حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل - ج ١

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل - ج ١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٢

فخضبوا من دمه لحاهم

وأمه قائمة تراهم (١)

ولم يجد الامام بعد هذا الاعذار وسيلة سوى الحرب فقال لاصحابه « الآن حل قتالهم وطاب لكم الضراب. » (٢)

اعلان الحرب :

ودعا الامام بعد مقتل سفيره قادة جيشه فأقامهم على أماكنهم ، وعبأ الجنود للحرب وقد رسم لهم خطة تمثلت فيها الفضيلة والرحمة والعدل فقد قال لهم :

« أيها الناس .. إذا هزمتموهم فلا تجهزوا على جريح ، ولا تقتلوا أسيرا ، ولا تتبعوا موليا ، ولا تطلبوا مدبرا ، ولا تكشفوا عورة ، ولا تمثلوا بقتيل ولا تهتكوا سترا ولا تقربوا من أموالهم إلا ما تجدونه في معسكرهم من سلاح أو كراع أو عبد او امة ، وما سوى ذلك فهو ميراث لورثتهم على كتاب الله .. »

واعتلت عائشة جملها المسمى بعسكر ، وقد البسوه المسوح ، وجلود البقر ، وجعلوا دونه اللبود (٣)

ولها القيادة العامة فهي التي تنظم العساكر وتصدر الأوامر ، ووجه جيشها النبل الى معسكر الامام فقتل بعض اصحابه ، فلم يجد بعد ذلك بدا من الحرب فتقلد الامام سيفه ، ودفع الراية الى ولده محمد (٤) وقال للحسن

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٢٤٦

(٢) الطبري ٥ / ٢٠٤

(٣) اللبود : ـ جمع مفردها اللبد ـ الكساء من الشعر ، وبساط من الشعر.

(٤) محمد بن علي بن ابي طالب الهاشمي المعروف بابن الحنفية ،

٤٠١

والحسين : انما دفعت الراية الى أخيكما وتركتكما لمكانكما من رسول الله وانطلق محمد الى ساحة الوغى بعزم ثابت ونفس جياشة وهو يطلب الظفر والنصر ، ولكن سهام القوم قد مطرت عليه من كل جانب فتريث عن المسير برهة فلم يشعر الا ويد أبيه تدفعه من الخلف وهو يقول له بنبرات تقطر حماسا :

« أدركك عرق من امك! »

ثم خطف الراية من يده وهزها في وجهه وهو يقول له :

اطعن بها طعن أبيك تحمد

لا خير في الحرب إذا لم توقد

بالمشرفي والقنا المسدد

لم يكن موقف محمد خورا وجبنا وانما هو من دهاء القائد المحنك الذي أراد أن يبلغ الغاية بعد أن تنكشف عنه سهام القوم ، ولم يرد أمير المؤمنين بفعله الا ليرى أهل البصرة فى بداية الحرب الحزم والعزم والبسالة لعلهم عن غيهم يرتدعون.

وحمل الامام على القوم وقد رفع العلم بيسراه ، وشهر فى يمينه ذا الفقار الذي حارب به الملحدين والمشركين على عهد رسول الله واليوم يحارب به المارقين من الدين والمنحرفين عن الاسلام ، واحتف به اعلام المهاجرين والانصار فكان العدو أمام بواترهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف

مصرع الزبير :

وخرج أمير المؤمنين حاسرا بين الصفوف فنادى باعلا صوته :

__________________

أمه خولة بنت جعفر الحنفية ، قال ابراهيم بن الجنيد لا نعلم احدا اسند عن علي اكثر ولا اصح مما اسند محمد قال ابو نعيم توفي سنة ثمانين خلاصة تهذيب الكمال ص ٢١.

٤٠٢

« أين الزبير.؟ »

فخرج إليه الزبير وهو شاك في سلاحه فلما رآه اعتنقه وقال له :

ـ يا أبا عبد الله ما جاء بك هاهنا؟؟

ـ جئت أطلب دم عثمان

فرمقه بطرفه وقال له بنبرة المستريب.

ـ تطلب دم عثمان؟!!

ـ نعم

ـ قتل الله من قتل عثمان

واقبل عليه يحدثه برفق ، ويذكره بما نساه قائلا :

« أنشدك الله يا زبير ، هل تعلم أنك مررت بي وأنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو متّكئ على يدك ، فسلم علي رسول الله وضحك إلي ، ثم التفت إليك فقال لك : يا زبير إنك تقاتل عليا وأنت له ظالم. »

فاطرق الزبير ، وقد غاض لونه ، وذاب قلبه أسى وحسرات ، وندم على ما فرط من أمره وقال للامام :

ـ اللهم نعم

ـ فعلام تقاتلني؟

ـ نسيتها والله ، ولو ذكرتها ما خرجت إليك ، ولا قاتلتك (١)

ـ ارجع

ـ وكيف ارجع وقد التقت حلقتا البطان ، هذا والله العار الذي لا يغسل؟؟

ـ ارجع قبل أن تجمع العار والنار

__________________

(١) الامامة والسياسة ١ / ٧٣

٤٠٣

فانصرف وهو يقول :

اخترت عارا على نار مؤججة

ما إن يقوم لها خلق من الطين

نادى على بأمر لست أجهله

عار لعمرك في الدنيا وفي الدين

فقلت حسبك من عدل أبا حسن

فبعض هذا الذي قد قلت : يكفيني (١)

وعزم على الانسحاب من هذه الفتنة الا انه أراد أن يخرج منها بسلام فقال لعائشة :

« يا أم المؤمنين ... إني والله ما وقفت موقفا قط إلا عرفت اين أضع قدمي فيه إلا هذا الموقف؟ فاني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر ..؟ »

عرفت عائشة خبيئته ، وما يرومه في حديثه من الانسحاب ، فالتفتت إليه وكانت عارفة بما يثيره وينقض عزيمته فقالت له باستهزاء.

« يا أبا عبد الله .. خفت سيوف بنى عبد المطلب؟! »

وعاثت هذه السخرية في نفسه ، وزاد في اضطرابه وقلقه وارجاعه الى ساحة التمرد ابنه المشوم عبد الله فقد قال له :

« إنك خرجت على بصيرة ، ولكنك رأيت رايات ابن أبي طالب وعرفت أن تحتها الموت فجبنت؟! »

لقد اتهمه ابنه بالحور والجبن وهو عار وذل ومنقصة عليه فالتفت إليه وقد مشت الرعدة باوصاله فقال له :

ـ ويحك إني قد حلفت له أن لا أقاتله؟

ـ كفر عن يمينك بعتق غلامك سرجس.

فاعتق غلامه (٢) ثم انعطف يجول فى الميدان ليرى عائشة وابنه

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٢٤٧

(٢) تأريخ الطبري ٥ / ٢٠٠ وجاء فيه ان عبد الرحمن بن سليمان

٤٠٤

شجاعته وبسالته وعدم مبالاته بحتفه ، فشد في الميسرة ، ثم رجع فشد في القلب ، ورجع الى ابنه وقال له :

« ايفعل هذا جبان؟؟ »

ومضى منصرفا حتى أتى ( وادي السباع ) وكان الاحنف بن قيس مع قومه مقيمين فيه ، فقالوا له : هذا الزبير قد اجتاز فقال : ما اصنع بالزبير؟ وقد جمع بين فئتين عظيمتين من الناس يقتل بعضهم بعضا؟ ولحقه نفر من بنى تميم فسبقهم إليه عمرو بن جرموز ، وقد نزل الزبير الى الصلاة فقال : أتؤمنى أو أؤمك؟ فأمه الزبير ، فقتله عمرو بن جرموز وهو فى حال صلاته (١)

لقد كانت النهاية الأخيرة من حياة الزبير مشفوعة بالغدر والخيانة والتمرد على الحق وهو مما يؤسف له ، فله ماضيه الزاهر الحافل بالمكرمات والفضائل فهو صاحب حلف الفضول الذي كان شعاره مناصرة المظلوم فما باله في هذه المرحلة قد تنكر لأمير المؤمنين ونسيى ظلامته ، فقد ابتزت حقه تيم تارة وعدى أخرى وأمية ثالثة ، وقد جاء هو لينتزع منه حقه.

انه مما يؤسف على الزبير أن تكون له هذه النهاية المؤلمة وهو صاحب

__________________

التميمي قال متعجبا من فعل الزبير!!

لم ار كاليوم اخا اخوان

اعجب من مكفر الايمان

بالعتق من معصية الرحمن

وقال رجل آخر من شعرائهم

يعتق مكحولا لصون دينه

كفارة لله عن يمينه

والنكث قد لاح على جبينه

(١) مروج الذهب ٢ / ٢٤٧

٤٠٥

المواقف الكريمة الذي جلى بسيفه الكرب عن وجه رسول الله (ص) ووقف من بعده ، مع أمير المؤمنين يحمي جانبه ويهتف بفضله ويقدمه على غيره فما الذي حداه على الخروج عليه فهل استأثر ابن أبى طالب باموال المسلمين وهل ادخر وفرا لنفسه ولعياله حتى يناجزه ويخرج عليه؟

الاحتفاف بعائشة :

واستطابت الموت واستلذته بعض القبائل العربية في سبيل عائشة فقدموا لها الضحايا والقرابين ، وبالغوا في حمايتها والدفاع عنها وهم :

أ ـ الأزد

وهامت الازد بحب عائشة ، وتفانت في ولائها ، فكانوا يأخذون بعر جملها يشمونه ويقولون : بعر جمل أمنا ريحه ريح المسك (١) وقد هبوا للدفاع عنها مستميتين ، وقد انطلق شيخ في المعركة يستنجد بهم لما رأى من عظيم ولائهم واخلاصهم لها فقد خاطبهم قائلا :

يا معشر الأزد عليكم امكم

فانها صلاتكم وصومكم

والحرمة العظمى التي تعمكم

فاحضروها جدكم وحزمكم

لا يغلبن سم العدو سمكم

إن العدو إن علاكم زمكم

وخصكم بجوره وعمكم

لا تفضحوا اليوم فداكم قومكم (٢)

واحتفوا بهودجها ، وامسكوا بخطام « عسكرها » فبهرت عائشة وقالت!

ـ من انتم؟

__________________

(١) تأريخ ابن الاثير ٣ / ٩٧

(٢) شرح النهج ١ / ٢٥٤.

٤٠٦

فاخذت تلهب في نفوسهم روح الحماس وتدفعهم الى الموت قائلة :

« إنما يصبر الأحرار .. ما زلت أرى النصر مع بني ضبة! »

واشعلت هذه الكلمات نار الثورة فى نفوسهم فاندفعوا إلى الموت ، وقاتلوا أشد القتال في سبيلها (١)

ب ـ بنو ضبة

وبنو ضبة من أرذال العرب وأوباشهم ، وكانوا غلاظ القلوب والطباع ، قد أترعت نفوسهم بروح الجاهلية ومساوئها ، وقد وهبوا أرواحهم بسخاء لعائشة ، وأحاطوا بجملها مستميتين وهم يقولون :

يا أمنا يا زوجة النبي

يا زوجة المبارك المهدي

نحن بنو ضبة لا نفر

حتى نرى جماجما تخر

يخر منها العلق المحمر

ووقفوا صامدين حتى قطعت أيديهم وبدرت رءوسهم ، واتخذوا في ذلك اليوم دم عثمان شعارا لهم فكانوا يقاتلون اعنف القتال وأشده وشاعرهم يرتجز ويقول :

نحن بنو ضبة أصحاب الجمل

ننازل القرن اذا القرن نزل

والقتل اشهى عندنا من العسل

نبغي ابن عفان بأطراف الأسل

ردوا علينا شيخنا ثم بجل

وقتل حول خطامها اربعون رجلا منهم ، وكانت عائشة تقول : ما زال جملي معتدلا حتى فقدت اصوات بني ضبة.

ج ـ بنو ناجية

__________________

(١) شرح النهج ٢ / ٨١

٤٠٧

ومن القبائل التي فتنت بحب عائشة بنو ناجية ، فقد انطلقوا الى ساحة الموت في سبيلها فأخذوا بخطام جملها فسألت عنهم؟ فقيل لها بنو ناجية فأخذت تستفز حميتهم ، وتقذف بهم فى لظى الحرب قائلة :

« صبرا يا بنى ناجية. فاني اعرف فيكم شمائل قريش .. » (١)

هذه بعض القبائل التي قدمت المزيد من الضحايا في سبيل عائشة ، قد غرتهم امهم وفتنتهم في سبيل أطماعها واحقادها.

عقر الجمل :

واستمر اعنف القتال بين الفريقين يريد أصحاب أمير المؤمنين أن يحموا امام المسلمين ووصيي نبيهم ويريد أصحاب عائشة أن يحموا أمهم ويموتوا دونها حتى شاعت المقتلة بينهما ، ورأى امير المؤمنين ان الحرب لا تنتهي ما دام الجمل موجودا ، فدعا بعمار وبالاشتر فلما مثلا بين يديه قال لهما.

« اذهبا فاعقرا هذا الجمل فان الحرب لا يخمد ضرامها ما دام حيا!!! فانهم قد اتخذوه قبلة لهم. »

انطلق الأشتر وعمار ومعهما فتية من مراد فوثب فتى يعرف بمعمر ابن عبد الله (٢) الى الجمل فضربه على عرقوبه فهوى الى الارض وله عجيج منكر لم يسمع مثله ، وتفرق اصحاب عائشة فقد تحطم الصنم الذي

__________________

(١) شرح النهج

(٢) وقيل غيره هو الذي عقره وفي رواية ان الامام دعا ولده محمد بن الحنفية فاعطاه رمحا وقال له : اقصد بهذا الرمح الجمل فذهب فحال القوم بينه وبينه فرجع ولم يظفر ببغيته فاخذ الحسن الرمح من يده وقصد الجمل فطعنه.

٤٠٨

قدموا له القرابين ، وأمر الامام بحرقه وتذرية رماده في الهواء لئلا تبقى منه بقية يفتتن بها السذج والبسطاء وبعد ما فرغ من ذلك قال :

« لعنه الله من دابة. فما اشبهه بعجل بني اسرائيل!! »

ومد بصره الى الرماد الذي اخذه الريح فتلا قوله تعالى : « وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في أليم نسفا » (١)

الصفح عن عائشة :

وقابل الامام عائشة بالاحسان والصفح الجميل فبعث إليها أخاها محمدا يسألها عن حالها فانطلق إليها محمد فادخل يده في هودجها فجفلت مرعوبة منه وصاحت به :

ـ من أنت؟

ـ ابغض أهلك إليك

عرفته في الوقت فقالت له ونفسها مترعة بالكراهية له والحقد عليه :

ـ ابن الخثعمية؟

ـ نعم أخوك البر

ـ عقوق

وأزاحت بوجهها عنه ، والتفت إليها يسألها برفق ولين :

ـ هل أصابك مكروه؟

ـ سهم لم يضرني

فانتزعه منها ، وأخذ بخطام هودجها ، وادخلها في الربع الأخير

__________________

(١) سورة طه : آية ٩٧

٤٠٩

من الليل الى دار عبد الله بن خلف الخزاعي (١) على صفية بنت الحارث (٢) فاقامت هناك اياما.

العفو العام :

واصدر الامام اوامره بالعفو عن جميع اعدائه ، والمعارضين له ، وطلبت عائشة ان يؤمن ابن اختها عبد الله بن الزبير وهو من ألد اعدائه فاجابها إلى ذلك ، وتكلم معه الحسن والحسين فى شأن مروان فآمنه وعفا عنه ونادى مناديه :

« ألا لا يجهز على جريح ، ولا يتبع مول ، ولا يطعن في وجه مدبر ومن القى سلاحه فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن .. »

ثم آمن الاسود والأحمر ـ على حد تعبير اليعقوبي ـ (٣) ولم ينكل بأحد من خصومه ، وبذلك فقد انتشر السلام وعم الهدوء في جميع ربوع البصرة

تسريح عائشة :

وبعث أمير المؤمنين عبد الله بن عباس الى عائشة لتخرج من البصرة الى يثرب فتقر فى بيتها كما أمرها الله فانطلق إليها ابن عباس واستأذن

__________________

(١) عبد الله بن خلف بن اسعد الخزاعي والد طلحة الطلحات قال ابو عمر : لا اعلم له صحبة ، كان كاتبا لعمر بن الخطاب على ديوان البصرة ، قتل في واقعة الجمل وكان من حزب عائشة واخوه عثمان من اصحاب الامام ، الاصابة ٢ / ٣٠٣

(٢) صفية بنت الحارث بن طلحة قتل ابوها يوم بدر كافرا ، وهي زوج عبد الله بن خلف وأم طلحة الطلحات ، الاصابة ٤ / ٣٤٦

(٣) تأريخ اليعقوبي ٢ / ١٥٩

٤١٠

منها فأبت أن تأذن له فدخل بغير أذن وهوى الى متاعها فأخرج منه وسادة فجلس عليها ، فتأثرت منه وقالت له :

« تالله يا ابن عباس .. ما رأيت مثلك تدخل بيتنا وتجلس على وسادتنا بغير أمرنا!! »

فانبرى إليها ابن عباس وهو فياض المنطق قائلا :

« والله ما هو بيتك ، ولا بيتك الا الذي أمرك الله أن تقرى فيه فلم تفعلي ، إن أمير المؤمنين يأمرك أن ترجعي الى بلدك الذي خرجت منه. »

فاظهرت كوامن غيظها وبغضها للامام فقالت :

ـ رحم الله أمير المؤمنين ذاك عمر بن الخطاب.

ـ نعم. وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب

ـ أبيت ، أبيت

ـ ما كان إباؤك إلا فواق ناقة بكيئة (١) ثم صرت ما تحلين ولا تمرين ولا تأمرين ولا تنهين.

فالتاعت من كلامه وأرسلت ما في عينيها من دموع ، ثم قالت له :

« نعم ارجع فان ابغض البلدان الي بلد انتم فيه. »

فثار ابن عباس من كلامها ورد عليها :

« أما والله ما كان ذلك جزاؤنا منك إذ جعلناك للمؤمنين أما ، وجعلنا أباك لهم صديقا. »

فاجابته باسخف القول

__________________

(١) الفواق : الوقت ما بين الحلبتين فان الناقة تحلب ثم تترك ليرضعها الفصيل حتى تدر فتحلب ، البكيئة : الناقة التي قل لبنها.

٤١١

« أتمن علي برسول الله؟!! »

وما ابعد هذا القول عن منطق الايمان فمن تكون هي لو لا رسول الله فبسببه علا لها نجم وصار لها ذكر ، وقد انبرى ابن عباس فرد عليها منطقها الرخيص قائلا :

« نمن عليك بمن لو كان منك بمنزلته منا لمننت به علينا!! »

وتركها وانصرف فاخبر الامام بحديثه معها ، وباستجابتها لقوله فشكره الامام على ذلك (١) ولما عزمت على الخروج جهزها الامام باحسن جهاز واعد لها قافلة كاملة لا ينقصها شيء ، وفي اليوم المقرر لسفرها دخل عليها ومعه الحسن والحسين فلما رأينه النسوة بكين وصحن في وجهه ، والتفتت إليه صفية ربه الدار فقالت له :

يا قاتل الأحبة. يا مفرق الجماعات. أيتم الله بنيك منك كما ايتمت بنى عبد الله .. »

اجابها الامام : لو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في هذا البيت ، وأشار الى بيت فى دارها قد اختفى فيه فريق من أعدائه وخصومه ، وأراد من كان معه الهجوم عليهم فمنعهم من ذلك ، وجرى بعد ذلك حديث بين الامام وعائشة فقالت له : إني احب أن أقيم معك فاسير إلى قتال عدوك ، فابى الامام وأمرها أن تقر في البيت الذي تركها فيه رسول الله ولو أراد السياسة الوقتية لأجابها إلى ذلك ولكنه منبع التقوى والايمان أراد أن يسير معها على وفق الشريعة الاسلامية التي تلزم المرأة بالحجاب وبالعمل لتهذيب نفسها واصلاح منزلها ، وليس لها باي حال أن تدخل في المعمعات الحزبية والمعتركات السياسية ، ورحلت عائشة من البصرة وقد

__________________

(١) العقد الفريد ٣ / ١٠٣ ـ ١٠٤.

٤١٢

اسكنت بيوتها الثكل والحزن والحداد ، وروعت المسلمين وأشاعت القتل فيما بينهم فقد كان عدد الضحايا بسببها عشرة آلاف نصفهم من اصحابها والنصف الآخر من أصحاب الامام (١) وقد دمرت بخروجها على الامام وشائج الصلات بين المسلمين ، ونسفت أواصر الأخوة الاسلامية التي عقدها الرسول الكريم ، وفتحت باب الفتن والشر بين أمة محمد (ص) كما مهدت العصيان لمعاوية وبني أميّة ، وعبدت لهم الطريق ليتخذوا من دم عثمان وسيلة الى الظفر بالحكم وإلى استعباد المسلمين واذلالهم.

لقد اجمع أئمة المسلمين على تأثيم القائمين بهذا التمرد وانه لا مبرر له بحال من الاحوال كما نعتوهم بالبغاة وان الواجب الديني يقضي بمناجزتهم عملا بقوله تعالى : ( فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ ) يقول أبو حنيفة :

« وما قاتل أحد عليا الا وعلي أولى بالحق منه ، ولو لا ما سار علي فيهم ما علم أحد كيف السيرة فى المسلمين. ولا شك ان عليا إنما قاتل طلحة والزبير بعد أن بايعاه وخالفاه ، وفى يوم الجمل سار على فيهم بالعدل ، وهو علم المسلمين فكانت السنة في قتال أهل البغي » (٢)

وقال ابن حجر :

« ان أهل الجمل وصفين رموا عليا بالمواطاة مع قتلة عثمان وهو برىء من ذلك وحاشاه واضاف يقول : ويجب على الامام قتال البغاة لاجماع الصحابة عليه ولا يقاتلهم حتى يبعث إليهم أمينا عدلا فطنا ناصحا يسألهم عما ينقمونه على الامام تأسيا بعلي (ع) فى بعثه ابن عباس الى

__________________

(١) تأريخ الطبري ٥ / ٢٢٤ وقيل ان عدد القتلى اكثر من ذلك

(٢) مناقب ابي حنيفة للخوارزمي ٢ / ٨٢ ـ ٨٣

٤١٣

الخوارج بالنهروان » (١)

وقال امام الحرمين الحويني : « كان على بن أبي طالب امام حق في توليته ومقاتلوه بغاة » (٢)

ان الشريعة الاسلامية تلزم بمناجزة الخارجين على السلطة الشرعية لان في خروجهم تصديعا لوحدة المسلمين ، وتدميرا لاخوتهم.

لقد مرت هذه الحادثة الرهيبة على الامام الحسن وقد عرفته باضغان القوم وأحقادهم على أبيه ، وقد كان فى تلك الموقعة البطل الوحيد والقائد المحنك الذي استطاع أن يحفز الجماهير ويجهزهم لقتال القوى الباغية على أبيه ، وبهذا ينتهى بنا المطاف عن مشكلة البصرة لنلتقى به في موقعة صفين

__________________

(١) تحفة المحتاج للنووى ٤ / ١١٠

(٢) الارشاد في اصول الاعتقاد ص ٤٣٣

٤١٤

فى صفّين

٤١٥
٤١٦

تمر بعض الحوادث في دنيا الوجود وتذهب من دون أن تترك أثرا مهما يذكره التأريخ وإن كان لها في وقتها من الخطورة شأن كبير ، وتمر بعض الحوادث الأخرى في ميدان الحياة فتبقى خالدة خلود الدهر لأنها تركت أثرا اجتماعيا عاد بالخير العميم على الانسان ، وتجتاز بعض الحوادث على مسرح الحياة فتملأ الدنيا بالمآسي والخطوب وتعود بشقاء الانسان واستعباده ، من هذه الحوادث المفجعة والرزايا المؤلمة حادثة صفين التي تجسم فيها الصراع بين الحق والباطل ، وبين العدل والجور والظلام والنور وبين الخلافة الدينية التي تنشد صالح الانسان واسعاده. وبين الحكم الفوضوي الذي لا يهدف إلا إلى الإثرة والاستغلال والمتاجرة بمصالح الشعوب.

إن الشعوب الاسلامية لم تقرر مصيرها الحاسم في وقعة صفين فقادها ذلك الى الاستعباد والاذلال والخضوع للظلم والجور ، وقد المع الى ذلك الاستاذ مالك الجزائري في ايضاحه للاسس القويمة التي تبناها مؤتمر ( باندونج ) اذ يقول :

ولقد عرف التأريخ الاسلامي لحظة كهذه ـ اي فى تقرير حق المصير ـ في معركة صفين تلك الحادثة الموسفة المؤثرة التي نتج عنها التذبذب في الاختيار ، الاختيار الحتم بين علي ومعاوية ، بين المدينة ودمشق ، بين الحكم الديمقراطي الخليفي والحكم الاسري ، ولقد اختار المجتمع الاسلامي في هذه النقطة الفاصلة في تأريخه الطريق الذي قاده اخيرا الى القابلية للاستعمار والى الاستعمار » (١)

لقد انخذل المجتمع الاسلامى في حادثة صفين فلم يقرر مصيره الحاسم فانتج ذلك خذلان الامام أمير المؤمنين وارغام الامام الحسن من بعده على

__________________

(١) فكرة الافريقية الآسيوية ، في ضوء مؤتمر باندونج / ١١١

٤١٧

الصلح ، وتسلم الامويين لقيادة الحكم في البلاد فامعنوا في قتل الاخيار ومطاردة المصلحين واشاعة الظلم والجور في الأرض ، وعلينا أن نتبين فصول هذه المأساة ـ بايجاز ـ وننظر الى متاركها الفظيعة وهي :

تمرد معاوية :

واعلن معاوية التمرد على حكومة الامام ، ورفض البيعة والدخول فيما دخل فيه المسلمون اما بواعث عصيانه فهي ما يلي :

١ ـ لقد علم معاوية أن الامام لا يقره في منصبه ، ولا بد أن يجرده من جميع امواله التي اختلسها من بيت مال المسلمين ، ولو كان يحتمل أنه يبقيه على حاله ويقره على بذخه واسرافه لما اعلن العصيان والخروج عليه إن الامام لا يداهن في دينه ، ولا يطلب النصر بالجور ، ولا يقر الظلم ، وهو حتف الظالمين والمعتدين فكيف يبقى معاوية في جهاز الحكم ، وهو يعلم أنه لا واقعية له ولا حريجة له في الدين ، وقد اصدر في اليوم الأول من خلافته عزله عن مقره ، وقد كتب إليه معاوية يسأله أن يبقيه على حاله أو يجعله واليا على مصر فامتنع من اجابته ، وقد لام عقبة بن أبي معيط معاوية على ذلك وكتب له رسالة جاء فيها.

معاوية إن الشام شامك فاعتصم

بشامك لا تدخل عليك الأفاعيا

فان عليا ناظر ما تجيبه

فأهد له حربا تشيب النواصيا

وحام عليها بالصوارم والقنا

ولاتك مخشوش الذراعين واصيا

والا فسلم ان فى الأمن راحة

لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا

وان كتابا يا ابن حرب كتبته

على طمع جان عليك الدواهيا

سألت عليا فيه ما لا تناله

ولو نلته لم تبق إلا لياليا

٤١٨

الى أن ترى منه الذي ليس بعدها

بقاء فلا تكثر عليك الأمانيا

ومثل علي تغترره بخدعة

وقد كان ما خربت من قبل بانيا

ولو نشبت أظفاره فيك مرة

فراك ابن هند بعد ما كنت فاريا (١)

إن معاوية ومن يمت به يعلمون اتجاه الامام وأهدافه الرامية الى تحقيق العدل في البلاد والقضاء على الغبن الاجتماعي واقصاء الظالمين عن مراكزهم ، وانهم سيعودون في ظل حكومته نكرات لا امتياز لهم كما كانوا فى عهد الرسول فلذا اعلنوا عليه البغي حفظا على مصالحهم الضيقة.

٢ ـ ورأى معاوية أن له قوة على مقاومة الامام ومناجزته وذلك لما له من النفوذ والمكانة في بلاده فانه لم يعمل فيها عمل وال يظل واليا طول حياته ويقنع بهذا المنصب ثم لا يتطاول إلى ما وراءه ولكنه عمل فيها عمل صاحب الدولة التي يؤسسها ويدعمها له ولا بنائه من بعده فجمع الأقطاب ، واشترى الانصار بكل ثمن في يديه وأحاط نفسه بالقوة والثروة واستعد للبقاء الطويل (٢) وقد حفزته هذه القوى التي يتمتع بها الى مناجزة الامام ومقاومته.

٣ ـ ومما دفعه الى التمرد خروج عائشة وطلحة والزبير فقد فتحوا له الطريق ، ومهدوا له السبيل فان واقعة صفين انما هي امتداد لحرب الجمل ، ونتيجة من نتائجها فلو لا خروجهم واعلانهم للعصيان وتطبيلهم بدم عثمان لما استطاع معاوية أن يشق الكلمة ويخرج على الامام ويناجزه الحرب.

__________________

(١) تأريخ ابن كثير ٨ / ١٢٩

(٢) عبقرية الامام علي ص ١١٥.

٤١٩

٤ ـ وشيء آخر جدير بالاهتمام علل به معاوية عصيانه وخروجه على النظام القائم وذلك في رسالته التي بعثها لمحمد بن أبي بكر وقد جاء فيها

« كان ابوك وفاروقه أول من ابتزه ـ يعني عليا ـ حقه وخالفاه على امره ، على ذلك اتفقا واتسقا ثم دعواه الى بيعتهما فابطأ عنهما وتلكأ عليهما فهما به الهموم واردا به العظيم ، ثم انه بايع لهما وسلم لهما ، وأقاما لا يشاركانه في أمرهما ، ولا يطلعانه على سرهما حتى قبضهما الله ... واضاف يقول : فان يك ما نحن فيه صوابا فابوك استبد به ونحن شركاؤه ولو لا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ولسلمنا إليه ولكن رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا واخذنا بمثله .. » (١)

وهو تعليل وثيق للغاية فانه لو لا منازعة الشيخين للامام وابتزازهما لحقه لما استطاع معاوية ان يخالفه ويخرج عليه ولكنه احتذى حذوهما وسار على طريقتهما فبغى على الامام وأفسد عليه جيشه وتركه في أرباض الكوفة يتمنى الموت ليستريح مما ألم به من الشؤون والشجون.

٥ ـ ومن الامور التي حفزته على العصيان والتمرد على الامام هو المطالبة بدم عثمان فقد اتخذ قتله وسيلة الى نيل أهدافه وبلوغ أمانيه ، وقد ارصد جميع أبواق دعايته لتهويل أمره والاشادة بذكره وتنزيهه عن كل ذنب حتى انقادت له قلوب اهل الشام وأترعت نفوسهم بالحقد والكراهية للامام فاذا بهم يظهرون الحزن والاسى اكثر مما يظهر وإذا بهم يحثونه ويستعجلونه على الحرب والمطالبة بدمه اكثر مما يستعجل.

ولم يكن هناك ادنى مجال للشك في أن معاوية لا يهمه أمر عثمان ولا يقيم لمقتله وزنا فقد استنجد به لما حوصر وضويق ، وطلب منه المعونة

__________________

(١) المسعودي على هامش ابن الاثير ٦ / ٧٨ ـ ٧٩

٤٢٠