حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل - ج ١

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل - ج ١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٢

مصرع الحقّ

٥٠١
٥٠٢

بقي الامام أمير المؤمنين بعد حادثة صفين في أرباض الكوفة وهو محزون النفس مكلوم القلب يتلقى في كل فترة من زمانه الوانا مريعة من الرزايا والخطوب ، ينظر الى العدل وهو مضام ، وإلى الخير مضيع ، والى البغي قد كثر والى الجور قد طغى ، ويرى باطل معاوية قد استحكم ، وأمره قد تم ، وهو لا يتمكن على مناجزته لأن جيشه اصبح متمردا عليه بأمره فلا يطيع ، ويدعوه فلا يستجيب قد خلد الى الراحة ، وسئم التعب وكره الجهاد فى سبيل الله.

وتركت هذه الكوارث أسى مريرا فى نفسه فكان يتمنى الرحيل عن الدنيا في كل آونة من الزمن ليستريح من مشاكلها وشرورها ، وقد انطلق يدعو الله ليعجل انتقاله إليه قائلا : « اللهم عجل للمرادى شقاءه » ويقول مخاطبا لأهل الكوفة :

« أما والله لوددت أن الله أخرجني من أظهركم ، وقبضني الى رحمته منكم .. »

لقد قرر « ماكس نورداو » بقاء الأحيل دون الأصلح لأن الأصلح لا يدوم طويلا فى دنيا الاباطيل. وقد كان الامام أمير المؤمنين (ع) من المع المصلحين في الدنيا فقد اجهد نفسه على اقامة العدل وبسط المساواة في الأرض ، فكيف يبقى فى عالم المنافع والاضاليل فقد حاربه النفعيون وقاومه طلاب الجاه والسلطان ، وتنكر له ذلك المجتمع الذي لعبت به الاهواء ، وافسدته الاطماع فكيف يدوم حكمه في ذلك المجتمع الهزيل؟!!

وزاد في أسى الامام وأحزانه فقده للبقية الصالحة من صحابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الذين عرفوا اتجاهه ودرسوا في مدرسته امثال عمار ابن ياسر ، وهاشم المرقال وذى الشهادتين وامثالهم من عيون المؤمنين الذين

٥٠٣

يعتمد عليهم في إقامة الحق ودحض الباطل واحياء معالم الدين ، وبعد فقده لهم اصبح غريبا في ذلك المجتمع لا ناصر له ولا صديق وأخذ يبتهل الى الله ويتضرع إليه أن ينقله الى جواره ليستريح من آلام هذه الحياة التي ما وجد فيها غير الارهاق والعناء.

المؤامرة الدنيئة :

وشهد موسم الحج جمع من الخوارج فتذاكروا من قتل من رفاقهم ومن قتل من سائر المسلمين وقد جعلوا تبعة ذلك على ثلاث من الكفار ـ في زعمهم ـ وهم : الامام أمير المؤمنين ، ومعاوية ، وعمرو بن العاص فقال ابن ملجم : انا أكفيكم على بن أبي طالب ، وقال عمرو بن بكير التميمي : أنا أكفيكم عمرو بن العاص ، وقال الحجاج بن عبد الله الصريمي أنا اكفيكم معاوية ، واتفقوا على يوم معين يقومون فيه بعملية الاغتيال وهو اليوم الثامن عشر من شهر رمضان سنة اربعين من الهجرة ، كما عينوا ساعة الاغتيال وهي ساعة الخروج الى صلاة الصبح ، ثم تفرقوا وقصد كل واحد منهم الجهة التي عينها ، ووصل الأثيم ابن ملجم الى الكوفة ، وهو يحمل معه الشر والشقاء لجميع سكان الأرض ، فقد جاء ليخمد ذلك النور الذي اضاء الدنيا ، وقد قصد الماكرة الخبيثة ابنة عمه قطام ، وكان هائما بحبها ، وكانت تدين بفكرة الخوارج وقد قتل أبوها وأخوها فى واقعة النهروان فكانت مثكولة بهم ، وقد خطبها ابن ملجم (١) فلم ترض به زوجا إلا أن يشفى غليلها ، ويحقق اربها ، فقال لها :

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٢٨٩. وفي الاخبار الطوال ص ١٩٧ : ان ابن ملجم خطب الرباب بنت قطام.

٥٠٤

« ما تريدين شيئا الا أنفذته وحققه .. »

فعرضت عليه المهر الذي تريده وهو ثلاثة آلاف درهم ، وعبد وقينة وقتل علي ، فقال لها الأثيم :

« ما سألت هو لك مهر الا قتل على فلا أراك تدركينه » وقد قصد إخفاء الأمر عليها ، ولكن الاثيمة اندفعت تحبذ له قتل الامام وتشجعه على ارتكاب الجريمة قائلة :

« إن أصبته شفيت نفسي ونفعك العيش ، وإن هلكت فما عند الله خير لك من الدنيا » ولما عرف الأثيم الجد فى قولها عرفها بنيته ، وأنه ما جاء لهذا المصر إلا لهذه الغاية ، وفى هذا المهر المشوم يقول الفرزدق :

ولم أر مهرا ساقه ذو سماحة

كمهر قطام من فصيح واعجم

ثلاثة آلاف وعبد وقينة

وضرب على بالحسام المسمم

فلا مهر أغلى من علي وإن غلى

ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم (١)

وقد أوجس أصحاب الامام الخوف عليه من اغتيال الخوارج فتكلموا معه في أن يجعل له رصدا يحرسونه إن خرج لعبادة الله او في بعض مهامه ، فامتنع (ع) من ذلك وقال لهم :

« إن علي من الله جنة حصينة (٢) فاذا جاء يومي انفرجت عنى

__________________

(١) مستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٤٣ ونور الابصار ص ٩٥ وذكر زيادة على هذه الأبيات بيتين وهما.

ولا غرو للاشراف إن ظفرت بها

كلاب الأعادي من فصيح واعجم

فحربة وحشى سقت حمزة الردى

وحتف علي من حسام ابن ملجم

وفى بعض المصادر ان الابيات لابن ابي مياس المرادي.

(٢) الجنة بالضم ، الوقاية.

٥٠٥

واسلمتني ، فحينئذ لا يطيش السهم ولا يبرأ الكلم » (١)

الفاجعة الكبرى :

ولما أطل على الوجود شهر رمضان ، أفضل الشهور ، واعظمها حرمة وقدرا عند الله حتى نسب إليه فقيل شهر الله ، كان الامام على علم بانتقاله إلى حضيرة القدس في ظرف هذا الشهر العظيم ، فكان يتناول طعام الافطار الليلة عند الحسن ، وأخرى عند الحسين ، ومرة عند عبد الله بن جعفر وهو لا يزيد فى طعامه على ثلاث لقم ، ويحدث عن السبب فى قلة اكله قائلا : « أحب أن يأتيني أمر الله ، وأنا خميص البطن » (٢)

ولما أقبلت الليلة الثامنة عشرة من شهر رمضان اضطرب الامام أشد الاضطراب ، فجعل يمشي في صحن الدار وهو محزون النفس خائر القوى ينظر إلى الكواكب ويتأمل فيها فيزداد همه وحزنه ، وهو يقول متنبّئا عن وقوع الحادث الخطير في تلك الليلة :

« ما كذبت ، ولا كذبت ، إنها الليلة التي وعدت فيها » (٣)

وبقي «ع» طيلة تلك الليلة ، قلقا حزينا يناجي ربه ويطلب منه المغفرة والرضوان ، ويتلو آى الذكر الحكيم ، وقبل أن تشرق أنوار الفجر وينسلخ ظلام الليل القاتم ، أقبل فسبغ الوضوء ، ولما عزم على الخروج من بيته الى مناجاة الله وعبادته في بيته الكريم صاحت في وجهه وز (٤)

__________________

(١) طاش السهم : اي جاوز الهدف ولم يصبه : الكلم : بالفتح الجرح جمعه كلوم وكلام.

(٢) تأريخ ابن الاثير ج ٣ ص ١٦٨.

(٣) الصواعق ص ٨٠.

(٤) الوز : نوع من الطيور.

٥٠٦

كانت قد أهديت الى الحسن ، فتنبأ «ع» من صياحهن وقوع الحادث العظيم والرزء القاصم قائلا :

« لا حول ولا قوة إلا بالله ، صوائح تتبعها نوائح » (١)

وأقبل الحسن وهو مضطرب من خروج أبيه في هذا الوقت الباكر فقال له :

ـ ما أخرجك في هذا الوقت؟

ـ رؤيا رأيتها فى هذه الليلة أهالتني.

ـ خيرا رأيت ، وخيرا يكون قصها على.

ـ رأيت جبرئيل قد نزل من السماء على جبل أبي قبيس ، فتناول منه حجرين ، ومضى بهما الى الكعبة ، فضرب احدهما بالآخر فصارا كالرميم ، فما بقى بمكة ولا بالمدينة بيت إلا ودخله من ذلك الرماد شيء ـ ما تأويل هذه الرؤيا؟

ـ إن صدقت رؤياي ، فان أباك مقتول ، ولا يبقى بمكة ولا بالمدينة بيت إلا ودخله الهم والحزن من أجلى.

فالتاع الحسن وذهل وانبرى قائلا بصوت خافت حزين النبرات :

ـ متى يكون ذلك؟

ـ إن الله تعالى يقول ( وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) (٢) ولكن عهد الي حبيبي رسول الله (ص) أنه يكون في العشر الأواخر من شهر رمضان ، يقتلني عبد الرحمن بن ملجم.

__________________

(١) مروج الذهب ج ٢ ص ٢٩١

(٢) سورة لقمان آية ٣٤.

٥٠٧

ـ إذا علمت ذلك فاقتله.

ـ لا يجوز القصاص قبل الجناية والجناية لم تحصل منه.

وأقسم الامام على ولده الحسن أن يرجع الى فراشه ، فلم يجد الحسن بدا من الامتثال (١) وخرج الامام الى بيت الله في السحر ، وقد جاء فى الأخبار أن السحر وقت تجلى الله فينفح فيه الرحمات ويهب به البر والخير ويستجيب فيه الدعاء.

ولما انتهى الامام الى بيت الله ، جعل على عادته يوقض الناس لعبادة الله ومناجاته ، وحينما فرغ من ذلك شرع في صلاته ، وبينما هو ماثل بين يدي الخالق الحكيم والصلاة بين شفتيه وقلبه مشغول بذكر الله إذ هوى عليه الوغد الأثيم ابن ملجم (٢) وهو يهتف بشعار الخوارج ( الحكم لله لا لك ) وضرب الامام على رأسه فقد جبهته الشريفة التي طالما عفرها بالخضوع لله بكل ما للخضوع من معنى ، وانتهت الضربة القاسية إلى دماغه المقدس الذي ما فكر إلا فى نفع الناس وسعادتهم ورفع الشقاء عنهم ، ولما احس

__________________

(١) وجاء فى الاستيعاب ان الحسن خرج مع ابيه ولم ينفصل عنه.

(٢) لم يكن الاثيم وحده هو الذي قدم على قتل الامام بل كان معه شبيب بن بحيرة ومجاشع بن وردان ، واقبلوا الى قطام فعصبتهم بحرير وكانت معتكفة بالمسجد ، فاخذ هؤلاء اسيافهم وقعدوا مقابلين لباب السدة التي يخرج منها الامام للمسجد ، وقد علم الاشعث نية ابن ملجم فقال له محفزا على ارتكاب الجريمة ( النجا فضحك الصبح ) ولما سمع حجر بن عدى كلامه قال له : قتلته يا اعور قتلك الله ، إما ابن ملجم فضرب الامام على راسه ، وإما شبيب فوقعت ضربته بعضادة المسجد وإما ابن وردان فهرب جاء ذلك في مروج الذهب ج ٢ ص ٢٩٠

٥٠٨

عليه‌السلام بلذع السيف في رأسه صاح :

« فزت ورب الكعبة »

لقد فاز الامام ، وأى فوز اعظم من فوزه؟ فقد جاءته النهاية المحتومة وهو بين يدي الله وذكره بين شفتيه ، فى أقدس بيت ، واعظم شهر.

لقد فاز إمام الحق لأنه أرضى ضميره الحي فلم يوارب ولم يخادع منذ بداية حياته حتى النهاية ، ولقد قتل على غير مال احتجبه ولا على دنيا أصابها ولا سنة في الاسلام غيرها.

لقد فاز الامام ، وأى فوز أعظم من فوزه؟ فقد أفاض عليه الخلود لباس البقاء ليكون مظهرا للعدالة وعنوانا للحق. ومثالا للانسانية الكاملة التي ارتقت سلم الكمال حتى بلغت نهايته.

لقد فاز الامام ، وأى فوز اعظم؟ من أن يذكر قرينا للحق والعدل وتذكر مبادئه المقدسة اعجوبة لقادة الفكر الانساني يسيرون على ضوئها للعمل في حقل الاصلاح ، ولما وقع الامام صريعا في محرابه هتف معرفا بقاتله :

« قتلني ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم ، فلا يفوتنكم. »

فهرع الناس الى المسجد بجميع طبقاتهم وهم معولون نادبون قد اذهلهم الخطب وروعهم المصاب وبلغ بهم الحزن الى قرار سحيق وفى مقدمتهم أولاد أمير المؤمنين ، فوجدوا الامام طريحا في محرابه وجعدة ابن هبيرة (١) وجماعة حافون به يعالجونه للصلاة وهو لا يستطيع ولما وقع نظره

__________________

(١) جعدة بن هبيرة المخزومي ابن أم هاني بنت ابي طالب له صحبة مع النبي. وقال ابن معين لم يسمع من النبيّ شيئا ، وقال العجلى : إنه تابعي ثقة ، جاء ذلك فى خلاصة تهذيب الكمال ص ٥٣ ، وجاء فى الاستيعاب : ان

٥٠٩

على ولده الحسن أمره أن يصلى بالناس (١) وصلى الامام وهو جالس والدم ينزف منه ، ولما فرغ الحسن من صلاته أخذ رأس أبيه فوضعه في حجره ودموعه تتبلور على وجهه الشريف ، فقال له :

ـ من فعل بك هذا؟

ـ ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم.

ـ من أي طريق مضى؟

ـ لا يمض أحد فى طلبه ، إنه سيطلع عليكم من هذا الباب ، وأشار الى باب كندة ، فاشتغل الناس بالنظر إليها وما هي إلا فترات وإذا الصيحة قد ارتفعت فقد ظفر بالأثيم المجرم ابن ملجم (٢) فجيء به مكتوفا مكشوف الرأس ، فأوقف بين يدى الحسن فقال له » :

« يا ملعون ، قتلت أمير المؤمنين ، وإمام المسلمين ، هذا جزاؤه حين آواك وقربك حتى تجازيه بهذا الجزاء ».

والتفت الى أبيه قائلا : يا أبة هذا عدو الله وعدوك ابن ملجم قد أمكننا الله منه. ففتح الامام عينيه وقال له بصوت خافت :

« لقد جئت شيئا إدا وأمرا عظيما ، ألم أشفق عليك واقدمك على

__________________

جعدة كان فقيها ، قد ولاه خاله الامام على خراسان وقال ابو عبيدة ولدت أم هاني بنت ابي طالب من هبيرة ثلاث بنين : جعدة وهاني ويوسف.

(١) مطالب السئول فى مناقب آل الرسول ص ٦٣.

(٢) ذكر المسعودى في مروج الذهب ج ٢ ص ٢٩٠ ان الاثيم ابن ملجم لما ضرب الامام شد عليه الناس فجعلوا يرمونه بالحصباء ويصيحون عليه ، فضرب المغيرة بن نوفل بن الحرث وجهه فصرعه واقبل به الى الحسن ، وهناك اقوال أخر فى كيفية القبض عليه.

٥١٠

غيرك في العطاء؟ فلما ذا تجازيني بهذا الجزاء؟ » وقال للحسن يوصيه ببره والاحسان إليه.

« يا بني ارفق بأسيرك وارحمه ، واشفق عليه. »

فقال له الحسن :

« يا أبتاه ، قتلك هذا اللعين ، وفجعنا بك ، وأنت تأمرنا بالرفق به!! »

فاجابه أمير المؤمنين :

يا بني نحن أهل بيت الرحمة والمغفرة ، أطعمه مما تأكل ، واسقه مما تشرب ، فان أنامت فاقتص منه بأن تقتله ، ولا تمثل بالرجل فانى سمعت جدك رسول الله (ص) يقول : إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور وإن أنا عشت فأنا أعلم ما افعل به ، وأنا أولى بالعفو ، فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلا عفوا وكرما. »

وأمر (ع) بحمله الى الدار فحمل والناس تهرول خلفه قد اشرفت على الهلاك من البكاء والعويل قد أخذتهم المائقة وهم يهتفون بذوب الروح :

قتل إمام الحق ، قتل إمام الحق.

واستقبلته بناته وعياله بالبكاء والعويل ولما استقر في ثويه ، التفت إليه الحسن وقد حرق الهم والجزع قلبه قائلا :

« يا أبة ، من لنا بعدك؟ إن مصابنا بك مثل مصابنا برسول الله » فضمه الامام وقال مهدا روعه :

يا بني ، اسكن الله قلبك بالصبر ، وعظم أجرك ، واجر اخوتك بقدر مصابكم بي.

وجمع الحسن لجنة من الاطباء لمعالجته وكان ابصرهم بالطب أثير بن

٥١١

عمرو السكوني (١) فاستدعى برئة شاة حارة فتتبع عرقا منها فاستخرجه فأدخله في جرح الامام ثم نفخ العرق فاستخرجه فاذا هو مكلل ببياض الدماغ ، لأن الضربة قد وصلت الى دماغ الامام فارتبك أثير والتفت إلى الامام ـ واليأس في صوته ـ قائلا :

« يا أمير المؤمنين ، اعهد عهدك ، فانك ميت » (٢)

فالتفت الحسن الى ابيه ودموعه تتبلور على وجهه ، وشظايا قلبه يلفظها بنبرات صوته قائلا :

« أبة. كسرت ظهري ، كيف استطيع أن أراك بهذه الحالة؟ » وبصر الامام فرأى الأسى قد استوعب نفسه فقال له برفق :

« يا بنى لا غم على أبيك بعد هذا اليوم ولا جزع ، اليوم القى جدك محمد المصطفى ، وجدتك خديجة الكبرى ، وامك الزهراء ، وإن الحور العين ينتظرن أباك ويترقبن قدومه ساعة بعد ساعة ، فلا بأس عليك ، يا بني لا تبك. »

وتسمم دم الامام ، ومال وجهه الشريف الى الصفرة ، وكان في تلك الحالة هادئ النفس قرير العين لا يفتر عن ذكر الله وتسبيحه وهو ينظر الى آفاق السماء ، ويبتهل الى الله بالدعاء قائلا :

« إلهي. أسألك مرافقة الأنبياء ، والأوصياء وأعلى درجات الجنة » وغشى عليه فذاب قلب الحسن وجعل يبكى مهما ساعدته الجفون ، فسقطت قطرات من دموعه على وجه الامام فأفاق ، فلما رأه قال له :

__________________

(١) اثير بن عمرو السكوني ، كان احد الاطباء الماهرين يعالج الجراحات الصعبة وكان صاحب كرسي ، وله تنسب صحراء اثير.

(٢) الاستيعاب ج ٢ ص ٦٢.

٥١٢

مهدأ روعه :

« يا بني ما هذا البكاء؟ لا خوف ولا جزع على أبيك بعد اليوم ، يا بني لا تبك ، فأنت تقتل بالسم ، ويقتل أخوك الحسين بالسيف. »

وصاياه :

وأخذ الامام يوصى أولاده بمكارم الاخلاق ، ويضع بين أيديهم المثل الرفيعة ويلقي عليهم الدروس القيمة ، وقد وجه «ع» نصائحه الرفيعة أولا لولديه الحسن والحسين ، وثانيا لبقية اولاده ولعموم المسلمين.

قائلا :

« أوصيكما بتقوى الله ، وان لا تبغيا الدنيا وان بغتكما (١) ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما ، وقولا للحق واعملا للاجر ، وكونا للظالم خصما وللمظلوم عونا.

أوصيكما ، وجميع ولدى وأهلي ومن بلغه كتابي ، بتقوى الله ، ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم ، فاني سمعت جدكما صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : صلاح ذات البين افضل من عامة الصلاة والصيام. الله الله في الأيتام ، فلا تغبوا أفواههم (٢) ولا يضيعوا بحضرتكم ، والله الله في جيرانكم ، فانهم وصية نبيكم ، ما زال يوصى بهم حتى ظننا أنه سيورثهم والله الله في القرآن ، لا يسبقكم بالعمل به غيركم ، والله الله في الصلاة ، فانها عمود دينكم ، والله الله في بيت ربكم ، لا تخلوه ما بقيتم فانه إن ترك

__________________

(١) المعنى : لا تطلبا الدنيا ، وإن طلبتكما.

(٢) لا تغبوا افواههم : اى لا تقطعوا صلتكم عنهم وصلوا افواههم بالطعام دوما.

٥١٣

لم تناظروا (١) والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم والسنتكم فى سبيل الله ، وعليكم بالتواصل والتباذل (٢) وإياكم والتدابر والتقاطع ، لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيتولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم.

ثم قال عليه‌السلام مخاطبا لآله وذويه :

يا بني عبد المطلب لا ألفينكم (٣) تخوضون دماء المسلمين خوضا تقولون قتل أمير المؤمنين ، قتل امير المؤمنين ، ألا لا تقتلن بي إلا قاتلى

انظروا إذا أنامت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ، ولا يمثل بالرجل ، فاني سمعت رسول الله (ص) يقول : إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور » (٤)

وأخذ (ع) يوصى ولده الحسن خاصة بمعالم الدين وإقامة شعائره قائلا :

« أوصيك ، اى بني ، بتقوى الله ، وإقام الصلاة لوقتها ، وإيتاء الزكاة عند محلها وحسن الوضوء ، فانه لا صلاة إلا بطهور ، واوصيك بغفر الذنب وكظم الغيظ ، وصلة الرحم ، والحلم عن الجاهل والتفقه فى الدين ، والتثبت في الامر ، والتعاهد للقرآن ، وحسن الجوار والأمر بالمعروف

__________________

(١) لم تناظروا ، مبني للمجهول : اي لا ينظر إليكم بالكرامة والرحمة من الله وغيره إن إن اهملتم تعاليم الدين وفروضه.

(٢) التباذل : العطاء.

(٣) لا الفينكم : اي لا اجدنكم تخوضون دماء المسلمين بالسفك انتقاما منهم بقتلى.

(٤) شرح النهج محمد عبده ج ٣ ص ٨٥.

٥١٤

والنهي عن المنكر ، واجتناب الفواحش » (١)

وفي اليوم العشرين من شهر رمضان ازدحمت الجماهير من الناس على بيت الامام طالبين الاذن لعيادته ، فاذن لهم اذنا عاما ، فلما استقر بهم المجلس التفت لهم قائلا :

« سلوني قبل أن تفقدوني ، وخففوا سؤالكم لمصيبة إمامكم »

فاشفق الناس أن يسألوه ، نظرا لما ألم به من شدة الألم والجرح.

اقامة الحسن من بعده :

ولما علم أمير المؤمنين أنه مفارق لهذه الدنيا ، وان لقاءه بربه لقريب عهد بالخلافة والامامة لولده الحسن فاقامه من بعده لترجع إليه الأمة في شئونها كافة ، ولم تختلف كلمة الشيعة في ذلك فقد ذكر ثقة الاسلام الكليني (٢) ان أمير المؤمنين اوصى إلى الحسن ، واشهد على وصيته الحسين ومحمدا وجميع ولده ، ورؤساء شيعته وأهل بيته ، ثم دفع إليه الكتب والسلاح ، وقال له : يا بني. أمرني رسول الله (ص) أن أوصى إليك ، وأن ادفع إليك كتبي وسلاحي كما اوصى الى رسول الله ، ودفع إلي كتبه وسلاحه

__________________

(١) تاريخ ابن الاثير ج ٣ ص ١٧٠.

(٢) الكليني : هو محمد بن يعقوب بن اسحاق ، وهو من اعظم علماء الشيعة ، ومن المجددين لمذهب الامامية في المائة الثالثة من الهجرة ومن اشهر مؤلفاته : الكافي انفق على تأليفه من الوقت عشرين سنة ، وهو من اجل الكتب الاسلامية ومن اهمها » وقال محمد امين الأسترآبادي في محكى فوائده : انه سمع من بعض العلماء انه لم يصنف فى الاسلام كتاب يوازى الكافي ويدانيه ، توفى رحمه‌الله فى بغداد سنة ٣٢٩ هجرية وصلى عليه محمد ابن جعفر الحسيني ودفن بباب الكوفة ( الكنى والالقاب ٣ / ٩٨ )

٥١٥

وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها الى أخيك الحسين. »

وروى أيضا انه قال له : « يا بني أنت ولي الدم فان عفوت فلك وإن قتلت فضربة مكان ضربة » (١)

وذهب جماعة من اهل السنة والجماعة الى أن أمير المؤمنين لم يعهد بالامر الى ولده الحسن مستدلين على ذلك بما رواه شعيب بن ميمون الواسطي (٢) ان عليا قيل له ألا تستخلف؟ فقال : إن يرد الله بالأمة خيرا يجمعهم على خيرهم. وهذه الرواية من موضوعات شعيب ومن مناكيره كما نص على ذلك ابن حجر (٣)

ان الامام الحسن ريحانة رسول الله ، وسيد شباب أهل الجنة ، وهو امام إن قام أو قعد ـ على حد تعبير رسول الله ـ وقد هذبه الله عن كل نقص ورجس ـ كما دلت على ذلك آية التطهير ـ بالاضافة الى توفر جميع ما تتطلبه الخلافة من الصفات الرفيعة في شخصيته كالعلم والتقوى والحزم والجدارة فكيف لا يرشد الامام أمير المؤمنين الى مبايعته ولا يجعله علما من بعده؟!!

ان أمير المؤمنين من احرص المسلمين على جمع كلمتهم وتوحيد أمرهم فكيف يترك الأمر فوضى من بعده ولا يجعل لهم مفزعا وملجأ يلجئون إليه لا سيما في تلك الفترة الرهيبة التي احاطت بهم الاخطار والمشاكل؟!!

__________________

(١) اصول الكافى ١ / ٢٩٧ ـ ٢٩٨

(٢) شعيب بن ميمون الواسطي صاحب البزور ، قال ابو حاتم : مجهول وكذا قال العجلى : وقال البخاري : فيه نظر ، وقال ابن حبان يروى المناكير عن المشاهير على قلته لا يحتج به اذا انفرد ، تهذيب التهذيب ٤ / ٣٥٧.

(٣) تهذيب التهذيب ٤ / ٣٥٧ وجاء فيه : ومن مناكيره عن حصين عن الشعبي عن أبي وائل قال قيل لعلي الا تستخلف الرواية.

٥١٦

الى الرفيق الاعلى :

ولما فرغ الامام امير المؤمنين من وصاياه اخذ يعاني آلام الموت وشدته ، وهو يتلو آى الذكر الحكيم ويكثر من الدعاء والاستغفار ، ولما دنا منه الأجل المحتوم كان آخر ما نطق به قوله تعالى ( لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ ) ثم فاضت روحه الزكية الى جنة المأوى وسمت الى الرفيق الاعلى (١) وارتفع ذلك اللطف الإلهي الى مصدره فهو النور الذي خلقه الله ليبدد به غياهب الظلمات.

لقد مادت اركان العدل وانطمست معالم الدين ، ومات عون الضعفاء وأخو الغرباء وأبو الايتام.

سيدى : أبا الحسن لقد مضيت الى عالم الخلود وأنت مكدود مجهود مجهول حقك وقدرك ، فقد قضيت حياتك في ذلك الجيل القاتم الذي لا يقيم وزنا للعلم ولا للعدل ، ولا يعي ما تنشده من الأهداف الرامية الى بناء مجتمع تسوده العدالة والرفاهية والخير ، ولو كان للانسانية حظ لثنيت لك الوسادة وتسلمت قيادة الامة لتفيض على العالم بمعارفك وعلومك فانا لله وإنا إليه راجعون.

__________________

(١) اختلف المؤرخون فى الليلة التي ضربه فيها ابن ملجم فقيل : ليلة الثامن عشر من رمضان. ذهب الى ذلك المسعودي في مروج الذهب ، وقيل ليلة السابع عشر ذكره ابن عبد البر فى الاستيعاب. وذهب مؤرخو الشيعة ان ذلك كان في الليلة التاسعة عشرة ، واما عمره الشريف فقيل اربع وستون وقيل ثلاث وستون وقيل غير ذلك ، ومدة خلافته اربع سنين وتسعة اشهر وستة ايام ، وعمر الحسن في ذلك الوقت سبع وثلاثون سنة. جاء ذلك في كشف الغمة ص ١٥٤

٥١٧

تجهيزه ودفنه :

وأخذ الحسن (ع) في تجهيز أبيه فغسل الجسد الطاهر وطيبه بالحنوط ، وأدرجه في اكفانه ، ولما حل الهزيع الأخير من الليل خرج ومعه حفنة من آله وأصحابه يحملون الجثمان المقدس الى مقره الأخير فدفنه في النجف الأشرف حيث مقره الآن كعبة للوافدين ومقرا للمؤمنين والمتقين ومدرسة للمتعلمين ، ورجع الامام الحسن بعد أن وارى أباه الى بيته وقد استولى عليه الاسى والذهول وأحاط به الحزن.

القصاص من ابن ملجم :

وفي صبيحة ذلك اليوم الخالد فى دنيا الأحزان طلب الامام الحسن احضار المجرم الأثيم عبد الرحمن بن ملجم فلما مثل بين يديه قال له ابن ملجم :

ـ ما الذي أمرك به أبوك؟

ـ أمرني أن لا أقتل غير قاتله ، وأن أشبع بطنك وانعم وطأك ، فان عاش اقتص أو عفا وإن مات ألحقتك به.

فقال الأثيم متبهرا :

« إن كان أبوك ليقول الحق ، ويقضي به في حال الغضب والرضا!! » ثم ان الامام الحسن ضربه بالسيف فاتقى اللعين الضربة بيده فبدرت ثم جهز عليه فقتله ولم يمثل به (١) « وحلت على ابن ملجم لعنة الله ولعنة اللاعنين ومن ولدوا ومن ماتوا ومن قال الله لهم : كونوا فكانوا!! لعنة

__________________

(١) تاريخ اليعقوبى ٢ / ١٩١ ، تاريخ الطبري ٦ / ٨٦ ، مقاتل الطالبيين ص ١٦ ، تأريخ ابن الأثير ٣ / ١٧٠

٥١٨

تجفف النبع وتخضم الزرع ، وتحرق النبت في الارض وهو وسيم ، وجعل الله زفير جهنم وشهيقها في أصول تكوينه! وأهلكه الف شيطان كبوه على وجهه في سواء الجحيم وفيها لفح وفيها أفواه من اللهب ذات أجيج وذات صفير » (١)

وأما التمثيل به فقد ذهب إليه فريق من المؤرخين ولا شك انه من الموضوعات وذلك لنهي أمير المؤمنين عنه ، مكررا لقول النبي (ص) : « المثلة حرام ولو بالكلب العقور » فكيف يسوغ لريحانة الرسول (ص) وسبطه أن يعرض عن وصية أبيه ، ويرتكب ما خالف الشريعة الاسلامية؟ وقد اختلف القائلون بذلك في الشخص الذي مثل بابن ملجم : فالمحب الطبري ذكر ان الذي مثل به الامام الحسين ومحمد بن الحنفية ، وقد نهاهما الحسن عن ذلك فلم يذعنا له (٢) وذكر أبو الفداء ان الذي قام بذلك عبد الله بن جعفر (٣) وذكر ابن أبي الحديد ان الحسن هو الذي قام به (٤)

ان هذا الاختلاف يزيدنا وثوقا بافتعال ذلك وعدم صحته ، وجزم الدكتور طه حسين بصدور التمثيل من اولياء الدم قال :

« والشيء المحقق هو ان ولاة الدم لم ينفذوا وصية علي في أمر قاتله فهو قد امرهم أن يلحقوه به ، ولا يعتدوا ، ولكنهم مثلوا به أشنع التمثيل فلما مات حرقوه بالنار » (٥)

__________________

(١) الامام علي صوت العدالة الانسانية ٤ / ١٠٠٣

(٢) الرياض النضرة.

(٣) تأريخ ابى الفداء ١ / ١٨٠

(٤) شرح النهج ٥ / ٤٥٢

(٥) على وبنوه ص ١٨٤

٥١٩

ان الشيء المحقق على خلاف ما ذكره الدكتور وذلك لما ذكرناه من عدم اتفاق المؤرخين على التمثيل به ، والذين اتفقوا عليه قد اختلفوا في ذلك كما ذكرنا ، بالاضافة الى أن أولياء الدم بعيدون كل البعد عن ارتكاب ما خالف الشريعة الاسلامية.

وعلى أي حال فان الامام الحسن بعد ما فرغ من قتل ابن ملجم ، انثال الناس على مبايعته ـ كما سنذكر ذلك بالتفصيل ـ وقد استقبل الحسن الخلافة بما لم يستقبلها احد من الذين سبقوه فقد اصبحت الحاظرة الاسلامية الخاضعة لنفوذه مهددة بخطر معاوية فقد قوى أمره ، واستحكم سلطانه ، وعظم شره ، وانضم إليه كل من لم يع الاسلام من ذوي الاطماع والأهواء فعملوا جاهدين على إفساد امر الامام وتقويض خلافته ، ومضافا لهذا الخطر الخارجي الفتن الداخلية التي نشبت أظفارها في المجتمع العراقي وأهمها خطرا واعظمها محنة وبلاء هي فتنة الخوارج التي كانت سوسة تنخر في المعسكر العراقي ، وخطرا مسلحا من أهم الاخطار الفتاكة في الدولة الجديدة ، فقد انجرف بفكرتهم السذج والمغرر بهم من البسطاء.

هذان الخطران معظم ما استقبله الامام الحسن في دور خلافته ، ولقد ابتلى بهما أشد البلاء ، ولم يبتل وحده بهما ، فقد ابتلى بهما النظام الاسلامي والخلافة الرشيدة فقد كان يرجى في دوره ان تنتشر مفاهيم الاسلام وتسود العدالة الاجتماعية في الارض ويقضى على الغبن الاجتماعي والظلم الاجتماعي وهنا ينتهي بنا المطاف عن الحلقة الأولى من هذا الكتاب ونستقبل الامام الحسن في عهد خلافته لنقف على انبائها بالتفصيل.

٥٢٠