حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل - ج ١

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل - ج ١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٢

« يا علي .. أجب القوم إلى كتاب الله إذ دعيت إليه ، وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان ، فو الله لنفعلنها إن لم تجبهم. »

فأجابهم عليه‌السلام

« ويحكم ، أنا أول من دعا الى كتاب الله ، وأول من أجاب إليه وليس يحل لى ولا يسعني في ديني أن أدعى إلى كتاب الله فلا أقبله ، إني إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم القرآن ، فانهم قد عصوا الله فيما أمرهم ، ونقضوا عهده ونبذوا كتابه ، ولكن قد اعلمتكم أنهم قد كادوكم ، وأنهم ليسوا العمل بالقرآن يريدون. »

وكلما حاول الامام إقناعهم وإفهامهم بشتى الاساليب بأنها خديعة بعد فشلهم وعجزهم عن المقاومة فلم يتمكن ، وأخذوا يصرون عليه بأن يأمر قائده الأشتر بالانسحاب عن ساحة الحرب.

ورأى الامام الشرفي وجوههم وقد اجمعوا على مناجزته واحاطوا به مهددين ومنذرين فلم يجد (ع) بدا من إجابتهم فانفذ بالوقت الى الأشتر يزيد بن هانئ يأمره بالانسحاب عن الحرب ، فلما انتهى الرسول الى الاشتر وبلغه رسالة الامام ، انبرى الأشتر قائلا مقالة رجل تهمه مصلحة الأمة والنفع العام.

« قل لسيدى : ليست هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني فيها عن موقفي ، إني قد رجوت الله أن يفتح لي فلا تعجلني. »

رجع الرسول الى الامام فأخبره بمقالة الحازم اليقظ ، وكانت إمارة الفتح والظفر قد بدت على يده وأوشك أن ينتهى الأمر ، وارتفعت الأصوات من كتائب جيشه معلنة بالفتح المبين ، فلما سمع هؤلاء المتمردون ذلك أحاطوا بالامام قائلين له :

٤٦١

والله ما نراك إلا امرته أن يقاتل.

ـ أرأيتموني ساررت رسولى ( إليه )؟ أليس إنما كلمته على رءوسكم علانية وانتم تسمعون.

فانطلقوا يهتفون بلسان واحد :

فابعث إليه فليأتيك ، وإلا فو الله اعتزلناك.

فأريع الامام منهم وقد أوشكوا أن يفتكوا به فقال (ع) :

« ويحك يا يزيد ، قل له : اقبل إلى ، فان الفتنة قد وقعت!! »

فانطلق يزيد مسرعا إلى الأشتر فقال له :

« أقبل إلى أمير المؤمنين ، فان الفتنة قد وقعت. »

فقد قلب الأشتر فقال ليزيد والذهول باد عليه مستفهما عن مدرك هذه الفتنة والانقلاب الذي وقع في الجيش :

ـ الرفع هذه المصاحف؟

ـ نعم.

وقال الأشتر مصدقا تنبؤ نفسه وحدسها في وقوع هذا الانقلاب : « أما والله لقد ظننت أنها حين رفعت ستوقع اختلافا وفرقة ، إنها مشورة ابن العاهرة ، ثم التفت الى الرسول والألم يحز في نفسه.

« ألا ترى إلى الفتح ، ألا ترى الى ما يلقون ، ألا ترى الى الذي يصنع الله لنا ، أينبغى أن ندع هذا وننصرف عنه؟. »

فانطلق يزيد يخبره بحراجة الموقف والاخطار التي تحف بالامام قائلا :

ـ أتحب أنك ظفرت هاهنا ، وأن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو به يفرج عنه ويسلم الى عدوه؟

ـ سبحان الله. لا والله ما احب ذلك.

٤٦٢

ـ فانهم قالوا : لترسلن الى الأشتر فليأتينك أو لنقتلنك بأسيافنا كما قتلنا ابن عفان ، أو لنسلمنك الى عدوك.

فقفل الأشتر راجعا إلى الامام والحزن قد استولى عليه لضياع أمله المنشود ، فقد ظفر بالفتح واهريقت دماء جيشه حتى اشرف على النهاية وإذا بتلك المتاعب والجهود تذهب سدى لمكر ابن العاص ، وخاطب اولئك الاراذل بشدة وصرامه منددا بهم قائلا :

« يا أهل الذل والوهن ، أحين علوتم القوم فظنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها؟! وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها وسنة من أنزلت عليه ، فلا تجيبوهم ، أمهلوني فواقا ، فاني قد أحسست بالفتح. »

فانطلق هؤلاء المتمردون مظهرين له الغي والعناد قائلين بلسان واحد « لا. لا. »

ـ امهلوني عدوة الفرس ، فاني قد طمعت في النصر.

ـ إذن ندخل معك في خطيئتك.

وانبرى الأشتر يحاججهم ويقيم لهم الأدلة على خطل رأيهم وبعدهم عن الصواب حدثوني عنكم ـ وقد قتل أماثلكم وبقى أراذلكم ـ متى كنتم محقين ، أحين كنتم تقتلون أهل الشام ، فانتم الآن حين أمسكتم عن القتال مبطلون ، أم انتم الآن فى إمساككم عن القتال محقون؟ فقتلاكم إذن الذين لا تنكرون فضلهم وكانوا خيرا منكم ، في النار. »

ولم يجد هذا الكلام المشفوع بالأدلة معهم شيئا فأجابوه :

« دعنا منك يا أشتر قاتلناهم في الله وندع قتالهم في الله ، إنا لسنا نطيعك فاجتنبنا »

٤٦٣

فقال لهم الاشتر :

« خدعتم والله فانخدعتم ، ودعيتم الى وضع الحرب فأجبتم ، يا اصحاب الجباه السود ، كنا نظن أن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوق إلى لقاء الله فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت ، ألا فقبحا يا اشباه النيب الجلالة ما أنتم برائين بعدها عزا أبدا فابعدوا كما بعد القوم الظالمون. »

وما انهى الأشتر كلامه حتى اقبلوا عليه يكيلون له أصواعا من السب والشتم ، فقابلهم بالمثل والتفت الى الامام بحماس قائلا :

« يا أمير المؤمنين. احمل الصف على الصف يصرع القوم. »

ولم يجبه الامام وأطرق برأسه وهو يفكر فى العاقبة المرة التي جرها هؤلاء المتمردون على الأمة ، وقد اتخذ هؤلاء سكوته رضى منه بالأمر فهتفوا :

« إن عليا أمير المؤمنين. قد رضى الحكومة ، ورضى بحكم القرآن » ولم يسع الامام الا الرضا كما لم يسع الأشتر إلا الاذعان والقبول فقال :

« إن كان أمير المؤمنين قد قبل ورضى بحكم القرآن فقد رضيت بما رضى به أمير المؤمنين. »

فانبروا يهتفون :

« رضى أمير المؤمنين. رضى أمير المؤمنين. »

والامام (ع) ساكت لا يجيبهم بشيء قد استولى عليه الهم والحزن لأنه ينظر الى جيشه قد فتكت به ومزقته حيلة ابن العاص ، وليس بوسعه اصلاحهم وارجاعهم إلى طريق الحق والصواب ، فانه لم يكن له نفوذ وسلطان عليهم كما أعرب (ع) عن ذلك بقوله :

« لقد كنت أمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا. وكنت أمس

٤٦٤

ناهيا فأصبحت اليوم منهيا » (١)

انتخاب الاشعرى :

ولم تقف محنة الامام وبلاؤه في جيشه على هذا التمرد ، وإنما أخذوا يسعون جاهدين للاطاحة بحكومته فقد اصروا عليه في ترشيح عدوه الخبيث أبي موسى الأشعرى ، وانتخابه للتحكيم ، وعدم الرضا بغيره ممن رشحه الامام كابن عباس ومالك الأشتر وغيرهما من ذوي البصيرة والرأي ، والسبب في ذلك انهم يعلمون بانحراف الاشعرى عن أمير المؤمنين فاذا تولى مهمة التحكيم فانه لابه أن يختار للخلافة غير الامام ، ويذهب الدكتور طه حسين إلى ان اصرارهم لم يأت مصادفة وانما كان عن مؤامرة وتدبير بين طلاب الدنيا من أصحاب على وأصحاب معاوية جميعا (٢) وعلى أي حال فقد أحاطوا بالامام يهتفون :

« إنا رضينا بأبى موسى الاشعرى. »

فزجرهم الامام ونهاهم عن انتخابه قائلا :

« إنكم قد عصيتموني في أول الامر. فلا تعصوني الآن ، إني لا أرى أن أولى أبا موسى!! »

ولم يجد معهم نصح الامام شيئا وانما أخذوا يلحون عليه قائلين :

« لا نرضى إلا به ، فما كان يحذرنا وقعنا فيه »

وأخذ الامام يبين لهم الوجه في كراهيته له قائلا لهم :

« إنه ليس لي بثقة ، قد فارقني وخذل الناس عني ، ثم هرب مني

__________________

(١) نهج البلاغة محمد عبده ج ٢ ص ٢١٢

(٢) علي وبنوه : ص ٩٠

٤٦٥

حتى آمنته بعد أشهر ، ولكن هذا ابن عباس نوليه ذلك .. »

فلم يقنعوا واصروا على غيهم وجهلهم قائلين :

« ما نبالي أنت كنت أم ابن عباس ، لا نريد إلا رجلا هو منك ، ومن معاوية سواء ليس الى واحد منكما بادنى منه الى الآخر .. »

فدلهم الامام على الاشتر فانه ليس رحما له فردوا عليه قائلين :

« وهل سعر الأرض غير الأشتر!! »

ولم يجد الامام بعد هذه المحاورة وسيلة يسلكها في اقناعهم فاطلق سراحهم وخلى بينهم وبين جهلهم وأصبحت الأمور بيد هؤلاء العصاة المتمردين.

وثيقة التحكيم :

وتسابق القوم الى تسجيل ما يرومونه في وثيقة التحكيم وهذا نصها كما رواها الطبرى :

بسم الله الرحمن الرحيم : هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ، ومعاوية بن أبي سفيان ، قاضي علي على أهل الكوفة ومن معهم من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين ، وقاضي معاوية على أهل الشام ومن كان معهم من المؤمنين والمسلمين إنا ننزل عند حكم الله عز وجل وكتابه ولا يجمع بيننا غيره ، وان كتاب الله عز وجل بيننا من فاتحته الى خاتمته نحيي ما احيا ونميت ما امات فما وجد الحكمان في كتاب الله عز وجل. وهما أبو موسى الاشعرى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص القرشي ، عملا به وما لم يجدا في كتاب الله عز وجل فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة ، وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين من العهود والميثاق والثقة

٤٦٦

من الناس انهما آمنان على انفسهما وأهلهما ، والامة لهما انصار على الذي يتقاضيان عليه وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كلتيهما عهد الله وميثاقه ، إنا على ما في هذه الصحيفة وان قد وجبت قضيتهما على المؤمنين فان الامن والاستقامة ووضع السلاح بينهم أينما ساروا على أنفسهم وأهليهم وأموالهم وشاهدهم وغائبهم ، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة ولا يرداها في حرب ولا فرقة حتى يعصيا ، وأجل القضاء الى رمضان ، وإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه على تراض منهما وإن توفي أحد الحكمين فان أمير الشيعة يختار مكانه ولا يألو من أهل المعدلة والقسط ، وإن مكان قضيتهما الذي يقضيان فيه مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام وإن رضيا وأحبا فلا يحضرهما فيه إلا من أرادا ويأخذ الحكمان من ارادا من الشهود ثم يكتبان شهادتهما على ما في هذه الصحيفة وهم انصار على من ترك ما في هذه الصحيفة وأراد فيه إلحادا وظلما ، اللهم إنا نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة » (١)

وسجل فريق من زعماء العراق والشام شهادتهم في هذه الوثيقة ، وتدل بنصها الصريح على عدم اهتمام معاوية وحزبه بدم عثمان ولو كان لهم إرب في ذلك لجاء ذكر قتله فيها صريحا أو ضمنا.

لقد أقاموا الدنيا وأقعدوها من أجل عثمان فنشروا ثيابه على منبر دمشق ، وهم يبكون على مصابه وأثاروا هذه الحرب من أجل المطالبة بدمه ، فما بالهم لم يتعرضوا له في وثيقة التحكيم ، ولم يذكروه بقليل ولا كثير.

وعلى أي حال فقد حفلت هذه الصحيفة بتحقيق رغبات الاشعث

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٦ ص ٣٠

٤٦٧

وسائر ذوي الاطماع والمنحرفين من قومه لأنه قد تم لهم ما أرادوا من تفلل الجيش العراقي وانقلابه وتغلب القوى الباغية على قوى الحق والاسلام

انبثاق الفكرة الحرورية :

واعقبت مهزلة رفع المصاحف انبثاق الفكرة الثورية الهدامة وهي فكرة الخوارج التي لم يكن الباعث لها الا التماس المصالح الدنيوية ، والسعي وراء النفوذ والسلطان ، وتحقيق المطامع الشخصية الرخيصة ، وقد اتخذوا « الحكم لله » شعارا لهم ، ولكنهم سرعان ما جعلوا الحكم للسيف وذلك بما أراقوه من دماء الابرياء ونشر الذعر والخوف بين المسلمين ، وكان سمتهم الذي اتصفوا به هو اعلان البغي والتمرد ، والحكم بالكفر على من لا يدين بفكرتهم واباحة دماء المسلمين ، وقد تظافرت الاخبار الواردة عن النبي (ص) بكفرهم ومروقهم من الاسلام قال (ص) : « سيكون بعدي من أمتي قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ، ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق والخليقة » (١) وروى أبو سعيد الخدري ان رسول الله (ص) أتاه مال فجعل يضرب بيده فيه فيعطي يمينا وشمالا وفيهم رجل مقلص الثياب ذو سيماء بين عينيه أثر السجود فجعل رسول الله يضرب يده يمينا وشمالا حتى نفد المال ، فلما نفد المال ولى مدبرا ، وقال والله ما عدلت منذ اليوم ، قال فجعل رسول الله (ص) يقلب كفه ويقول : إذا لم أعدل فمن يعدل بعدي؟ أما إنه ستمرق مارقة يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ثم لا يعودون إليه حتى

__________________

(١) صحيح مسلم ١ / ٣٩٨

٤٦٨

يرجع السهم على فوقه يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يحسنون القول ويسيئون الفعل ، فمن لقيهم فليقاتلهم فمن قتلهم فله أفضل الأجر ، ومن قتلوه فله أفضل الشهادة ، برىء الله منهم تقتلهم أولى الطائفتين بالحق (١) إلى غير ذلك من الاخبار التي رواها الفريقان عن النبي (ص) فى خروجهم من الدين ومروقهم عن الاسلام وهي تعد من معاجزه (ص) ومن آيات نبوته وذلك لما فيها من انباء الغيب التي تحققت بعده وعلى أي حال فقد تكتل هؤلاء المارقون وانحازوا إلى جانب آخر وهم ينادون بفكرتهم ، ويعلنون تمردهم ، ولما نزح الامام من صفين الى الكوفة ، لم يدخلوا معه إليها وانحازوا الى ( حروراء ) (٢) فنسبوا إليها وكان عددهم اثني عشر الفا وقد اذن مؤذنهم ان أمير القتال شبث بن ربعي التميمي وعلى الصلاة عبد الله بن الكواء اليشكري والأمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله عز وجل والامر بالمعروف والنهى عن المنكر

احتجاج ومناظرات :

واضطرب الامام من هؤلاء المارقين عن الدين فأرسل إليهم عبد الله ابن عباس وأمره أن لا يخوض معهم في ميدان البحث والخصومة حتى يأتيه ولما اجتمع بهم ابن عباس لم يجد بدا من الدخول معهم في مسرح البحث فقال لهم :

« ما نقمتم من الحكمين؟ وقد قال الله عز وجل : ( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما ) (٣) فكيف بأمة محمد (ص) ».

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٢ / ١٥٤

(٢) حروراء ـ بفتح الحاء والراء وسكون الواو ـ قيل هي قرية بظهر الكوفة ، وقيل موضع على ميلين منها ، معجم البلدان ٣ / ٢٥٦

(٣) سورة النساء : آية ٣٥

٤٦٩

فأجابه الخوارج :

« أما ما جعل حكمه الى الناس وأمر بالنظر فيه والاصلاح له فهو إليهم كما أمر به ، وما حكم فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه ، حكم في الزاني مائة جلدة ، وفي السارق بقطع يده فليس للعباد أن ينظروا فيه » واندفع ابن عباس يجيبهم :

ـ إن الله عز وجل يقول : ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (١) ـ أو تجعل الحكم في الصيد ، والحدث يكون بين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين؟ وهذه الآية بيننا وبينك ، أعدل عندك ابن العاص؟ وهو بالأمس يقاتلنا ويسفك دماءنا ، فان كان عدلا فلسنا بعدول ونحن اهل حربه وقد حكمتم في أمر الله الرجال وقد امضى الله عز وجل حكمه في معاوية وحزبه أن يقتلوا أو يرجعوا وقبل ذلك دعوناهم الى كتاب الله عز وجل فأبوه ثم كتبتم بينكم وبينه كتابا وجعلتم بينكم وبينه الموادعة والاستفاضة وقد قطع الله الاستفاضة والموادعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت ( براءة ) إلا من أقر بالجزية.

وبقى ابن عباس يحاججهم ويحاججونه ، لم تغن معهم شيئا الأدلة القطعية والبراهين الحاسمة التي أقامها على خطل رأيهم.

ورحل الامام إليهم تصحبه زمرة من اصحابه ليناظر هؤلاء المارقين فانتهى (ع) الى فسطاط يزيد بن قيس فدخل فيه وتوضأ وصلى ركعتين ثم اقبل نحو القوم فرأى ابن عباس يناظرهم فزجره قائلا : : انته عن كلامهم ، ألم انهك رحمك الله؟ ثم التفت الى القوم قائلا :

« اللهم. إن هذا مقام من افلج فيه كان اولى بالفلج يوم

__________________

(١) سورة المائدة آية ٩٥

٤٧٠

القيامة ، ومن نطق فيه وأوعث فهو في الآخرة اعمى واضل سبيلا ثم قال لهم :

ـ من زعيمكم؟

ـ ابن الكواء

فوجه (ع) خطابه إليه وإليهم :

ـ ما اخرجكم علينا؟

ـ حكومتكم يوم صفين

ـ انشدكم بالله أتعلمون انهم حيث رفعوا المصاحف ، فقلتم نجيبهم الى كتاب الله ، قلت لكم إني اعلم بالقوم منكم إنهم ليسوا باصحاب دين ولا قرآن ، اني صحبتهم وعرفتهم اطفالا ورجالا فكانوا شر اطفال وشر رجال ، امضوا على حقكم وصدقكم فانما رفع القوم هذه المصاحف خديعة ودهنا ومكيدة فرددتم علىّ رأيي وقلتم لا. بل نقبل منهم ، فقلت لكم اذكروا قولى لكم ومعصيتكم اياى ، فلما ابيتم الا الكتاب اشترطت على الحكمين ان يحييا ما أحيا القرآن ، وأن يميتا ما أمات القرآن فان حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكما يحكم بما في القرآن ، وإن أبيا فنحن من حكمهما برآء

فدحضت هذه الحجة النيرة جميع ما تمسكوا به لاثبات فكرتهم الواهنة واندفعوا بلين لا عسف فيه نحو الامام قائلين له :

ـ اتراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء؟

ـ لسنا حكمنا الرجال إنما حكمنا القرآن ، وهذا القرآن انما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق انما يتكلم به الرجال.

ـ فخبرنا عن الأجل لم جعلته فيما بينك وبينهم؟

٤٧١

ـ ليعلم الجاهل ، ويثبت العالم ، ولعل الله عز وجل يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة.

ورأى الامام (ع) منهم اذعانا لكلامه ومقاربة شديدة له ، فقال لهم :

« ادخلوا مصركم رحمكم الله »

فاجابوا الى ذلك ورحلوا عن آخرهم معه الى الكوفة ، ولكنهم بقوا على فكرتهم يذيعونها بين الكوفيين وينشرون الشغب ويدعون الى البغي وقد شاع أمرهم وقويت شوكتهم واندفع بعضهم الى الامام وهو يخطب فقطع عليه خطابه تاليا قوله تعالى ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) (١) فأجابه الامام بآية اخرى ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) (٢)

وجعل الأمر يمعن في الفساد بين الامام وبين هؤلاء المارقين ، فقد أخذوا يتعرضون للآمنين ، وينشرون الرعب والفزع فى البلاد الأمر الذي أوجب اضطراب الامن العام وشيوع الخوف بين جميع المواطنين.

اجتماع الحكمين :

واسترد معاوية قواه واحكم أمره بعد الانهيار الذي أصابه ، وقد أوفد الى الامام رسله يستنجزه الوفاء بالتحكيم ، ويطلب منه المبادرة باجتماع الحكمين ، وانما بادر لذلك لعلمه بالفتن والخطوب التي منى بها الجيش العراقي حتى تفرق الى طوائف وأحزاب يضاف الى ذلك علمه بانحراف ابي موسى الاشعرى عن الامام ، وقد أراد أن يحوز بذلك الى

__________________

(١) سورة الزمر آية ٦٥

(٢) سورة الروم آية ٦٠

٤٧٢

نصره نصرا ، وقد اجابه الامام (ع) الى ذلك وانفذ اربع مائة رجل عليهم شريح بن هانى الحارثي (١) ومعهم عبد الله بن عباس يصلى بهم ويلي أمورهم : ومن بينهم ابو موسى الأشعرى المنتخب للتحكيم ، وكذلك فعل معاوية فأشخص عمرو بن العاص ومعه اربع مائة شخص ، وزوده بدراسة وافية عن نفسية الخامل أبي موسى قائلا :

« إنك قد رميت برجل طويل اللسان قصير الرأى فلا ترمه بعقلك كله » (٢)

وسارت الكتائب فانتهت الى أذرح (٣) أو دومة الجندل (٤)

__________________

(١) شريح : بن هاني بن يزيد بن الحرث : كان جاهليا فاسلم يكنى ابا المقدام وابوه هاني له صحبة مع النبيّ (ص) ، وشريح من اجل اصحاب الامام ، الاستيعاب ٢ / ١٤٩

(٢) العقد الفريد ج ٣ ص ١١٥.

(٣) اذرح : ـ بفتح اوله وسكون الذال وضم الراء ـ جمع مفرده ذريح ، وهو اسم لبلد من اطراف الشام تقرب من ارض الحجاز وفيها كان التحكيم بين ابن العاص والأشعري ، وهو الصحيح لقول ذى الرمة يمدح بلالا حفيد ابى موسى :

ابوك تلافى الدين والناس بعد ما

تساءوا وبيت الدين منقطع الكسر

فشد إصار الدين ايام اذرح

ورد حروبا قد لقحن الى عقر

معجم البلدان ج ١ ص ١٦١.

(٤) دومة الجندل بفتح اوله وضمه وقد انكر ابن دريد الفتح وعده من اغلاط المحدثين ، وهو اسم مكان على سبع مراحل من دمشق ومن مدينة الرسول ، وقال ابو عبيد السكوني : دومة الجندل حصن وقرى بين

٤٧٣

فكان هناك الاجتماع والتحكيم ، واجتمع الماكر المخادع عمرو بن العاص بضعيف العقل الخامل ابي موسى ، فأمهله ثلاثة ايام وافرد له مكانا خاصا به وجعل يقدم له ما لذّ من الطعام والشراب ولم يفتح معه الحديث حتى استبطنه وارشاه ، ولما علم بأنه قد هيمن عليه وصار زمامه بيده أخذ يحدثه بانخفاض ولين مبديا له الاكبار والتقديس والتعظيم قائلا له :

« يا أبا موسى .. انك شيخ اصحاب محمد (ص) وذو فضلها ،

__________________

الشام والمدينة قرب جبل طىء كانت به بنو كنانة من كلب ويقال إن بدومة الجندل كان التحكيم فقد حدث عبد الله بن عيسى حفيد ابى ليلى قال مررت مع ابى موسى بدومة الجندل ، فقال ابو موسى حدثني رسول الله انه حكم في بني اسرائيل في هذا الموضع حكمان بالجور ، وانه يحكم فى امتي فى هذا المكان حكمان بالجور ، قال : فما ذهبت الايام حتى حكم هو وعمرو ابن العاص فيما حكما ، وقد اكثر الشعراء فى ذكر الاجتماع بأذرح إلا قول الأعور الشنى فانه ذكر دومة الجندل في قوله :

رضينا بحكم الله فى كل موطن

وعمرو وعبد الله مختلفان

فليس بهادى امة من ضلالة

بدومة شيخا فتنة عميان

بكت عين من يبكى ابن عفان بعد ما

نفا ورق الفرقان كل مكان

ثوى تاركا للحق متبع الهوى

ووارث حزنا لاحقا بطعان

كلا الفتنتين كان حيا وميتا

يكادان لو لا القتل يشتبهان

وإن كان الوزن يستقيم لو جيء بمكان دومة اذرح جاء ذلك فى معجم البلدان ج ٤ ص ١٠٦ ، واحتمل الدكتور ( طه حسين ) فى كتابه ( علي وبنوه ) ص ١٠٧ ، ان الاجتماع كان في دومة الجندل اولا ثم فى اذرح بعد ذلك.

٤٧٤

وذو سابقتها ، وقد ترى ما وقعت فيه هذه الامة من الفتنة العمياء التي لا بقاء معها ، فهل لك ان تكون ميمون هذه الأمة فيحقن الله بك دماءها ، فانه يقول : في نفس واحدة. ومن احياها فكأنما احيا الناس جميعا ، فكيف بمن احيا انفس هذا الخلق كله. »

ومتى كان ابو موسى شيخ صحابة النبي ومن ذوي الفضائل والسوابق في الاسلام ،؟!! وقد لعبت هذه الكلمات في نفسه فطفق يسأل عن الكيفية التي يحسم بها النزاع قائلا : كيف ذلك؟

« تخلع أنت على بن ابي طالب ، واخلع انا معاوية بن ابي سفيان ونختار لهذه الامة رجلا لم يحضر في شيء من الفتنة ولم يغمس يده فيها » فبادره ابو موسى عن الشخص الذي يرشح لكرسى الخلافة قائلا :

« ومن يكون ذلك؟ »

وكان عمرو قد فهم ميول ابي موسى واتجاهه نحو عبد الله بن عمر فقال له :

« انه عبد الله بن عمر. »

واسترّ الاشعري بذلك اى سرور واندفع إليه يطلب منه المواثيق على وفائه بما قال ، قائلا له :

ـ كيف لى بالوثيقة منك؟

ـ يا أبا موسى .. الا بذكر الله تطمئن القلوب ، خذ من العهود والمواثيق حتى ترضى.

ثم انبرى يكيل له العهود والمواثيق والايمان المغلظة ، حتى لم يبق يمين او شيء مقدس إلا واقسم به على الوفاء والالتزام بما قال ، وبقى الشيخ الكبير السن الصغير العقل مبهورا بهذه اللباقة التي ابداها ابن العاص فأجابه بالرضا والقبول ، واذيع بين المجتمع اتّفاقهما ، والوقت الذي يكون

٤٧٥

فيه الاجتماع.

وأقبلت الساعة الرهيبة التي تغير فيها مجرى التأريخ ، فاجتمعت الجماهير لتأخذ النتيجة الحاسمة من هذا التحكيم المنتظر بفارغ الصبر ، فأقبل الخاتل ابن العاص مع أبي موسى المخدوع الى منصة الخطابة ليعلنا للجماهير الصورة التي اتّفقا عليها ، فالتفت ابن العاص الى أبي موسى قائلا :

ـ قم فاخطب الناس ، يا أبا موسى.

ـ قم. أنت فاخطبهم.

ـ سبحان الله أنا اتقدمك ، وأنت شيخ أصحاب رسول الله والله لا فعلت ذلك أبدا.

ـ أفي نفسك شيء؟

فزاده أيمانا مغلظة على الالتزام بالعهد الذي أعطاه له (١) وعرف ابن عباس هذه المخادعة من ابن العاص وتجلت له الحيلة التي يرومها هذا الماكر فالتفت الى الأشعري قائلا :

« ويحك والله ، إني لأظنه قد خدعك ، إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدمه فليتكلم بذلك الأمر قبلك ، ثم تكلم أنت بعده ، فان عمرو رجل غادر ولا آمن من أن يكون قد اعطاك الرضا فيما بينك وبينه فاذا قمت فى الناس خالفك » (٢).

فلم يلتفت الصعلوك الى كلام ابن عباس وراح يشتد كأنه الحمار نحو منصة الخطابة فلما استوى عليها ، حمد الله واثنى عليه وصلى على النبي الكريم ، ثم قال :

__________________

(١) العقد الفريد ج ٣ ص ١١٥.

(٢) تأريخ الطبرى ج ٦ ص ٣٩.

٤٧٦

« أيها الناس ، إنا قد نظرنا في أمرنا فرأينا أقرب ما يحضرنا من الأمن والصلاح ولم الشعث وحقن الدماء وجمع الالفة ، خلعنا عليا ومعاوية وقد خلعت عليا كما خلعت عمامتى هذه ( وأهوى الى عمامته فخلعها ) واستخلفنا رجلا قد صحب رسول الله (ص) بنفسه وصحب أبوه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبرز في سابقته وهو عبد الله بن عمر ».

وأخذ يثنى عليه بالثناء العاطر ويخلع عليه النعوت الحسنة والأوصاف الشريفة.

وقد عدل الاشعري عن انتخاب الامام أمير المؤمنين وهو نفس النبيّ وباب مدينة علمه فرشح عبد الله بن عمر وهو لا يحسن طلاق زوجته ـ على حد تعبير أبيه ـ أف للزمان وتعسا للدهر أن يتحكم فى المسلمين ويفرض رأيه عليهم مثل هذا الصعلوك النذل ، وعلى اى حال فقد انبرى ابن العاص فحمد الله واثنى عليه وصلى على النبي (ص) ثم قال :

« أيها الناس ، إن أبا موسى عبد الله بن قيس خلع عليا واخرجه من هذا الأمر الذي يطلب ، وهو اعلم به ، ألا وإنى خلعت عليا معه وأثبت معاوية علىّ وعليكم ، وإن أبا موسى قد كتب فى الصحيفة (١) إن عثمان قد قتل مظلوما شهيدا وإن لوليه أن يطلب بدمه حيث كان ، وقد صحب معاوية رسول الله (ص) بنفسه ، وصحب أبوه النبي وأخذ يفيض عليه بالثناء والمديح ، ثم قال : هو الخليفة علينا ، وله طاعتنا وبيعتنا على الطلب بدم عثمان.

وانطلق الخامل المخدوع أبو موسى الى ابن العاص قائلا :

__________________

(١) يشير بالصحيفة الى إقرار ابى موسى حول قتلة عثمان الذي سجله عنده ، وقد ذكر المسعودي تفصيل ذلك فى مروج الذهب ج ٢ ص ٢٧٧

٤٧٧

« ما لك؟ عليك لعنة الله! ما أنت إلا كمثل الكلب تلهث. »

فزجره ابن العاص بعد أن جعله جسرا فعبر عليه ، قائلا له :

« لكنك مثل الحمار يحمل اسفارا » (١)

نعم هما كلب وحمار وقد احسن كل منهما فى وصف صاحبه ، وانطلق أبو موسى الى مكة يصحب معه الخزي والعار بعد ما أحدث هذه الفتنة العمياء والفتق الذي لا يرتق وترك إمام الحق يئن من جراء حكمه المهزول ، وقد سجل للعراقيين بتحكيمه عارا وخزيا لا ينساه التأريخ ، وقد اكثر الشعراء فى الهجاء المقذع لهم فمن ذلك ما قاله أيمن بن خريم الأسدي (٢) :

لو كان للقوم رأي يعصمون به

من الضلال رموكم بابن عباس

لله در أبيه أيما رجل

ما مثله لفصال الخطب فى الناس

لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن

لم يدر ما ضرب اخماس لأسداس

إن يخل عمرو به يقذفه في لجج

يهوى به النجم تيسا بين أتياس

ابلغ لديك عليا غير عاتبه

قول امرئ لا يرى بالحق من باس

ما الأشعري بمامون ، أبا حسن

فاعلم هديت وليس العجز كالراس

فاصدم بصاحبك الادنى زعيمهم

إن ابن عمك عباس هو الآسى

لقد سجل العراقيون فى تأريخهم صفحات من الخزي بانتخابهم لأبي موسى الخامل الرأي ، الضعيف العقل الذي لم يمتع به النظر ، ولا باصالة في التفكير ، فكيف ينتخبونه ليقرر مصيرهم ومصير الاجيال اللاحقة؟

__________________

(١) الامامة والسياسة ج ١ ص ١٤٣.

(٢) أيمن بن خريم ـ بالراء المهملة ـ وهو ابن شداد الاسدى ، احد الشعراء ، وقد اختلف فى صحبته للنبي ، وقد روى عنه فى شهادة الزور ، تهذيب التهذيب ١ / ٣٩٢

٤٧٨

خطاب الامام الحسن :

ولما أذيع الخبر المؤلم بين العراقيين في خلع أبي موسى للامام زادت الفتنة ، وكثر الاختلاف والانشقاق بينهم ، وجعل بعضهم يتبرأ من بعض ويشتم بعضهم بعضا ، ورأى الامام أن خطورة الموقف تقضي بأن يقوم تفر من أهل بيته فيخطب بين الناس ليوقفهم على حقيقة الحال ويبين لهم فساد التحكيم ، فقال للحسن : قم يا بني. فقل في هذين الرجلين عبد الله ابن قيس ، وعمرو بن العاص فقام الحسن فاعتلى أعواد المنبر فقال :

« أيها الناس. قد أكثرتم في هذين الرجلين ، وإنما بعثا ليحكما بالكتاب على الهوى ، فحكما بالهوى على الكتاب ، ومن كان هكذا لم يسم حكما ولكنه محكوم عليه ، وقد أخطأ عبد الله بن قيس إذ جعلها لعبد الله ابن عمر فأخطأ في ثلاث خصال ، واحدة انه خالف ( يعني ابا موسى ) أباه ( يعني عمر ) إذ لم يرضه لها ولا جعله من اهل الشورى واخرى إنه لم يستأمره في نفسه (١) وثالثها : إنه لم يجتمع عليه المهاجرون والأنصار الذين يعقدون الامارة ويحكمون بها على الناس. وأما الحكومة فقد حكم النبي (ص) سعد بن معاذ (٢) في بني قريضة فحكم بما يرضى الله به ،

__________________

(١) وفى رواية ابن قتيبة فى الامامة والسياسة ١ / ١٤٤ إنه لم يستأمر الرجل فى نفسه ولا علم ما عنده من رد او قبول.

(٢) سعيد بن معاذ بن النعمان الانصارى من الاوس اسلم على يد مصعب بن عمير لما ارسله النبي الى المدينة ليعلم المسلمين ، ولما اسلم سعد قال لبني عبد الاشهل : كلام رجالكم ونسائكم على حرام حتى تسلموا فأسلموا وكان من اعظم الناس بركة فى الاسلام ، وقد شهد مع النبي بدرا بغير خلاف ، ولما توجه النبيّ الى بدر جاءه الخبر بتوجه قريش الى حربه

٤٧٩

ولا شك لو خالف لم يرضه رسول الله «ص» ثم نزل عن منصة الخطابة.

__________________

فاستشار (ص) اصحابه في الامر فأنبرى إليه المقداد وابو بكر يعلنان الطاعة ، وكان نظره (ص) الى الانصار لان اكثرية جيشه منهم ، وعرف سعد انه يريد باستشارته الانصار فقال له : لكأنك تريدنا يا رسول الله ، فقال (ص) : اجل ، فقال سعد يا رسول الله قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا ان ما جئت به الحق واعطيناك مواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما اردت فنحن معك فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره ان تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ، لعل الله يريك فينا ما تقربه عينك فسر بنا على بركة الله فسر (ص) وابتهج من كلامه ونشط للقاء المشركين ولما صارت وقعة الخندق خرج سعد وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه وفي يده حربة وهو يقول :

لبث قليلا يلحق الهيجا جمل

لا بأس بالموت إذا حان الاجل

فالتفتت إليه أمه قائلة الحق يا بنى قد والله اخرت ، واصابه فى ذلك اليوم سهم فقطع اكحله ، ولما اذعن بنو قريظة على النزول على حكم سعد جاء وهو جريح ، فقال النبيّ (ص) لاصحابه قوموا الى سيدكم او خيركم فلما حل بالمجلس قال رسول الله له : يا سعد احكم فيهم فقال سعد حكمت فيهم ان تقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم فقال (ص) حكمت فيهم بحكم الله : ولما فرغ من التحكيم انفجر جرحه فاحتضنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعلت الدماء تسيل عليه وقبض من جرحه ، وبكى عليه رسول الله ومشيخة الصحابة وقالت أمه راثية له :

ويل أم سعد سعدا

براعة ونجدا

ويل أم سعد سعدا

صرامة وجدا

فلما سمع النبي رثاءها قال : إن كل نادبة كاذبة إلا نادبة سعد ، جاء ذلك فى اسد الغابة ج ٢ ص ٢٩٦.

٤٨٠