حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل - ج ١

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل - ج ١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٢

عقد الهدنة :

وجرت بين الفريقين مصادمات عنيفة ادت الى قتل البعض وجرح الآخر منهما ، وكان ابن حنيف يروم السلم ولا يحب مناجزة القوم قبل أن يأتيه أمر بذلك من أمير المؤمنين ، فاوقف القتال وعقد هدنة موقتة حتى يستبين له رأى الامام وهذا نصها.

« هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الانصاري ومن معه من المؤمنين من شيعة أمير المؤمنين على بن أبي طالب. وطلحة والزبير ومن معهما من المؤمنين والمسلمين من شيعتهما. إن لعثمان بن حنيف دار الامارة والرحبة والمسجد وبيت المال والمنبر ، وان لطلحة والزبير ومن معهما أن ينزلوا حيث شأوا من البصرة ولا يضار بعضهم بعضا فى طريق ولا فرضة (١) ولا سوق ولا شريعة ، ولا مرفق حتى يقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فان أحبوا دخلوا في ما دخلت فيه الامة ، وان أحبوا لحق كل قوم بهواهم ، وما أحبوا من قتال او سلم أو خروج أو إقامة وعلى الفريقين بما كتبوا عهد الله وميثاقه. واشد ما أخذه على نبي من أنبيائه من عهد وذمة. »

ووقعها الفريقان ، ومضى ابن حنيف إلى دار الامارة ، وأمر اصحابه بالقاء السلاح والالتحاق بمنازلهم.

غدر وخيانة :

وقام طلحة والزبير بمراسلة الوجوه والاشراف يدعونهم الى الطلب

__________________

(١) الفرضة : الثلمة من النهر التي يستقى منها.

٣٨١

بدم عثمان وخلع أمير المؤمنين واخراج ابن حنيف ، فاستجابت لهم قبائل الأزد وضبة وقيس عيلان ، وتابعهم كثير من البسطاء وذوى الاطماع ، ولما استوثق لهم الأمر غدروا وخانوا ونقضوا ما اتفقوا عليه من الهدنة ، فقد هجموا على ابن حنيف في غلس الليل وهو في دار الإمارة فاعتقلوه ونكلوا به فأمروا بنتف شعر رأسه ولحيته وحاجبيه (١) ونهبوا ما في بيت المال ، ولما حضر وقت الصلاة تنازع طلحة والزبير على الصلاة بالناس فجعل كل واحد منهما يمنع صاحبه من التقدم عليه حتى فات وقت الصلاة فصاح الناس بهما ، فقطعت عائشة النزاع فيما بينهما وقالت يصلي بالناس يوما محمد بن طلحة ، ويوما عبد الله بن الزبير (٢) فذهب ابن الزبير ليصلي بالناس فجذبه محمد بن طلحة وتقدم محمد ليصلي بالناس فمنعه ابن الزبير ، ورأى الجميع أن خير وسيلة لفصل الخصومة وقطع النزاع هي القرعة فاقترعا فخرج محمد بن طلحة فتقدم وصلى بالناس وقرأ سأل سائل بعذاب واقع » (٣) وفي ذلك يقول الشاعر :

تبارى الغلامان إذ صليا

وشح على الملك شيخاهما

ومالي وطلحة وابن الزبير

وهذا بذي الجذع مولاهما

فأمهما اليوم عزتهما

ويعلى بن منية دلاهما (٤)

__________________

(١) شرح النهج ٢ / ٥٠ وجاء فيه انهم طردوا عثمان فلحق بعلي فلما رآه بكى وقال له : فارقتك شيخا ، وجئتك امرد فقال علي : إنا لله وإنا إليه راجعون قال ذلك ثلاثا.

(٢) تأريخ اليعقوبي ٢ / ١٥٧.

(٣) طبقات ابن سعد ٥ / ٣٩

(٤) الاغاني ١١ / ١٢٠.

٣٨٢

ان القوم مدفوعون بدافع الملك والسلطان ، ولو تم الأمر لهما لأجهز كل واحد منهما على صاحبه ، فانهما بعد في بداية الطريق وقد ظهرت منهما بوادر الانشقاق والاختلاف.

إنهما لم يخرجا على حكم الامام الا من أجل المنافع المادية الضيقة وقد اعترف بذلك الزبير فقد جاء إليهما رجل وهما في جامع البصرة فقال لهما :

« نشدتكما بالله في مسيركما أعهد إليكما فيه رسول الله شيئا؟ ... »

فسكت طلحة ولم يجبه بشيء فاجابه الزبير :

« ـ لا ـ ولكن بلغنا أن عندكم دراهم فجئنا نشارككم فيها ... » (١)

لقد حدد الزبير خروجهم على وصي رسول الله فهو انما كان من أجل الاطماع والمنافع وليس فيه أى عهد من الرسول (ص).

وعلى أى حال فقد سقطت البصرة بايديهم واحتلت قواتهم جميع مواقعها وأمرت عائشة بقتل عثمان بن حنيف الا ان احدى السيدات استعظمت هذا الأمر وقالت لعائشة :

« نشدتك الله يا أم المؤمنين في عثمان وصحبته لرسول الله » فعدلت عن رأيها وأمرت بحبسه (٢) وأمرت بقتل الشرطة وحراس بيت المال وعددهم سبعون شخصا وهم من خيار المسلمين وصلحائهم فقتلوا صبرا (٣) ولم تتحرج أم المؤمنين فى إراقة دمائهم ، ولم تتأثم فى اشاعة الثكل والحزن والحداد بين أهليهم ، قد أعرضت عما أمر الله به من الحريجة في الدماء وحرمة سفكها بغير الحق.

__________________

(١) الطبري ٥ / ١٨٣.

(٢) الطبري ٥ / ١٧٨.

(٣) شرح النهج ٢ / ٥٠.

٣٨٣

مقتل حكيم بن جبلة :

ولما بلغ حكيم بن جبلة ما ارتكبه القوم بعثمان بن حنيف من التنكيل وما قاموا به من قتل الشرطة وخزان بيت المال خرج في ثلاثمائة رجل من عبد القيس (١) فخرج القوم وحملوا عائشة على جمل ، فسمى ذلك اليوم يوم الجمل الأصغر ويومها مع امير المؤمنين يوم الجمل الأكبر ، وتجالد الفريقان بالسيوف ، وأبلى حكيم مع أصحابه المؤمنين بلاء حسنا ، وشد عليه رجل من الأزد من عسكر عائشة فضرب رجله فقطعها ، وجثا حكيم فأخذ رجله المقطوعة فضرب بها الأزدي الذي قطعها فقتله ولم يزل يقاتل ورجله مقطوعة وهو يقول :

يا ساق لن تراعى

ان معى ذراعي

أحمي بها كراعي

وما زال على مثل هذه الحالة التي ضرب بها الرقم القياسي في البطولة والشجاعة ونكران الذات والدفاع عن المبدأ والعقيدة حتى نزف دمه ، فانطلق إلى الرجل الذي قطع رجله فاتكأ عليه وهو قتيل فاجتاز عليه شخص فقال له : من فعل بك هذا؟ فقال : وسادتي ثم قتله سحيم الحداني (٢) وقتل معه اخوة له ثلاثة كما قتل جميع أصحابه (٣) ففى ذمة الله تلك الدماء الزكية التي أريقت ، والنفوس الكريمة التي أزهقت فى سبيل الذب عن دين الله ، والدفاع عن وصي رسول الله.

__________________

(١) وفى رواية خرج مع سبعمائة من اصحابه.

(٢) اسد الغابة ٢ / ٤٠.

(٣) شرح النهج ٢ / ٥١.

٣٨٤

استنجاد الامام بالكوفة :

كان الامام أمير المؤمنين متهيأ لغزو الشام حيث اعلن معاوية التمرد على حكومته ورفض بيعته وبينما هو جاد في تدبير الأمر إذ فاجأه الخبر عن هياج أهل مكة للطلب بدم عثمان بتحريض طلحة والزبير وعائشة واتباعهم من الامويين ، فاشفق من انشقاق العصا واختلاف شمل المسلمين ، ورأى أن خطرهم أقوى من خطر معاوية ، وشرهم أقوى من شره ، وإذا لم يبادر لاخماد هذه الفتنة فانها يوشك أن تتسع ، ويكثر التمرد والاختلاف فتجهز للشخوص إليهم ، وخفت لنصرته البقية الصالحة من المهاجرين والانصار وخرجوا مسرعين ليلحقوا بهم قبل أن يدخلوا مصرا من الامصار فيفسدوه فلما بلغوا الربذة علموا بسبقهم إلى البصرة وبالحوادث التي جرت فيها فاقام الامام بالربذة أياما يحكم أمره ، وارسل إلى جماهير أهل الكوفة يستنجد بهم ويدعوهم الى نصرته والقيام معه لاخماد نار الفتنة ، وأوفد للقياهم محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر (١) وزودهما برسالة جاء فيها

« إني اخترتكم على الامصار ، وفزعت إليكم لما حدث فكونوا لدين

__________________

(١) محمد بن جعفر بن ابي طالب الهاشمي : هو اول من سمى محمدا في الاسلام من المهاجرين ، قيل انه ولد بأرض الحبشة ، وتزوج بام كلثوم بنت الامام امير المؤمنين ، قيل انه استشهد بتستر ، وقيل انه قتل بصفين اعترك هو وعبيد الله ابن عمر فقتل كل منهما الآخر ، الاصابة ٣ / ٣٧٢ وجاء في اسد الغابة ٤ / ٣١٣ لما جاء نعى جعفر إلى رسول الله جاء إلى بيت جعفر ، وقال : اخرجوا لي أولاد اخي جعفر ، فاخرج إليه عبد الله ومحمد وعون فوضعهم على فخذه ودعا لهم ، وقال : انا وليهم فى الدنيا والآخرة ، ثم قال : اما محمد فيشبه عمنا ابا طالب.

٣٨٥

الله أعوانا وانصارا ، وأيدونا وانهضوا إلينا ، فالاصلاح ما نريد لتعود الأمة إخوانا ، ومن أحب ذلك وآثره فقد أحب الحق ، ومن ابغض ذلك فقد أبغض الحق وأغمضه » (١).

وطوى الرسولان البيداء حتى وصلا الكوفة فعرضا رسالة الامام على أبي موسى والي المصر إلا انهما لم يجدا منه أي اجابة أو انطلاق فى الامر وانما وجدا منه موقفا غير طبيعي فقد كان يثبط العزائم ، ويوهن القوى ويمنع الناس من الاستجابة لنداء الامام ، وتكلم معه الرسولان بشدة فاجابهما أبو موسى مبررا لعناده قائلا :

« والله إن بيعة عثمان لفى عنقي وعنق صاحبكما ، فان لم يكن بد من القتال ، لا نقاتل أحدا حتى يفرغ من قتلة عثمان .. » (٢).

وبعث المحمدان الأنباء بالتفصيل إلى الامام ، وعرفاه بتمرد أبي موسى وتثبيطه عزائم الناس ، فأوفد الامام للقياه هاشم المرقال وزوده برسالة جاء فيها :

« إني وجهت هاشما لينهض بمن قبلك من المسلمين إلي ، فاشخص الناس ، فاني لم أولك إلا لتكون من أعواني على الحق .. ».

وسار هاشم حتى انتهى إلى الكوفة فرأى أبا موسى مصرا على تمرده وممعنا في غلوائه وعدائه ، وكلما حاول اقناعه وارجاعه إلى طريق الحق لم يتمكن ، واستدعى أبو موسى سائب بن مالك الأشقري ليستشيره فى الأمر فاشار عليه بالنصيحة وملازمة الامام ، وتنفيذ أوامره الا انه لم يسترشد وبقي مصمما على عصيانه وعناده ، فارسل هاشم إلى الامام رسالة يخبره فيها

__________________

(١) الطبري ٣ / ٣٩٣.

(٢) الطبري ٣ / ٣٩٤.

٣٨٦

بفشله في مهمته ، واخفاقه في سفارته.

ايفاد الحسن :

وبعث الامام ولده الحسن ومعه عمار بن ياسر وارسل معه رسالة فيها عزل أبي موسى عن منصبه وتعيين قرضة بن كعب (١) في وظيفته ، وهذا نص رسالته :

« أما بعد : فقد كنت أرى أن تعزب عن هذا الأمر الذي لم يجعل الله لك نصيبا منه ، بمنعك عن رد أمري ، وقد بعثت الحسن بن علي وعمار بن ياسر يستفزان الناس ، وبعثت قرضة بن كعب واليا على المصر فاعتزل عملنا مذموما مدحورا ، فان لم تفعل فاني قد أمرته أن ينابذك .. »

ووصل الامام الحسن إلى الكوفة فالتأم حوله الناس زمرا ، وهم يعربون له الانقياد والطاعة ، ويظهرون له الولاء والاخلاص ، واعلن الامام الحسن بالوقت عزل الوالي المتمرد عن منصبه ، وتعيين قرضة في محله ، ولكن أبا موسى بقي مصمما على مكره وغيه ، فقد اقبل على عمار ابن ياسر يحدثه فى أمر عثمان عله أن يجد في حديثه فرجة فيتهمه بدم عثمان ليتخذ من ذلك وسيلة إلى خذلان الناس عن الامام فقال له :

__________________

(١) قرضة بن كعب بن ثعلبة الانصارى الخزرجي شهد مع النبي (ص) احدا وما بعدها من المشاهد ، وفتح الله على يديه فى زمن عمر بن الخطاب ، وهو احد العشرة الذين ارسلهم عمر الى الكوفة لتعليم اهلها ، وولاه الامام على الكوفة ، ولما خرج إلى حرب صفين حمله معه ، وولاها ابا مسعود البدري ، وشهد مع الامام جميع مشاهده ، وتوفى فى خلافته في دار ابتناها بالكوفة ، وصلى عليه الامام الاستيعاب ٣ / ٢٦٦.

٣٨٧

« يا أبا اليقظان ، أعدوت فيمن عدا على أمير المؤمنين فأحللت نفسك مع الفجار.؟ »

فاجابه عمار :

« لم أفعل ولم تسؤني؟. »

وعرف الحسن غايته فقطع حبل الجدال وقال له :

« يا أبا موسى ، لم تثبط عنا الناس؟ »

وأقبل الامام الحسن يحدثه برفق ولين ليقلع روح الشر والعناد من نفسه قائلا :

« يا أبا موسى .. والله ما أردنا الا الاصلاح ، وليس مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء .. »

فبهت أبو موسى ، وضاقت به مكابرته ، وطغيانه فقال للامام :

« صدقت بأبي أنت وأمي! ... ولكن المستشار مؤتمن .. »

ـ نعم

ـ سمعت رسول الله يقول : إنها ستكون فتنة ، القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي ، والماشي خير من الراكب!. وقد جعلنا الله عز وجل اخوانا وحرم علينا أموالنا ودماءنا ، فقال : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) (١) وقال عز وجل : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ ) (٢) ... »

فانبرى إليه عمار فرد عليه أباطيله وخداعه قائلا :

__________________

(١) سورة النساء : آية ٢٩

(٢) سورة النساء : آية ٩٣

٣٨٨

« أنت سمعت هذا من رسول الله؟ ... »

« نعم وهذه يدى بما قلت. »

فالتفت عمار الى الناس قائلا :

« إنما عنى رسول الله بذلك أبا موسى ، فهو قاعد خير منه قائم؟ .. »

ولم يجد كلام عمار ولا ترفق الحسن ، وطول صبره وعظيم حلمه مع هذا الجلف المتمرد الذي لا يخضع لغير الشدة والقسر ، فقد بقي شديد الاصرار على ما هو عليه من تثبيط عزائم الناس وخذلانهم من الخروج مع الامام.

واخذ سبط النبي يوقظ الهمم ، ويبعث النشاط في النفوس ويحفزها للجهاد ، وخطب فيهم قائلا :

« أيها الناس .. قد كان في مسير أمير المؤمنين علي بن أبى طالب ما قد بلغكم ، وقد أتيناكم مستنصرين لأنكم جبهة الانصار ، ورءوس العرب وقد كان من طلحة والزبير بعد بيعتهما وخروجهما بعائشة ما قد بلغكم. وتعلمون أن وهن النساء وضعف رأيهن الى التلاشي ، ومن أجل ذلك جعل الله الرجال قوامين على النساء ، وأيم الله لو لم ينصره منكم أحد لرجوت أن يكون فيمن أقبل معه من المهاجرين والانصار كفاية ، فانصروا الله ينصركم .. »

وقام عمار فاخذ يحفز الناس للجهاد ويبين لهم حقيقة الحال في شأن عثمان قائلا :

« يا أهل الكوفة .. إن غابت عنكم انباؤنا فقد انتهت إليكم امورنا إن قتلة عثمان لا يعتذرون من قتله الى الناس ولا ينكرون ذلك ، وقد جعلوا كتاب الله بينهم وبين محاججتهم فيه أحيا الله من أحيى ، وأمات

٣٨٩

من أمات ، وان طلحة والزبير كانا أول من طعن وآخر من أمر ، وكانا أول من بايع ، فلما اخطأهما ما أملا نكثا بيعتهما من غير حدث! .. وهذا ابن بنت رسول الله قد عرفتموه وقد جاء يستنصركم ، وقد دلكم علي في المهاجرين والبدريين والانصار الذين تبؤوا الدار والايمان .. »

وقام على أثرهما قيس بن سعد فجعل يدعوهم الى القيام بالواجب ونصرة أمير المؤمنين قائلا :

« .. إن الأمر لو استقبلنا به أهل الشورى لكان علي أحق الناس به ، وكان قتال من أبى حلالا فكيف والحجة على طلحة والزبير ، وقد بايعاه طوعا ، وخالفاه حسدا وقد جاءكم علي في المهاجرين والانصار. ثم أنشأ يقول :

رضينا بقسم الله إذ كان قسمنا

عليا وأبناء الرسول محمد

وقلنا لهم أهلا وسهلا ومرحبا

نمد يدينا من هوى وتودد

فما للزبير الناقض العهد حرمة

ولا لأخيه طلحة اليوم من يد

أتاكم سليل المصطفى ووصيه

وأنتم بحمد الله عار من الهد (١)

فمن قائم يرجى بخيل الى الوغا

وصم العوالي والصفيح المهند

يسود من أدناه غير مدافع

وإن كان ما نقضيه غير مسود

فان يأتى ما نهوى فذاك نريده

وإن نخط ما نهوى فغير تعمد (٢)

وقد بقى أبو موسى مصرا على طغيانه يثبط عزائم الناس ، ويدعوهم إلى التخاذل وعدم الاجابة لنصرة الامام ، وقد جعل كلما سمعه من الحسن ومن الخطباء دبر أذنيه حتى اعيى الامام الحسن حلمه فاندفع يصيح به في

__________________

(١) الهد الضعيف والجبان.

(٢) الغدير ٢ / ٧٧

٣٩٠

ثورة وعنف قائلا له :

« اعتزل عملنا أيها الرجل ، وتنح عن منبرنا لا أم لك!. »

وأخذ الحسن يجد في تحفيز الناس للجهاد ويحثهم على الخروج لنصرة أبيه ، وقد قام فيهم خطيبا فقال لهم :

« أيها الناس .. أجيبوا دعوة أميركم ، وسيروا إلى إخوانكم ، فانه سيوجد الى هذا الامر من ينفر إليه ، والله لئن يليه أولو النهي أمثل في العاجل والآجل وخير في العاقبة ، فاجيبوا دعوتنا واعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم ، وان أمير المؤمنين يقول : قد خرجت مخرجي هذا ظالما او مظلوما واني اذكر الله رجلا رعى حق الله إلا نفر ، فان كنت مظلوما اعانني ، وان كنت ظالما أخذ. والله ان طلحة والزبير لاول من بايعني ، وأول من غدر فهل استأثرت بمال او بدلت حكما ، فانفروا وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر .. »

فاجابه الناس بالسمع والطاعة ، والامتثال والانقياد لأمره ، والاجابة لدعوته ، ولكن الزعيم مالك الاشتر رأى ان الامر لا يتم الا بإخراج أبي موسى مهان الجانب محطم الكيان ، فاقبل مع جماعة من قومه فاحاطوا بالقصر فلما نظر إليهم غلمانه اقبلوا يشتدون الى أبي موسى وقد خيم عليهم الخوف والذعر فقالوا له :

« يا أبا موسى. هذا الاشتر قد دخل القصر فضربنا واخرجنا. »

فنزل الوغد من القصر وقد استولى عليه الذهول فصاح به الاشتر :

« أخرج من قصرنا لا أم لك .. »

وتردد الاشعرى برهة فصاح به مالك ثانيا :

« اخرج ... اخرج الله نفسك!. فو الله إنك لمن المنافقين!. »

٣٩١

ونطق الاشعرى بصوت واهن ضعيف

ـ أجلني هذه العشية.

ـ هي لك ، ولا تبيتن فى القصر الليلة ..

ودخلت الجماهير تنهب امتعته وأمواله ، ولكن الاشتر لم يتنكر لعدوه المهزوم فقد وقف معه موقف الكريم النبيل فحال وبين الجماهير وبين ما ابتغوه من نهبه والتنكيل به ، فقال لهم :

« إني أجلته الليلة وقد أخرجته فكفوا عنه. »

فكف الناس عنه ، وفى الصباح خرج الباغي الأثيم وهو يجر سرابيل الخزي والخيانة ، وقد صفا الجو للامام الحسن ، واقبل يتحدث الى الناس بالخروج قائلا :

« أيها الناس. إني غاد ، فمن شاء منكم أن يخرج معي على الظهر (١) ومن شاء فليخرج في الماء .. »

واستجابت الجماهير لدعوة الامام فلما رأى ذلك قيس بن سعد غمرته الافراح والمسرات وأنشأ يقول :

جزى الله اهل الكوفة اليوم نصرة

أجابوا ولم يأبوا بخذلان من خذل

وقالوا! علي خير حاف وناعل

رضينا من ناقضي العهد من بدل

هما أبرزا زوج النبي تعمدا

يسوق بها الحادى المنيخ على جمل

فما هكذا كانت وصاة نبيكم

وما هكذا الإنصاف اعظم بذا المثل

فهل بعد هذا من مقال لقائل

ألا قبح الله الاماني والعلل (٢)

وعجت الكوفة بالنفار فقد نزحت منها آلاف كثيرة ، فريق منها

__________________

(١) اي على الدواب

(٢) الغدير ٢ / ٧٦

٣٩٢

ركب السفن ، وفريق آخر ركب المطي ، وقد بدا عليهم الرضا والقبول وقد ساروا وهم تحت قيادة الحسن فانتهوا الى ذي قار (١) وقد التقوا بالامام أمير المؤمنين حيث كان مقيما هناك فسر بنجاح ولده ، وشكر له جهوده ومساعيه النبيلة.

الافتراء على الحسن :

وروى الطبرى في تأريخه حديثا موضوعا فيه افتراء على الامام الحسن نسوقه الى القراء ثم نبين ما يثبت وضعه ، فقد ذكر أنه أقبل على أبيه بعد خروج طلحة والزبير فقال له :

ـ أمرتك فعصيتنى ، فانت اليوم تقتل بمضيعة لا ناصر لك! ..

ـ لا تزال تحن حنين الجارية ، ما الذي أمرتني فعصيتك؟؟

ـ أمرتك يوم أحيط بعثمان أن تخرج من المدينة ، فيقتل ولست بها ، ثم أمرتك يوم قتل ألا تبايع حتى تأتيك وفود أهل الامصار والعرب وبيعة كل مصر.

ثم أمرتك حين فعل هذان الرجلان ما فعلا أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا فان كان الفساد كان على يد غيرك ، فعصيتني في ذلك كله.

فرد أمير المؤمنين عليه قائلا :

« أي بني ، أما قولك : « لو خرجت من المدينة حين احيط بعثمان » لقد احيط بنا كما أحيط بعثمان ، وأما قولك : « لا تبايع حتى تأتي بيعة الامصار » فان الامر أمر أهل المدينة ، وكرهنا أن يضيع هذا الامر ،

__________________

(١) ذي قار : ماء لبكر بني وائل قريب من الكوفة يقع بينها وبين واسط ، معجم البلدان ٧ / ٨

٣٩٣

وأما قولك : « حين خرج طلحة والزبير » فان ذلك كان وهنا على أهل الاسلام ، وو الله ما زلت مقهورا منذ وليت ، منقوصا لا أصل الى شيء مما ينبغي.

وأما قولك : « اجلس في بيتك » فكيف لي بما قد لزمنى!! أو من تريدني؟ أتريدني أن اكون مثل الضبع التي يحاط بها ، ويقال : دباب دباب (١) ليست هاهنا حتى يحل عرقوباها (٢) ثم تخرج ، وإذا لم انظر فيما لزمني من هذا الامر ويعنيني فيمن ينظر فيه فكف عنك اي بنى » (٣)

وهذا الحديث رواه الطبرى عن سيف بن عمر الاسدى التميمي وهو من موضوعاته ومختلقاته ، وقد اجمع الثقات على ضعفه وعدم الاعتماد على احاديثه لانه عرف بالكذب والوضع ، واختلاق الحديث ، وقد اتهمه بعضهم في دينه وقد بين حاله وواقعه ، وعرض موضوعاته ومفترياته العلامة المحقق السيد مرتضى العسكري في كتابه « عبد الله بن سبأ »

ومما يزيد وضوحا في وضع الرواية وافتعالها أنه جاء فيها أن الامام الحسن قال لأبيه : « أمرتك فعصيتني » وهذا من اسمج الكلام وأمره فكيف يستقبل الحسن أباه بذلك وهو العارف بحقيقته والعالم بعظيم شأنه وقد قال فيه : إنه لم يسبقه الأولون بعمل ولم يدركه الآخرون بعمل » ومما لا ريب فيه ان ذلك يتنافى مع هدى الامام الحسن الذي تجنب الاساءة

__________________

(١) دباب اسم فعل امر مشتق من الدبيب ، وهو استدعاء للضبع لتخرج.

(٢) عرقوباها : تثنية عرقوب ـ بالضم ـ وهو العصب الغليظ فوق عقب الانسان ، ومن الدابة في رجلها بمنزلة الركبة فى يدها.

(٣) الطبري ٣ / ١٧٠

٣٩٤

وهجر الكلام ومره حتى مع أعدائه ومناوئيه فكيف يخاطب أباه بذلك؟!!

وعلق عبد الوهاب النجار على هذا الحديث الموضوع فقال : « وكأني به ـ يعنى أمير المؤمنين ـ في هذا الامر الاخير يقول بمقالة عثمان : « لا اخلع لباسا البسنيه الله عز وجل » وهو اعتذار لا يقبله من يريد له وللمسلمين السلامة ، أو هو مثل اعتذار دول الاستعمار بأنه لا مناص لهم من تحمل التبعة الملقاة على عاتقهم بإزاء الامم التي يحتلون بلادها ويهيمنون عليها وعلى مرافقها ومقومات حياتها » (١)

وعبد الوهاب النجار قد عرف بالتعصب لبني أميّة والتنكر لاهل البيت ، ولم يوفق في كثير من بحوثه فقد اعتمد على الموضوعات والمختلقات ولم يمعن النظر فيها ، وقد تجرأ بهذه الكلمات القاسية على الامام امير المؤمنين فقد شبهه بالدول الاستعمارية الظالمة التي نشرت الجور والظلم في الارض والامام أمير المؤمنين هو الذي بسط العدالة والمساواة ونشر جميع القيم الانسانية فى دور حكمه ، ولم يعهد في تأريخ الانسانية حاكم مثله في عدله وتحرجه وعدم انخداعه بمظاهر الملك والسلطان ، فقد دخل عليه ابن عباس وهو يخصف نعله بيده فقال له :

ـ يا ابن عباس ، ما قيمة هذا النعل؟

ـ لا قيمة له يا أمير المؤمنين

ـ والله لهى أحب إلي من أمرتكم ، إلا أن أقيم حقا أو ادفع باطلا هذا هو نظر الامام الى الحكم فهو عنده وسيلة لاقامة الحق ودحض الباطل ، ولو كان يروم الحكم لما فاز بالخلافة عثمان كما ذكرنا ذلك في

__________________

(١) الخلفاء الراشدون : ص ٤١٤ ، وقد بسط القول فى الرد عليه السيد سعيد الافغاني في كتابه عائشة والسياسة ص ٩٦.

٣٩٥

بحث الشورى ، فكيف يصح أن يشبه بالدول الاستعمارية الكافرة ، وهو نفس النبي ووصيه وباب مدينة علمه؟!!

التقاء الفريقين :

وتحركت كتائب الامام من ذي قار تجد السير حتى انتهت الى الزاوية (١) فنزل الامام فصلى فيها اربع ركعات ولما فرغ من صلاته جعل يعفر خده الشريف على التربة وهو يبكي ، ثم رفع يديه بالدعاء الى الله قائلا :

« اللهم ، رب السموات وما أظلت ، والارضين وما أقلت ، ورب العرش العظيم ، هذه البصرة أسألك من خيرها ، وأعوذ بك من شرها ، اللهم انزلنا فيها خير منزل ، اللهم هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي وبغوا علي ، ونكثوا بيعتي ، اللهم احقن دماء المسلمين .. » (٢)

ولما استقر الامام بعث بالوقت عبيد الله بن عباس ، وزيد بن صوحان الى عائشة يدعوها إلى حقن الدماء وجمع كلمة المسلمين ، وقال لهما :

قولا لها :

« إن الله أمرك ان تقري في بيتك وأن لا تحرجي منه ، وانك لتعلمين ذلك غير أن جماعة قد أغروك ، فخرجت من بيتك ، فوقع الناس لاتفاقك معهم في البلاء والعناء ، وخير لك أن تعودي الى بيتك ولا تحومي حول الخصام والقتال ، وإن لم تعودي ولم تطفئ هذه النائرة فانها سوف تعقب

__________________

(١) الزاوية : موضع قريب من البصرة ، وبه كانت الواقعة المشهورة بين الحجاج وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، معجم البلدان ٤ / ٣٧

(٢) مروج الذهب ٢ / ٢٥٤

٣٩٦

القتال ، ويقتل فيها خلق كثير فاتقي الله يا عائشة وتوبي الى الله فان الله يقبل التوبة من عباده ويعفو. وإياك أن يدفعك حب عبد الله بن الزبير وقرابة طلحة الى أمر يعقبه النار .. ».

ولو وعت عائشة هذه النصيحة وارتدعت عما هي عليه لعادت بخير عميم على الأمة ، ولكنها جعلت ذلك دبر أذنيها ، وقالت للرسولين :

إني لا ارد على ابن ابي طالب بالكلام لأني لا أبلغه فى الحجاج » (١)

إنها لا ترده بالكلام لأنها ليست لها حجة تدلى بها في الدفاع عن نفسها ، وبعث الامام برسالة الى طلحة والزبير يدعوهما فيها الى الوئام ونبذ الشقاق وهذا نصها :

« أما بعد فقد علمتما وإن كتمتما أني لم أرد الناس حتى أرادوني ، ولم أبايعهم حتى بايعوني وإنكما ممن أرادنى وبايعني ، وإن العامة لم تبايعني لسلطان غالب ولا لعرض حاضر ، وان كنتما بايعتماني طائعين فارجعا وتوبا الى الله من قريب ، وإن كنتما بايعتماني كارهين فقد جعلتما لي عليكما السبيل بإظهاركما الطاعة ، وإسراركما المعصية ، ولعمري ما كنتما بأحق المهاجرين بالتقية والكتمان ، وان دفعكما هذا الامر من قبل أن تدخلا فيه كان اوسع عليكما من خروجكما منه بعد اقراركما به ، وقد زعمتما اني قتلت عثمان فبيني وبينكما من تخلف عني وعنكما من أهل المدينة ، ثم يلزم كل امرئ بقدر ما احتمل ، فارجعا أيها الشيخان عن رأيكما ، فان الآن اعظم امركما العار من قبل أن يجتمع العار والنار .. » (٢)

ولم يستجيبا لنداء الحق واصرا على الفساد والتمرد والبغي ، واعلنا مقاومة الامام ومناجزته.

__________________

(١) تأريخ ابن اعثم ص ١٧٥

(٢) نهج البلاغة ٣ / ١٢٢

٣٩٧

خطاب ابن الزبير :

وكان عبد الله بن الزبير من اشد المحرضين الى اثارة الفتنة ، واراقة الدماء ، وقد افسد جميع الوسائل التي صنعها امير المؤمنين لتحقيق السلم ، وقد خطب في جموع البصريين ودعاهم الى الحرب ومناجزة الامام وهذا نص خطابه :

« أيها الناس ، ان علي بن أبي طالب قتل الخليفة بالحق عثمان ، ثم جهز الجيوش إليكم ليستولي عليكم ، ويأخذ مدينتكم ، فكونوا رجالا تطلبون بثأر خليفتكم ، واحفظوا حريمكم ، وقاتلوا عن نسائكم وذراريكم وأحسابكم وانسابكم ، أترضون لأهل الكوفة ان يردوا بلادكم ، اغضبوا فقد غوضبتم ، وقاتلوا فقد قوتلتم ، ألا وإن عليا لا يرى معه في هذا الأمر أحدا سواه والله لئن ظفر بكم ليهلكن دينكم ودنياكم .. »

وحفل خطابه بالمغالطات والاكاذيب ، واثارة النعرات والعصبيات ضد امير المؤمنين ، وهو يعلم ـ من دون شك ـ كذب ما قاله ولكن نفسه سولت له ذلك طمعا بالامرة والسلطان.

خطاب الحسن :

وبلغ الامام أمير المؤمنين خطاب ابن الزبير فاوعز الى ولده الحسن بالرد عليه فقام الحسن خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« قد بلغتنا مقالة ابن الزبير في أبي وقوله فيه : إنه قتل ، عثمان ، وانتم يا معشر المهاجرين والانصار وغيرهم من المسلمين علمتم بقول الزبير في عثمان ، وما كان اسمه عنده ، وما كان يتجنى عليه ، وان طلحة

٣٩٨

يومذاك ركز رايته على بيت ماله وهو حي ، فانى لهم أن يرموا أبى بقتله وينطقون بذمه ، ولو شئنا القول فيهم لقلنا.

وأما قوله : إن عليا ابتز الناس أمرهم ، فان أعظم حجة لأبيه زعم أنه بايعه بيده ولم يبايعه بقلبه ، فقد أقر بالبيعة وادعى الوليجة فليأت على ما ادعاه ببرهان وانى له ذلك؟

وأما تعجبه من تورد أهل الكوفة على أهل البصرة ، فما عجبه من أهل حق توردوا على أهل باطل.

أما انصار عثمان فليس لنا معهم حرب ولا قتال ، ولكننا نحارب راكبة الجمل واتباعها .. » (١)

واندفع عمرو بن أحيحة فابدى اعجابه البالغ بخطاب الامام فقال :

حسن الخير يا شبيه أبيه

قمت فينا مقام خير خطيب

قمت بالخطبة التي صدع الل

ه بها عن أبيك أهل العيوب

وكشفت القناع فاتضح الامر

وأصلحت فاسدات القلوب

لست كابن الزبير لجلج في القو

ل وطأطأ عنان فسل مريب

وأبى الله أن يقوم بما قا

م به ابن الوصي وابن النجيب

ان شخصا بين النبي ـ لك الخير ـ وبين الوصي غير مشوب (٢)

لقد فند الامام ابو محمد مزاعم ابن الزبير ، ورد عليه اكاذيبه فان الذي اشعل نار الفتنة على عثمان انما هو الزبير وطلحة وعائشة ، وليس للامام امير المؤمنين ضلع في ذلك ، كما اوضحناه في البحوث المتقدمة

__________________

(١) الجمل ص ١٥٨ ـ ١٥٩

(٢) شرح النهج ١ / ١٤٦ ، ط دار احياء الكتب العربية

٣٩٩

الدعوة الى كتاب الله

وبذل الامام قصارى جهوده فى تدعيم السلم وعدم ايقاع الحرب والدعوة الى العمل بما في كتاب الله فقد رفع المصحف بيمينه وجعل يطوف به بين أصحابه وفي نفسه بقية امل في الصلح قائلا :

« أيكم يعرض عليهم هذا المصحف وما فيه؟ .. فان قطعت يده أخذه بيده الأخرى ، وإن قطعت أخذه باسنانه ، وهو مقتول .. »

فنهض إليه فتى كوفي ونفسه تفيض حماسا ونبلا فقال له :

« أنا له يا أمير المؤمنين »

فأشاح الامام بوجهه عنه برهة ، وطاف في أصحابه ينتدبهم لمهمته فلم يجبه أحد سوى ذلك الفتى النبيل فدفع له المصحف وقال له :

« اعرض عليهم هذا ، وقل هو بيننا وبينكم ... والله في دمائنا ودمائكم. »

وانطلق الفتى مزهوا لم يختلج في قلبه خوف ولا رعب وهو يلوح بالمصحف أمام عسكر عائشة يدعوهم الى العمل بما فيه ، ويدعوهم الى الأخوة والوئام ، فتنكروا له ، فقد دفعتهم الانانية وكراهية الحق الى الفتك به فقطعوا يمناه ، فأخذ المصحف بيساره وهو يدعوهم الى العمل بكتاب الله فعدوا عليه ثانيا فقطعوا يساره فأخذ المصحف باسنانه وقد اغرق في الدماء ، وهو يدعوهم فى آخر مراحل حياته الى السلم والصلح وحقن الدماء قائلا :

« الله في دمائنا ودمائكم »

فانثالوا عليه وهم مصرون على الغي والعناد فرشقوه بنبالهم فوقع على الارض جثة هامدة وانطلقت أمه ترثيه.

يا رب إن مسلما أتاهم

يتلو كتاب الله لا يخشاهم

٤٠٠