بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٩

( وجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) فهذا إمام هدى ، ومن اتّبعه شريكان ، وأمّا الآخر : فقال تعالى ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّار ويَوْمَ القِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ ) ( القصص : ٤١ ) ولن تجد داعياً يقول : تعالوا إلى النار ـ إذاً لا يتبعه أحد ـ ولكنّ الدعاة إلى النار هم الدعاة إلى معاصي الله ، فهل وجدت يا عمر حكيماً يعيب ما يصنع ، أو يصنع ما يعيب ، أو يعذّب على ماقضى ، أو يقضي ما يعذّب عليه ، أم هل وجدت رشيداً يدعو إلى الهدى ثمّ يضل عنه ، أم هل وجدت رحيماً يكلّف العباد فوق الطاقة ، أو يعذّبهم على الطاعة ، أم هل وجدت عدلاً يحمل الناس على الظلم والتظالم ، وهل وجدت صادقاً يحمل الناس على الكذب أو التكاذب بينهم؟ كفى ببيان هذا بياناً ، وبالعمى عنه عمى » (١).

و هذه الرسالة الّتي نقلها ابن المرتضى تعرب أوّلاًَ : عن أنّ الرّجل كان ذا همّة قعساء ، وغيرة لا يرضى معها بتدهور الاُمور في المجتمع ورجوعه القهقرى ، أنّه بلغ من الإصحار بالحقيقة أن خاطب خليفة الزمان بما جاء في هذه الرسالة .. وأين كلامه هذا « اُنظر أيّ الإمامين أنت » من كلام مرتزقة البلاط الأموي من حيث تقريظهم للخلفاء والثناء على أعمالهم القبيحة ، ووصفهم بالسير على خطى الرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. هذا هو جرير بن عطية الخطفي يمدح بني اُميّة بقوله :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

وهذه ليلى الأخيلية تمدح الحجّاج بن يوسف بقولها :

إذا هبط الحجاج أرضاً مريضة

تتبّع أقصى دائها فشفاها

شفاها من الداء العضال الّذي بها

غلام إذا هزّ القناة سقاها

وقال الآخر :

رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً

شديداً بأعباء الخلافة كاهله

__________________

١ ـ المنية والامل ص ٢٥ ـ ٢٦.

١٢١

إلى غيرهم من الشعراء والاُدباء الّذين يمدحون الطغاة بشعرهم لابشعورهم ونثرهم لا بعقولهم.

ثانياً : إنّ المتبادر من قوله « أو يعذّب على ما قضى ... الخ » إنمّا هو انكار القضاء الدارج في ألسن الأمويين من غلّ الأيدي وجعل الإنسان كالريشة في مهبّ الريح ، وأمّا القضاء بمعنى العلم الأزلي بالأشياء والحوادث فلم يعرف إنكاره له.

محاكمة غيلان

و من العجب « وما عشت أراك الدهر عجباً » أنّ هشام بن عبدالملك قبض على غيلان الدمشقي فقال له : قد كثر كلام الناس فيك ، فبعث إلى الأوزاعي ، فلمّا حضر قال له هشام : يا أبا عمر ناظر لنا هذا القدري ، فقال الأوزاعي مخاطباً غيلان : اختر إن شئت ثلاث كلمات وإن شئت أربع كلمات وإن شئت واحدة. فقال غيلان : بل ثلاث كلمات.

فقال الأوزاعي : أخبرني عن الله عزّ وجلّ هل قضى على مانهى؟

فقال غيلان : ليس عندي في هذا شيء.

فقال الأوزاعي : هذه واحدة. ثمّ قال : أخبرني عن الله عزّ وجلّ أحال دون ماأمر؟

فقال غيلان : هذه أشدّ من الاُولى ، ما عندي في هذا شيء.

فقال الأوزاعي : هذه اثنتان يا أمير الموٌمنين ثمّ قال : أخبرني عن الله عزّ وجلّ هل أعان على ما حرّم؟

فقال غيلان : هذه أشدّ من الاُولى والثانية ، ما عندي في هذا شيء.

فقال الأوزاعي : هذه ثلاث كلمات. فأمر هشام فضربت عنقه (١).

ثمّ إنّ هشاماً طلب من الأوزاعيّ أن يفسّر له هذه الكلمات الثلاث. فقال

____________

١ ـ لا تنس أن هشاماً قد يمّم قتله قبل القاء القبض عليه وقبل هذه المناظرة المسرحيّة.

١٢٢

الأوزاعي : أمّا الأوّل فإنّ الله تعالى قضى على ما نهى ، نهى آدم عن الأكل من الشجرة ثمّ قضى عليه بأكلها. أمّا الثاني فإنّ الله تعالى حال دون ما أمر ، أمرإبليس بالسجود لآدم ثمّ حال بينه وبين السجود ، وأمّا الثالث ، فإنّ الله تعالى أعان على ما حرّم ، حرّم الميتة والدم ولحم الخنزير ، ثمّ أعان عليها بالاضطرار ... (١).

يلاحظ على هذه المناظرة :

أوّلاً : أنّ الجهل بهذه الأسئلة الثلاثة لوكان مبرّراً لضرب العنق ، فهشام بن عبدالملك خليفة الزمان أولى بهذا ، لأنّه كان أيضاً جاهلاً بها بدليل استفساره عنها من الأوزاعي. فلماذا لا تضرب عنقه أيضاً؟ وهذا يعرب عن أنّ الحكم بالإعدام كان صادراً قبل المناظرة ، وإنّما كانت المناظرة بين يدي الأوزاعي تبريراً للإعدام حتّى لا يقال إنّ الحكم صدر إعتباطاً.

ثانياً : ما سأله الأوزاعي عنه ثمّ أجاب عنه ، يدل على أنّه كان يمشي على خطّ الجبر ، وأنّه كان معتقداً بأنّ قضاء الله يسلب عن الإنسان الحريّة والإختيار. فكان أكل آدم من الشجرة بقضاء من الله وما كان له محيص عن الأكل ، كما أنّ تخلّف إبليس عن السجود كان بقضاء الله ولم يكن له مفرّ عن المعصية. وقد حال سبحانه بينه وبين السجود على آدم ، ومن المعلوم أنّ غيلان الدمشقي وكلّ موحّد يعتقد بصحّة بعث الرّسل وصحّة التكليف ... لا يراه صحيحاً.

ثالثاً : إنّ المناظرة لم تكن مبنيّة على اُصولها. فإنّ من أدب المناظرة أن يطرح السؤال أو الإشكال على وجه واضح ، حتى يتدبّر الآخر فيما يرتئيه المناظر من الجواب ، وأمّا الأسئلة الّتي طرحها الفقيه الأوزاعي فإنّها أشبه بالأحاجى واللّغز، لا يستفاد منها إلاّ في مواضع خاصّة لاختبار ذكاء الإنسان ، ولم يكن المقام إلاّ مقام السيف والدم لا الإختبار للذكاء.

__________________

١ ـ تاريخ المذاهب الاسلاميّة ج ١ ص ١٢٧ ـ ١٢٨ نقلاً عن العقد الفريد وشرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون.

١٢٣

وفي حدسي أنّ غيلان الدمشقي قد وقف على نيّة الأوزاعي وأنّه يريد أن يأخذ منه الإعتراف بأحد الأمرين إمّا بالجبر إذا أجاب بمثل ما يريد ، وعندئذ يكون مناقضاً لعقيدته.

وإمّا بالاختيار والحريّة فيكون محكوماً بالإعدام وضرب العنق. فاختار السكوت وعدم الإجابة حتّى يتخلّص من كلتا المغبّتين. وما كان المسكين عارفاً بأنّ الحكم بالإعدام قد سبق السؤال والجواب ، وهذه المناظرة مناظرة مسرحيّة رُتّبت لتبرير إراقة دمه تحت غطاء السؤال والجواب.

هذا وقد قام بعض المعنيّين بالملل والنحل ، بنشر ما وصل إليه من الوثائق عن بدايات علم الكلام في الاسلام ، فنشر ضمن مجموعةِ رسالتين : رسالة الحسن بن محمّد ابن الحنفيّة في القدر ، ورسالة عمر بن عبدالعزيز فيه أيضاً. وسيوافيك الكلام حولهما في آخر المطاف.

وللكتاب ملحق يهدف إلى تبيان بعض القضايا المتعلّقة بشخصيّة من شخصيات القدريّة المفكّرين وهو غيلان الدمشقي ، وخاصة تلك القضايا المتعلّقة بحياته وإعدامه في زمن خلافة هشام بن عبدالملك (١٢٥).

قال محقّق الكتاب : وتدلّ معظم الروايات على أنّها أقاصيص موضوعة اختلقتها رواتها ليبرهنوا على أنّ غيلان كان خارجاً عن الجماعة ، وأنّ حججه كانت غير مقنعة ، وأنّ السلطة السياسيّة كانت على حقّ عندما أعدمته. وهذا كلّه مما يجعل استخلاص ما حدث على وجه الدقّة أمراً صعباً ، على أنّني حاولت توضيح الأمر بمعلومات استقيتها من كتاب « أنساب الأشراف » للبلاذري ، بالاضافة إلى المصادر الاُخرى (١).

__________________

١ ـ بدايات علم الكلام في الاسلام : رسالتان في الرد على القدرية مع ملحق في أخبار غيلان الدمشقي حققها وترجمها وعلّق عليها يوسف فان اسّ نشرها المعهد الالمائي للأبحاث الشرقية في بيروت. وقد وقفنا على تصوير الرسالتين الاوليين دون الملحق واكتفينا ببيان كلام المحقّق.

١٢٤

خاتمة المطاف

قد تكرّر لفظ « القدريّة » في كلمات أهل الحديث والمتكلّمين ومؤلّفي الفرق والملل والنحل ، ورويت حولها أحاديث وهي إحدى المصطلحات الدارجة بينهم ، وتحاول كلّ طائفة أن تتبّرأ منها وتتّهم مخالفها بها. ولأجل إكمال البحث نتحدّث عن سند الحديث أوّلاً ، ودلالته ثانياً على وجه الإجمال ، وإليك متن الحديث بصوره :

١ ـ روى أبو داود عن عبدالله بن عمر أنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « القدريّة مجوس هذه الاُمّة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم ».

٢ ـ وروى أيضاً عن عبدالله بن عبّاس (١) أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم ».

٣ ـ روى الترمذي عن عبدالله بن عبّاس قال : قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« صنفان من اُمّتي ليس لهم في الإسلام نصيب : المرجئة ، والقدرية » (٢).

إذا عرفت متن الحديث فإنّ الكلام يقع في موردين :

الأوّل : في سند الحديث. فهل روي بسند صحيح يمكن الاحتجاج به أو لا؟

الثاني : فما هو المقصود من القدريّة على فرض صحّته؟

أمّا من ناحية السند ، فيكفي في ضعف الأوّل ما قاله المنذري : « إنّه منقطع لأنّه يرويه سلمة بن دينار عن ابن عمر ، ولم يدركه ، وقد روى عن ابن عمر من طرق لا يثبت منها شيء ».

ويكفي في ضعف سند الثاني وجود « حكم بن شريك الهذلي البصري » فيه وهو مجهول لم يعرف.

__________________

١ ـ كذا في جامع الاُصول ولكن في سنن أبي داود ، « عمر بن الخطاب » مكان « عبد الله بن عباس » ، لاحظ : ج ٤، ص ٢٢٨، الحديث ٤٧١٠.

٢. جامع الاُصول : ج ١٠ ص ٥٢٦.

١٢٥

وفي ضعف سند الثالث وجود « محمّد بن فضيل بن غزوان » وهو ضعيف (١).

أضف إلى ذلك أنّ جمعاً من الحفّاظ عدّوا أصل الحديث من الموضوعات. منهم سراج الدين القزويني قال : إنّه موضوع وتعقّبه ابن حجر (٢).

وقال أبوحاتم : « هذا الحديث باطل » ، وقال النسائي : « هذا الحديث باطل كذب » ، وقال ابن الجوزي : « حديث لعن القدريّة لا شكّ في وضعه » (٣).

هذا وضع السند ، وأمّا الدلالة ، فقد اختلف النّظر في مفاده ، كلّ من المجبّرة والعدليّة يتبرّأ منه ، ويريد تطبيقه على خصمه. فأهل الحديث والحشويّة والسلفيّة والأشعريّة الّذين يتّسمون بسمة الجبرالجليّ أو الخفي ، يفسّرون القدريّة بنفاة القدر ، من باب إطلاق الشيء وإرادة نقيضه ، والمعتزلة وأسلافهم ، أعني دعاة الحريّة والاختيار يتّهمون الجبرية بالقدريّة ، لأنّهم قائلون بالقدر والتقدير ، وأنّ كل شيء يتحقّق بتقدير من الله سبحانه ولا محيص عمّا قدّر وقُضي.

وهناك كلمة للعلاّمة محمّد بن علي الكراجكي ( م ٤٤٩ ) من تلاميذ الشيخ المفيد لا بأس بنقلها ، قال : « ولم نجد في أسماء الفرق ما ينكره أصحابه ويتبرّأ منه سوى القدرية ».

فأهل العدل يقولون لأهل الجبر : أنتم « القدريّة » ، وأهل الجبر يقولون لأهل العدل : « أنتم القدريّة » ، وإنّما تبرّأ الجميع من ذلك لأنّهم رووا ـ من طريق أبي هريرة ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه لعن القدرية وقال : « إنّهم مجوس هذه الاُمّة إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم » (٤).

وقد حاول الأشعري تطبيق الحديث على المعتزلة وقال : « زعمت القدريّة ـ يريد بها المعتزلة وأسلافهم ـ أنّا نستحقّ اسم القدر ، لأنّا نقول : إنّ الله عزّ وجلّ قدّر الشرّ

__________________

١و٢ ـ جامع الاُصول : ج ١٠ ص ٥٢٦.

٣ ـ الموضوعات لابن الجوزي : ج ١ ص ٢٧٥ ـ ٢٧٦ واللئالي المصنوعة للسيوطي ، ج ١، ص ٢٥٨.

٤ ـ كنز الفوائد : ج ١ ص ١٢٣ ط بيروت.

١٢٦

والكفر ، فمن يثبت القدر كان قدريّاً دون من لم يثبته ».

ثمّ أجاب عن استدلال المعتزلة وقال : « القدريّ من يثبت القدر لنفسه دون ربّه عزّ وجل ، وأنّه يقدّر أفعاله دون خالقه ، وكذلك هو في اللّغة ، لأنّ الصائغ هو من زعم أنّه يصوغ دون من يقول إنّه يصاغ له ، فلمّا كانت المعتزلة تزعم أنّهم يقدّرون أعمالهم ويفعلونها دون ربّهم ، وجب أن يكونوا قدريّة ، ولم نكن نحن قدريّة لأنّا لم نضف الأعمال إلى أنفسنا دون ربّنا ولم نقل : إنّا نقدّرها دونه. قلنا إنّك تقدّر لنا » (١).

يلاحظ عليه : أنّ القضاء والقدر من الكلمات الواردة في الكتاب والسنّة بكثرة. والفاعل في الجميع هو الله سبحانه وتعالى ، لا الإنسان قال تعالى : ( والّذي قدّر فهدى ) ( الأعلى ـ ٣ ) وقال : ( إنّا كلّ شيء خلقناه بقدر ) ( القمر / ٤٩ ). فلو أطلق « القدريّة » يراد به المعتقد لما جاء في المصدرين من قضاء الله وقدره ، لا المعتقد بأنّ الإنسان هو الّذي يقدّر أفعاله وأعماله.

وأعجب من ذلك قياسه اسم الفاعل على المصادر المنسوبة ، فالأوّل كالصائغ يراد منه الفاعل أي من يصوغ ، دون الثانية. بل يراد منها المعتقد بالمصدر الّذي نسب إليه ، كالجبريّة : من يعتقد بالجبر ، والعدليّة : من يعتقد بالعدل ، وهكذا.

ثمّ إنّ هنا محاولات اُخرى لأجل تطبيق الحديث على عقيدة دعاة الحريّة والاختيار غير ما عرفته من كلام الأشعري من أنّ الإنسان هو المقدّر لأعماله ، كما عرفت ضعفه وإليك بيانها :

١ ـ القدريّة منسوبة إلى « القدرة » بمعنى الاستطاعة ، فمن قال بتأثير قدرة الإنسان في فعله وأنّها المصدر له ، فهو قدريّ.

يلاحظ عليه : أنّه لو صحّ هذا الوجه لوجب ضمّ الفاء دون فتحها ، والمشهور هو الأوّل ولم يسمع الثاني.

__________________

١ ـ الابانة : ص ١٤٦.

١٢٧

أضف إليه أنّ المناسب على هذا الوجه هو التعبير « بالقادرية » لا « القدرية » بضمّ الفاء الّذي هو غير مأنوس للأذهان والأفهام.

٢ ـ إنّ الحديث من باب إطلاق الشيء وإرادة نقيضه ، أي نفاة القدر ومنكروه ، وسيأتي في حديث أحمد ما يوافق ذلك.

يلاحظ عليه : أنّه لم ير مثله في أمثالها ، فلا تطلق الجبريّة ، ولا العدليّة على نفاة الجبر والعدل.

أضف إليه أنّه لم يظهر من هؤلاء ـ أعني معبداً الجهني ولا غيلان الدمشقي ـ إنكار التقدير بالمعنى الصحيح ، غير المنافي للحريّة والاختيار ، فإذا أردنا أن نعرف مذهبهم في مجال القضاء والقدر ، فيلزم علينا الرجوع إلى مذهب خصومهم ، فإنّ الاُمور تعرف بأضدادها ، وحاشا أن يكون المسلم الواعي منكراً للقضاء والقدر الواردين في الكتاب والسنّة ، غير السالبين للاختيار والحريّة ، غير المنافيين لصحّة التكليف وبعث الرسل. وإنّما أنكروا القدر بالمعنى الّذي كان البلاط ومرتزقته ينتحلونه لتبرير أعمالهم الإجراميّة ، ولا يرون للإنسان ولا لأنفسهم أيّة مسؤوليّة فيها ، ويرفعون عقيرتهم بأنّ كلّ ما في الكون من خير وشر ، وكظّة وسغب ، إنّما يرجع إلى إرادته سبحانه. فلايصحّ الاعتراض على جوع المظلوم وشبع الظالم. وهؤلاء الأحرار قد قاموا في وجهالأمويين وأنكروا القدر بهذا المعنى الّذي يعرّف الإنسان كالريشة في مهبّ الريح. ونفي القدر بهذا المعنى ، غير نفيه بالمعنى الصّحيح سواء فسّر بالعلم والارادة الأزليين ، أم بتقدير الأشياء والقضاء على وجودها وتقدير الإنسان بينهما موجوداً مختاراً مسؤولاً عن فعله ، والقضاء على ما يصدر منه بهذه الصورة على ما أوضحناه في محلّه.

٣ ـ ما نقله الشيخ أبو زهرة عن الشيخ مصطفى الصبري شيخ إسلام ( تركيا ) السابق وهو مقاربة رأيهم بعض عقائد المجوس ، فالمجوس ينسبون الخير إلى الله والشرّ إلى الشيطان وكذلك هؤلاء القدريّة يفرقون بين الخير والشر فيسندون الخير إلى الله

١٢٨

والشرّ إلى الشيطان (١).

يلاحظ عليه : أنّ نسبة الثنوية بالمعنى الّذي ذكره شيخ إسلام تركيا إلى المعتزلة رجم بالغيب ، فإنّ المعروف من مذهب المعتزلة فضلاً عن أسلافهم هو نسبة الخير والشرّ إلى الإنسان نفسه لا التّفريق بينهما.

وهذا كلام قاضي القضاة عبد الجبّار ، يمنع بتاتاً عن انتساب فعل الإنسان إلى الله خيره وشرّه ويقول : « إنّ أفعال العباد لا يجوز أن توصف بأنّها من الله ومن عنده ومن قبله ، وذلك واضح ، فإنّ أفعالهم حدثت من جهتهم وحصلت بدواعيهم وقصودهم ، واستحقّوا عليها المدح والذّم ، والثواب والعقاب فلو كانت من جهته تعالى أو من عنده أو من قبله لما جاز ذلك ... » (٢).

هذا بعض الكلام حول الحديث ومفاده ومن أراد البسط والاستيعاب فعليه المراجعة إلى « شرح الاُصول الخمسة ص ٧٧٢ ـ ٧٧٨، وشرح التجريد للعلاّمة الحلّي ، ص ١٩٦، ط صيدا وشرح المقاصد للتفتازاني ج ٢، ص ١٢٢ والتمهيد للباقلاني الفصل الثامن والعشرين ».

ولو أنّ الرّسول يعدّ القدريّة في هذا الحديث مجوس هذه الاُمّة ، ففي بعض ما روي عن ابن عمر عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّت نفاة القدر مجوس الاُمّة ، وإليك نزراً منه :

روى أحمد في مسنده عن ابن عمر عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « لكلّ أُمّة مجوس ، ومجوس أُمّتي الّذين يقولون لا قدر ، إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم » (٣).

وروى الترمذي وأبو داود عن نافع مولى ابن عمر أنّ رجلاً جاء ابن عمر فقال : « إنّ فلاناً يقرأ عليك السلام ، فقال ابن عمر : بلغني أنّه قد أحدث التكذيب بالقدر ،

__________________

١ ـ تاريخ المذاهب الاسلاميّة : ج ١ ص ١٢٤.

٢ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ٧٧٨.

٣ ـ مسند أحمد : ج ٢ ص ٨٦.

١٢٩

فإن كان قد أحدث فلا تقرأ مني السّلام فإنّي سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « ويكون في هذه الأُمّة ، أو في أمّتي ـ الشكّ منه ـ خسف ومسخ وذلك بالمكذّبين بالقدر » (١).

ولا يخفى وجود التعارض الصّريح بين كون القدريّة مجوس الاُمّة ، وكون نافي القدر مجوسها. وتفسير الأوّل بنفاة القدر تفسير بلا دليل ، بل تفسير على خلاف اللّغة والعرف.

و يكفي في ضعف الحديث الثاني أنّه وقع التكذيب وصدر الشك في القدر في العصور الماضية ، ولم يعمّ الخسف والمسخ للمكذّبين والشاكّين فيه.

إنّ السابر في كتب الحديث والتاريخ والملل والنحل يرى العناية التامّة من أصحاب الحديث وغيره لمسألة القدر. وقد كانت تحتلّ في تلك العصور ، المكانة العليا بين المسائل العقيديّة حتّى كان مدار الإيمان والكفر فكان المثبت مؤمناً والنافي كافراً.

هذا مع أنّ الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقبل إسلام آلاف القائلين بالشهادتين من دون أن يسألهم ولو في مورد عن القضاء والقدر ، وأنّه هل يعتقد القائل ، بأنّ الله سبحانه يقدّر أفعال الإنسان وأعماله ، فيحكم عليه بالإسلام أو لا ، فيحكم عليه بالكفر.

إذن فما معنى هذه العناية الحادثة بعد رحلة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه المسألة؟

أليس هذا يدفع الإنسان إلى القول بأنّها كانت مسألة مستوردة ، زرعها الأحبار والرّهبان ، وغذّتها السلطة الأموية و ... وبالتالي شقّ بها عصا المسلمين وصاروا يكفّر بعضهم بعضاً.

هذا وإنّ الشيخ البخاري يروي عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « بني الإسلام على خمس ، شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزّكاة والحجّ وصوم رمضان » (٢).

__________________

١ ـ جامع الاُصول : ج ١٠ ص ٥٢٦ ـ ٥٢٧.

٢ ـ صحيح البخاري : ج ١ ص ٧ من كتاب الايمان.

١٣٠

وروى عبادة بن الصامت وكان شهد بدراً وهو أحد النقباء ليلة العقبة : أنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ـ وحوله عصابة من أصحابه ـ : « بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف ، فمن وفّى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدّنيا فهو كفّارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثمّ ستره الله ، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه » فبايعناه على ذلك (١).

فلو كان للاعتقاد بالقدر ، تلك المكانة العظمى ، فلماذا لم يذكره رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمولو في مورد ، ولماذا تركه سبحانه عند أمره رسوله بأخذ البيعة عن النساء؟ (٢)

كلّ ذلك يشرف الإنسان على القطع بأنّ البحث عن القدر والمغالاة فيه ، كان بحثاً سياسياً وراء هـ غاية سياسية لأصحاب السلطة والإدارة. وإلاّ فلا وجه لأن يتركه الوحي في أخذ البيعة عن النساء. ولا الرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عرض الإسلام وتبيينه وقبوله من الآلاف المؤلفة من المتشرفين بالإسلام.

رسائل ثلاث حول القدر

ولو طلب القارئ الكريم التعرّف على التشاجر الّذي كان قائماً على قدم وساق في بيان معنى القدر وأنّه ماذا كان يراد منه ، وأنّه هل كان الاعتقاد به يوم ذاك ملازماً للجبر أو لا؟ فعليه بدراسة ثلاث رسائل في هذا المجال ، تعدّ من بدايات علم الكلام في الإسلام وقد نشرت تلك الرسائل حديثاً وهي :

١ ـ الرسالة المنسوبة إلى الحسن بن محمّد بن الحنفيّة ، والرسالة كتبت بايحاء من الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان ( م ٨٦ هـ ) ويرجع تأريخ تأليفها إلى عام ٧٣ هـ فيكون أقدم رسالة في هذا المجال إن صحّت النسبة إليه.

__________________

١ ـ صحيح البخاري : ج ١ ص ٨ ـ ٩ من كتاب الايمان.

٢ ـ الممتحنة / ١٢.

١٣١

٢ ـ ما كتبه الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز ( م ١٠١ هـ ) إلى بعض القدريّة المجهول الهوية وقد جاء القدر في الرسالتين مساوقاً للجبر. وقد فرض الحاكم الأموي قدريّاً ينكر علمه سبحانه الأزلي بالأشياء وأفعال العباد ، فيردّ عليه بحماس على نحو يستنتج منه الجبر ، والرسالة جديرة بالقراءة حتّى يعلم أنّ الأمويين من صالحهم إلى طالحهم كيف شوّهوا الإسلام ، وصاروا أصدق موضوع لقول القائل « ولولاكم لعمّ الإسلام العالم كلّه ».

وقدنشرت هذه الرسالة بصورة مستقلّة. وطبعت ضمن ترجمة عمر بن عبدالعزيز في كتاب حلية الأولياء ج ٥ ص ٣٤٦ ـ ٣٥٣.

٣ ـ ما كتبه الحسن بن يسار المعروف بالحسن البصري ( م ١١٠ هـ ) حيث إنّ الحجّاج بن يوسف كتب إلى الحسن : « بلغنا عنك في القدر شيء » فكتب إليه رسالة طويلة ذكر أطرافاً منها ابن المرتضى في المنية والأمل ص ١٣ ـ ١٤.

قال الشهر ستاني : « ورأيت رسالة (١) نسبت إلى الحسن البصري كتبها إلى عبد الملك ابن مروان وقد سأله عن القول بالقدر والجبر. فأجابه فيها بما يوافق مذهب القدريّة واستدلّ فيها بآيات من الكتاب ودلائل من العقل. وقال : ولعلّها لواصل بن عطاء فما كان الحسن ممّن يخالف السلف في أنّ القدر خيره وشرّه من الله تعالى. فإنّ هذه الكلمات كالمجمع عليها عندهم. والعجب أنّه حمل هذا اللّفظ الوارد في الخبر على البلاء والعافية ، والشدّة والرخاء ، والمرض والشفاء ، والموت والحياة ، إلى غير ذلك من أفعال الله تعالى دون الخير والشر ، والحسن والقبيح ، الصادرين من اكتساب العباد. وكذلك أورده جماعة من المعتزلة في المقالات عن أصحابهم » (٢).

ولا وجه لما احتمله من كون الرسالة لواصل ، إلاّ تصلّبه في مذهب الأشعري وأنّ فاعل الخير والشر مطلقاً ـ حتّى الصادر من العبد ـ هو الله سبحانه دون العبد ، ومن

____________

١ ـ نقل القاضي عبد الجبار نصّ الرسالة في كتابه « فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة » ص ٢١٥ ـ ٢٢٣.

٢ ـ الملل والنحل ج ١ ص ٤٧، لاحظ نصّ الرسالة في الجزء الأوّل من هذه الموسوعات ثمّ اقض.

١٣٢

كان هذا مذهبه ، يستبعد أن ينسب ما في الرسالة إلى الحسن البصري ـ ذلك الإمام المقدّم عند أهل السنّة ـ.

وأمّا على المذهب الحقّ من أنّ الفاعل الحقيقي لأفعال الإنسان هو نفسه ، لا على وجه التفويض من الله إليه ، بل بقدرة مفاضة منه إليه في كلّ حين ، واختيار كُوِّنت ذاته به ، وحريّة فطرت بها فالفعل فعل الإنسان ، وفي الوقت نفسه فعل الله تسبيباً ، بل أدقّ وأرقّ منه كما حقّق في محلّه.

وأخيراً نلفت نظر القارئ إلى ما كتبه كافي الكفاة الصاحب إسماعيل بن عبّاد ( ت : ٣٢٦ ـ م ـ ٣٨٥ ) في الردّ على القدريّة أسماها « الابانة عن مذهب أهل العدل بحجج القرآن والعقل ».

وبما أنّ هذه الرّسالة طريفة في بابها نأتي بنصّ ما يخصّ بردّ القدريّة ، ويريد من هذه اللّفظة القائلين بالقدر على وجه يستلزم الجبر وإليك نصّها :

رسالة الصاحب في الرد على القدريّة ( المجبّرة )

زعمت المجبّرة القدريّة : أنّ الله يريد الظلم والفساد ، ويحبُّ الكفر والعدوان ، ويشاء أن يشرك به ولا يعبد ، ويرضى أن يجحد ويسبّ ويشتم ، وقالت العدليّة : بل الله لا يرضى إلاّ الصّلاح ولا يريد إلاّ الاستقامة والسّداد ، وكيف يريد الفساد وقد نهى عنه وتوعّد ، وكيف لا يريد الصّلاح وقد أمر به ودعا إليه ، ولو لم يفعل العباد إلاّ ما أراد الله تعالى لكان كلّهم مطيعاً لله تعالى ، فإن كان الكافر قد فعل ما أراد منه مولاه فليس بعاص، وأطوع ما يكون العبد لمولاه إذا فعل ما يريده ، وأيضاً فليس بحكيم من أراد أن يشتم ، ولم يرد أن يعظّم ، ورضى أن تجحد نعمه ، وأحبّ أن لا تشكر مننه ، قال الله تعالى : ( وَمَا اللّهُ يُريدُ ظُلماً لِلْعِبادِ ) (١) وقال تعالى : (ولا يَرضى لِعبَادِهِ الكُفْرَ ) (٢)

__________________

١ ـ المؤمن / ٣١.

٢ ـ الزمر / ٩.

١٣٣

وقال تعالى : ( وَاللّهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ ) (١) وقال تعالى في تكذيب من زعم أنّ الكفّار كفروا بمشيئة الله : ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا ولاآبَاؤُنَا ولا حَرَّمْنَا مِنْ شَيء كَذَلِكَ ـ إلى قوله ـ وإِنْ أَنْتُمْ إلاّ تَخْرُصُونَ ) (٢) أي تكذبون.

فإن قالوا : وقال الله ( وَمَا تَشَاءُونَ إلاّ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ ) (٣) فقل : هذه الآية وردت على الخير دون الشرّ. وقال تعالى : ( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إلاّ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ) (٤) وقال تعالى في سورة اُخرى : ( فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً * ومَا تَشَاءُونَ إلاّ أنْ يَشَاءَ اللّهُ ) (٥).

فإن قالوا : لو أراد من العبد شيئاً ولم يفعل لكان العبد قد غلبه ، فهذا ينقلب في الأمر ، لأنّه قد خولف ولم يكن مغلوباً ، وكذلك الارادة. ألا ترى إلى من قال وأراد من مملوك شيئاً ولم يفعله ، وأمر آخر بفعل فخالف لكان المخالف في الأمر أعظم في النفوس عصيانا ، كلاّ ... بل هو الغالب ، وإنّما أمهل العصاة حلماً ولم يجبرهم على الإيمان ، لأنّ المكره لا يستحقّ ثواباً ، بل أزاح عللهم ، وأقدرهم وأمكنهم ، فمن أحسن فإلى ثوابه ، ومن أساء فإلى عقابه ، ولو شاء لأكرههم على الإيمان أجمعين كما قال تعالى : ( وَلَو شَاءَ رَبُّكَ لاَمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنينَ ) (٦) وكقوله تعالى : ( وَلَو شِئْنَا لاََتَيْنَا كُلَّ نَفْس هُداهَا ـ إلى قوله ـ أَجْمَعِينَ ) (٧) وقال تعالى : ( لاإِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ ) (٨).

وزعمت القدريّة : أنّ الله تعالى خالق الكفر وفاعله ، ومنشئ الزنا ومخترعه ومتولّي القيادة وموجدها ، ومبتدع السرقة ومحدثها ، وكلّ قبائح العباد من صنعته ، وكلّ تفاوت فمن عنده ، وكلّ فساد فمن تقديره ، وكلّ خطأ فمن تدبيره.

فإن قالوا على سبب التلبيس : إنّ العبد يكتسب ذلك ، فإذا طولبوا بمعنى

__________________

١ ـ البقرة / ٢٠٥.

٢ ـ الأنعام / ١٤٨.

٣ ـ الدهر / ٣٠.

٤ ـ التكوير / ٢٨ ـ ٢٩.

٥ ـ الدهر / ٢٩ ـ ٣٠.

٦ ـ يونس / ٩٩.

٧ ـ السجدة / ١٣.

٨ ـ البقرة / ٢٥٦.

١٣٤

الكسب لم يأتوا بشيء معقول ، وقالت العدليّة : معاذالله أن يكون فعله إلاّ حكمة وحقّاً ، وصواباً وعدلاً ، فالزنا فعل الزاني انفرد بفعله ، فكلّ قبيح منسوب إلى المذموم به ، وإنّما تولّى المذمّة العاصي ، إذ باع الآخرة بالدُّنيا ، ولم يعلم أنّ ما عندالله خير وأبقى ، ولو كان قد خلق أعمال العباد لما جاز أن يأمر بها وينهاهم عنها كما لم يجز أن يأمرهم بتطويل جوارحهم وتقصيرها ، إذ خلقها على ما خلقها ، ولو خلق الكفر لما جاز أن يعيب ما خلق ، ولو كان فاعل الكفر لما جاز أن يذمّ ويعيب ما خلق ويذمّ مافعل ، ولو كان مخترعَ الفساد لما جاز أن يعاقب على ما اخترع ، ولا تنفكّ القبائح من أن تكون من الله تعالى فلا حجّه على العبد ، أو من الله ومن العبد فمن الظلم أن يفرده بعقاب ما شارك في فعله ، أو من العبد فهو يستحقّ العقاب ، وقال تعالى : ( يَلْوون أَلْسِنَتَهُمْ بِالكِتَابِ ـ إلى قوله ـ وهُمْ يَعْلَمُونَ ) (١) فلو كان لوي ألسنتهم من خلق الله تعالى لما قال : ( وما هو من عند الله ) (٢).

وبعد ، فالكفر قبيح وأفعال الله حسنة ، فعلمنا أنّ الكفر ليس منها ، وهكذا أخبر تعالى بقوله : ( الّذي أحْسَنَ كُلَّ شَيْء خَلَقَهُ ) (٣) وقوله تعالى : ( صُنْعَ اللّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء) (٤).

فإن سألوا عن قوله تعالى : ( وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ومَا تَعْمَلُونَ ) (٥) فقل : هذه الآية لو تلوتم صدرها لعلمتم أن لا حجّة لكم فيها ، لأنّه تعالى أراد بالأعمال هيهنا الأصنام ، والأصنام أجساد ، وليس من مذهبنا أنّا خلقنا الأصنام ، بل الله خلقها ، ألا ترى أنّه قال تعالى : ( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ومَا تَعْمَلُونَ ) (٦).

فإن قالوا : ( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهُمْ يُسْأَلُونَ ) (٧) فقل : إنّه أدلّ على العدل ، لأنّ العباد يُسألون عن أفعالهم لما كان فيها العبث والظلم والقبيح ، والله تعالى لمّا كانت أفعاله كلّها حسنة لا قبيح فيها ، وعدلاً لا ظلم معها ، تنزّه عن أن يسأل ، ولم يرد بهذا ما

__________________

١ ـ آل عمران / ٧٨.

٢ ـ آل عمران / ٧٨.

٣ ـ السجدة / ٧.

٤ ـ النمل / ٨٨.

٥ ـ الصافات / ٩٦.

٦ ـ الصافات / ٩٥ ـ ٩٦.

٧ ـ الأنبياء / ٢٣.

١٣٥

تريده الفراعنة إذ قالت لرعيّتها : وقد سألناكم فلا تسألونا لم أظلمكم وأفسقكم ( كذا ) ، كلاّ ... فإنّه تعالى لم يدع للسؤال موضعاً بإحسانه الشامل ، وعدله الفائض ، ولولا ذلك لم يقل : ( لئلا يكون للنّاس على الله حجّة بعد الرسل ) (١) فنحن نقول : إنّ أفعالنا الصالحة من الله ليس بمعنى أنّه فعلها ، وكيف يفعلها وفيها خضوع وطاعة ، والله تعالى لا يكون خاضعاً ولا مطيعاً ، بل نقول : إنّها منه ، بمعنى أنّه مكّن منها ، ودعا إليها وأمر بها وحرّض عليها ، ونقول : إنّ القبائح ليست منه لأنّه نهى عنها ، وزجر وتوعّد عليها ، وخوّف منها وأنذر ، ونقول : إنّها من الشيطان بمعنى أنّه دعا إليها وأغوى ، ومَنّى في الغرور ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّم لِلْعَبِيدِ) (٢) ( أنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسَانِ ـ إلى قوله ـ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (٣) وقال تعالى في صفة الشيطان : ( يَعِدُهُمْ ويُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاّ غُرُوراً ) (٤).

فإن قالوا : فقد قال تعالى : ( كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ) (٥) قلنا : معنى الآية غير ما قدّرت ولو قدّرتها كما نقدّر لعلمت أن لا حجّة فيها لك ، لأنّه تعالى يقول : ( وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هِذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ـ إلى قوله ـ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ) (٦) فإنّما هذا في الكفّار حيث تطيّروا بنبيّ الله عليه‌السلام وكانوا إذا أتاهم الخصب يقولون هذا من عندالله وإذا أتاهم الجدب يقولون : هذا من عندك ، كما قال تعالى : ( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةً يَطَّيَّرُوا بِمُوسى ومَنْ مَعَهُ ـ إلى قوله ـ لا يَعْلَمُونَ ) (٧) فبيّن الله تعالى أنّ ذلك كلّه ـ يعني الخصب والجدب ـ من عنده ، إلاّ أنّه لم يقل : وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندنا على ما تذكره المجبّرة وقد دلّ الله على بطلان قولهم : ( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة فَمِنَ اللّهِ ومَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَة فَمِنْ نَفْسِكَ ) (٨).

وزعمت المجبّرة القدريّة أنّ الله خلق أكثر العباد للنّار ، وخلقهم أشقياء بلا ذنب

__________________

١ ـ النساء / ١٦٥.

٢ ـ فصلت / ٤٦.

٣ ـ النحل / ٩٠.

٤ ـ النساء / ١٢٠.

٥ ـ النساء / ٧٨.

٦ ـ النساء / ٧٨.

٧ ـ الاعراف / ١٣١.

٨ ـ النساء / ٧٩.

١٣٦

ولا جرم ، وغضب عليهم وهو حليم من غير أن يغضبوه ، وخذلهم من قبل أن يعصوه ، وأضلّهم عن الطّريق الواضح من غير أن خالفوه ، وقالت العدليّة : خلق الله الخلق لطاعته ، ولم يخلقهم لمخالفته ، وأوضح الدّلالة والرّسل لصلاح الجماعة ، ولم يضلّ عن دينه وسبيله.

وكذا أخبر بقوله تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُون ) (١) وكيف يمنع إبليس من السّجدة ثمّ يقول : ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (٢).

فإن سألوا عن قوله تعالى : ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الجِنَّ والإنْسِ ) (٣) قيل : « لام العاقبة » معناها أنّ مصيرهم إلى النار ، كما قال تعالى : ( فَالتَقَطَهُ آلُ فِرْعَونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وحَزَناً ) (٤) وإن كانوا التقطوه ليكون لهم قرّة عين ، وقد بيّن ذلك بقوله تعالى : ( وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَونَ قُرَّتُ عَيْن لِي وَلَكَ ) ـ إلى (٥) آخره ـ وكذلك الجواب بقوله تعالى : ( أنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إثْماً ) (٦).

وزعمت المجبّرة القدريّة أنّ الله يضلّ أكثر عباده من دينه ، فأنّه ما هدى أحداً من العصاة إلى ما أمرهم به ، وأنّ الأنبياء عليهم‌السلام أراد الله ببعثهم الزيادة في عمى الكافرين ، وقالت العدليّة : أنّ الله لا يضلّ عن دينه أحداً ، ولم يمنع أحداً الهدى الّذي هو الدلالة ، وقد هدى ومن لم يهتد فبسوء اختياره غوى. قال الله تعالى : ( وأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العَمَى عَلَى الهُدَى ) (٧) على أنّا نقول أنّ الله يضلّ من شاء ويهدي ، وأنّه يضلّ الظالمين عن ثوابه وجنّاته ، وذلك جزاء على سيئاتهم ، وعقاب على جرمهم ، قال الله تعالى : ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلاّ الفَاسِقِينَ ـ إلى قوله ـ أُولئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ ) (٨) فأمّا الضلال عن الدين فهو فعل

شياطين الجنّ والإنس ، ألا ترى أنّ الله تعالى ذمّ عليهم فقال : ( وَأَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ ) (٩) وقد حكى عن أهل النّار أنّم يقولون :

__________________

١ ـ الذاريات / ٥٦.

٢ ـ ص / ٧٥.

٣ ـ الأعراف / ١٧٩.

٤ ـ القصص / ٨.

٥ ـ القصص / ٩.

٦ ـ آل عمران / ١٧٨.

٧ ـ فصلت / ١٦.

٨ ـ البقرة / ٢٦ ـ ٢٧.

٩ ـ طه / ٨٥.

١٣٧

( وَمَا أَضَلَّنَا إلاّ المُجْرِمُونَ ) (١) وما يقولون : وما أضلّنا إلاّ ربّ العالمين.

وقالت المجبّرة القدريّة : أنّ الله كلّف العباد ما لا يطيقون ، وذلك بادّعائها أنّ الله خلق الكفر في الكفّار ، ولا يُقدرهم على الإيمان ثمّ يأمرهم به ، فإذا لم يفعلوا الإيمان الّّذي لم يُقدره عليهم ، وفعلوا الكفر الّذي خلقه فيهم ، وأراده منهم ، وقضاه عليهم ، عاقبهم عذاباً دائماً.

وقالت العدليّة : معاذالله! إنّ الله لايكلّف العباد ما لايتّسعون له ( الوسع : دون الطاقة ) إذ تكليف ما لا يطاق ظلم وعبث ، وأنّه لا يظلم ولا يعبث ولو جاز أن يكلّف من لا يُقدره على الإيمان لجاز أن يكلّف من لا مال له باخراج الزّكاة ، وأن يكلّف المُقعد بالمشي والعدو وقال تعالى : ( لايكلّف الله نفساً إلاّ وسعها ) (٢) فهو لايكلّف من لا يستطيع قبل الفعل أن يفعل ، قال تعالى : ( ولله عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إليهِ سبِيلاً ) ـ إلى آخره (٣) ـ فهو يأمر بالحجّ قبل الحج ، فكذلك استطاعته قبل أن يحج ، ولو لم يستطيعوا الإيمان لم يقل لهم : ( فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ) (٤) ولو نصرهم على الإفك لم يقل : ( فَأَنّى يُؤْفَكُونَ ) (٥).

وادّعت المجبّرة أنّ الأقدار المذمومة حتم من الله ، ونفيناها عنه سبحانه ، لأنّ تقديره لا يكون باطلاً ولا متناقضاً ، فلمّا وجدنا الأشياء المتناقضة الباطلة علمنا أنّه لا يقدّرها وكفى القدريّة إذا أثبتوا ما تنازعنا فيه ونفيناه ، ولو جاز لجاز أن يكون من ينفي التنصّر نصرانيّاً ، ومن ينفي التهوّد يهوديّاً.

فإن قالوا : إنّكم أثبتّم ذلك لأنفسكم ، ومثبت الشيء لنفسه أولى ممّن ينسبه إليه ، فالجواب : أنّ التنازع بيننا لم يقع في كوننا قادرين ، فأنّما تنازعنا في أنّ الأقدار المذمومة تثبت لله سبحانه وتعالى أوينزّه عنها ، فأثبتوها إن كنتم قدريّة.

__________________

١ ـ البقرة / ٢٨٦.

٢ ـ الشعراء / ٩٩.

٣ ـ آل عمران / ٩٧.

٤ ـ التكوير / ٢٦.

٥ ـ العنكبوت / ٦١.

١٣٨

وبعد : فلوكان من أثبتها لنفسه قدريّاً لكان على زعمكم قد أثبته الله لنفسه فهو قدريّ وبعد هذا القول ، فلو كان هذا اسم ذمّ فهو لكم أليق ، لأنّكم فعلتم القبائح وأضفتموها إلى الله تعالى البريء منها ، وقد قال عزّ من قائل : ( وَمَنْ يَكْسِبُ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمَاً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَريئاً ) ـ إلى آخرها ـ (١).

تمّ الكلام في القدريّة

__________________

١ ـ النساء / ١١٢.

١٣٩

٤

الجهميّة

الحركات الرجعية

الحركات الرجعية ونعني بها الحركات الفكرية الّتي ظهرت بين المسلمين بين القرنين الثاني والثالث ، وهي ترمي إلى إرجاع الاُمّة إلى العقائد السائدة في العصر الجاهلي بين المشركين وأهل الكتاب ، من القول بالجبر والتجسيم إلى غير ذلك من البضائع الفكريّة المستوردة منهم إلى أوساط المسلمين.

ولأجل إيقاف القارىء على نماذج من هذه الحركات ، نبحث عن عدّة مناهج زرعت شروراً في المجتمع الإسلامي ، وبقيت آثارها إلى العصر الحاضر لكن بتغيير الاسم والعنوان ، وتحت غطاء مخدع. والسبب الوحيد لبثّ هذه السموم هو إقصاء العقل عن ساحة العقائد وإخضاعه لكلّ رطب ويابس يتّسم بسمة الحديث ، وليس بحديث ، بل يعدّ من مرويات العهدين وأقاصيص الأحبار والرهبان. وإليك بيان هذه الحركات واحدة تلو الاُخرى :

الجهميّة وسماتها : الجبر والتعطيل

مؤسّسها جهم بن صفوان السمرقندي ( ت ١٢٨ هـ ). قال الذهبي : « جهم بن صفوان ، أبو محرز السمرقندي الضالّ المبتدع ، رأس الجهميّة ، هلك في زمان

١٤٠