّه بعيد جدّاً ، لأنّه مات في آخر دولة الأمويين ولم تكن المسألة معنونة في تلك الأيّام ، وإنّما طرحت في العصر العبّاسي خصوصاً في عصر المأمون.

وقد ألّف البخاري والإمام أحمد (٢) كتابين في الردّ على الجهمية وعنيا بهم المعتزلة. والمعتزلة يتبرّأون من هذا الاسم. ويتبرّأ بشر بن المعتمر ـ أحد رؤساء المعتزلة ـ من الجهميّة في ارجوزته إذ يقول :

ننفيهم عنّا ولسنا منهم

ولا هم منّا ولا نرضاهم

إمامهم جهم وما لجهم

وصحب عمرو ذي التقى والعلم (٣)

ويريد عمرو بن عبيد الرئيس الثاني للمعتزلة بعد واصل بن عطاء.

وعلى كلِّ تقدير ، فعدُّ المعتزلة « جهميّة » ظلم واعتساف ، ولم يذكر أحد منم الجهم من رجالهم ، وقد أرسل واصل بن عطاء ، حفص بن سالم إلى خراسان ، وأمره

__________________

١ ـ السنّة لأحمد بن حنبل : ص ٤٩.

٢ ـ طبع مع كتاب السنّة له.

٣ ـ فجر الاسلام : ص ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

١٤٦

بلقائه فمناظرته وإنّه لقيه في مسجد « ترفد » حتّى قطعه (١).

مقاتل بن سليمان المجسِّم

إنّ القضاء على العقل في ساحة العقائد ، والاعتماد على النّقل المحض ـ الّذي انقطع أثره بعد رحلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عصر أبي جعفر المنصور ـ إلاّ شيئاً لا يذكر أيّد هذه الحركات الرجعيّة لو لم نقل إنّة أنتجها.

ومن رافع ألوية التشبيه والتجسيم ، وناقل أقاصيص الأحبار والرهبان في القرن الثاني ، هو مقاتل بن سليمان الذي كان هو وجهم بن صفوان في مسألة التنزيه والتشبيه على طرفي نقيض ، فالأوّل غلا في التنزيه حتى عطّل ، وذاك غلا في الاثبات حتى شبّه فهذا معطّل وذاك مشبّه ، وقد مُلئت كتب التفاسير بأقوال مقاتل وآرائه فليعرف القارئ مكانه في الوثاقة وتنزيه الربّ عن صفات الخلق.

قال ابن حبّان : « كان يأخذ من اليهود والنصارى في علم القرآن الّذي يوافق كتبهم ، وكان يشبّه الربّ بالمخلوقات ، وكان يكذب في الحديث ».

قال أبو حنيفة : « أفرط جهم في نفي التشبيه ، حتّى قال إنّه تعالى ليس بشيء ، وأفرط مقاتل في الاثبات حتّى جعله مثل خلقه ».

وقال وكيع : « كان كذّاباً ».

وقال البخاري : « قال سفيان بن عيينة : سمعت مقاتلاً يقول : إن لم يخرج الدجّال في سنة خمسين ومائة فاعلموا أنّي كذّاب » (٢).

__________________

١ ـ طبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار : ٩٧ ـ ١٦٣.

٢ ـ لم يخرج الدجال في هذه السنة ولا بعدها ، فهل يبقى الشك في أنه كذّاب؟ نعم ، مات هو في تلك السنة فبموته مات الدجل والكذب القائم به.

١٤٧

وقال النسائي : « كان مقاتل يكذب ».

وقال الجوزجاني : « كان دجّالاً جسوراً. سمعت أبا اليمان يقول : قدم هيهنا فلمّا أن صلّى الإمام أسند ظهره إلى القبلة وقال : سلوني عمّا دون العرش، وحدّثت أنّه قال مثلها بمكّة ، فقام إليه رجل ، فقال : أخبرني عن النّملة أين أمعاؤها؟

تم الكلام في الجهمية

١٤٨
١٤٩

٥

الكراميّة

الحركات الرجعيّة

وهذه الفرقة منسوبة إلى محمّد بن كرّام السجستاني شيخ الكرامية ( م ٢٥٥ ).

قال الذهبي : « ساقط الحديث على بدعته ، أكثر عن أحمد الجويباري ومحمّد بن تميم السعدي وكانا كذّابين ».

قال ابن حبّان : « خذل ، حتّى التقط من المذاهب أردأها ، ومن الأحاديث أوهاها ... وجعل الإيمان قولاً بلا معرفة ».

وقال ابن حزم : « قال ابن كرّام : الإيمان قول باللسان ، وإن اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن. ومن بدع الكرّاميّة قولهم في المعبود تعالى إنّه جسم لا كالأجسام وقد سُقت أخبار ابن كرّام في تأريخي الكبير. وله أتباع ومريدون وقد سجن في نيسابور لأجل بدعته ثمانية أعوام ، ثم أخرج وسار إلى بيت المقدس ، ومات بالشام سنة ٢٥٥ هـ . » (١).

يلاحظ عليه : أنّ ما أسماه مؤمناً سمّاه القرآن منافقاً. قال سبحانه ( إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) ( المنافقون / ١ ).

__________________

١ ـ ميزان الاعتدال : ج ٤ ص ٢١.

١٥٠

وقاعدة مذهبه التجسيم ، وتوصيف الواجب باُمور حادثة ، وكلّ ما يذكره أصحاب الملل والنحل يرجع إلى هذا الأصل ، وأمّا أصنافهم فقد ذكر البغدادي أنّ للكرّامية بخراسان ثلاثة أصناف : حقائقية ، والطزائقية واسحاقية (١) وذكر الشهرستاني لها اثنتي عشرة فرقة وأنّ اُصولها ستّة.

وكانت الحركة الكرّامية ، حركة رجعية بحتة حيث دعا أتباعه إلى تجسيم معبوده ، وأنّه جسم له حدّ ونهاية من تحت والجهة الّتي منها يلاقي عرشه. وقال البغدادي : وهذا شبيه بقول الثنوية : إنّ معبودهم الّذي سمّوه نوراً ، يتناهى من الجهة التي تُلاقي الظلام وإن لم يتناه من خمس جهات.

ومن عقائده : أنّ معبودهم محلّ للحوادث وزعموا أنّ أقواله وإراداته ، وإدراكاته للمرئيات ، وإدراكاته للمسموعات ، وملاقاته للصفحة العليا من العالم ، أعراض حادثة فيه ، وهو محلّ لتلك الحوادث الحادثة فيه (٢).

ومن غرائب آرائه أنّه وصف معبوده بالثِّقل وذلك أنّه قال في كتاب « عذاب القبر » في تفسير قول الله عزّ وجلّ : ( إذا السماء انفطرت ) : أنّها انفطرت من ثقل الرحمان عليها.

إلى غير ذلك من المضحكات والمبكيات في الاُصول والفقه. وقد ذكر البغدادي آراءه الفقهيّة أيضاً وذكر فيه قصّة عجيبة من أرادها فليرجع إليه (٣).

إنّ للكرّامية نظريات في موضوعات اُخر ، ذكرها البغدادي ، وقد بلغت جرأتهم في باب النبوّة حتّى قال بعضهم : إنّ النّبيّ أخطأ في تبليغ قوله « ومناة الثالثة الاُخرى » حتّى قال بعده : « تلك الغرانيق العلى ، وإنّ شفاعتها ترتجى » (٤).

____________

١ ـ الفرق بين الفرق : ص ٢١٥.

٢ ـ الملل والنحل : ج ١ ص ١٠٨.

٣ ـ الفرق بين الفرق : ص ٢١٨ ـ ٢٢٥.

٤ ـ الفرق بين الفرق : ص ٢٢٢.

١٥١

مع أنّ قصّة الغرانيق اقصوصة ابتدعها قوم من أهل الضلالة وقد أوضحنا حالها في محاضراتنا باسم سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » فلاحظ.

ونكتفي بهذا النزر في بيان عقائدهم وكلّها وليد إقصاء العقل والمنطق عن ساحة العقائد والاكتفاء بالروايات ، مع ما فيها من أباطيل وترّهات وضعها الأعداء ، واختلقتها الأهواء فهي من أسوأ الحركات الرجعية ، الظاهرة في أواسط القرن الثالث.

تم الكلام في الكرّامية

١٥٢
١٥٣

٦

الظاهرية (١)

الحركات الرجعية

وهذا المسلك الفقهي منسوب إلى داود بن علي الاصفهاني الظاهري ( ت ٢٠٠ ـ م ٢٧٠ ) وسمع من سليمان بن حرب وأبي ثور.

قال الخطيب : « كان إماماً ورعاً ، زاهداً ناسكاً ، وفي كتبه حديث كثير لكنّ الرواية عنه عزيزة جدّاً » (٢).

وقال ابن خلّكان : « كان من أكثر النّاس تعصّباً للإمام الشافعي وصنّف في فضائله والثناء عليه كتابين ، وكان صاحب مذهب مستقلّ وتبعه جمع كثير ـ يعرفون بالظّاهرية ـ وكان ولده ـ أبوبكر محمّد ـ على مذهبه ، وانتهت إليه رئاسة العلم ببغداد » (٣).

وقد بسط الخطيب الكلام في تأريخه ونقل بعض ما رواه وأشار إلى جوانب من حياته (٤).

__________________

١ ـ التعرّض للمذهب الظاهري في المقام مع أنّه مذهب فقهي لا كلامي ، لاشتراكه مع الحركات الرجعية الكلامية في طرد العقل والتفكير عن ساحة العلم ، وقد ظهر ذلك المذهب في نفس الوقت الذي ظهرت فيه سائر المناهج الفكرية الكلامية والكل يحمل طابعاً واحداً وهو اعدام العقل واقصاؤه عن الأوساط العلمية فناسب ذكره في المقام.

٢ ـ ميزان الاعتدال ج ٢ ص ١٥.

٣ ـ وفيات الأعيان ج ٢ ص ٢٥٥.

٤ ـ تاريخ بغداد للخطيب ج ٨ ص ٣٦٩.

١٥٤

وما أسّسه من المذهب يرتبط بالفروع والأحكام ، لا العقائد والاُصول فالمصدر الفقهي عنده هو النّصوص، بلا رأي في حكم من أحكام الشرع ، فهم يأخذون بالنصوص وحدها وإذا لم يكن النصّ أخذوا بالاباحة الأصليّة.

أقول : إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد يستلزم طرده عن ساحة الفقه بوجه أولى ، لأنّ أساسه هو التعبّد بالنصوص، وعدم الافتاء بشيء لا يوجد له أصل في الكتاب والسنّة ، لكنّ الجمود على حرفيّة النصوص شيء والتعبّد بالنصوص وعدم الافتاء في مورد لا يوجد فيه أصل ودلالة في المصدرين الرئيسيين شيء آخر. فالظاهرية على الأوّل ، والفقهاء على الثّاني ، ولأجل إيضاح الحال نأتي بمثالين :

١ ـ إنّ الشكل الأوّل من الأشكال الأربعة ضروريّ الإنتاج من غير فرق بين الاُمور التكوينيّة أو الأحكام الشرعيّة ، فكما أنّ الحكم بحدوث العالم نتيجة حتميّة لقولنا : العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث ، فهكذا الحكم بحرمة كلّ مسكر ، نتيجة قطعيّة لقولنا : الفقاع مسكر ، وكلّ مسكر حرام ، فالفقاع حرام. لكنّ الظاهري يقبل المقدّمتين ولكن لا يفتي بالنتيجة بحجّة أنّها غير مذكورة في النصوص.

٢ ـ ما يسمّيه الفقهاء بلحن الخطاب وإن كان شيئاً غير مذكور في نفس الخطاب ، لكنّه من اللوازم البيِّنة له ، بحيث يتبادر إلى الذّهن من سماعه ، فإذا خاطبنا سبحانه بقوله : ( فَلا تَقُلْ لَهُما اُفّ ) ( الإسراء / ٢٣ ) يتوجّه الذهن إلى حرمة ضربهما وشتمهما بطريق أولى ، ولكنّ الفقيه الظّاهري يأبى عن الأخذ به بحجّة كونه غير منصوص.

قال سبحانه : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يَغْفِرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأوَّلِينَ ) ( الأنفال / ٣٨ ) فالموضوع للحكم « مغفرة ما سلف عند الانتهاء » وإن كان هو الكافر ، لكن الذهن السليم يتبادر إلى فهم شيء آخر لازم لهذا الحكم بالضّرورة وهو تعميم الحكم إلى المسلم أيضاً بوجه آكد. ولكنّ الظّاهري يتركه بحجّة أنَّه غير مذكور في النصّ.

١٥٥

وهذا النوع من الجمود يجعل النُّصوص غير كافلة لاستخراج الفروع الكثيرة وتصبح الشريعة ناقصة من حيث التشريع والتقنين ، وغير صالحة لجميع الأجيال والعصور ، وفاقدة للمرونة اللازمة الّتي عليها أساس خاتمية نبوّة نبيّنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتابه وسنتّه و ....

وهؤلاء بين السنّة كالاخباريين بين الشيعة ، غير أنّ الظاهرية ظهرت في القرن الثالث وقد عمل فيما لا نصّ فيه بالإباحة الأصليّة ، والأخباريّة ظهرت في الشيعة في القرن العاشر وهم يعملون فيما لانصّ فيه بالاحتياط.

إنّ الاكتفاء بظاهر الشريعة وأخذ الأحكام من ظواهر النصوص له تفسيران; أحدهما صحيح جدّاً ، والآخر باطل ، فإن اُريد منه نفي الظنون الّتي لم يدلّ على صحّة الاحتجاج بها دليل ، فهو نفس نصّ الكتاب العزيز. قال سبحانه : ( قُلْ ءَاللّهُ أذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) ( يونس / ٥٩ ) ، فالشيعة الإماميّة بفضل النصوص الوافرة عن أئمّة أهل البيت المتصلة أسنادها إلى الرسول الإكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استطاعت أن تستخرج أحكام الحوادث والموضوعات الكثيرة منها ، وامتنعت عن العمل بالقياس والاستحسان وغيرهما من الأدلّة الظنّية الّتي لم يقم الدليل القطعي على صحّة الاحتجاج بها ، بل قام الدّليل على حرمة العمل على بعضها كالقياس وقد ورد فى نصوص أئمّتهم عليهم‌السلام : « وإنّ السنّة إذا قيست محق الدين » (١).

وإن اُريد بها لوازم الخطاب أي ما يكون في نظر العقلاء كالمذكور أخذاً بقولهم : « الكناية أبلغ من التصريح » ويكون التفكيك بينهما أمراً غير صحيح ، فليس ذلك عملاً بغير النصوص. نعم ليس عملاً بالظّاهر الحرفي ، ولكنّه عمل بها بما يفهمه المخاطبون بها.

وعلى ذلك الأساس يكون لوازم الخطاب حجّة إذا كانت الملازمة ثابتة بيّنة في نظر العقلاء الّذين هم المعنيّون بهذه الخطابات ، كادّعائها بين وجوب الشيء ووجوب

__________________

١. الوسائل ج ١٨، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠.

١٥٦

مقدّمته ، أو حرمة ضدّه ، أو امتناع اجتماع وجوبه مع حرمته ، إلى غير ذلك من المداليل الالتزامية كمفاهيم الجمل الشرطية أو الوصفيّة أو المغيّاة بغاية.

ولأجل كون هذه المداليل على فرض ثبوت الملازمة ، بحكم المنطوق ، ذهب المحقّقون في باب « المفاهيم » إلى أنّ النزاع في باب « حجّية المفاهيم » صغروي ، أي في ثبوت أصل المفهوم والملازمة ، وأنّه إذا قال المولى : إن سلّم زيد فأكرمه ، هل يتبادر منه إلى الأذهان الصافية وجوب الاكرام عند التسليم ، وارتفاعه عند انتفائه أو لا؟ لا كبروي ، بمعنى البحث عن حجّية هذه الملازمة بعد ثبوتها ، إذ لا كلام في الحجية بعد ثبوتها.

وبذلك يتبيّن الحقّ الصراح في مسألة « تبعية النصوص الشرعية » وعدم الخروج عن إطارها ، وأنّ أهل السنّة فيها بين مفرط ومفرّط. والطريق الوسطى هي الجادة (١).

فأصحاب القياس والاستحسان مفرطون في الخروج عن النُّصوص الشرعيّة ، ويعملون بما لم يدلّ على الاحتجاج به دليل.

كما أنّ الظاهرية مفرِّطة فى عدم الخروج عن ظواهر النصوص بحرفيتها ، وإن كان العقلاء على خلافهم في محاوراتهم العرفيّة ، ومن المعلوم أنّه ليست للشارع طريقة للمفاهمة غير الطريقة الدارجة.

تلاميذه ومدى سلطان مذهبه

قال الخطيب في تأريخه : « روى عنه ابنه محمّد ، وزكريّا بن يحيى الساجي ، ويوسف بن يعقوب بن مهران الداودي ، والعباس بن أحمد المذكّر ، وهؤلاء رووا عنه وانتحلوا مذهبه » (٢).

__________________

١. اقتباس من كلام الامام علي عليه‌السلام في النهج قال : اليمين والشمال مضلة ، والطريق الوسطى هي الجادة. نهج البلاغة قسم الخطب الرقم ١٥ ط عبده.

٢. تاريخ بغداد ج ٨ ص ٣٧٠.

١٥٧

« ولكن عامّة الفقهاء والمحدّثين تركوا الرّواية عنه كما تركوا مذهبه ، وكثرت المعارضة ، وقلّ التأييد ، ولم يكن لمذهبه سلطان إلاّ في بلاد الشرق ( نيسابور وضواحيها ) في القرنين الثالث والرابع. ونقل عن صاحب « أحسن التقاسيم » أنّه كان رابع مذهب في القرن الرابع في الشرق ، وكان الثّلاثة الّتي هو رابعها : مذهب الشافعي ، ومذهب أبي حنيفة ، ومالك ، فكأنّه كان في الشرق أكثر انتشاراً أو تابعاً من مذهب أحمد إمام السنّة في القرن الرابع الهجري ، ولكن في القرن الخامس جاء أبو يعلى وجعل المذهب الحنبلي مكانه ، وبذلك زحزح المذهب الظاهري وحلّ محلّه » (١).

ابن حزم ( ت ٣٨٤ ـ م ٤٥٨ ) آخر تلميذ فكري لداود الظاهري

قد عرفت أنّ أبا يعلى الحنبلي ( م ٤٥٨ ) قد زحزح المذهب الظاهري ، وأحلّ محلّه مذهب إمامه أحمد في أواسط القرن الخامس وبذلك خبا ضوءه وانحسر عن المدارس الفقهيّة ، ولم يبق له وجود إلاّ في ثنايا الكتب ، لولا أنّ عليّ بن أحمد بن حزم الأندلسي أعاد ذكره بلسانه وقلمه ، وألّف حول ذلك المذهب كتباً ورسائل وانتقل المذهب الظاهري من الشرق إلى الغرب ، ودخل الأندلس وقد حمل العبء وحده وخدم المذهب الظاهري بتأليفه :

١ ـ الاحكام في اُصول الأحكام : بيّن فيه اُصول المذهب الظاهري.

٢ ـ النبذ : وهو خلاصة ذلك الكتاب.

٣ ـ المحلّى : وهو كتاب كبير انتشر في عشرة أجزاء ، جمع أحاديث الأحكام وفقه علماء الأمصار. طبع في بيروت ، بتحقيق أحمد محمّد شاكر.

نزر من آرائه الشاذّة

١ ـ أفتى ببطلان الاجتهاد في استخراج الأحكام الفقهيّة مستدلاً بقوله سبحانه :

__________________

١. تاريخ المذاهب الاسلاميّة : ج ٢ ص ٣٥١ نقلاً عن مقدمة « النبذ » للشيخ الكوثري.

١٥٨

( مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيء ) ( الأنعام / ٣٨ ) ولو كان ثمّة موضع للرأي لكان الكتاب قد فرّط في شيء ، وقوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الرَّسُولَ واُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيء فَرُدُّوه إلى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ) ( النساء / ٥٩ ) (١).

يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال بهاتين الآيتين يعرب عن كون ابن حزم فقيهاً ظاهريّاً بحتاً ، ينظر إلى الظّواهر بحرفيّتها ولا يتأمّل حتّى في القرائن الموجودة في نفس الآيات.

أمّا الآية الاُولى; فالمراد من الكتاب فيها ، هو صحيفة الكون لقوله سبحانه في صدرها : ( وَمَا مِنْ دَابَّة فِي الأرْضِ وَلا طَائِر يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْء ثُم ... ) ( الأنعام / ٣٨ ). لأنّ التفريط في المقام بمعنى التضييع والتقصير ، والمعنى أنّ الدوابّ والطيور لمّا كانت أُمماً أمثال الإنسان ، فما قصّر سبحانه في حقّهم من إعطاء الكمال بمقدار ما لها من اللّياقة والشأن.

وأقصى ما يمكن أن يقال : إنّ المراد منه ، هو اللّوح المحفوظ الّذي يسمّيه سبحانه في موارد من كلامه كتاباً مكتوباً فيه كلّ شيء ، وأمّا تفسيره بالقرآن فضعيف لا يركن إليه بعد ملاحظة جمل الآية.

وأمّا الآية الثانية; فهي راجعة إلى القضاء في المنازعات والمرافعات فالمرجع هو الله سبحانه ورسوله ، ولا صلة للآية بحصر المصادر في الكتاب والسنّة.

ولأجل ذلك لم يذكر فيه الإجماع الّذي هو حجّة عند ابن حزم ومؤٌسّس منهجه ، وما هذا إلاّ أنّ الآية وردت في مجال القضاء في المرافعات ، دون الافتاء في الأحكام الكلّية.

توضيح ذلك : أنّ القضاء في المنازعات يشترك مع الاجتهاد في الأحكام الشرعيّة في أنّ كلاّ ً من القاضي والمجتهد يسعى لكسح الجهل ورفع الشبهة ، غير أنّ الشّبهة في

____________

١. تاريخ المذاهب الاسلاميّة : ج ٢ ص ٣٨٨.

١٥٩

مجال القضاء ، موضوعيّة على الأغلب مع كون الحكم الكلّي معلوماً ، كاختلاف الناس في الأموال والديون ، بخلاف الشبهة في مجال الاجتهاد فإنّ الحكم الكلّي مشتبه غير معلوم ، والمجتهد يسعى بكلّ حول وقوّة رفع الشبهة ، وإراءة مُحيّا الحقيقة.

والآية كما هو صريح سياقها ، ناظرة إلى المقام الأوّل ، ولا صلة لها بالمقام الثاني. يقول سبحانه بعد هذه الآية ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا اُنْزِلَ إِلَيْكَ ومَا اُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ) ( النساء / ٦٠ ) وقد ورد في أسباب نزولها ما يؤيّد ما ذكرناه فلاحظ.

٢ ـ يجوز للجنب مسُّ المصحف

قال في المحلّى : « وأمّا مسّ المصحف ، فإنّ الآثار الّتي احتجّ بها من لم يجز للجنب مسّه ، فإنّه لا يصحّ منها شيء ، لأنّها إمّا مرسلة ، وإمّا ضعيفة لا تسند ، وإمّا عن مجهول ... فإن ذكروا قول الله : ( فِي كِتَاب مَكْنُون * لا يَمَسُّهُ إلاّ المُطَهَّرُونَ ) ( الواقعة / ٧٨ ـ ٧٩ ). فهذا لا حجّة لهم فيه ، لأنّه ليس أمراً ، وإنّما هو خبره والله تعالى لا يقول إلاّ حقّاً ، ولا يجوز أن يصرف لفظ الخبر إلى معنى الأمر إلاّ بنصّ جلي أو إجماع متيقّن. فلمّا رأينا المصحف يمسّه الطّاهر وغير الطّاهر علمنا أنّه عزّوجلّ لم يعن المصحف وإنّما عنى به كتاباً آخر » (١).

واستدلّ على الجواز بعمل النّبي وأنّه كتب كتاباً إلى عظيم « بصرى » ليدفعه إلى هرقل وفيه قوله سبحانه : ( قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَة سَواءٌ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ ألاّ نَعْبُدَ إلاّ اللّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيئاً ) ( آل عمران / ٦٤ ). وقد أيقن أنّهم يمسّون ذلك الكتاب (٢).

__________________

١. المحلى : ج ١ ص ٨٣.

٢. الدر المنثور : ج ١ ص ٤٠.

١٦٠